مركز مصر الأدبي (٤)

في الوقت الحاضر

في رأيي أن كل أدب كحوض الماء، إذا لم تمده من حين لآخر بماء جديد تعفن وأنتن، وكالأسرة الكبيرة إذا ظل أفرادها يتزاوجون فيما بينهم هزلوا وذبلوا وشاعت فيهم الأمراض، ما لم يتزاوجوا من غيرهم، وكعمر الفرد: صبا؛ فشباب؛ فكهولة؛ فشيخوخة، ولكنه يمثل الدور ثانية في بنيه، لا يكون ذلك إلا بالتزاوج.

هذا في نظري تاريخ كل أدب؛ شرقي أو غربي.

فإن نحن نظرنا إلى الأدب العربي وجدنا أن الأدب الجاهلي وامتداده في العصر الإسلامي بدأ يركد حتى امتزجت الأمة العربية بغيرها من الفرس والروم والهند وغيرهم، وامتزجت الثقافة العربية بالثقافة الفارسية وبالثقافة الهندية وبالثقافة اليونانية، فبدأ الأدب العربي حياة جديدة، ظهر أثرها في مثل الجاحظ وتآليفه.

وقد يبدو غريبًا أن أقول: إن الأدب العربي قد ركد في العصر الإسلامي قبيل هذا الامتزاج مع ما عرف عنه من جزالة اللفظ، وجودة السبك، وفصاحة اللسان؛ ولكن مظهر الركود في نظري كان قلة المعاني الجديدة، وتكرار المعاني القديمة، واقتصار الأدب على الأقوال المأثورة في الموضوعات الموروثة؛ حتى طلع الجاحظ وأمثاله بموضوعات جديدة، ومعان جديدة، وأساليب جديدة، فكان هذا هو التجديد الذي أتى به الامتزاج الجديد، وكانت العودة إلى الشباب بعد الشيخوخة.

ثم صار هذا الجديد قديمًا، وركد ماء الحوض لما انقطع المدد، وأصبح الشاب هرمًا؛ ذلك أن الشرق بعد الحروب الصليبية أُغلق على نفسه، وضعف اتصاله بالغرب، ولم يكد يعلم شيئًا مما يجري في أوربا. نعم؛ كان هناك قناصل للدول، وتجار أجانب، ولكن هؤلاء كانوا يعيشون في شبه عزلة، ولا تشعر الشعوب الشرقية بهم وخاصة من الناحية الثقافية، ولما بدأ الغرب في القرن الخامس عشر والسادس عشر يضع أساس نهضته في العلوم والفنون والسياسة والاجتماع والاقتصاد وغير ذلك؛ مما غير وجه حياته تغييرًا تامًّا، لم يصل إلى الشرق شيء منها، ولم يشعر بها، واستمر في دائرته المغلقة، يقلد حياة الشرق الأولى من غير روح، ويعيش على الثقافة القديمة بعد أن صارت تماثيلَ.

في الغرب كان بدء النهضة والثورة على القديم ووضع أسس جديدة لحياة جديدة، وتحكيم العقل فيما يعرض من مشاكل وتحرير العواطف من كثير من القيود، ووضع كل قضية موضع البحث والتجربة، وفي الشرق كان الجمود، وظلم الحكام، مع الاستكانة من الشعب، وترف الأمراء وحواشيهم، مع فقر الشعب، قد كان الشرق والغرب يسيران متحاذيين، ولكن اختلف فيما بعدُ الاتجاهُ، فسار الغرب إلى الأمام، وسار الشرق إلى الوراء، وتنبه الغرب فطالب حكامه الظالمين بتحقيق العدل، واستنام الشرق على الظلم راميًا عبئه على القدر.

وأصاب الأدب من ذلك ما أصاب سائر مناحي الحياة؛ فقد كان من أكبر أسباب النهضة الأدبية الأوربية التفاتُهم إلى وجوب الاستمتاع بالحياة الدنيا ونعيمها، بعد أن كان المثل الأعلى هو الزهد والانقطاع للحياة الآخرة؛ وعلى هذا الاتجاه سار الأدب يقوِّم الحياة الدنيا ونعيمها تقويمًا كبيرًا في القصص وسائر أنواع الأدب؛ ثم من المظاهر الجديدة كانت عندهم في الأدب ثورتهم على الفوارق بين الطبقات، فبعد أن كانت الروايات إنما تتعرض لوصف الحياة الأرستقراطية، فإذا عرضت لحياة الطبقة الوسطى أو الدنيا؛ فلإضحاك الطبقة العليا، ثار الأدباء على هذه الأوضاع، وصار كوخ الفلاح موضوعًا للأدب كبلاط الملك، واستمدت المآسي والملاهي موضوعاتها من الحياة المألوفة عند أوساط الناس وفقرائهم.

ومظهر آخر في الأدب الغربي حدث، وهو استنزال الأدب إلى عالم الواقع، فالقطعة الأدبية صارت تقوَّم بمحصولها الفكري، لا بجمالها الفني وحده، وعُدَّ من الأدب: الرسائل السياسية، والمقالات الاجتماعية.

وفي الشرق كان الأدب حائرًا بين الزلفى إلى الأغنياء والكبراء في المديح، أو الترفع عن ذلك إلى الانصراف إلى الحياة الآخرة بإنتاج الأدب الديني في المدائح النبوية ونحوها، أما الأدب الدنيوي — يصور حياة الشعوب ويعرض للمسائل الاجتماعية والسياسية ويفتح آفاقًا جديدة — فلا إلا في القليل النادر؛ ولذلك أنتجت النهضة الأوربية أدب شكسبير وراسين وجوته وأمثالهم، في حين أنتجت الحياة الشرقية أدبًا يُعنى بأنواع البديع كابن حجة الحموي، أو أدبًا يعنى بمدح الأمراء كالأرتقيات لصفي الدين الحلي؛ فقد أنشأ ٢٩ قصيدة، كل قصيدة ٢٩ بيتًا، وكل قصيدة لحرف من حروف الهجاء يبتدئ كل بيت به وينتهي به، وكلها في مدح الملك المنصور الأرتقي، أو أدبًا يعنى بالناحية الدينية كالهمزية والبردة للبوصيري.

أما الأدب الذي يمثل الشعب في بؤسه، والحكام في ظلمهم، أو الذي ينفخ في الأمة روح الثورة على الظالمين، أو الأدب الذي يدعو إلى أن يتبوأ الشعب مكانته؛ فقلما نظفر به إذا استثنينا ابن خلدون؛ ومع هذا فابن خلدون أبدع في النظريات الاجتماعية ولم يستنزلها كثيرًا للتطبيق على حياة زمنه وعصره الواقعية.

ومع هذا كله كانت مصر بعد سقوط بغداد في يد التتار أقوى الضعفاء، أو أصْحَى السكارى.

•••

كان أول مدد لهذا الحوض الراكد هو اتصال الشرق بالغرب بحملة نابليون على مصر، قد نكره هذه الحملة من الناحية السياسية؛ إذ كانت عدوانًا على استقلالنا وانهزامًا لقوتنا الحربية، ولكن الثقافة أسمى من الحرب، لا تعرف عداء ولا خصومة، وإن حدثت تحتقرها، وقد كانت هذه الحملة تحمل بإحدى يديها عُدَدَ القتال، وبالأخرى العلم والعرفان؛ فأما اليد الأولى فقابلت يد مراد عند الأهرام فقطعتها، وأما اليد الأخرى؛ يد جومار ومونج وأمثالهما؛ فصولحت، ولئن لم يطمئن المصريون إلى الفرنسيين الحربيين، وما زالوا في نزاع معهم حتى خرجوا؛ فقد اطمأنوا إلى الفرنسيين العلميين فبقوا — باسم المجمع العلمي الفرنسي — ولما بعث القائد البريطاني إنذاره الأخير إلى القائد الفرنسي في الإسكندرية كان من بين ما اشترط على الفرنسيين «تتعهد لجنة العلوم والفنون ألا تنقل معها في عودتها إلى فرنسا شيئًا ما من الآثار العامة، ولا الكتب الخطية العربية، ولا المصورات الجغرافية، ولا الرسوم، ولا المذكرات، ولا المجموعات، وأن تترك كل هذا تحت تصرف القواد البريطانيين» وقد قبل القائد الفرنسي هذا وأمضاه، ولكن المجمع العلمي الفرنسي رفض، وأخيرًا هدد بإلقائها في البحر؛ فتنازل البريطانيون عن طلبهم.

ومن ذلك الحين بدأت مصر تتصل بالغرب سياسيًّا وثقافيًّا — والذي يعنينا هنا هو الناحية الثقافية — وظل هذا المدد يتدفق في عهد محمد علي بإحضاره الأوربيين، والاستعانة بهم في تنظيم مرافق الحياة؛ ومنها الثقافة، وبإرساله المبعوثين من المصريين إلى أوربا؛ لتعلمهم، وسال هذا السيل بعدُ في عهد إسماعيل، ثم إلى الآن.

هذا الامتزاج والاتصال غيَّر الحياة العامة فتغير الأدب العربي على أثرها، فالأدب — كما قالوا قديمًا — سجل الحياة.

فمن عهد حملة نابليون زالت سلطة المماليك، وتفتحت عيون الشعب المصري لتحسين حاله، وترقية معيشته، والوقوف على حقوقه، وتكوين جامعته الوطنية، وتأسيس حياته الاقتصادية ، بدأ كل هذا نواة، واستمر ينمو إلى اليوم.

ومن ناحية أخرى أخذ يقلد المدنية الغربية في الصحافة والتمثيل والطباعة والمطالبة بالحقوق، ويقرأ خاصته ما ينشر في الغرب، ويدرسون ما درسوا، ويطلعون على حركاتهم في بناء قومياتهم، وينشرون ذلك في عامة الشعب ما استطاعوا.

ومن ناحية ثالثة تأسست الملكية الفردية ونمت وتقاربت الطبقات، ولم يعد للطبقة الأرستقراطية هذه المنزلة المحلقة في السماء، ولم تعد العلاقة علاقة عبيد بسادة، وضعف سلطان الحاكم على المحكومين، وسلطة الآباء على بيوتهم، وتطورت الحياة الاجتماعية تطورًا كبيرًا، نشأ عنها تطور الأدب.

كان الأدب أوتقراطيًّا، ثم اتجه باحتكاكه بالغرب إلى الديمقراطية، كان الأدب كالدرة الكريمة أو التحفة الغالية، يقصد بها صاحبها إلى قصور الأمراء، ثم تحول يقصد الشعب، كان الأدب لا يسمح للفرد بالتفكير الحر، ولا يقدر إلا الشخصية الأرستقراطية، ثم أخذ يمجد الحرية، ويمجد الفرد؛ ولو كان في كوخ، ويعنى بالموضوعات التي تمس الشعب ، وتجددت للشعوب آمال في استقلالها وفي تحقيق العدل من حكامها، فكان الأدب خير ما يصور ذلك.

وكان طبيعيًّا أن يكون في الأدب مخضرمون كما في الحياة الواقعية مخضرمون عاشوا في القديم والجديد معًا، وتربوا في المدرسة القديمة ناشئين، ورأوا المدرسة الجديدة كهولًا أو شيوخًا، فكان أدبهم نتاج الحياتين، تتجلى هذه الخضرمة مثلًا في الشعر عند البارودي؛ فقد تحرر من زخرف اللفظ، والتحسس على محسنات البديع، وبث في الشعر روحًا، ولكنه نهج منهج أبي فراس والمتنبي والشريف الرضي، وقلدهم في فحولة اللفظ، وفي أغراض الشعر ومعانيه؛ وكذلك شوقي وحافظ — على سمو قدرهما في الشعر — كان قديمهما أكثر من جديدهما، وإن كان جديدهما أكثر من جديد البارودي في الأغراض والمعاني، وكذلك كان المنفلوطي في النثر مخضرمًا، وهو إلى الأسلوب القديم أقرب.

ثم تلا هذه الخضرمة التجديد في الأسلوب، وفي الموضوع؛ ولكن يعاب عليه في الأكثر أنه ليس تجديدًا مبتكرًا، بل هو تجديد تقليدي، غاية الأمر أنه بدل أن يقلد شعراء العرب الأقدمين، قلد شعراء الغرب المحدثين؛ حتى في العنوانات؛ كوادي الدموع، والشاطئ المجهول، ونحو ذلك، ولذلك لم تستسغه الأذن العربية، كما لم تستسغ الموسيقى الغربية الصرفة إلا بعد مران طويل، ولا يزال التجاذب بين القديم والحديث إلى اليوم.

وكما كانت الخضرمة في الشعراء، كانت الخضرمة في الموضوعات، ثم التجديد، فترى مثلًا شعر المديح أتى به المخضرمون أمثال شوقي وحافظ، وكان يستساغ منهما، ثم مجه الذوق بالتقدم في فهم الديمقراطية وتذوقها، ولم يعد المديح — كما كان — غرضًا كبيرًا من أغراض الشعر، وصار إذا قيل اليوم فإنما يقال على سبيل الطرافة أو الملحة، ولم يعد يصح مطلقًا أن يسمى شاعرًا فحلًا من كان أكبر نتاجه شعر المديح. وأهم من هذا كله أن الشاعر لم يعد هذا الذي يتصنع الشعر ويتكلفه في المناسبات والحفلات؛ إنما الشاعر من شعر قلبه، وغنى لنفسه أولًا، وللناس ثانيًا، ولم يكن قصده الكسب، وإنما قصده الاستجابة لعواطفه، والتعبير عنها في صدق وإخلاص.

فأما ما يلازم الإنسان في جميع حياته سواء كان الحكم أوتوقراطيًّا أو ديمقراطيًّا كالحب والغزل فظل في الجديد، كما كان في القديم؛ ويغنيه شوقي في القصر، وإسماعيل صبري في وكالة الحقانية، كما يغنيه شاعر الربابة؛ وإنما حدث له التجديد من ناحية أن المجددين من شعراء الغزل تركوا التكلف والتقليد، وعبروا عن عواطفهم هم، وحللوها، وصاغوها في فن رقيق دقيق، وأفاضوا عليها من إحساسهم وشعورهم.

ثم كان جديدًا الإفاضة في شعر السياسة والاجتماع بما يعبر عن آلام الأمة وآمالها، ويتغنى بالحرية، وينعى على الظالمين ظلمهم، وينادي بتحرير المرأة، وإغاثة البؤساء، وهكذا.

كما اتجهوا — وإن لم يكن كافيًا وافيًا — إلى شعر الطبيعة وجمالها؛ كوصف شوقي لدمشق ولبنان … إلخ.

وكان من أثر احتكاك الشرق بالغرب أيضًا ظهور الشعر التمثيلي في الأدب العربي، كما يتجلى في اتجاه شوقي الأخير، فقد اتجه آخر أمره إلى الشعر التمثيلي، وفي رأيي أنه لو اتجه إليه في شبابه لكان أكثر إجادة، فحرارة الشباب، وحركاته الرشيقة التمثيلية، لا تغني عنها حكمة الشيوخ ورزانتهم ووقارهم؛ وفي الحق أنه بدأ هذا الاتجاه وهو شاب في فرنسا فنظم قصة علي بك الكبير، ولكنه لما عاد حكم عليه منصبه في القصر أن يقول في الشعر التقليدي، وأخيرًا جدًّا عاد سيرته الأولى؛ فألف مجنون ليلى، وقمبيز، ومصرع كليوباتره، وعنترة، وأميرة الأندلس — والأخيرة نثرية — وقد قفا أثرَه في عصرنا عزيز أباظة.

•••

لئن كان الشعر في مصر يزحف زحفًا، ويسير الآن جيشًا بلا قائد، فإن النثر يقفز قفزًا، ويؤدي أغراضه في نجاح أتم وأوفى.

والسبب في سرعة تقدم النثر عن الشعر — فيما يظهر لي — أن النثر أمسُّ بالحياة الواقعية والناس إليه أحوج؛ في الصحافة إذا حرروا، وفي الخطابة إذا خطبوا، وفي القصص إذا قصوا … إلخ، والحاجة تفتق الحيلة، وتكثر المران، وتجعل الناثرين أكثر عددًا من الشعراء؛ فيزداد مقدار الإنتاج ويجود، حاجة الناس إلى النثر كالغذاء على المائدة، والشعر كالأزهار عليها، ولا يستطيع الناس الاستغناء عن الغذاء، ولكن قد يستطيعون أن يستغنوا عن الأزهار؛ ثم إن الشعر أكثر قيودًا من النثر؛ بقوافيه وأوزانه وخيالاته وأساليبه، والنثر يستطيع أن يتحرر من قيود السجع والمحسنات البديعية، ثم يكون نثرًا مرسلًا جميلًا، أما إذا تحرر الشعر من الأوزان والقوافي فلا يسمى شعرًا بالمعنى الدقيق للشعر، وشتان — في السير — بين رجل مقيدة، ورجل طليق.

ثم إن النثر يستساغ إذا كان وسطًا، وإذا كان جيدًا، ولكن الشعر يصعب أن يستساغ وسطًا، فإما أن يكون جيدًا وإما لا، كالزهرة لا تُحَبُّ إلا ناضرة، فإن ذبلت فخير منها عدمها.

على كل حال إذا نحن قسنا النثر في عهد الشيخ حسن العطار، بالنثر في عهد الشيخ رفاعة الطهطاوي، بالنثر في عهد عبد الله باشا فكري، بالنثر في عهد السيد مصطفى لطفي المنفلوطي، بالنثر اليوم، رأينا مصداق ما أقول من أنه يقفز قفزًا؛ سواء من ناحية أسلوبه، أو موضوعه، كان أهم تقدم للنثر تحرره من طريقة ابن العميد، والقاضي الفاضل، وتكلف السجع وتحري فنون البديع، ففك عنه هذه الأغلال وجرى في سلاسة وطلاقة، وهو مدين بهذا لعاملين: اطلاع الأدباء على الأدب الغربي، وقد رأوا فيه البساطة، والترسل، والعناية بالمعاني أكثر من العناية بالبديع، ثم رجوعهم إلى النثر القديم في العصر العباسي الأولى مثل ابن المقفع والجاحظ والأصفهاني، قبل أن يغرقه في الزينة الحريرى وابن العميد وابن عباد.

ثم إنه قد حدث للنثر الحديث ما حدث في العصر العباسي الأول؛ لقد نقل الجاحظ الأدب على أثر امتزاج الثقافات، فجعل كل شيء صالحًا لأن يكون موضوع أدب، حتى اللصوص والبخلاء، وحتى الحيوانات؛ فلما جاءت النهضة الحديثة كان الأمر كذلك؛ فقد كاد موضوع الأدب ينحصر فيما يسمونه بالإخوانيات؛ من لوعة اشتياق، أو شكر على إهداء كتاب، أو عتاب على تقصير في زيارة، أو نحو ذلك، فاتسع معنى الأدب، واتسع موضوعه، وصار النثر أداة للصحافة في شتى الموضوعات، وأداة للقصص والتمثيل، والبحوث الاجتماعية والأدبية والنقدية، وكان أثر الغرب واضحًا فيه في معالجة موضوعاته وفي تحليلها وبسطها، وأثر الأدب العربي القديم في الأساليب، كل أديب على قدر ثقافته، واستمداده من هذا المنبع أو ذاك.

فالصحافة في مصر جارت الصحافة الأوربية وقطعت شوطًا كبيرًا في التقدم، تغذيها أقلام الكتاب المنشئين والمترجمين، ولو جمعت ما يخرج منها كل يوم لأخذك العجب من كمها وكيفها، وقد أثرت أثرًا كبيرًا في نشر الثقافة بين الشعب، كما أثرت في تمرين أقلام الكتاب وصقلها وتدفقها، وكان لها أكبر الفضل في تحويل النثر من مقيد إلى مرسل، فالأسلوب الصحفي أسلوب يجب أن يكون متدفقًا سريعًا؛ ليماشي سرعة الحوادث وسرعة الحركة، وقد أشعلها وملأها حرارةً نهضةُ المصريين في طلبهم الاستقلال، وطموحُهم إلى الإصلاح الاجتماعي؛ وخاصة بعد الحرب الماضية، فكانت مصر والصحافة كل منهما فاعل ومنفعل، مؤثر ومتأثر، وتفننت الصحافة مع الزمن فنوعت موضوعاتها؛ من سياسة وأدب ونقد وفكاهة، وقلَّ أن ترى أديبًا لم يتصل بالصحف من قريب أو من بعيد، فهي تغذيه وتتغذى منه.

كذلك نشطت حركة الإنتاج القصصي والتمثيلي، وكان تأثير الأدب الغربي في هذا الباب واضحًا؛ فلم يعتمدوا كثيرًا على القصص العربي القديم؛ كالمقامات، وألف ليلة، وكليلة ودمنة، وإنما وجهوا وجهتهم نحو الأدب الغربي يحتذونه، وإن كانوا قد اتخذوا الحياة المصرية أو الشرقية موضوعهم، فاتخذ جورجي زيدان أهم الحوادث الشرقية موضوعًا لرواياته التاريخية، وكانت عنايته بالأحداث التاريخية أهم من عنايته بالأسلوب الأدبي، وقد جمع بين العناية بهما معًا الأستاذُ محمد فريد أبو حديد في ابنة المملوك والملك الضليل وزنوبيا والمهلهل.

ثم قصص آخر في نقد العادات القومية، افتتحه المويلحي في حديث عيسى بن هشام، وجاء بعده كثير من الكتاب القصصيين، رقوا بالقصة المصرية خطواتٍ بعيدةً، كزينب لهيكل، والأيام لطه حسين، وسارة للعقاد، والقصص الكثيرة البديعة لمحمود تيمور، وتوفيق الحكيم، ولا أريد أن أحصي ولكني أريد أن أمثل، وبجانب هؤلاء طائفة من أدباء الشباب ينتجون ويجودون.

ويطول بنا القول لو فصلنا كل ناحية من نواحي الأدب كالمقالات الأدبية والاجتماعية؛ فقد خطت في العشرين سنة الأخيرة خطواتٍ واسعةً، وبلغت شأوًا بعيدًا في الأدب العربي بفضل المجلات الأدبية ونجاحها.

ثم التأليف الأدبي من دراسة للأدب في العصور المختلفة، أو في عصر خاص، أو أديب بعينه، أو مشاهير الرجال، أو نحو ذلك، وربما لفت نظر مؤرخ الأدب في مصر تخلف حركة النقد الأدبي عن غيرها من الحركات، وليس يؤدي الأدباء هذا الواجب حتى تكون لدينا مجلات تعنى العناية التامة بتعريف الناس بما تخرجه المطابع في فنون الأدب تعريفًا صحيحًا، ونقده نقدًا مخلصًا، فيعكف الناقد على الكتاب يقرؤه في دقة وإمعان، ويبين منزلته مما سبقه في بابه، ويذكر محاسنه وعيوبه في صدق وإخلاص وصراحة.

بذلك يهدي القراء إلى ما يجب أن يقرءوا وما لا يقرءون، ويحمل المؤلفين على أن يجوِّدوا ما يؤلفون، أما التقريظ المطلق أو التجريح المطلق فليس من النقد في شيء، وهو يضر القراء والمؤلفين، والحركة الأدبية نفسها ضررًا بليغًا؛ ونحن إلى الآن لم نبلغ هذه الدرجة المنشودة ولا قربنا منها، بل لم نتقدم في العشرين سنة الأخيرة تقدمًا يتناسب وتقدم الإنتاج الأدبي؛ وعلة ذلك كسل الناقد، وقلة شجاعته، وضيق صدر المنقود، وعدم قدرته على تقبل النقد بنفس رياضية، ولا تزال الحركة الأدبية تنتظر المهدي الهادي في هذا الباب.

•••

ثم لمصر شخصية خاصة في أدبها؛ فالطبيعة التي ميزت وجوه أهلها عن وجوه الشاميين والعراقيين والحجازيين، وميزت نفسيتهم عن نفسية الآخرين، ميزت كذلك أدبهم؛ فلإقليم الأمة أثره، ولتاريخها المتتابع أثره، ولقانون الوراثة أثره، غاية الأمر أن الأمر في النفس والأدب أغمض من الأمر في اختلاف الوجوه والملامح.

ومع هذا فيمكننا أن نلمح هذه الشخصية الأدبية في الأسلوب، فنحن إذا قرأنا أو سمعنا أساليب لأمم شرقية مختلفة أمكننا أن نميز ما كان منها مصريًّا أو شاميًّا أو عراقيًّا، فالأسلوب المصري سهل كسهولة أرضه، جار مع الطبع جري النيل، خفيف اللفظ خفة الهواء، تفيض فيه العواطف من غير ضبط، فيضان النيل إبانه، وتسيح سيحانه.

شعر قارئه بما يعانيه من فك القيود التي قيده بها التاريخ، وظلم الحكام، والطبقات الأرستقراطية، وهو — لذلك — ينفس عن نفسه بالنكتة الحلوة، والنوادر المستملحة، وهو — في هذا — لا يجاريه أيُّ شعبٍ عربي آخر، فجرائده ومجلاته الفكهة لا تبارى، وله في هذا الباب وغيره ذوق مرهف يتجلى في حسه الدقيق بجمال الفن؛ من غناء، ونكت، ونوادر، وأدب.

وعلى كل حال فهذه المسألة — مسألة الشخصية المصرية — تحتاج إلى دراسة عميقة طويلة وبحث مستقل، وهي عرضة للأخذ والرد وتضارب الآراء، فنكتفي منها بهذه اللمحة.

أما بعد؛ فما مركز مصر الأدبي الآن؟

إن نحن نظرنا إلى إنتاجها مقارنًا بالأمم الأوربية كإنجلترا وفرنسا وألمانيا وأمريكا، بل ما هو أقل منها مساحة وعددًا كبلجيكا، رأيناها متخلفة تخلفًا كبيرًا؛ حتى لو راعينا نسبة الإنتاج إلى المساحة، وعدد السكان، سواء ذلك في الكم والكيف.

وسبب ذلك يعود إلى أمور؛ أهمها في نظري:
  • (١)

    أننا أحدث عهدًا بالمدنية الحديثة، فهذه الأمم بدأت نهضتها من نحو ستة قرون، على حين أن نهضتنا لم يمضِ عليها قرنان؛ وفي هذه القرون الستة جربوا، واستمدوا، وأنتجوا، وسايروا مدنيتهم، وجودوا إنتاجهم، وانتفعوا بكل جديد؛ وإذ كانت هذه الأمم مشارِكة في بناء المدنية الحديثة، كانت مشاركة — أيضًا — ومستفيدة ومتعاونة، بعضها من بعض؛ فالثقافة الفرنسية لا تلبث أن تنقل إلى الإنجليز والألمان وهكذا، مما جعل العقول والأفكار والفنون والآداب يعمل في خلقها كلُّ هذه الأمم، فتتقارب وتتمازج وتتساقى وتتزاوج وتتوالد، أما نحن فنعمل بأيدينا وحدنا، وهي لا تزال غضة ناعمة.

  • (٢)

    ثم إن ثقافتهم وأدبهم منهم، ومن نتاج أنفسهم، ومشتق من جنس حياتهم، ونحن في كثير من الأمر نعتمد على التقليد، وأنماط الحياة مختلفة، والتاريخ مختلف، والظروف الاجتماعية مختلفة.

  • (٣)

    ثم يجعل تقدمنا بطيئًا أن أدبنا مزدوج، وأدبهم موحد، والموحد أسرع سيرًا من المزدوج، فنحن — بحكم ظروفنا — بين أدبين، قديم نرجع إليه بحكم أنه أصل أدبنا، وجديد نستمده من الأدب الغربي، وهناك أدباء هم — في الأكثر — نتاج الأدب القديم، وأدباء نتاج الأدب الحديث، وعملية المزج التام والتوحيد لم تتم بعد، وإن كانت سائرة في بطء.

ثم مسألة شائكة جدًّا معقدة جدًّا، وهي أن أدبهم يغذي جميع شعوبهم؛ فالأدب الإنجليزي يغذي كل الإنجليز، والفرنسي كل الفرنسيين، ويتنوع حسب مقدار الثقافة لأفراد الشعب، فما على الفرد إلا أن يقرأ ويكتب — وليس هناك أمي — حتى يجد غذاءه الأدبي المناسب له، للقرب بين لغة الكلام، ولغة الأدب المقروء والمسموع، أما نحن فالنتاج الأدبي كله، مهما خف وزنه، ومهما عَددت فيه من الجرائد والمجلات الخفيفة، لا يغذي — على أكثر تقدير — إلا خمس الأمة أو ٢٠٪، وهم الذين يقرءون ويكتبون، مع أن كثيرًا منهم لا يتذوق هذا الأدب المعرب، والأربعة الأخماس الباقية تعيش من غير غذاء أدبي مطلقًا، للأمية أولًا وللفروق السحيقة بين لغة التخاطب ولغة الأدب ثانيًا ، ولسنا نبذل أي جهد في معالجة هذه المشكلة، فلا نحن مستطيعون أن نجعل السواد الأعظم من الشعب يقرأ ويفهم اللغة الكلاسيكية المعربة، ولا نحن مستطيعون أن نغير اللغة إلى لغة الشعب أو ما يقرب منها، مع أن أدب كل أمة لا يصح أن يكون أدب خاصة لا عامة، فللشعب حقه في الأدب والغذاء العقلي، كحقه في الغذاء المَعِدي.

أما إن نحن نظرنا إلى مصر كوحدة في الأمم العربية، فإن كان أساس المقياس قلة الأميين وعدد المثقفين بالنسبة إلى عدد الأمة، فمصر في المرتبة الثالثة بعد لبنان — أولًا — إذ يبلغ عدد الأميين فيها ١٨٪ فقط، وبعد سوريا ثانيًا.

أما إن نحن اتَّخَذْنَا المقياس وفرة النتاج الأدبي وقادة الحركة الأدبية على اختلاف أنواعها فمصر — بحق — هي زعيمة العالم العربي؛ فصحافتُها أرقى صحافة عربية، ونتاجها في البحوث الأدبية والقصص والمقالة ونحو ذلك أرقى من غيره، ولست الآن بمستطيع أن أجزم بزعامتها الشعرية.

ومن آثار ذلك أن الكتاب الأدبي الذي يطبع في مصر أكثر انتشارًا مما يطبع في أي بلد آخر، وكذلك مجلاتها وصحفها، والعالم العربي أكثر معرفة، وأشد تعلقًا، وأقل تأثرًا بالأديب المصري.

ولعل سبب ذلك واضح؛ فقد سبقت مصرُ العالمَ العربي في تاريخ نهضتها، وفي وفرة ثروتها، وفي شدة اتصالها بالغرب، وكثرة عددها لا بد أن ينتج عنه كثرة المتفوقين فيها.

ومع هذا — فمن الأسف — أنها لم تشعر شعورًا قويًّا بمركزها الأدبي هذا كما يشعر به غيرها، ولو فعلت لزاد شعور قادتها بالمسئولية كما ينبغي.

ولنا كبير الرجاء في أن نسرع الخطا، وخاصة بعد نَيْلِ استقلالنا الصحيح؛ حتى نعالج وجوه نقصنا، ونستكمل مزايانا. والسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤