مقدمة وتمهيد

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله وبعد …

ترجع فكرة تأليف هذا الكتاب إلى نحو عشرين عامًا مضت، منذ كنتُ أتلقَّى العلم في مدرسة ليون الجامعة، وفي تلك المدينة الجميلة المطمئنة، دونت أوائل تلك الفصول، وقد صحبتني الأماني و«الكراسات» في سائر أسفاري بين ليون وجنيف ولندن وفيرنزة (فلورنسا)، ومرت علينا معًا فترة الحرب العصيبة وأنا في صحبة هؤلاء الفلاسفة الاثنى عشر، ننهض تارة ونرجو رؤية النور والضياء، وطورًا نرقد في مثار النقع نسمع صدى صوت المدافع في الفضاء، إلى أن شاءت الأقدار أن يلبس هؤلاء الحكماء المتقدمون ثياب الظهور في عالم الوجود المادي، فلم أشأ أن أطيل حبسهم، فأسلمت بيدي تلك الأوراق، التي أصبحت في نظري «معتَّقة صفراء» دقيقة الجسم، ضخمة البخار، وهكذا برز إلى عالم البعث والنشور اثنا عشر فيلسوفًا من المشارقة والمغاربة، وقد تدثَّر كلٌّ بالقباء أو المرقعة أو المسوح أو الدراعة أو الجبة التي تليق به لدى مثوله بين أيدي قراء هذا الزمان.

فإلى الأمام أيها السادة الحكماء! ولا تعتبوا على هذا الضعيف، الذي ألجأكم إلى الخروج من كهف الماضي السحيق، ودعاكم إلى الظهور بعد الخفاء في عالم الهدوء والسكون إلى عالم الجلبة والضوضاء، فإن معظم أهل هذا الزمان لم يَشْرفُوا بمعرفتكم، وسوف تقع أسماؤكم وألقابكم وكُناكم من أسماعهم وَقْعَ الشيء الجديد الغريب، وسوف يجادلون في حقيقة وجودكم، وفي قيمة أفكاركم، وينكرون عليكم آراءكم التي بيضتم سواد ليالي أعماركم في تصورها وتحويرها، وتهذيبها وتحريرها، وسوف يمر البعض بكم متعجبًا من هؤلاء الفلاسفة المتقدمين الذين عاشوا وتأمَّلوا وفسَّروا الكون، وعلَّلوا الحوادث قبلَ كانتْ، ونيتْشَهْ، وشوبنهور، وسبنسر، وستوارت ميل، وأوجست كونت، ورينان، ولن يخطر ببال هؤلاء القراء المتعجبين أنه لولاكم، أيها الفلاسفة الأعزة! من الكندي إلى ابن رشد، لم يكن لفيلسوف أوروبي حديثٍ أن يظهر في عالم الوجود، وإنكم أنتم الذين حفظتم تلك الشعلة المقدسة التي خلَّفها سقراط وأفلاطون وأرسطو، في مغاور الماضي السحيق، وزدتموها نارًا حتى أسلمتموها مضيئة وهَّاجة إلى فلاسفة أوروبا المحْدثين، وكنتم لتلك الشعلة الإلهية كرامًا حافظين.

على أن أقداركم لم تخفَ على علماء أوروبا وكتابها ومؤرخيها؛ فقد عني مئات من مؤلفي تلك القارة السعيدة بالبحث عن آثاركم، وتدوين أخباركم، ونشر أفكاركم التي هي من أغلى وأثمن الحلقات في سلسلة التفكير الإنساني، فحرصوا على مخطوطاتكم وبالغوا في رفع قيمتها، وفي السعي لاقتنائها، ولم يضنوا بالمال والعمر والعلم في سبيل إحياء ذكركم، فاستفادوا من وراء بحثهم وتنقيبهم وربحت تجارتهم! ولكن الذي أنكركم أو، على القليل، شك في وجودكم العقلي، وحَطَّ من أقداركم هم أحفادكم وأخلافكم، وورثة حكمتكم وأخلق الناس بالمحافظة على ذكراكم وتمجيد أعمالكم، وهم الذين يقرءون ويكتبون ويفكرون بتلك اللغة العربية التي دوَّنتم بها كتبكم الخالدة في بغداد ودمشق ومصر والمغرب، والأندلس، ويسأل هؤلاء الورثة الذين لا يستحقون تلك التركة الثمينة:

هل لنا حقًّا أجْداد في الفكر والعقل؟

وهل لهؤلاء الأجداد قيمة في ميدان العلم الحديث؟ وأين كتبهم؟

وما مكانتهم بين ظهرانَي الفلاسفة الذين نقرأ تراجمهم ونرى صورهم، ونعثر بشذور من أقوالهم في الكتب والمجلات والصحف؟

ولأجل الإجابة على هذه الأسئلة الثلاثة ألَّفْتُ هذا الكتاب؛ للتدليل على فضل هؤلاء المتقدمين، ولتعيين مكانتهم على حقيقتها بين فلاسفة العالم، ليعلم المرتابُ والمتردِّد والمقلِّد أن تلك المدنية العظيمة التي ظهرت في الوجود منذ أربعة عشر قرنًا، لم تكن مدنيَّة حرب وطعن ومادة، بل كانت مدنية عقل وعلم وفكر عميق، وأن تلك المدنية التي نشأت في قلب الصحراء ونشرت أجنحتها إلى أقاصي الصين شرقًا وأقاصي أوروبا وأفريقيا غربًا، لم تكن مدنية السيف والمدفع بل كانت مدنية القلم والقرطاس والكتاب، وأن عقيدة هؤلاء الفلاسفة لم تمنعهم من الدرس والبحث والتنقيب عن الحقيقة.

بل إن تلك العقيدة نفسها هي التي استحثتهم على السير في جميع دروب الفكر البشري، فكانت الحقيقة ضالة كل منهم ينفق العمر والمال والفكر في اقتفاء أثرها، ويلتقطها أنَّى وجدها، وإن هؤلاء الأقوياء من أصحاب التيجان والعروش بذلوا أنفس وأعزَّ ما كان لديهم من المال والجاه والنفوذ في إيجاد الفلسفة في بلاد الشرق العربي والغرب الإسلامي، وإن من حث على العلم هو تلك العقيدة التي ظهرت في الصحراء على لسان (محمد) وأول من شجَّع على نشر الحكمة هم هؤلاء الخلفاء والملوك من الغزاة، والمجاهدين من ذوي قرباه وخلفائه وصحابته والتابعين.

وأجدر الناس بتفهُّم هذا القول هم الفريق الذي ظهر في الزمن الأخير بمظهر تحقير الفكر الشرقي الإسلامي، والحط من أقدار رجاله المتميزين، والطعن على علومهم وآدابهم وحكمتهم، والانتقاص من آثارهم التي كانوا بها يهتدون؛ فهذا الفريق من الخلق يعمل على هدم آثار السلف الصالح في العقل والفكر بمعْوَل التعصب الذميم والمنفعة المادية، وإلا فكيف يستبيح أديب أو أريب أو عالم أن يقلل من قيمة أسلافه في الثقافة الإنسانية؟ وهل استباح كاتب أوروبي، من الذين يدعي هؤلاء الناس تقليدهم، لنفسه الحطَّ من قدر أسلافه في العلم والفلسفة لمجرد قِدَمهم ومُضيِّ الأجيال الطويلة على اختفائهم من عالم الوجود المادي؟

بل الأمر على النقيض؛ إذ نرى النوابغ من الكتَّاب والمؤلفين يعملون أبدًا على إحياء سِيَر الأقدمين والإشادة بذكرهم، ونشر كتبهم وتزيينها وشرحها وتفسيرها، ومحاولة رد معظم الفضل في الحياة العقلية الحديثة إليهم، ولا يوجد فيلسوف أوروبي لم يكن له «مَثَلٌ أعلى» من هؤلاء الحكماء الأقدمين يحذو حذوه وينسج على منواله، ويستضيء بنوره، وهم دائمًا دائبون على إحياء أعياد موالدهم، وتخليد ذكر أيامهم الكبرى بظهور مؤلفاتهم وعرفان جميلهم وفضلهم على الإنسانية.

ومن هؤلاء القوم فريق يدَّعي أنهم مجددون ويذمون كل قديم لمجرد قدمه، ويتهوَّسون بعبادة كل جديد لمجرد جدَّته، على أنهم لو عقلوا لعلموا أن من لا قديم له لا جديد له، وأن الشرف والنبل يرجعان إلى عراقة الأصل، وأن أفخم البنيان يشاد حتمًا على أمتن أساس، فكيف يكون لهم عماد دون أن يتصلوا بآثار الأجداد والأمة التي لا ماضي لها ليس لها حاضر ولا مستقبل؟

على أننا لا نعتبر «الإسلام» في تسمية هذا الكتاب الضئيل دينًا أو عقيدة حسب، بل نعتبره مدنية كاملة شاملة، حافلة بكل معاني الحياة العقلية والثقافة الأدبية، وعلى هذا القياس الصحيح يكون الفلاسفة الإسرائيليون والمسيحيون بل أحرار الفكر ممن نَشئوا وترعرعوا في كَنَف المدنية الإسلامية حكماء إسلاميين بحكم الفكر الوسط والثروة العقلية المشتركة، وعلى هذه الخطة الحكيمة سار الخلفاء العباسيون والأمويون والفاطميون في المشرق والمغرب، فقرَّبوا الكتَّاب والمفكرين والأدباء من غير المسلمين ودونوا لهم الدواوين، وقلدوهم أسمى مناصب الدولة، وهؤلاء الخلفاء العظماء شرحوا صدورهم وفتحوا قصورهم للفلاسفة من أهل سائر الأديان، بينما كان أباطرة وملوك وأمراء غيرهم في ممالك أخرى يصلبون ويعذبون ويشنقون ويحرقون رجالًا ثبتت لهم العبقرية في الفكر والزعامة في العلم فيما تلا من الأيام.

وسوف يجد القارئ بين دفتي هذا الكتاب فصلًا مسهبًا في الصوفية بمناسبة ترجمة الشيخ «محيي الدين ابن العربي» الذي قد يتردد بعض المؤلفين في وضعه في صف الفلاسفة، على أنهم لا يترددون في عدِّ الغزالي فيلسوفًا لمجرد كتابته في الفلسفة، بغض الطرف عن الغاية التي كان يقصد إليها، على أن ابن العربي أحق بوصف الفيلسوف من الغزالي؛ لأن التصوف نوع من الفلسفة إذ هو يرسم خطة للحياة الإنسانية، وصاحبه يبحث عن الحقيقة ويسعى في حل لغز الحياة وتفهم أسمى أسرار الكون، ولا تخرج الفلسفة في أكمل معانيها عن حدود هذه الغايات، فضلًا عن أن ابن العربي تفرغ لمباحثه وأخلص فيها ودقق وحقق، وأمعن وتعمَّق، ووقف حياته ووجوده على غرض واحد لم يتعده، وقد بلغ فيه درجة من أسمى الدرجات، بل إن الكتاب الوحيد الذي اشتهر به سيدنا حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي — وهو «إحياء العلوم» — يعد في نظر الكثيرين من الأخصائيين في الدرجة الثانية بالنسبة لكتاب «الفتوحات المكية» تأليف ابن العربي، وقد كانت لمحيي الدين شخصية مدركة متميزة، سادت تاريخ التصوف الإسلامي الحديث؛ لأنه المحيي غير مدافع، والشيخ الأكبر دون منازع عند أهل السنة من العرب والترك، وعند أهل الإمامة من الفرس.

ولما كان العرب واليهود فرعين لدوحة واحدة هي الدوحة السامية، والشعبان متفقَين أصلًا ومدنية وتاريخًا، ويكاد اللسانان العربي والعبراني يتحدان، ولولا ما امتازت به اللغة العربية من ظهور لهجة قريش وقدرتها على الحياة كانت مناحي الفكر لديهما متحدة.

بيدَ أن الفرق بين الشريعتين الموسوية والمحمدية، قد ظهر ظهورًا جليًّا في قابلية كل منهما في البحث الفلسفي، وقد ظهر في كل عهد من العهود نوابغ إسرائيليون يعدون في مقدمة الشعوب التي ينتمون إليها وطنًا لا عقيدة، وفي عصرنا هذا عبقريون، منهم أحياء ومنهم من قضى نحبه، أمثال: «كارل ماركس» و«أينشتين» و«برجسون» وعشرات لهم في عالم الفكر البشري ذكر باقٍ.

وقد حصر حكماء بني إسرائيل همهم في العصور الأولى لظهور ملتهم في التهديد والوعيد وتعليم الحكمة الربانية، وقالوا بوحدانية الله ووحدة خلقه ووحدة سائر الكائنات، فكان بحثهم قاصرًا على الذات، ولم يتعد إلى الصفات التي يعتبرها فلاسفة الإسلام مظاهر للذات، ولم يتجه نظر أحد من هؤلاء الحكماء إلى البحث في علم النفس البشرية وحقيقتها، فكأن فلسفتهم كانت عبارة عن الاعتقاد المطلق بالله بدون بحث علمي أو طريقة فلسفية، مع أن مصادر العلوم الربانية والنفسانية كانت متوافرة لديهم في كتب الهنود والإغريق.

لم يعرف فلاسفة اليهود علم المنطق، ولم يسلكوا سبيل البراهين والأدلة والحجج، أو أنهم عرفوه ولم يَلجئوا إليه واكتفوا في تأييد آرائهم بالإسناد إلى الوحي.

أما عن نظرية الخير والشر في الحكمة الإسرائيلية، فقد قال فلاسفة اليهود: «إن الله سبحانه هو خير محض، ولا يصدر عنه إلا الخير.» وأثبتوا ذلك أو حاولوا إثباته بما ورد في الكتاب المقدس. أما الشر فقالوا: «إنه من صنع البشر، وإنه ثمرة لتغلُّب المادة على العقل أو انتصار مبدأ المادة على مبدأ العقل.» وقد نسبوا الشر للإنسان خشية أن يؤدي بهم الكلام فيه إلى الخروج، وقد أدت بهم نسبة صدور الشر إلى الإنسان إلى القول بأنه حر في إرادته وتصرفاته، ويجب عليه أن يجعل أعماله منطبقة على مبدأ الخير الأسمى؛ لئلا يقهره المبدأ المادي فيصير أسيرًا للشر، وهذا هو مبدأ حرية الإرادة المعروف لعهدنا هذا باسم Libre Arbitre أو مبدأ الخيار في الحياة، باعتبار الإنسان مخيرًا لا مسيرًا أن مبدأ الخيار في الحياة لم يظهر في الفلسفة الحديثة إلا بعد تطاحن أجيال في العقائد والأفكار، ولكن اليهود لم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث، بل استندوا إلى نصوص من الكتاب المقدس (التوراة)، حيث جاء بقول صريح على لسان الله في مخاطبة الإنسان:

انظر! قد جعلت اليوم قدامك الحياة والخير، والموت والشر.

ومعظم هذه الحال راجع إلى مزاج النفس «السامية»، التي صدق (رينان) كثيرًا في وصفها في عرض كلامه في كتابه الممتع في «تاريخ اللغات السامية».

والمشاهد عند حكماء اليهود، الذين لا يمكن أن نطلق عليهم اسم الفلاسفة، أنهم كانوا إذا اقتربوا من النظريات الفلسفية المحضة يرجعونها إلى دائرة الدين، ويجعلون الحكم فيها وعليها فوق مدارك العقل البشري.

ونجد هذه الحال ممثلة أجلى تمثيل في سفر أيوب، من أسفار «العهد القديم»؛ إذ اجتمع الحكماء، وأخذوا يبحثون في مسألة العناية الإلهية والقضاء والقدر، فظهر الله في عاصفة لأيوب وأظهر له قِصر المدارك البشرية عن الوقوف على أسرار الطبيعة، ورفع الستار عن وجه الحقيقة، واكتناه حكمة القضاء، ووجوب خضوع الإنسان بعد إقراره بعجزه لله والتسليم بإرادته؛ مما يؤدي بتوجيه القضايا الفلسفية نحو جهات الاعتقاد.

بيد أن امتزاج اليهود بأهل بابل والفرس والكلدان ساعد على تأثر الحكمة الإسرائيلية بأفكار وعقائد هؤلاء الغزاة الذين هم من جنس (آري).

فإن الفرس يقولون بوحدانية الله، ويبغضون الوثنية كما ورد في كتابهم (الزندافستا). على أن الفرس، وإن كانوا من جنس آري، فإن آسيويتهم (نسبتهم إلى آسيا) تغلبت على آريتهم، فلم يبلغوا من الفلسفة شأوًا يستفيض منه نور على عقول حكماء بني إسرائيل، فبقيت كتب هؤلاء بعد تقربهم وامتزاجهم بالفرس خالية من المباحث النظرية وما وراء الطبيعة خلوها من ذلك من قبل.

وما زال اليهود على ذلك الجمود الفلسفي والاكتفاء بالبقاء في دائرة الدين إلى أن تغلب اليونان على سوريا، وانتشرت فيها فلسفتهم وآدابهم، فأدركت اليهود الغيرة من علو كعب فاتحي بلادهم في المباحث التي لم يطرقوها، على أنهم لم يجرءوا على البحث الحر الصريح القوي، بل عادوا إلى الكتب المقدسة يشرحونها، معتمدين في ذلك على بعض مبادئ الأفلاطونية المستحدثة التي كانت مزهرة في الإسكندرية، فلم يتعدوا أفكار فيثاغورس وأفلاطون.

وقد أدخل بعض حكمائهم في روعهم أن لعقائد بني إسرائيل أثرًا في تكوين آراء أكابر الفلاسفة اليونان أمثال فيثاغورس وأفلاطون وأرسطوطاليس؛ لأنهم في زعمهم مروا في أسفارهم على بلاد بني إسرائيل وأخذوا العلم والحكمة عن حكمائهم.

وكان بين طوائف اليهود طائفة تشبه الصوفية عند المسلمين، وهم الذين نبغوا من الفريسيين، وكان مذهبهم القول بالمبادئ والآداب والفعل بها، كالزهد والعفة والتقشف والتقوى، ونبغت طائفة أخرى، وهي الصدوقية، لكنها شطت وجمحت، فأنكر ذووها خلود النفس، وتدخل العناية الإلهية في أعمال البشر، معتمدين في هذا الإنكار على أنه ينافي نظرية الاختيار الإنساني.

ونشأت من فرقة الصدوقية فئة اسمها الأسينية (من المواساة والطب)، وقد جعلوا فلسفتهم نوعًا من الاشتراكية، وعاشوا بمقتضى مبادئهم، كتبادل الحب بين الأفراد، وبغض الملاذ، والتغلب على هوى النفس، واحتقار الغنى، ولا يزال في أرض فلسطين إلى الآن وقبل ظهور «الصهيونية» بمظهرها الأخير في ظلال نظرية «الوطن القومي»؛ مستعمرات إسرائيلية تسير على مبدأ تلك الفرقة، بعد أن عفت آثارها، وانقطعت أخبارها إلا من الكتب.

وقد قاسى اليهود من الظلم والاضطهاد في عهد الرومان والقرون الأُوَل من العصر الديني الأوروبي؛ ما أضعفهم وأطفأ شعلة ذكائهم، فانصرفوا إلى المجادلات الدينية والمجاهدة في سبيل البقاء في أقطار العالم، بعد أن ذهبت دولتهم وتشتت شملهم وفقدوا عاصمة ملكهم؛ لذا تجد (المشنة) و(التلمود) خاليين من الأبحاث الفلسفية أو الكلام فيما وراء الطبيعة.

وما زال اليهود كذلك من الجهة العقلية حتى نزحوا إلى بلاد العرب قبل الإسلام، فطابت لهم الإقامة في الجزيرة العربية في عهد الجاهلية، وتوافرت بينهم وبين تلك القبائل أسباب الألفة لما بين اليهود والعرب من روابط الجنس السامي، واللغتين العربية والعبرانية اللتين هما من فصيلة واحدة.

•••

ولما ظهر الإسلام لم تكن وطأته ثقيلة على اليهود فانتعشوا، وانصرف فريق منهم إلى الاشتغال بالعلم والأدب، ثم علا نجمهم في صدر الإسلام؛ إذ أصبح كثير من نابغيهم موضع ثقة الخلفاء وعنايتهم، أمثال سعيد بن يعقوب الفيومي وصموئيل بن حفني.

وكان سعيد بن يعقوب الفيومي المذكور، ويعرفه اليهود باسم سعدية بن يوسف المصري، رئيس مدرسة (سورا) القريبة من بغداد، وهو أول من ألف من اليهود كتابًا باللغة العربية ونشره في موضوع العقائد والعقليات، ومحور هذا الكتاب — الذي يعد فتحًا جديدًا لليهود، كما يعد دستورًا لفرقة الربابنة وأصحاب التلمود — وجوب اتباع أحكام العقل في العقائد وجواز فحص القضايا الدينية؛ لأن العقل الصحيح خليق بأن يرشد صاحبه إلى الحقائق التي ينقلها الوحي إلى أصحاب النبوة، وأن تعليل الوحي هو الرغبة في وصول الإنسان بسرعة إلى إدراك الحقائق العليا، التي لو ترك البحث فيها للعقل وحده لاحتاج في الوصول إليها وإدراكها عناءً عظيمًا وزمنًا طويلًا.

ونحن نعد سعيد بن يعقوب هذا من فلاسفة الدنيا بحق، ولكنه لم يعش حتى يدرك ازدهار الفلسفة العربية في بلاد الأندلس، التي كان من أثرها في يهود إسبانيا أنفسهم، أنهم ثاروا على مدرسة (سورا) وأرادوا أن يستبدلوا بها مدرسة جديدة يجعلونها في قرطبة؛ وطن ابن رشد، ويلقنون فيها، على أيدي رجال من خيار علمائهم، العلوم والفلسفة وفنون الأدب، التي أهملها يهود الشرق.

فقامت تلك المدرسة في قرطبة فعلًا، وأَمَّها الطلاب من كل فج عميق، ونبغ منها بعض الأساتذة الذين ألفوا في فلسفة المشائين اليونانية، ولا تزال بعض كتبهم في مكاتب أوروبا، ولخليفة عبد الرحمن الثالث معظم الفضل في نفع هذه المدرسة وتعظيم شأنها.

ومن فطاحل من نبغ في هذه المدرسة، وقد ورد اسمه مرارًا في هذا الكتاب، وفي كتاب الأستاذ الإسرائيلي «مَنك» الحكيم موسى بن ميمون المعروف عند كتاب الإفرنج بميمونيد، وهو من أهل القرن الحادي عشر للمسيح، ويرجع الفضل في تثقيفه وتهذيبه إلى حكماء العرب، بل إنه نسج على منوالهم في رغبته في الجمع بين فلسفة أرسطوطاليس والشريعة الموسوية مع إخضاع النظر لأحكام العقل والمنطق، وقد اضطهد المسيحيون الإسبان هذا الحكيم الإسرائيلي فيمن اضطهدوا من اليهود بعد زوال دولة العرب، فلجأ إلى مصر في عهد السلطان المجاهد فخْر الإسلام صلاح الدين الأيوبي، فعرف قدره وقرَّبه وجعله طبيبه الخاص، ولا غرابة فإن هذا الحكيم كان يسمى موسى الثاني أو أفلاطون اليهود.

لقد اعتبر كثير من علماء المشرقيات دين الإسلام مدنية ذات يقظة ونهضة ووثوب، بدأت بظهور الإسلام ونمت في ظل فتوحه واستكملت قوتها بعد أن شملت كثيرًا من شعوب الشرق والغرب؛ هذا لأن الكتاب المنزل على أفصح العرب لم يكن كتاب دين حسب، بل إنه كان مصدرًا ومرجعًا لنحو ثلاثمائة علم في الشرع، واللغة، والتاريخ والأدب، والطبيعة، والفلك، والفلسفة، وغيرها. ومعظم تلك العلوم نشأ من القرآن نفسه واستنبطه العلماء من نصوصه، وكثير منها تولد خدمة للقرآن ويسمي هذا النوع من العلوم «وسائط» أو «وسائل».

وقد كان لذلك الكتاب أثر شديد في أصحابه، وقد شمل شريعة، وقانونًا، وأنظمة سياسية واجتماعية ومدنية، وشيء من هذا لم يوجد في كتاب سواه، بل إن غيره من الكتب ينطوي على تعاليم لمصلحة الحياة الآخرة.

وكثير جدًّا من نصوص الكتاب المنزل على أفصح العرب يحث أصحابه على طلب العلم والنظر والتأمل والتفكير في خلق السماوات والأرض، وأنظمة الكواكب والأجرام العلوية، واختلاف الليل والنهار، وتغير الرياح، وعجائب البحار، ومعجزة خلق الإنسان وتطوره وتميزه بالعقل والإدراك، وتفضيله على سائر الكائنات، وتسخير الجماد والنبات والحيوان لخدمته فيما ينفعه ويرقي شئونه في سائر ناحيات الحياة المادية والأدبية، عدا عما ورد في هذا الكتاب من حوادث التاريخ وأخبار الأمم البائدة والباقية، فكان من المحتم أن تتفتح أذهان تلك الأمم التي انتحلت هذه العقيدة، واهتدت بهدي كتابها.

وفي معترك تلك الحياة الغنية بالفكر والعلم والتأمل وتنازع البقاء بين القديم والجديد؛ ولدت الفلسفة الإسلامية، فكان الفرق بين اليونان والعرب أن اليونان تفلسفوا في وثنيتهم، فلما دانوا بدين منزَّل — هو المسيحية السمحاء — زالت فلسفتهم وانقرض حكماؤهم؛ لشدة المعارضة بين عقيدتهم الجديدة والفلسفة، أما العرب فقد كانوا في جاهليتهم ووثنيتهم أبعد الناس من الفلسفة مع معاصريهم لليونان من أقدم الأزمنة، فلما جاءهم الكتاب المنزل على أفصح العرب أخرجهم من ظلمات الجاهلية والوثنية ومن دياجير الجمود الفكري أيضًا، وحثهم على الدرس والبحث والنظر، ومهد لهم سبيل الفلسفة.

وانقضى القرن الأول وثلث القرن الثاني من صدر الإسلام في الاستعداد والتجهيز إلى أن جاء العصر العباسي الأول، الذي يعد العصر الذهبي للإسلام، وقد دام مائة عام من ١٣٢ﻫ إلى ٢٣٢ﻫ، وفي هذا العصر الذهبي بلغت دولة الإسلام قمة مجدها في المدنية والغنى والسيادة، وفي تلك المائة نشأ معظم العلوم الإسلامية، ونقلت العلوم الأجنبية إلى اللغة العربية، وكانت بغداد في ذلك العهد أشبه بباريس في عهد لويس الرابع عشر، فكانت قصور الخلفاء آهلة بالعلماء والأطباء والأدباء والشعراء، وكانت سيادة العباسيين على العالم الإسلامي شاملة سائر الأقطار، وكانت أوروبا في ذلك الوقت — وهو النصف الأخير من القرن السابع والنصف الأول من القرن الثامن — في غيابة الجهل والوحشية؛ حتى أن مؤرخي أوروبا أنفسهم يسمون هذا العصر وما سبقه وما لحقه بالقرون المظلمة The Dark Ages.

على أن نهضة الإسلام لم تكن قاصرة على الأمم التي اعتنقت هذا الدين، بل كانت النهضة شاملة للشرق كله، كأن المبعث هز أركان ذلك الجزء من الكرة الأرضية، فهب من سباته الذي مضت عليه الأجيال المتراكمة، وأخذ ينفض عن نفسه غبار خمول الأجيال السابقة، فنهض الفُرس والترك والتتار والهنود، حتى أهل الصين واليابان فإنهم هبوا للإصلاح الأدبي في أثناء ذلك العصر العباسي أو بعده بقليل، فكانت حركة الإسلام كهزات الزلازل تسير في مناطق معينة وتنتقل في دوائر محدودة، ولا يزال مؤرخو الآداب الصينية يذكرون نهضة فحول شعرائهم في القرنين التاسع والعاشر للمسيح، في عهد إمبراطورهم ابن السماء «تنغ»، واشتغل اليابانيون في ذلك العصر أيضًا بتهذيب اللغة اليابانية وتنظيم الآداب الاجتماعية، وظهرت فيهم عبقرية الفنون، فكان منهم الشعراء والأدباء والمصورون والمثَّالون.

وهكذا ما فتئ المشرقان الأقصى والأدنى يتأثران بحركة النهضة التي تظهر في أحدهما فيكون لها صدى في الآخر، وما صدق على القرن التاسع المسيحي، صدق أيضًا على نهضة القرن التاسع عشر في الشرقين الأقصى والأدنى.

ومن مميزات هذا العصر العباسي اشتغال الخلفاء والأمراء بالعلم والأدب، وأخبار المنصور والرشيد والمأمون وأقاربهم ووزرائهم وشعرائهم تملأ كتب الأدب والتاريخ العربي، فكان من حياتهم أعظم دافع لاشتغال الرعية بطلب العلم والنبوغ فيه.

ومن مفاخر هذا العهد إطلاق الفكر من قيود التقليد، حتى تعددت البدع وتفرقت الفرق وكثرت النحل، وكان أكثر الخلفاء تسامحًا في الدين، المأمون الذي بلغ به تسامحه أنه انتصر للمعتزلة في القول بخلق القرآن. وكانت الأفكار، من حيث الدين، مطلقة الحرية لا يكره الرجل على معتقد أو مذهب، وقد اجتمع ستة إخوة «لأبي جعد»: اثنان منهما يتشيعان، واثنان مرجئان، واثنان خارجيان، وكلهم تحت سقف واحد.

أما الخلفاء الذين اهتموا بنقل العلوم الأجنبية أو الدخيلة من اليونانية والفارسية والسريانية والهندية فهم: المنصور وكان اهتمامه بالفلك والطب، والرشيد ونقل في أيامه كتاب «المجسطي» في الرياضيات، ثم المأمون وهو الذي اهتم بنقل الفلسفة والمنطق بصفة خاصة وسائر العلوم بصفة عامة، وقد بلغت الكتب التي نقلت في ذلك العصر مئات، أكثرها من اليونانية منها:
  • ٨ في الفلسفة والأدب لأفلاطون.

  • ١٩ في الفلسفة والمنطق لأرسطو.

  • ١٠ في الطب لأبقراط.

  • ٤٨ في الطب لجالينوس.

  • ٢٠ (وأكثرها في الرياضيات والفلك) لإقليدس وأرخميدس وبطليموس وغيرهم.

  • ٢٠ من الفارسية في التاريخ والأدب.

  • ٣٠ من اللغة السنسكريتية في الرياضيات والطب والفلك والأدب.

  • ٢٠ عن السريانية والنبطية، في الفلاحة والزراعة والسحر والطلاسم.

  • ٢٠ عن اللاتينية والعبرانية في مختلف العلوم والآداب والفنون.

أما الذين نقلوا تلك العلوم من اللغات الأجنبية إلى العربية فهم:
  • (١)

    آل بختيشوع من أولاد جرجيوس بن بختيشوع السرياني النيسطوري، طبيب الخليفة المنصور.

  • (٢)

    آل حنين، سلالة حنين بن إسحاق العبادي شيخ المترجمين، وهو من نصارى الحيرة.

  • (٣)

    حبيش الأعسم الدمشقي ابن أخت حنين.

  • (٤)

    قسطا بن لوقا البعلبكي من نصارى الشام.

  • (٥)

    آل ماسرجويه اليهودي السرياني.

  • (٦)

    آل ثابت الحراني من الصائبة.

  • (٧)

    أبو بشر متى بن يونس.

  • (٨)

    يحيى بن عدي.

  • (٩)

    اسطفان بن باسيلي.

  • (١٠)

    موسى بن خالد.

وهؤلاء نقلوا العلوم من اليونانية والسريانية إلى العربية.

أما نقلة العلم من الفارسية إلى العربية فهم:
  • (١)

    ابن المقفع.

  • (٢)

    آل نوبخت، وكبيرهم نوبخت وابنه الفضل.

  • (٣)

    موسى ويوسف ولدا خالد.

  • (٤)

    علي بن زياد التميمي.

  • (٥)

    الحسن بن سهل.

  • (٦)

    البلاذري أحمد بن يحيى.

  • (٧)

    إسحاق بن يزيد.

ومن الذين نقلوا عن اللغة السنسكريتية:
  • (١)

    منكه الهندي.

  • (٢)

    ابن دهن الهندي.

ومن الذين نقلوا من اللغة النبطية:
  • (١)

    ابن وحشية، نقل كتبًا كثيرة أهمها كتاب «الفلاحة النبطية».

وظاهر مما تقدم أن المسلمين في عصرهم الذهبي نقلوا إلى لسانهم معظم ما كان شائعًا من العلم والفلسفة والطب والفلك والرياضيات والآداب، واتخذوا عن كل أمة أحسن ما لديها، ولكنهم اختاروا من اليونان فلسفتهم، وتركوا آدابهم وفنونهم، لأسباب يطول شرحها، ووفيناها حقها من البحث في كتابنا «الشهاب الراصد» ص١٦٠ وما بعدها، عند الكلام على المقارنة بين العرب واليونان والرومان.

وقد كانت تلك المؤلفات التي نقلت إلى اللغة العربية هي النواة التي نبتت ونمت، ثم أزهرت وأثمرت وأتت بأطيب الفوائد للمسلمين وغيرهم ممن اندمجوا في مدنيتهم خلال الأربعة عشر قرنًا منذ ظهر الإسلام إلى الآن.

كان العصر العباسي الأول عصر الغرس وبذر البزور، فجاء العصر الثاني للحصاد وجني الثمار، ويجدر بنا أن نرد الفضل إلى ذويه ونعترف بسرور وعن طيب خاطر بأن الذين اشتغلوا بنقل العلم والفلسفة في العصر العباسي الأول كان معظمهم من أدباء أهل الكتاب من غير المسلمين، فلما تم النقل تقدم المسلمون إلى العمل، فكان أسبقهم يعقوب بن إسحق الكندي، الذي بدأنا بترجمته في مفتتح هذا السِفر الضئيل، وهو من أبناء القرن الثالث الهجري.

ومن عجيب الاتفاق أن هذا العصر العباسي الثاني كان زمنه مائة سنة كسابقه، تبدأ بآخر الثلث الأول من القرن الثالث الهجري، وتنتهي بانتهاء الثلث الأول من القرن الرابع الهجري. ثم بدأ العصر العباسي الثالث (٣٣٤–٤٧٤ﻫ) وهو عصر ابن سينا وإخوان الصفا والغزالي.

وفي العصر العباسي الرابع انتقلت تلك العلوم الدخيلة إلى بلاد الأندلس، وذلك بعد ظهور رسائل إخوان الصفا بمائة عام، وكان الفضل في ذلك لأبي الحكم عمرو بن عبد الرحمن الكرماني القرطبي، الذي رحل من الأندلس إلى المشرق في طلب العلم وعاد إلى بلاده حاملًا نسخة من تلك الرسائل، فتعلق الأندلسيون بالفلسفة وأحبوها، واستغرقوا في درسها وقاسى بعضهم الشدائد في سبيلها، كما هو مفصل في كلامنا على ابن رشد، وفي تلك البلاد ظهر ابن باجه، وابن طفيل، وابن رشد، وابن خلدون، وغيرهم من الفلاسفة والحكماء والأطباء والرياضيين والفلكيين والكيميائيين ممن ملأت شهرتهم الخافقين.

وبانقضاء دولة الإسلام في الأندلس قضي على الفلسفة أيضًا، ولم تقم لها بعدُ في ممالك الإسلام قائمة، إلى أن ظهر محمد جمال الدين الحسيني الأفغاني المتوفى في آخر القرن الماضي.

ومما هو جدير بالذكر أن ظهور الفلسفة ونموَّها كان تابعًا لقوة الدين الإسلامي وشدة بأسه وسعة انتشاره، فلما ضعفت العقائد الدنية ضعفت المباحث العقلية التي كانت تستدعيها تلك العقائد، فكأن دين الإسلام بضد غيره من الأديان، كان يغذي الفلسفة ويقويها ويشد أزرها، وقد لاحظ الأستاذ «رينان» في بعض مؤلفاته هذه الظاهرة العجيبة، وهي هبوط الفلسفة في أوروبا كلما قويت شوكة الدين، وانتعاش الفلسفة بعد ذلك عقيب تدهور العقائد الدينية في أوروبا.

فإن الفلسفة الأوروبية الحديثة لم تر نور الشمس إلا في القرن السابع عشر، ومن بعد أن تحللت قيود المسيحية السمحاء، واندثرت معالم المظالم التي كانت تتحفز للقضاء على كل مفكر حر، وما حدث في إسبانيا عن يد محاكم التفتيش، وفي إيطاليا ضد «جاليله» وأمثاله، بل في سويسرا البروتستانتية؛ حيث أمر «كالفن» الشهير بإحراق وإعدام العالم «ميشيل سرفيه» بعد طول التعذيب والسجن، وكانت جريمته في نظر «كالفن» أنه سبق «هارفي» الإنجليزي إلى اكتشاف الدورة الدموية في جسم الإنسان.

فظن «كالفن» أن في ذلك ما يخالف الدين، فنكل به ما شاء فسامحه (!؟) ولم يجد أبناء الأجيال الحاضرة وسيلة للتكفير عن ذنب إمامهم الورع «كالفن» سوى نصب تمثال من المرمر في قرية (أنماس) على أبواب جنيف، يمثل ذلك العالم الطبيعي «مشيل سرفيه» مقيدًا بسلاسل السجن ومتدثرًا بثياب بالية وقد دب في كيانه البدني دبيب النحول والهزال، بعد أن أصبح فريسة لليأس والألم ولذعات القمل!

لقد كانت الفلسفة من قديم الزمان مقيدة بالنظم التي وضعها المعلم الأول «أرسطو» وهي: المنطق، والأخلاق، والإلهيات. وما زالت كذلك إلى أن ظهر «ديكارت»، فشاد بناء الفلسفة الحديثة على قاعدة البحث بطريق افتراض الشك للوصول إلى اليقين، ثم توسع في تطبيق تلك القاعدة «هيوم» الإنجليزي و«كانت» الألماني و«سبينوزا» الهولندي.

ومنذ القرن التاسع عشر ظهرت تيارات جديدة للفلسفة في ألمانيا، بدأها «شوبنهور» متأثرًا بأفكار أستاذه وصديق أسرته «جوته»، وانتهت «بفردريك نيتشه» الذي خرج بالفلسفة عن الدروب المطروقة وتغلغل بها في سبل حديثة الاكتشاف للفكر البشري، وتلاه في فرنسا «برجسون» صاحب المذهب الافتطاري Intuition، ولا تزال الفلسفة الأوروبية الحديثة واقفة عند هذا الحد إلى أن يأتي لها من يأخذ بيدها ويفسح لها مجالًا جديدًا، بعد أن ينتشلها من وهدة السقوط الذي أدركها في العشرين سنة الأخيرة؛ إذ عدت عليها عوادي المذاهب المادية، واستغرقت شهوات البشر، من طموح إلى السيادة وطمع في السعادة، جميع قوى الإنسان وسدت عليه مسالك الفكر الصحيح، وأنشبت أظفارها بمواهب العقل السليم.

فلا عجب إذا ألحت بنا الحاجة ونحن في القرن الرابع عشر الهجري، وهو شبيه بقرن نهضة إحياء العلوم والآداب بأوروبا بعد انقشاع ظلمات القرون الوسطى، إلى نشر «تاريخ فلاسفة الإسلام» وشرح مبادئهم، لعل في هذا التحريك إيقاظًا وإنعاشًا بعد الرقاد الطويل الذي استولى على المفكرين في الإسلام من عهد ابن رشد إلى وقتنا هذا.

محمد لطفي جمعة

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤