مغامرة الدائرة الحمراء

١

«حسنًا يا سيدة وارن، أنا لا أرى أيَّ سبب محدَّد لشعورك بعدم الارتياح، ولا أفهم لماذا عليَّ، وأنا وقتي ثمين، أن أتدخَّل في هذه المسألة؛ فأنا بالفعل لديَّ أمورٌ أخرى تشغلني.» هذا ما قاله شيرلوك هولمز واستدار عائدًا إلى دفتر قصاصاته الكبير؛ حيث كان يُنظِّم بعضًا من المواد التي حصل عليها مؤخرًا ويجدولها.

إلا أن صاحبة المنزل هذه كانت تتمتَّع بالإلحاح والدهاء اللذين يميزان بني جنسها، وتمسَّكتْ برأيها بشدة.

قالت: «لقد حللتَ قضيةً لأحد المستأجرين لديَّ العام الماضي، السيد فيرديل هوبز.»

«آه، أجل. لقد كانت قضيةً بسيطة.»

«لكنه لم يتوقَّف عن الحديث عن الأمر؛ عن لطفك يا سيدي، والطريقة التي جلبتَ بها النور وسط الظلام، فتذكرتُ كلماته حين تملَّكَني الشكُّ وساد الظلام من حولي؛ فأنا أعلم أن باستطاعتك مساعدتي فقط إن أردت ذلك.»

كان هولمز يَلين مع الإطراء، وإحقاقًا للحق، مع اللطف أيضًا؛ فقد جعلته هاتان القوَّتان يترك فرشاةَ الصَّمغ الخاصَّة به متنهدًا في استسلام، ويُرجِع مقعدَه للخلف.

«حسنًا، حسنًا يا سيدة وارن، دعينا إذن نسمع ما لديكِ. أنتِ لا تُمانعين في أن أدخِّن التبغ، أليس كذلك؟ شكرًا لكِ. يا واطسون، الثقاب من فضلك! أنتِ تشعرين بعدم الراحة، حسبما أفهم؛ لأن المستأجر الجديد يبقى في غرفته ولا تستطيعين رؤيته. لِمَ هذا يا سيدة وارن، رحمكِ الله؟ إن كنتُ أنا المستأجِر لديكِ، فما كنتِ ستتمكنين من رؤيتي لأسابيع طويلة.»

«لا شكَّ في ذلك يا سيدي؛ لكن هذا أمرٌ مختلف. إن الأمر يُخيفني بشدَّة يا سيد هولمز، ولا أستطيع النومَ من الرعب؛ فأن أسمع خطواته المتسارعة هنا وهناك منذ الصباح الباكر وحتى وقتٍ متأخِّرٍ من الليل، ومع ذلك لا ألمحه أبدًا؛ هذا أكثر من قدرتي على التحمُّل. يشعر زوجي بالانزعاج من هذا الأمر بقدري تمامًا، لكنه يكون في عمله طوال اليوم، بينما أنا لا أرتاح من الأمر أبدًا. ما سبب تواريه عن الأنظار؟ ماذا فعل؟ باستثناء الخادمة، أكون وحدي معه في المنزل، وهذا أكثر مما يمكن لأعصابي تحمُّلَه.»

انحنى هولمز إلى الأمام ووضع أصابعه الطويلة الرفيعة على كَتِف المرأة. كان يتمتَّع بقدرةٍ تشبه التنويم المغناطيسي تبعث على الهدوء يستخدمها متى أراد. فاختفت النظرة الفَزِعة من عينَي المرأة، وهدأت ملامحها المتوترة وعادت إلى طبيعتها، وجلست في المقعد الذي أشار إليها بالجلوس عليه.

قال: «إن كنتُ سأتولَّى هذا الأمر، فلا بدَّ أن أعرف كلَّ التفاصيل. خذي بعض الوقت لتفكري في الأمر؛ فأصغر معلومة قد تكون لها أهمية محورية. أنتِ تقولين إن الرجل حضر منذ عشرة أيامٍ ودفع نظير الإقامة والطعام لمدة أسبوعَين، أليس كذلك؟»

«سألني عن شروطي يا سيدي، فقلتُ له: خمسون شلنًا في الأسبوع. ثمَّة مسكنٌ به غرفة جلوس صغيرة وغرفة نوم بهما الخدمات كافة، في الجزء العلوي من المنزل.»

«أكملي.»

«قال: «سأدفع لكِ خمسة جنيهات في الأسبوع إن وافقتِ على شروطي.» وأنا سيدة فقيرة يا سيدي، والسيد وارن لا يُحصِّل إلا القليل؛ لذا للمال أهميةٌ كبيرة لديَّ. أخرج ورقة نقدية بعشرة جنيهات، وقدَّمها لي على الفور. وقال: «يمكنكِ الحصولُ على المبلغ نفسه كلَّ أسبوعين لمدة طويلة قادمة إن وافقتِ على شروطي. وإن لم يحدث هذا، فسأنهي تعاملي معكِ».»

«ماذا كانت الشروط؟»

«حسنًا يا سيدي، تمثَّلت الشروطُ في أن يحصل على مفتاح المنزل. لا مشكلة في ذلك؛ فعادةً ما يحصل المستأجرون على المفتاح. كذلك، أن نتركه في حاله بالكامل، وألا يتعرَّض للإزعاج تحت أي ظرف.»

«لا شيء غريب في هذا بالتأكيد، أليس كذلك؟»

«ما يحدث ليس منطقيًّا يا سيدي، وإنما يخالف أيَّ منطق؛ فهو يمكث عندنا منذ عشرة أيام، ولم يرَه السيد وارن ولا أنا، ولا الخادمة، ولو مرة واحدة. يمكننا سماعُ خطواته السريعة وهو يسير ذهابًا وإيابًا، بالليل والصباح وفي الظهيرة، لكن باستثناء الليلة الأولى بعد مجيئه إلى هنا، لم يخرج قَطُّ من المنزل.»

«أوه، إذنْ فقد خرج من المنزل في الليلة الأولى؟»

«أجلْ يا سيدي، وعاد حينها متأخرًا للغاية، بعد خلودنا جميعًا للنوم. لقد أخبرني بعدما استأجر الغرفةَ أنه قد يفعل هذا، وطلب مني عدمَ إغلاق الباب. وقد سمعتُه وهو يصعد الدَّرَج بعد منتصف الليل.»

«لكن ماذا عن وَجَبَاته؟»

«كان أحد توجيهاته الخاصة أننا لا بدَّ أن نترك الطعام عندما يضرب الجرس، على مقعد أمام باب غرفته، ثم أوضح أنه سيضرب الجرس مرةً أخرى حين ينتهي من تناوله، فنأخذها من المقعد نفسه. وإن أراد أيَّ شيء آخَر، فإنه يكتبه بحروفٍ كبيرة على قطعة من الورق ويتركها.»

«يكتبه بحروفٍ كبيرة؟»

«أجلْ يا سيدي، يكتبه على هذا النحو بقلم رصاص. اسم الشيء فقط، وليس أكثر من هذا. وقد أحضرتُ لك هذه الورقة لتراها: صابونة SOAP. وهذه ورقة أخرى: ثقاب MATCH. وهذه الورقة تركها في أوَّل صباح له: ديلي جازيت DAILY GAZETTE. ولذلك أتركُ هذه الصحيفة مع الإفطار كلَّ صباح.»

قال هولمز، وهو ينظر باهتمامٍ بالغ في قِطَع الورق الكبيرة التي أعطتْها له صاحبة المنزل: «أوه يا عزيزي واطسون، هذا بالتأكيد غيرُ معتاد نوعًا ما؛ إذ يمكنني تفهُّم حبِّه للانعزال، لكن لماذا يكتب الكلامَ بحروفٍ كبيرة؟ فالكتابة بهذه الطريقة عملية خرقاء. لماذا لا يكتب بالطريقة العادية؟ ما معنى هذا يا واطسون؟»

«هذا يعني أنه أراد إخفاء خط يده.»

«لكن لماذا؟ لماذا من المهم له ألا تحصل صاحبةُ المنزل الذي يسكن فيه على كلمة واحدة مكتوبة بخط يده؟ ومع ذلك، ربما يكون الأمر كما تقول. لكن مرةً أخرى، لماذا يبعث مثل هذه الرسائل الموجزة؟»

«لا يمكنني تصوُّر أيِّ سبب.»

«إن هذا يفتح مجالًا خصبًا للتخمين الذكي؛ فالكلمات مكتوبةٌ بقلم رصاص بنفسجي عريض الرأس بنمط مألوف. ويمكنك ملاحظة أن الورقة مقطوعة من جانبها هنا بعد الكتابة، بحيث ترى أن أوَّل حرف من كلمة soap ممسوحٌ جزئيًّا. هذا يوحي بشيءٍ ما، أليس كذلك يا واطسون؟»

«بالحذر؟»

«بالضبط. لا بدَّ من وجود علامة، أو بصمة، أو شيءٍ ما يمكنه أن يوضِّح هُويَّة الشخص. والآن يا سيدة وارن، أنتِ تقولين إن الرجل كان متوسِّط الطول وداكن البشرة وملتحيًا، فما عُمُره إذن؟»

«إنه شابٌّ يا سيدي، لم يتخطَّ الثلاثين.»

«حسنًا، ألا تستطيعين إخباري بأي علاماتٍ أخرى؟»

«كان يتحدَّث الإنجليزية جيدًا يا سيدي، ومع ذلك اعتقدتُ أنه أجنبي بسبب لَكْنَته.»

«وهل كان حسنَ المظهر؟»

«حسن المظهر للغاية يا سيدي، رجل محترم بحق. وكانت ملابسه داكنة اللون، ولا شيءَ لافتًا فيها.»

«لم يذكر اسمه؟»

«لا يا سيدي.»

«ولم تَرِده أيُّ خطابات أو يأتي إليه أي زائرين؟»

«مطلقًا.»

«لكنكِ بالتأكيد تدخلين أنتِ أو الخادمة غرفتَه في الصباح، أليس كذلك؟»

«لا يا سيدي؛ فهو يهتم بأمورِه كُلِّها بنفسه.»

«يا إلهي! هذا بالفعل شيءٌ غريب. وماذا عن أمتعته؟»

«كانت معه حقيبة واحدة كبيرة بنية اللون، ولا شيءَ آخَر.»

«حسنًا، يبدو أننا ليس لدينا الكثير من الأشياء التي يمكن أن تساعدنا. وأنتِ تقولين إن شيئًا لم يخرج من هذه الغرفة، لا شيءَ على الإطلاق، أليس كذلك؟»

أخرجتْ صاحبةُ المنزل ظرفًا من حقيبتها، وسحبت منه عودَي ثقاب محترقَين وعُقْب سيجارة، ووضعتْ هذه الأشياء على الطاولة.

«كانت هذه الأشياء على صينيته هذا الصباح، وقد أحضرتُها لأني سمعتُ أنك تستطيع معرفةَ أشياءَ كبيرة من أصغر الأغراض.»

هزَّ هولمز كَتِفَيه بلامبالاة.

وقال: «لا أرى شيئًا هنا؛ فقد استُخدم عودا الثقاب بالطبع من أجل إشعال السيجارة. وهذا واضح من مدى قِصَر العُقْب المحترق؛ فنصف عُلْبة أعواد الثقاب يُستَهلك في إشعال الغليون أو السيجار. لكن يا إلهي! إن عُقْب هذه السيجارة غريب بالفعل؛ فأنتِ تقولين إن الرجلَ لديه لحية وشارب، أليس كذلك؟»

«أجلْ يا سيدي.»

«أنا لا أفهم هذا؛ فأنا أعتقد أنه لا يمكن أن يدخِّن هذه إلا رجل حليق تمامًا. فحتى أنت يا واطسون، كان لا بدَّ لشاربك الخفيف أن تمسَّه النار.»

اقترحتُ قائلًا: «ربما استخدم حاملًا.»

«لا، لا؛ فالعقب متآكل. لا أعتقد أن ثمَّة شخصَين في غرفة منزلك يا سيدة وارن، أليس كذلك؟»

«لا يا سيدي؛ فهو يتناول كميةً صغيرة جدًّا من الطعام مما يجعلني أتساءل إن كان بإمكانها إبقاؤه على قيْد الحياة.»

«حسنًا، أعتقد أن علينا انتظارَ الحصول على مزيدٍ من المعلومات، ففي النهاية، ليس لديكِ ما تَشْكِين منه؛ فقد حصلتِ على الإيجار، وهو ليس مستأجرًا مشاكسًا، على الرغم من كونه، بالتأكيد، غريبَ الأطوار؛ فهو يدفع لكِ مقابلًا مُجْزيًا، وإن اختار الاختفاءَ عن أنظار الناس، فهذا ليس من شأنك في شيء. فنحن لا نملك عذرًا لاقتحام عزلته، حتى يصبح لدينا ما يدفعنا إلى التفكير في وجودِ سببٍ آثمٍ لتلك العزلة. لقد توليت هذه القضية، ولن أتركها أبدًا. عليكِ إخباري إنْ حدث أي شيء جديد، واطلبي مساعدتي عند الحاجة إليها.»

أضاف حين غادرتْ صاحبة المنزل: «بالتأكيد يا واطسون ثَمَّة نقاطٌ مثيرة للاهتمام في هذه القضية. ربما تبدو تافهةً بطبيعة الحال — إذ قد تتمثَّل في غرابة هذا الشخص — أو ربما تكون أكثر عمقًا بكثيرٍ مما تبدو عليه. إن أوَّل ما يثير الانتباه الاحتمالُ الواضح بأن الشخص الموجود داخل هذه الشقة الآن ربما يكون مختلفًا تمامًا عن الشخص الذي استأجرها.»

«ما الذي جعلك تعتقد هذا؟»

«حسنًا، بعيدًا عن عُقْب هذه السيجارة، أليس من الغريب أن الوقت الوحيد الذي خرج فيه المستأجر كان بعد استئجاره للغرفة مباشرةً؟ وعاد — أو عاد شخصٌ ما — في ظل عدم وجود كافة الشهود. ولا يوجد لدينا دليلٌ على أن الشخص الذي عاد كان هو نفسه الشخص الذي خرج. وكذلك، كان الرجل الذي استأجر الغرفةَ يتحدَّث الإنجليزية جيدًا. أما هذا الشخص الآخر، فكتب كلمة ثقاب match، بدلًا من أن يكتب أعواد ثقاب matches. أرى أن هذه الكلمة قد أُخذت من قاموسٍ، يُظهِر الاسم وليس الجمع؛ فربما يكون استخدام الأسلوب المقتضب من أجل إخفاء ضَعْف المعرفة باللغة الإنجليزية. أجلْ يا واطسون، ثَمَّة أسبابٌ قوية تجعلني أشك في وجود شخصَين.»

«لكن ما الهدفُ من هذا؟»

«آه، هنا تكمن مشكلتنا. ومع ذلك يوجد خط واضح بعض الشيء للتحرِّي.» أنزل دفتره الكبير الذي يحتفظ فيه، يومًا بيوم، بأعمدة الإعلانات الشخصية المأخوذة من مختلف الصحف في لندن. قال لي وهو يقلب الصفحات: «يا إلهي! يا له من مزيجٍ من الشكوى والنحيب والثرثرة! يا لها من أحداثٍ فريدة مختلطة! لكنها بالتأكيد أكثرُ أرضٍ خصبةٍ حصل عليها أيُّ ساعٍ وراء غير المعتاد! فهذا الرجل وحيدٌ ولا يمكن التواصل معه بالرسائل دون اختراق السرية التامة التي أراد الحصول عليها. فكيف تصله أيُّ أخبار أو رسائل من الخارج؟ من الواضح أن هذا يحدث عن طريق الإعلانات التي تظهر في الصحف. لا يبدو أن ثَمَّة أيَّ سبيل آخَر، ولحسن الحظ ليس علينا البحث إلا في صحيفة واحدة فقط. هذه مقتطفاتٌ من صحيفة «ذا دايلي جازيت» للأسبوعَين الماضيَين. «سيدة ترتدي وشاحًا طويلًا أسودَ في نادي برينس للتزلج» — يمكننا تجاهل هذا. «بالتأكيد لن يكسِر جيمي قلبَ والدته» — لا يبدو هذا ذا صلة. «إذا كانت السيدة التي فقدتْ وعيها في حافلة بريكستون» — أنا لا أهتمُّ بأمرها. «في كل يوم يشتاق قلبي إلى …» ثرثرة، يا واطسون، ثرثرة تامة! آه، هذا قد يكون مفيدًا قليلًا. استمعْ إلى هذا: «كن صبورًا. سنعثر بالتأكيد على وسيلةٍ للتواصل. وفي هذه الأثناء، هذا العمود. G.» نُشر هذا بعد يومَين من وصول مستأجر السيدة وارن. يبدو هذا معقولًا، أليس كذلك؟ فهذا الشخص الغامض يمكنه فهْم الكلام المكتوب باللغة الإنجليزية، حتى إن كان لا يستطيع الكتابة بها جيدًا. لنرَ إن كان بإمكاننا اقتفاء الأثر من هنا مرةً أخرى. أجلْ، وجدتُ هذا؛ بعد ثلاثة أيام: «أجري ترتيبات ناجحة. الصبر والحذر. السُّحُب ستنقشع. G.» لم يَرِد شيء بعد هذا طوال أسبوع. ثم ظهر شيء أكثر وضوحًا: «الطريق آمن. إن وجدتُ فرصةً، سأرسل إشارات؛ تذكَّر الشفرةَ المتَّفق عليها: واحد A، اثنان B، وهكذا. ستسمع مني قريبًا. G.» نُشر هذا في صحيفة الأمس، ولا وجودَ لشيء اليوم. كل هذا ينطبق على مستأجر السيدة وارن. وأعتقد يا واطسون أننا إن انتظرنا فترة قليلة، فإن المسألة ستصبح، دون شك، أكثرَ وضوحًا.»

وهذا ما حدث بالفعل؛ ففي الصباح وجدتُ صديقي يقف على السجادة الموجودة أمام المدفأة وظهْرُه للنار، وتظهر على وجهه ابتسامةُ رضًا كامل.

صاح وهو يَمُدُّ يده ليمسك بالصحيفة من على المنضدة: «ما رأيك في هذا يا واطسون؟ «منزلٌ أحمرُ عالٍ له واجهة من الحجارة البيضاء. الطابق الثالث. النافذة الثانية جهة اليسار. بعد الغسق. G.» هذا مؤكد بما يكفي. أعتقد أننا بعد الإفطار علينا الذهاب لاستكشاف المنطقة التي تعيش فيها السيدة وارن. آه، السيدة وارن! ما الأخبار التي تحملينها لنا اليوم؟»

اندفعت عميلتنا فجأةً إلى داخل الغرفة بطاقةٍ متفجِّرة مما يوحي بوجود بعض التطورات الجديدة والبالغة الأهمية.

صاحت: «على الشرطة تولِّي هذا الأمر يا سيد هولمز! أنا لا يمكنني التحمُّل أكثر من هذا! عليه أن يجمع أمتعته ويغادر المكان. كنتُ سأصعد إليه وأخبره بهذا مباشرةً، لكني ظننت أنه من الإنصاف أن أستشيرك أولًا. لكن صبري قد نفد، وحين يصل الأمر إلى ضرب زوجي العجوز …»

«ضرب السيد وارن؟»

«أو التعامل معه بخشونة على أي حال.»

«لكن مَن تعامل معه بخشونة؟»

«حسنًا! هذا ما نريد معرفته! حدث هذا في صباح اليوم يا سيدي؛ فالسيد وارن هو المسئول عن الحضور والانصراف في شركة مورتون ووايلايت في طريق توتنهام رود. ولذلك عليه الخروج من المنزل قبل السابعة. حسنًا، في هذا الصباح لم يلبث أن سار عشر خطوات في الطريق حتى جاء رجلان من خلفه، وألقيا مِعْطفًا على رأسه، وأدخلاه عَنوةً في سيارةِ أجرةٍ كانت تقف بجوار الرصيف. سارا بالسيارة لمدة ساعة، ثم فتحا الباب وألقياه إلى الخارج. ظل راقدًا في الطريق يرتعد من الخوف، ولم يرَ قط أين ذهبت سيارة الأجرة. وحين تمالك نفسه، وجد نفسه في حديقة هامبستيد هيث، فاستقل الحافلة إلى المنزل، وهو يستلقي فيه الآن على الأريكة، في حين جئت إليك مباشرةً لأخبرك بما حدث.»

قال هولمز: «يا له من أمرٍ مثيرٍ للاهتمام جدًّا. هل لاحظ شكل هذَين الرجلَين؟ هل سمعهما يتحدثان؟»

«لا؛ فهو مذهول للغاية، ولا يدري إلا أن شيئًا ما رفعه وألقى به كما لو كان سحرًا. شارك اثنان على الأقل في هذا، وربما ثلاثة.»

«وأنتِ تربطين بين هذا الهجوم والمستأجر؟»

«حسنًا، لقد عشنا في هذا المكان خمسة عشر عامًا ولم نتعرَّض لمثل هذه الأحداث قَطُّ. لقد اكتفيتُ من هذا الشخص؛ فالمال ليس كلَّ شيء. سأجعله يترك منزلي قبل نهاية هذا اليوم.»

«انتظري قليلًا يا سيدة وارن، لا تتسرعي؛ فقد بدأتُ أعتقد أنَّ هذه المسألة ربما تكون أهم بكثيرٍ مما بدت عليه من الوهلة الأولى. من الواضح الآن أن ثمَّة خطرًا ما يهدِّد مستأجركِ، ومن الواضح أيضًا أن أعداءه كانوا ينتظرون خروجه بجوار باب منزلك، وأنهم خلطوا بينه وبين زوجك في ضوء الصباح الضبابي، وعندما اكتشفوا خطأهم، أطلقوا سراح زوجك. لكن ماذا كانوا سيفعلون لو لم يخطئوا، هذا ما يمكننا تخمينه فقط.»

«حسنًا، ماذا عليَّ أن أفعل يا سيد هولمز؟»

«أرغب بشدة في رؤية هذا المستأجر يا سيدة وارن.»

«لا أعرف كيف يمكن تدبير هذا، إلا إذا كسرت عليه الباب؛ فأنا أسمعه دومًا يفتح الباب وأنا أنزل الدَّرَج بعدما أترك صينية الطعام.»

«لا بدَّ له من أن يأخذ الصينية، وعلينا أن نختبئ ونراه وهو يفعل هذا.»

فكرتْ صاحبةُ المنزل برهةً.

«حسنًا يا سيدي، توجد غرفة المخزن أمام غرفته، ويمكنني وضعُ مرآة، وإن وقفت خلف الباب …»

قال هولمز: «ممتاز! متى يتناول طعام الغداء؟»

«في الواحدة تقريبًا يا سيدي.»

«إذن سنأتي أنا والدكتور واطسون في هذا الوقت تقريبًا، أما الآن فإلى اللقاء يا سيدة وارن.»

وصلنا في الساعة الثانية عشرة والنصف أمام منزل السيدة وارن، وكان مبنًى طويلًا رفيعًا من الحجارة الصفراء في شارع جريت أورم، وهو شارع رئيسي ضيِّق في الجانب الشمالي الشرقي من المتحف البريطاني. ونظرًا لوجود المنزل بالقرب من ناصية الشارع، فهو يطل أيضًا على شارع هاو، بمنازله المعدنية الفخمة. أشار هولمز بضحكة خافتة إلى واحد من هذه المنازل، صف من الشقق السكنية، البارزة، ومن ثمَّ يصعب على المرء ألا يلاحظه.

قال: «انظر يا واطسون! «منزل أحمر عالٍ وله واجهة حجرية». هذا هو المكان المقصود بالتأكيد. نحن نعرف المكان، ونعرف الشفرة؛ لذا بالتأكيد ستكون مهمتنا بسيطة. ثمَّة لافتة مكتوب عليها «للإيجار» على النافذة؛ فمن الواضح أنها شقة فارغة يستطيع الشريك الدخول إليها. حسنًا يا سيدة وارن، ماذا الآن؟»

«لقد جهزتُ لكما كل شيء. إن تفضلتما بالصعود معي وترْك حذاءَيكما الطويلَين بالأسفل على بسطة الدَّرَج، فسأرشدكما إلى الغرفة الآن.»

كان مكان الاختباء الذي أعدَّته لنا ممتازًا؛ فقد وُضعت المرآة بحيث يمكننا، ونحن جالسان في الظلام، رؤيةُ الباب المقابل بكلِّ وضوح. وما لبثنا أن جلسنا فيه، وتركتنا السيدة وارن، حتى صدر صوتُ رنينٍ من بعيد يعلن أن جارنا الغامض قد ضرب الجرس. بعد ذلك ظهرت صاحبة المنزل ومعها الصينية ووضعتها على مقعدٍ خارج الباب المغلق، ثم تركتها ورحلت بخطًى متثاقلة. جلسنا القرفصاء معًا عند زاوية الباب، وثبتنا أعيننا على المرآة. وفجأة، مع اختفاء وقْع أقدام صاحبة المنزل، صدر صوتُ تحريك المفتاح ودار مقبض الباب، وخرجت يدان نحيلتان من الباب ورفعت الصينية من على المقعد. وبعد هذا عادت الصينية إلى مكانها بسرعة، واستطعتُ أن أرى وجهًا داكنَ اللون جميل المظهر وتظهر عليه علامات الرعب وهو يحدق في الفتحة الضيقة لباب غرفة المخزن. ثم أُغلق البابُ بقوة، وسُمع صوتُ المفتاح مرة أخرى، وساد الصمت. جذبني هولمز من كُمي ونزلنا معًا بحذَرٍ على الدَّرَج.

قال لصاحبة المنزل المترقِّبة: «سأزوركم مرةً أخرى في المساء.» ثم قال لي: «أعتقد يا واطسون أنه من الأفضل لنا أن نناقش هذا الأمر في منزلنا.»

وعندما عُدْنا للمنزل، قال لي وهو يتحدَّث في ارتياحٍ على مقعده الوثير: «ثبت أن تخميني صحيح، كما رأيت بنفسك؛ فقد حدث استبدال للمستأجر. ما لم أتوقعه أننا سنعثر على سيدة، وليس سيدة عادية يا واطسون.»

«لقد رأتنا.»

«حسنًا، لقد رأت شيئًا أخافها، هذا مؤكد. وهكذا أصبح التسلسل العام للأحداث واضحًا، أليس كذلك؟ فقد جاء زوجان إلى لندن للاختباء من خطرٍ رهيب ومُحدِق. وحجم هذا الخطر هو السبب في حذَرِهما الشديد. فأراد الرجل، الذي عليه أداءُ عملٍ معيَّن، أن يترك السيدة في أمانٍ تامٍّ بينما يؤدي هو عمله هذا. لم تكن مشكلة سهلة، لكنه حلَّها بطريقةٍ مبتكرة وفعالة بحيث لا تعرف حتى صاحبة المنزل التي تقدِّم لها الطعام بوجودها. وكان الغرض من الرسائل المكتوبة بحروف كبيرة، كما أصبح واضحًا الآن، عدم التعرُّف على جنسها من خط يدها. لا يستطيع الرجل الاقتراب من السيدة، وإلا سيقود أعداءهما إليها. ونظرًا لعدم قدْرته على التواصل معها مباشرةً، لجأ إلى عمود الإعلانات الشخصية بإحدى الصحف. وهكذا أصبح كلُّ شيء واضحًا.»

«لكن ما وراء هذا كله؟»

«آه، أجل يا واطسون، أنت عملي جدًّا، كالعادة! ما وراء هذا كله؟ تتسع القضية الغريبة للسيدة وارن إلى حدٍّ ما وتتضح لها جوانب مشئومة كلما أحرزنا تقدُّمًا فيها. فهذا كل ما يَسَعَنا قوله: إن هذه ليست مغامرةَ حبٍّ عادية؛ فقد رأيتَ وجه المرأة حين شعرتْ بعلامة على وجود خطر. وسمعنا أيضًا بالهجوم الذي تعرَّض له صاحب المنزل، الذي كان يستهدف المستأجر دون شك؛ فهذه الإنذارات بالخطر، والحاجة البالغة للسرية، كلها تشير إلى أنها مسألة حياة أو موت. كما أن الهجوم على السيد وارن يُظهِر أن هذا العدو، أيًّا كان، لا يدرك هو نفسه أن المستأجر الرجل حلَّت محلَّه سيدة. إن الأمر غريب جدًّا ومعقد للغاية يا واطسون.»

«لماذا عليك الاستمرار في هذه القضية أكثر من هذا؟ ماذا ستجني من ذلك؟»

«ماذا، بالفعل؟ إنه الفن من أجل الفن يا واطسون. وأعتقد أنك حين مارست مهنة الطب وجدت نفسك تعالج حالاتٍ دون التفكير فيما ستتقاضاه من أجر، أليس كذلك؟»

«فعلت هذا حتى أتعلم المزيد يا هولمز.»

«التعلُّم لا يتوقف أبدًا يا واطسون؛ إنه سلسلة من الدروس يأتي المكسب الأكبر منها في النهاية. وهذه قضية تثقيفية. فلا مال ولا صيت سيأتي من ورائها، ومع ذلك يرغب المرء في حلِّها. حين يَحُلُّ الغسق، سنجد أنفسنا قد تقدمنا خطوة في تحقيقنا.»

حين عُدْنا إلى منزل السيدة وارن، كان الظلام الذي يتسم به مساء الشتاء في لندن يخيم بكثافة في ستارٍ رمادي اللون، وهو لون واحد كئيب، لم يكسِره إلا المربعات الصفراء الفاقعة اللون للنوافذ والهالات الضبابية لمصابيح الغاز. وحين نظرنا من غرفة الجلوس المعتمة في المنزل، رأينا ضوءًا خافتًا آخَر يشع في الأعلى وسط الظلام.

قال هولمز وهو يهمس ووجهه الهزيل الذي تظهر عليه علامات التحمُّس مندفع إلى الأمام نحو حافة النافذة: «شخصٌ ما يتحرَّك في هذه الغرفة. أجلْ؛ فأنا أستطيع رؤية ظلِّه. ها هو مرةً أخرى، إنه يحمل شمعة في يده. والآن هو ينظر إلى الجهة المقابلة. إنه يريد التأكُّد من أنها منتبهة. والآن بدأ يومض الضوء. اكتب هذه الرسالة أيضًا يا واطسون، التي ربما نتأكد منها معًا. ومضة واحدة — هذا بالتأكيد حرف A. والآن، كم مرة تكرَّر؟ عشرين، حسنًا لنعد هذا، هذا لا بدَّ أن يكون معناه حرف T. AT — هذا واضح تمامًا. وحرف T آخر. هذا بالتأكيد بداية كلمة أخرى. والآن، ثم TENTA. توقفْ. لا يمكن أن تكون هذه الرسالة فقط يا واطسون، أليس كذلك؟ فلا معنَى ﻟ ATTENTA. ولا معنَى لها أيضًا إن قسمناها إلى ثلاث كلمات: AT، وTEN وTA، إلا إن كان TA هما الحرفان الأولان من اسم شخص. إنه يبدأ مرةً أخرى! ما هذا؟ ATTE، لماذا هذا؟ إنها الرسالة نفسُها مرةً أخرى. هذا أمرٌ مثير للدهشة كثيرًا يا واطسون. والآن إنه يبدأ مرةً أخرى! AT، لكن لماذا يكررها للمرة الثالثة؟ ATTENTA ثلاث مرات! كم مرة سيكررها؟ لا، يبدو أن هذه هي النهاية؛ فقد ابتعد عن النافذة. ماذا تفهم من هذا يا واطسون؟»

«إنها رسالة مشفَّرة يا هولمز.»

أطلق رفيقي ضحكةً خافتة مفاجئة تدل على فهْمه للأمر، وقال: «ولكنها ليست شفرةً غامضة للغاية يا واطسون. بالطبع إنها باللغة الإيطالية! فحرف A يعني أنها موجَّهة لامرأة. وتقول: «احترسي! احترسي! احترسي!» ما رأيك في هذا يا واطسون؟»

«أعتقد أنك نجحت في حلِّها.»

«لا شك في ذلك. إنها رسالة ملحة للغاية؛ فتكرارها ثلاث مرات يجعلها كذلك. لكن ما الذي عليها الاحتراس منه؟ انتظر لحظة، إنه قادم إلى النافذة مرةً أخرى.»

رأينا مرةً أخرى الهيئة المعتمة لرجلٍ يجلس القرفصاء وحركةَ اللهيب الصغير عبْر النافذة مع تكراره لإرسال الإشارات. أصبحت الآن أسرع مما كانت عليه من قبلُ. سريعة للغاية بحيث كان من الصعب تتبُّعها.

«PERICOLO — حسنًا، ما هذا يا واطسون؟ «خطر» أليس كذلك؟ أجلْ، يا إلهي! إنها إشارة الخطر. وها هو يرسل مرةً أخرى! PERI. يا إلهي! ما هذا …»

اختفى الضوء فجأة، واختفت النافذة المربعة المضيئة، وأصبح الطابق الثالث يشكِّل حلقةً معتمة حول المبنى الطويل، بطوابقه ذات النوافذ المضيئة. فقد قُطعت آخر رسالة نداء تحذيري فجأة. كيف؟ ومَن فعل هذا؟ وردت هذه الفكرة علينا نحن الاثنَين في اللحظة ذاتها. انتفض هولمز واقفًا من المكان الذي كان يجلس فيه القرفصاء بجوار النافذة.

وصاح قائلًا: «هذا أمرٌ خطير يا واطسون. ثمَّة عملٌ شيطاني يُرتكب! لماذا تنقطع مثل هذه الرسالة على هذا النحو؟ لا بدَّ لي من الاتصال بسكوتلاند يارد بهذا الشأن، وعلى أي حال، علينا مغادرة هذا المكان على الفور.»

«هل أذهب أنا للشرطة؟»

«علينا تحديد طبيعة الموقف بوضوحٍ أكثر قليلًا؛ فربما يكون للأمر تفسيرٌ بسيط. هيا بنا يا واطسون، دعنا نعبُر الطريق بأنفسنا لنرى ما يمكننا التوصُّل إليه.»

٢

بينما كنا نسير مسرعين في شارع هاو، نظرتُ خلفي إلى المبنى الذي تركناه. ورأيت، في النافذة العلوية، شكلًا معتمًا لظل رأس، رأس امرأة، وهي تنظر بتوتُّر وصرامة عبْر النافذة في ظلام الليل، وتنتظر بترقُّبٍ لاهث استئنافَ الرسالة التي قُطعت. وفي مدخل المنزل في شارع هاو وجدنا رجلًا يرتدي رباط عنق وبالطو، ويتكئ على الدرابزين. تفاجأ الرجل بمجرد سقوط ضوء المدخل على وجهَينا.

وصاح قائلًا: «هولمز!»

قال رفيقي وهو يصافح المحقِّق التابع لسكوتلاند يارد: «مَن؟ جريجسون! تنتهي الرحلات بلقاء الأحبة. ما الذي أتى بك إلى هنا؟»

قال جريجسون: «حسبما أعتقد، الأسباب نفسها التي جاءت بك إلى هنا. لكن لا يمكنني تصور كيف علمتَ بهذا.»

«إنها خيوط مختلفة لكنها تؤدي في النهاية إلى المعضلة ذاتها. كنت ألاحظ الإشارات.»

«الإشارات؟»

«أجل، الصادرة من هذه النافذة، ولكنها انقطعت في المنتصف. وقد جئنا إلى هنا لنعرف السبب. لكن بما أن المسألة قد أصبحت الآن في أيدٍ أمينة معك، فأنا لا أرى طائلًا من الاستمرار فيها.»

صاح جريجسون بلهفة: «انتظر لحظة! يجب أن أعطيك حقَّك يا سيد هولمز؛ فأنا لم أتولَّ قضيةً إلا وشعرت بقوةٍ أكبرَ حين تكون موجودًا إلى جانبي. هذا هو المخرج الوحيد لهذا المنزل، لذلك فهو ما زال في قبضتنا.»

«مَن هو؟»

«حسنًا، حسنًا، نحن تفوَّقنا عليك هذه المرة يا سيد هولمز. عليك أن تعترف بتفوقنا هذه المرة.» قال هذا وضرب الأرض بقوةٍ بعصاه، وعلى إثر ذلك جاء حوذي عربة أجرة، وهو يمسك السوط في يده، مترجِّلًا من عربته التي تقف على الجانب البعيد من الشارع. ثم قال موجِّهًا كلامه إلى الحوذي: «دعني أعرفك على السيد شيرلوك هولمز. هذا هو السيد ليفرتون من وكالة بينكرتون الأمريكية.»

قال هولمز: «بطل لغز كهف لونج أيلاند؟ سيدي، يشرفني لقاؤك.»

احمرَّ خجلًا وجه الرجل الأمريكي — الذي كان شابًّا هادئًا وعمليًّا، وكان ذا وجه طويل نحيف وحليق — من كلمات الإطراء هذه، وقال: «أنا الآن في مطاردة عمري، يا سيد هولمز. إن أمكنني الإمساك بجورجيانو …»

«ماذا؟ جورجيانو من الدائرة الحمراء؟»

«أوه، إن له شهرة أوروبية، أليس كذلك؟ إننا نعلم كلَّ شيء عنه في أمريكا؛ فنحن نعرف أنه هو الذي يقف وراء خمسين جريمة قتل، ومع ذلك لا يوجد شيء واحد مؤكد نستطيع إثباته عليه. لقد تعقبتُه من نيويورك، وكنتُ بالقرب منه طوال أسبوع في لندن، وانتظرتُ أيَّ سبب يجعلني أقبض عليه. تتبعته أنا والسيد جريجسون إلى هذا المنزل السكني الكبير، ولا يوجد إلا باب واحد، لذلك لا يمكنه الهرب منَّا. خرج ثلاثة أشخاص منذ دخوله إلى المنزل، لكني متأكد أنه لم يكن واحدًا منهم.»

قال جريجسون: «يتحدث السيد هولمز عن إشارات. وأنا أعتقد أنه كالمعتاد يعرف أكثر مما نعرفه بكثير.»

شرح هولمز بقليل من الكلمات الواضحة الوضع كما بدا لنا. أطبق الرجل الأمريكي يدَيه معًا في غيظ.

وصاح قائلًا: «إنه يعلم بوجودنا!»

«لماذا تعتقد هذا؟»

«حسنًا، هذا معنى ما حدث، أليس كذلك؟ فها هو يرسل رسائل إلى شريكه؛ فثمَّة كثير من أفراد عصابته في لندن. ثم فجأة، بحسب روايتكما، بينما كان يخبره بوجود خطر، انقطعت الرسالة. لا يوجد معنًى لهذا إلا أنه رآنا فجأةً من النافذة ونحن واقفون في الشارع، أو أدرك بطريقةٍ ما مدى قرْب هذا الخطر، وأن عليه التصرُّف على الفور إن أراد تجنُّبَه، أليس كذلك؟ ماذا ترى يا سيد هولمز؟»

«أن نصعد على الفور ونرى بأنفسنا.»

«لكننا لا نملك أي إذن بالقبض عليه.»

قال جريجسون: «إنه في مكانٍ غير مأهول بالسكان في ظروف مثيرة للشك، وهذا يكفي في الوقت الحالي. وحين نقبض عليه نرى إن كانت نيويورك ستساعدنا في الإبقاء عليه أم لا. وأنا سأتحمل مسئولية القبض عليه الآن.»

ربما يعاني المحققون الرسميون لدينا من قصور في مسألة المعلومات، لكنهم لا يفتقرون أبدًا للشجاعة. صعد جريجسون الدَّرَج من أجل القبض على هذا القاتل الخطير بالهدوء البالغ نفسه والأسلوب الجاد ذاته اللذَين يكون عليهما عندما يصعد سُلَّم سكوتلاند يارد. حاول الرجل من وكالة بينكرتون دفعه حتى يتخطاه، لكن جريجسون أعاده إلى الخلف بمرفقه بحزم؛ فمخاطر لندن لا يتعامل معها إلا أفراد شرطة لندن.

كان باب الشقة جهةَ اليسار في الطابق الثالث مفتوحًا جزئيًّا، ودفعه جريجسون ليفتحه. وبالداخل كان كلُّ شيء هادئًا ومظلمًا. أشعلتُ عود ثقاب وأضأتُ به مصباح المحقق. وبينما كنت أفعل هذا، وقد استقر الضوء المرتعش في شكل لهب، أصدرنا جميعًا صيحة من الذهول؛ فقد رأينا على الألواح الخشبية للأرضية الخالية من السجاد آثار دماء حديثة. كانت آثارُ الأقدام الدامية تتجه نحونا مباشرةً، وكانت قادمة من غرفةٍ داخلية كان بابها مغلقًا. فتح جريجسون البابَ وكان يمسك بمصباحه المتوهج بشدة أمامه، بينما نظرنا جميعًا بلهفة من فوق كتفَيه.

في منتصف أرضية الغرفة الفارغة رأينا جسدَ رجل ضخم ملقًى، ووجههُ الحليق الداكن اللون مشوَّهٌ ببشاعة، وحوْل رأسه هالةٌ قرمزية مروعة من الدماء، وملقًى داخل حلقة واسعة رَطْبة على الأرض الخشبية البيضاء. كانت ركبتاه إلى أعلى، ويداه مفتوحتَين في ألمٍ واضح، ويخرج من منتصف حلقه الكبير البني اللون المتجه إلى أعلى مِقْبضٌ أبيضُ لسكينٍ غُرس نصله بالكامل في جسده. ومع ضخامة حجم الرجل، لا بدَّ أنه سقط أمام هذه الضربة المروعة مثل ثور ضُرب بفأس. وبجوار يده اليمنى وجدنا خنجرًا كبيرًا، مقبضه مصنوع من قرون الحيوانات وله نصل من الجهتَين، ملقًى على الأرض، وبالقرب منه قفازٌ جلدي أسود.

صاح المحقق الأمريكي: «يا إلهي! إنه جورجيانو الأسود نفسه! لقد سبقنا شخصٌ ما هذه المرة.»

قال جريجسون: «ها هي الشمعة عند النافذة يا سيد هولمز. ما هذا؟ ما الذي تفعله؟»

سار هولمز عبْر الغرفة وأشعل الشمعة، وظلَّ يحرِّكها إلى الخلف والأمام عبْر إطار النافذة. ثم نظر عبْر الظلام وأطفأ الشمعة وألقاها على الأرض.

قال: «أعتقد أن هذا سيساعدنا.» ثم جاء إلينا ووقف يفكِّر تفكيرًا عميقًا بينما كان المحققان يفحصان الجثَّة، وأخيرًا قال: «قلتَ إن ثلاثة أفراد خرجوا من الشقة في أثناء انتظارك بالأسفل؛ فهل دققتَ في ملامحهم؟»

«أجلْ، فعلت.»

«هل كان بينهم رجل في الثلاثين من عمره تقريبًا، متوسط الحجم وله لحية سوداء، وبشرة داكنة؟»

«أجل، كان آخر مَن خرج.»

«أعتقد أن هذا هو الرجل الذي تبحث عنه. أستطيع إعطاءك وصْفه، كما أن لدينا شكلًا واضحًا لآثار أقدامه. أعتقد أن هذا كافٍ لك.»

«ليس بالقدْر الكافي يا سيد هولمز، من بين ملايين الناس في لندن.»

«ربما لا؛ ولهذا رأيتُ أنه من الأفضل استدعاء هذه السيدة لتساعدك.»

استدرنا جميعًا حين قال هذه الكلمات، ووجدنا عند مدخل الغرفة سيدةً طويلةً وجميلة: إنها المستأجِرة الغامضة في منطقة بلومزبري. تقدمتْ ببطء إلى داخل الغرفة، وكان وجهها شاحبًا وتظهر عليه علاماتُ رعبٍ بالغ، وكانت عيناها ثابتتَين وتحدقان بشدة، ونظرتها المرعوبة موجَّهة إلى الجثمان الأسود الملقى على الأرض.

تمتمتْ قائلة: «لقد قتلته! أوه، يا إلهي! لقد قتلته!» ثم سمعتُ شهيقًا مفاجئًا وعميقًا من جانبها، وقفزتْ في الهواء وهي تصرخ من الفرحة. دارت في الغرفة وهي ترقص وتصفِّق بيدَيها، ولمعت عيناها الداكنتان في سعادة ودهشة، وتدفَّق العديد من عبارات التعجب الإيطالية من شفتَيها. من المروع والمذهل رؤيةُ سيدة مثل هذه وهي تهتزُّ فرحًا من مثل هذا المشهد. وفجأة توقفتْ وحدقتْ فينا جميعًا بنظرة متسائلة.

«لكن مَن أنتم؟! أنتم الشرطة، أليس كذلك؟ أنتم مَن قتلتم جوسيبي جورجيانو، أليس كذلك؟»

«نحن الشرطة يا سيدتي.»

نظرتْ حولها في الظلال الموجودة داخل الغرفة.

سألتنا: «لكن أين جينارو إذن؟ إنه زوجي، جينارو لوكا. وأنا إميليا لوكا، ونحن من نيويورك. أين جينارو؟ لقد دعاني منذ لحظة من هذه النافذة، وركضتُ إليه بأقصى سرعتي.»

قال هولمز: «أنا مَن فعلتُ هذا.»

«أنت! وكيف استطعتَ استدعائي؟»

«لم تكن الشفرةُ التي تستخدمانها صعبةً يا سيدتي، كما كان حضورك هنا مهمًّا. وعلمتُ أنَّ كلَّ ما عليَّ فعله هو إرسال إشاراتٍ مضمونُها كلمة «احضري»، وكنت أعرف أنكِ ستأتين بالتأكيد على الفور.»

نظرت السيدة الإيطالية الجميلة بذعرٍ نحو رفيقي.

وقالت: «أنا لا أفهم كيف عرفت هذه الأشياء. جوسيبي جورجيانو، كيف …» ثم توقفتْ عن الحديث، وفجأة أضاء وجهها بالفخر والسعادة، وقالت: «الآن فهمت! زوجي جينارو! إن زوجي الرائع والجميل جينارو، الذي حماني من كل خطر، هو الذي فعلها، بيدَيه القويتَين؛ إنه هو الذي قتل هذا الوحش! أوه، يا جينارو، كم أنت رائع! أي امرأة يمكن أن تستحق مثل هذا الرجل؟!»

قال جريجسون الصريح، وهو يضع يده على كُم السيدة بقليل من العاطفة كما لو كانت أحد مشاغبي نوتينج هيل: «حسنًا يا سيدة لوكا، أنا لم أستوضح بعدُ مَن أنتِ ولا ماذا تفعلين، لكنكِ قلتِ ما يكفي ليجعلنا نحتاج إلى أخذك معنا إلى سكوتلاند يارد.»

قال هولمز: «لحظة واحدة يا جريجسون، أعتقد أن لهفة هذه السيدة لإعطائنا معلومات على القدْر نفسه من لهفتنا للحصول عليها. أنتِ تدركين يا سيدتي أن زوجك سيُقبض عليه ويُحاكم بتهمة قتْل هذا الرجل الملقى على الأرض أمامنا؟ وما ستقولينه ربما يُستخدم دليلًا ضده. لكن إن كنتِ تعتقدين أن تصرُّفه هذا كان نابعًا من دوافعَ ليست إجرامية، كان يتمنَّى لو كانت معروفة، فربما ستقدمين له خدمة كبيرة إن أخبرتِنا بالقصة بأكملها.»

قالت السيدة: «الآن بعد وفاة جورجيانو، لم نَعُدْ نخشى شيئًا. لقد كان شيطانًا ووحشًا، ولا يوجد قاضٍ في العالم سيعاقب زوجي على قتله.»

قال هولمز: «في هذه الحالة أقترح أن نوصِد هذا الباب ونترك الأشياء كما وجدناها، ونذهب مع هذه السيدة إلى غرفتها، ونكوِّن رأيًا بعد سماع الأشياء التي ستخبرنا بها.»

بعد مرور نصف ساعة، كنَّا جالسِين، نحن الأربعة، في غرفة الجلوس الصغيرة للسيدة لوكا نستمع لقصتها المثيرة عن هذه الأحداث المشئومة، التي تصادف أننا شهدنا نهايتها. تحدَّثتْ معنا بسرعة وطلاقة، لكن بلغةٍ إنجليزية غير تقليدية؛ لذا سأصحِّح الأخطاء النحوية فيها من أجل التوضيح.

قالت: «لقد وُلدتُ في بوسيليبو بالقرب من نابولي، وأنا ابنة أوجوستو باريلي، الذي كان كبير المحامين والنائب البرلماني في فترةٍ من الفترات عن هذا الجزء من نابولي. وكان جينارو يعمل عند والدي، ووقعتُ في حبِّه، كما يجب على أي امرأة أن تفعل. لم يكن يملك المال أو المنصب — لم يكن لديه إلا وسامته وقوَّته وحماسه — ولذلك عارض والدي هذا الزواج. فهربنا معًا، وتزوجنا في باري، وبعتُ مجوهراتي حتى نحصل على المال الذي نذهب به إلى أمريكا. كان هذا منذ أربع سنوات، ومكثنا في نيويورك منذ ذلك الحين.

كان الحظ حليفنا في البداية؛ فقد صنع جينارو معروفًا في رجلٍ نبيل إيطالي؛ إذ أنقذه من بعض رجال العصابات في مكانٍ يُدعى باويري، وهكذا أنشأ صداقةً مع رجلٍ ذي نفوذ. كان يُدعى تيتو كاستالوتي، وكان الشريك الرئيسي في شركة كاستالوتي وزامبا الضخمة، المستورد الرئيسي للفاكهة في نيويورك. كان السنيور زامبا مريضًا، وكان صديقنا الجديد كاستالوتي يتمتَّع بالسلطات كافة داخل الشركة، التي يعمل بها أكثر من ثلاثمائة شخص. أخذ زوجي للعمل معه في الشركة، وجعله رئيسًا على أحد الأقسام، وأظهر نواياه الطيبة تجاهه بشتَّى الطُّرق. كان السنيور كاستالوتي أعزبَ، وأعتقد أنه شعرَ بأن جينارو مثل ابنه، وأحببته أنا وزوجي كأب لنا. حصلنا على منزلٍ صغير في بروكلين وفرشناه، وكان مستقبلنا كلُّه يبدو مزدهرًا، حتى خيمتْ علينا سحابةٌ سوداء سرعان ما انتشرت في سماء حياتنا كلها.

ففي إحدى الليالي حين عاد جينارو من عمله أحضر معه رفيقًا له من مسقط رأسنا. كان اسمه جورجيانو، وقد جاء من بوسيليبو أيضًا. كان رجلًا ضخمًا، كما يمكن أن تلاحظ؛ فقد رأيتَ جثته. لم يكن جسمُه ضخمًا فحسب، بل كان كلُّ شيء فيه غريبًا وضخمًا ومرعبًا. كان صوته مثل الرعد في منزلنا الصغير. وكانت المساحة تتسع بالكاد لحركة ذراعَيه الكبيرتَين وهو يتحدَّث. وكانت أفكاره ومشاعره وانفعالاته كلُّها مبالغًا فيها وبشعة. وتحدَّث، أو بالأحرى زأرَ، بحماسٍ بالغ من النوع الذي يُجبِر الآخرين على الجلوس والاستماع فقط، وتلفَّظ بوابلٍ من الكلمات. وكانت عيناه تلمعان للمرء وتضعانه تحت رحمته. كان رجلًا بغيضًا وجذابًا في الوقت نفسه. حمدًا للرب على موته!

جاء مراتٍ ومرات، ومع ذلك كنتُ أعلم أن جينارو ليس أسعد حالًا مني بوجوده؛ فقد كان زوجي المسكين يجلس شاحبَ الوجه ومتبلد الحس يستمع لهذيانه الذي لا نهاية له عن السياسة والمسائل الاجتماعية، وهما الأمران اللذان شكَّلا الجزء الأكبر من حديث زائرنا. لم يَقُل جينارو شيئًا، لكني، لمعرفتي به جيدًا، استطعتُ أن أرى على وجهه مشاعرَ لم أرها عليه من قبلُ. في البداية ظننتُ أنه كُرْه. ثم بالتدريج أدركتُ أن الأمر أكبرُ من مجرَّد الكُرْه؛ لقد كان شعورًا بالخوف؛ خوف مفزع وعميق وغامض. في هذه الليلة — الليلة التي قرأتُ فيها هذا الرعبَ في وجهه — وضعتُ ذراعي حوْله واستحلفتُه بحبِّه لي وبكل عزيز عليه ألا يخفي عني شيئًا، وأن يخبرني بسبب سيطرة هذا الرجل الضخم عليه على هذا النحو.

أخبرني بالسبب، وارتجف قلبي بشدة وأنا أسمع كلامه: فزوجي جينارو المسكين، في أيام رعونته وطيشه، حين بدا العالَمُ كلُّه ضده وكاد عقله يُصاب بالجنون من ظلم الحياة، انضم إلى جماعةٍ في نابولي، وهي جماعة الدائرة الحمراء، التي تحالفتْ مع جمعية كاربوناري القديمة. كانت تعهداتُ هذه الجماعة وأسرارُها مرعبةً، لكن بمجرَّد الانضمام لا يوجد أيُّ سبيل للهروب منها. وحين هربنا إلى أمريكا، ظنَّ جينارو أنه تركها تمامًا وللأبد. وأُصيب جينارو بالرعب حين التقى في مساء أحد الأيام في الشارع الرجلَ نفسَه الذي ألحقَه بالجمعية في نابولي، جورجيانو الضخم، وهو رجلٌ أُطلق عليه اسم «الموت» في جنوب إيطاليا، بسبب دمويته من كثرة جرائم ارتكاب القتل التي ارتكبها! وقد جاء إلى نيويورك حتى يتفادى الشرطة الإيطالية، وأسَّس بالفعل فرعًا لهذه الجماعة البشعة في وطنه الجديد. أخبرني جينارو بكل هذا وأراني استدعاءً تلقَّاه في ذلك اليوم، مرسومًا عليه دائرةٌ حمراء في أعلاه يخبره بأن ثمَّة اجتماعًا سيُعقد في تاريخٍ معيَّن، وأن وجودَه مطلوبٌ وأمرٌ لا يمكنه مخالفته.

كان هذا سيئًا للغاية، لكن الأسوأ لم يكن قد حدث بعدُ؛ فقد لاحظتُ لبعض الوقت أنه حين يأتي جورجيانو لزيارتنا في المساء — وكان يفعل هذا كثيرًا — كان يُكثِر من الحديث إليَّ، وحتى حين كان يوجِّه كلامه لزوجي كانت عيناه البشعتان المحدقتان بشدة، اللتان تشبهان عينَيْ وحشٍ برِّي، تتجه نحوي دومًا. وفي إحدى الليالي باح بمكنون نفسه؛ فقد أيقظتُ بداخله ما يُطلق عليه اسم «الحب» — حب حيوان متوحش — حب إنسان همجي. لم يكن جينارو قد عاد بعدُ للمنزل حين جاء لزيارتنا، فاقتحم عليَّ جورجيانو المنزل، وأمسك بي بين ذراعَيه القويتَين، وعانقني كما لو كان دبًّا، وانهال عليَّ بالقُبلات، وناشدني بالهروب معه. كنتُ أقاومه وأصرُخ حين دخل علينا جينارو وانقضَّ عليه. لكن الوحش ضرب جينارو وأفقده الوعي وهرب من المنزل الذي لم يدخله مرةً ثانيةً أبدًا. وهكذا عادينا في هذه الليلة عدوًّا مميتًا.

بعد أيام قليلة جاء موعدُ الاجتماع. عاد جينارو منه ووجهه يظهر عليه أن شيئًا مروعًا قد حدث. كان أمرًا أسوأ مما يمكن لنا تخيُّله؛ فتمويل هذه الجماعة كان يأتي من ابتزاز أغنياء إيطاليا وتهديدهم بالعنف إن رفضوا دفع المال. ويبدو أن صديقنا العزيز الذي أحسن إلينا، كاستالوتي، كان من بين هؤلاء، وقد رفض الخضوع للتهديدات، وسلَّم الإنذارات للشرطة. وتقرَّر الآن جعلُ مثالهِ عِبْرة حتى تمتنع أيُّ ضحية أخرى عن التمرُّد. وحدث في هذا الاجتماع الاتفاقُ على تفجيره هو ومنزله بالديناميت. جرى سَحْبًا على الشخص الذي سينفِّذ هذه المهمة. ورأى جينارو وجهَ عدوِّنا المتوحِّش وهو يبتسم له وهو يضع يده داخل حقيبة السَّحْب. لا شكَّ أن هذا الأمر دُبِّر مسبقًا بطريقةٍ ما؛ إذ أخرج جينارو في راحة يده القرصَ المميت المرسوم عليه الدائرةُ الحمراء، الذي يمثِّل أمرًا ملزمًا بالقتل؛ فقد كان عليه قتْل أعزِّ أصدقائه وإلا سيُعرِّض نفسه وإياي لانتقام زملائه. لقد كان جزءًا من نظامهم الوحشي في عقاب الذين يخافونهم أو يكرهونهم ليس فقط أذيتهم شخصيًّا، بل وأذية أحبائهم أيضًا، وكانت معرفةُ جينارو المسكين بهذا هي التي جعلته يشعر برعبٍ بالغ، وجعلته يكاد يفقد عقلَه من الفزع.

جلسنا معًا طوال الليل، ونحن يطوِّق كلٌّ منَّا الآخر، ويحاول كلٌّ منَّا دعمَ الآخر لتحمُّل المشكلات التي نوشك على مواجهتها. تحدَّد صباح اليوم التالي من أجل تنفيذ هذه المهمة. وبحلول منتصف النهار كنتُ أنا وزوجي في طريقنا إلى لندن، لكن لم يحدث هذا إلا بعد أن حذَّر زوجي المنعِم علينا تحذيرًا كاملًا من هذا الخطر، وتركَ هذه المعلومةَ أيضًا للشرطة حمايةً لحياته في المستقبل.

أما الباقي، أيها السادة، فأنتم تعرفونه بأنفسكم. لقد كنَّا متأكدَين من أن أعداءنا يتعقبوننا مثل ظلِّنا. كانت لدى جورجيانو أسبابُه الخاصة للانتقام، لكن على أي حال كنَّا نعلم مدى ما يمكن أن يتمتَّع به من قسوةٍ ودهاء ومثابرة؛ إذ تزخر كلٌّ مِن أمريكا وإيطاليا بقصصٍ عن قدراته المرعبة، وكان هذا هو الوقت الأمثل لاستخدامها. استفاد زوجي العزيز من الأيام القليلة التي استبقنا فيها تعقُّبه لنا بسبب تحركنا المبكر، في تدبير ملجأ لي بطريقةٍ تجعل من الصعب إمكانية وصول أي خطر إليَّ. أما هو، فقد أراد أن يبقى حرًّا حتى يتمكَّن من التواصل مع كلٍّ مِن الشرطة الأمريكية والإيطالية. أنا شخصيًّا لم أعرف أين يعيش أو كيف. كلُّ ما عرفتُه كان عبْر الأعمدة التي تُنشر في الصحيفة. لكن حين نظرتُ عبْر نافذتي، رأيتُ رجلَين إيطاليَّين يراقبان المنزل، وأدركتُ أن جورجيانو عثر على مخبئنا بطريقةٍ ما. وأخيرًا أخبرني جينارو، عبْر الصحيفة، أنه سيرسل إشاراتٍ لي عبْر نافذةٍ معينة، لكن حين حصلتُ على الإشارات لم تكن إلا تحذيرات، ثم قُطعت فجأة. واتضح الآن لي أنه عَلمَ أن جورجيانو عثر عليه، وأنه، حمدًا للرب، كان مستعدًّا له حين أتى. والآن، أيها السادة، أسألكم هل نخشى من الوقوع تحت طائلة القانون؟ أو هل ثمَّة أيُّ قاضٍ يمكنه أن يدين زوجي جينارو على ما فعله؟»

قال الأمريكي وهو ينظر إلى المحقِّق: «حسنًا يا سيد جريجسون، أنا لا أعرف ما وجهة النظر البريطانية في هذا، لكنني أعتقد أن زوج هذه السيدة سيحصل على خطاب شكر عام في نيويورك.»

أجاب جريجسون قائلًا: «لا بدَّ لها أن تأتي معي لمقابلة رئيسي. وإن كان ما تقوله صحيحًا ومدعمًا بالأدلة، فلا أعتقد أنه يوجد ما تخشى منه هي أو زوجها. لكن ما لا يمكنني فهْمه يا سيد هولمز، هو كيف حدث وتورطتَ أنت في هذه المسألة.»

«التعلُّم يا جريجسون، التعلُّم. ما زلتُ أبحث عن المعرفة في الجامعة القديمة. حسنًا، يا واطسون أصبحتَ تملك عينةً أخرى من القصص التراجيدية والغريبة لتضيفها إلى مجموعتك. بالمناسبة، لم تصل الساعة إلى الثامنة بعدُ، وثمَّة عرضٌ لفاجنر في حي كوفنت جاردن! إن أسرعنا، فربما نصل في وقتِ عرضِ الفصل الثاني منه.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤