الفصل الرابع

الغزالي

أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، كان يدعوه العامة بالغزال، أكبر علماء الكلام لعهده وأحد أئمة المذهب الشافعي. ولد في طوس إحدى مدن خراسان عام ٤٥٠ للهجرة/١٠٥٨ للمسيح ودرس العلوم في بلده، ثم رحل في طلب العلم إلى نيسابور، وظهرت عليه منذ صباه علامات الذكاء الخارق والنجابة النادرة، وكان علمه الواسع بعلوم الكلام، ووقوفه على فنون الفلسفة، سببًا في إقبال نظام الملك وزير السلطان ملك شاه السلجوقي عليه، فوكل إليه إدارة المدرسة النظامية التي أسسها ببغداد.

وكان الغزالي حينئذ في الثالثة والثلاثين وله بين العلماء مرتبة رفيعة. وبعد سنين قليلة ترك المدرسة النظامية، وقصد إلى أداء فريضة الحج في مكة، ولما أتم هذا الفرض المقدس، ألقى دروسًا في جوامع دمشق وبيت المقدس والإسكندرية، وإذ كان بالإسكندرية أوشك أن يرحل إلى المغرب ليقدم على يوسف بن تاشفين أمير مراكش أحد أمراء المرابطين فأتاها نعي يوسف، فعاد إلى طوس وانقطع إلى حياة الفكر، وعاش عيش المتصوفة وانكب على تأليف الكتب، وكانت غايته من وضعها تقرير امتياز دين الإسلام على غيره من الأديان وعلى الفلسفة؛ ولذا سمي حجة الإسلام وزين الدين.

وأشهر كتبه إحياء علوم الدين، وهو كتاب في علم الكلام والآداب مقسم إلى أربعة أقسام: الأول في الشعائر والاحتفالات الدينية، والثاني في القوانين الخاصة بأحوال الحياة الدنيوية، والثالث فيما يهلك، والرابع فيما ينقذ، أي في الرذائل والفضائل.

ثم هجر التأليف وعاد إلى نيسابور، ليدير المدرسة النظامية، ثم عاد إلى طوس وأسس ملجأ للصوفيين (تكية) وقضى بقية أيامه في العبادة والتأمل، وقضى إلى رحمة الله عام ٥٠٥ للهجرة/١١١١ للمسيح.

أما المعلومات الكاملة عن حياته، فقد أعطاها الموسيو دي هامير في مقدمة كتاب «أيها الولد» في الترجمة العربية الألمانية، وهو كتاب في الأخلاق من كتب الغزالي.

إنما الذي يهمنا في هذا الباب هو تاريخ حياة الغزالي الفكرية، وسير دراسته والدرجة التي تنبغي له بين فلاسفة الإسلام، وتأثيره في فلسفة عصره، وقد هدانا إلى حل تلك المسائل الغزالي ذاته في كتاب اسمه «المنقذ من الضلال»، وقد شرح فيه حقائق الموجودات وحلل هذا الكتاب تحليلًا كاملًا المسيو باليا والمسيو شمولدرز في مقالة على «مبادئ الفلسفة عند العرب»، وقد نشر شمولدرز نص رسالة الغزالي العربي وترجمة فرنسية فيها بعض أغلاط ولكنها لا شك كافية.

وهذه رسالة هي في شكل جوابات على أسئلة وجهها إليه صديق، فتكلم أولًا في الصعوبة التي لقيها في التمييز بين المبادئ والتعاليم الفلسفية المختلفة، وفي معرفة الخطأ من الصواب، وتكلم عن المساعي التي لم ينته من بذلها منذ سن العشرين في سبيل الوقوف على الحق. قال وبعد أن درس مبادئ الفلاسفة الدينية والحكمية وتعمق فيها أخذ يشك في كل شيء، وسقط في هوة الجحود المطلق، وارتاب فيما يهديه إليه الحس، الذي طالما يرشدنا إلى أحكام يناقضها العقل، كذلك لم يكن العقل كافيًا لإقناع الغزالي، لأنه لا شيء يثبت صحة مبادئه، وأن الذي نعتقده صوابًا في اليقظة بواسطة الحس أو العقل ليس كذلك إلَّا لعلاقته بالحال التي نحن عليها، ولكن هل نحن متحققون من أن حالًا أُخرى لا تتلو تلك وتكون بالنسبة لليقظة كنسبة اليقظة للنوم، بحيث نعرف في تلك الحال الحادثة أن كل ما حسبناه صحيحًا بواسطة العقل، لم يكن إلَّا حلمًا لا حقيقة له. وفي الواقع رجع الغزالي عن جحوده، ولكن هذا لم يكن بقوة العقل إنما في أثناء بحثه عن الحقيقة، انقطع للتعمق في مبادئ المتكلمين والباطنية والفلاسفة والمتصوفين، ولم تجد نفسه هداها إلَّا في التصوف والتأمل والانجذاب الذي يعرفه الصوفيون. بيد أنه ليس للغزالي أثر ظاهر في مبادئ الصوفيين، ولكن أثره الأعظم هو في تاريخ الفلسفة العربية، فإن جحوده الذي لم يظهره في كتبه بشكل مبدأ، خدمه ليطعن المبادئ الفلسفية طعنة مشئومة.

بين مؤلفات الغزالي التي عددها الموسيو هامر في رسالته كتابان جديران بالنظر: الكتاب الأول «مقاصد الفلاسفة» والثاني «تهافت الفلاسفة»، أما كتاب المقاصد فهو تلخيص للعلوم الفلسفية، شرح فيه المؤلف علم المنطق، وما وراء الطبيعة، والطبيعيات. ولم يبتعد في شرحه عن مبادئ أرسطو، التي شرحها الفارابي وابن سينا، وقد نُقل هذا الكتاب إلى اللغة اللاتينية في أواخر القرن الثاني عشر بواسطة «دومينيك جندسالفي» وطبع في البندقية عام ١٥٠٦م. بواسطة «برتوس ليشتنشتين دي كولوني» تحت اسم «منطق العرب وحكمتهم للغزالي».

وقد يدهش من يرى الغزالي في المقاصد يشرح مبادئ الفلاسفة التي يهدمها في كتاب التهافت، وقد ظن الموسيو ريتر في كتابه Geschichte der Philosophie (تاريخ الفلاسفة ج٨ ص٥٩) أن الغزالي كتب المقاصد لما كان لا يزال قائلًا بمبادئ أرسطو، ولكن الحقيقة هي أن الغزالي لم يرد بالمقاصد إلَّا الاستعداد لهدم المبادئ التي شرحها شرحًا وافيًا، كما بيَّن ذلك في المقدمة التي لم تنشر في كل النسخ الخطية اللاتينية وفي طبعة فنيس (البندقية)، ولكنها موجودة في نسختين خطيتين باللغة العبرية وفي نسخة لاتينية في مكتبة السربون. وهذا ما قاله الغزالي في المقدمة ردًّا على من سأله رد حجة الفلاسفة: «تسألني يا أخي تأليف كتاب كامل واضح للرد على الفلاسفة وتبيين خطأ مبادئهم لتتقي بذلك الوقوع في الخطأ، ولكن هذا عبث قبل أن تعرف مبادئهم وتعاليمهم تمام المعرفة؛ لأن الرغبة في الوقوف على خطأ بعض الآراء قبل الوقوف عليها تمام الوقوف تعد خطأ ينتهي بالعمى والخلط. فظهر لي من الضروري قبل الشروع في نقض آراء الفلاسفة أن أضع كتابًا أشرح فيه ميول علومهم المنطقية والطبيعية والإلهية دون التمييز بين الخطأ والصواب في مبادئهم، لأن غايتي هي شرح نتائج أقوالهم دون الإسهاب في أمور زائدة عن الحاجة ولا علاقة لها بالبحث، فسأكتفي بشرح مبادئهم مضيفًا إليها الأدلة التي يثبتون بها أقوالهم، فغاية هذا الكتاب هي شرح مقاصد الفلاسفة، ولهذا اخترت له ذلك الاسم.» ثم ذكر الغزالي أنه سيترك العلوم الإلهية جانبًا لاتفاق العامة على صحة مبادئها، وأن ليس بها ما يحتاج إلى النقض، وكذلك مبادئ المنطق هي على العموم صحيحة والخطأ فيها نادر، أما الطبيعيات فالحق فيها ممتزج بالباطل.

وهذا ختام الكتاب في الأصل العربي والنسختين العبريتين: «فهذا ما أردنا أن نحكيه من علومهم المنطقية والإلهية والطبيعية من غير اشتغال بتمييز الغث من السمين والحق من الباطل، ولنفتتح بعد هذا الكتاب تهافت الفلاسفة حتى يتضح برهان ما هو باطل من هذه الجملة.»

وبعد هذا البيان الشافي، ليس مكان للعجب من شرح مبادئ الفلاسفة في كتاب المقاصد. أما كتاب التهافت فغاية الغزالي منه هي نقض تعاليم الفلاسفة، بنقد عام يظهر ما فيها من التناقض، ويوضح مخالفتها للعقل، وهذا نص ختام كتاب التهافت: «وإذا اعتُرض علينا بأن انتقادنا لا يخلو من الريب، نقول إن بالنقد يتضح برهان ما هو صحيح وما هو باطل، فإذا عرضت صعوبة أمكن حلها بفحص النقد والاعتراض. إنما الذي نرمي إليه في هذا الكتاب هو أن نشرح مبادئهم وأن نقابلها بما ينقضها من الأدلة، ولا نريد أن نكون على مبدأ منها، وليس مقصدنا أن نذكر أدلة على حدوث العالم، إنما هدم ما ذكروه من الأدلة تأييدًا للقول بقدم المادة. وبعد الفراغ من هذه الرسالة سنشرع في تأليف غيرها لإثبات الرأي الصحيح الذي غايته تشييد الحق، كما أن غايتنا من هذا الكتاب هي هدم الباطل.»

وبدأ الغزالي مقدمة الكتاب بنقد آراء القائلين بآراء الفلاسفة، المعرضين عن حكمة الدين؛ ليثبت أن كل ما يقولون به مما يخالف قواعد الدين ليس له أساس.

ثم أسهب في القواعد الأربع، التي اهتدى بها في تأليف هذا الكتاب، وبعد المقدمة شرع الغزالي في نقض حجج الفلاسفة في عشرين نقطة، ست عشرة منها في الإلهيات وأربع في الطبيعيات.

وأهم ما في هذه النقط هو الفصل المتعلق بالمسببات، وملخص قوله في هذا الباب يرجع إلى مسألتين: الأولى: أنه إذا اجتمع أمران معًا فليس فيه دليل قاطع على أن الأول علة الثاني، الثانية: إذا فرضنا صحة فعل بعض الظروف (تعلق أمر بأمر) بناء على قانون طبيعي، فليس ينتج من ذلك أن الأثر يكون بذاته في ظروف متماثلة حتى ولو كانت الأشياء متماثلة.

فإن القطن يمكن بإرادة الله أن يتخذ شكلًا يقيه الحريق، وبعبارة أخرى أن ما يسميه الفلاسفة بقوانين الطبيعة أو قاعدة العلل، هو أمر يقع تبعًا لإرادة الله، ونحن نقبله كأمر واقع محقق، لأن الله سبحانه وتعالى في سابق علمه علم مصير الأمور فعلَّمنا إياه، فليس هناك، والأمر كذلك، قانون طبيعي ثابت يقيد إرادة الخالق جل وعلا.

نقول إن بعض الفلاسفة، مثل ابن رشد كانوا يعتقدون أن الغزالي لم يكن مخلصًا في قوله، وإن الخلاف بينه وبين الفلاسفة، كان على نقط محدودة، إنما أراد الطعن عليهم في سائر النقط لتزداد به ثقة أهل السنة. وذكر موسى بن ناربون، بعد أن ذكر رأي ابن رشد السابق في بداية شرحه على المقاصد، أن الغزالي كتب بعد الفراغ من تأليف التهافت، رسالة صغيرة لم يعلم بها إلا بعض المقربين، وفيها ردود على ما وجهه من النقد إلى مبادئ الفلاسفة، وإن هذا الكتيب يُسمى «رسالة وضعها أبو حامد بعد التهافت ليكشف عن فكره للحكماء وفيها مقاصد المقاصد واللبيب تكفيه الإشارة».

وفي هذا الكتاب أبحاث إلهية ذات أهمية كبرى، ولكن لغتها عويصة الفهم على العامة، وقد بدأ هذه الرسالة بالكلام في الدوائر العليا وحركاتها ونفوسها، ثم تكلم في المحرك الأول وفي صفاته، ثم تكلم في النفس، وليس في هذه الرسالة أثر لاحتقار الفلسفة كما في التهافت، إنما يقيم الأدلة كأنه بعض الحكماء لا كالمتكلمين، ويثبت بالحجة العقلية أمورًا في الإلهيات، حاول نقضها في التهافت. فإنه يقول في هذه الرسالة مع الفلاسفة بأزلية الزمان وحركة الدوائر السماوية، وفي ختام هذه الرسالة حرم الغزالي الاطلاع عليها إلا على أهل النفوس القويمة، والعقول السليمة، عملًا بقول النبي «خاطبوا الناس على قدر عقولهم.»

كتب ابن طفيل رغم احترامه للغزالي، يوضح اضطرابه وتردده في مبادئه (نقلًا عن كتاب حي بن يقظان صفحة ١٩–٢١) نبذة، أولها «أما عن كتابات الإمام الغزالي … الخ.» ثم ذكر ابن طفيل نبذة من كتب الغزالي، مؤداها أنه ألف كتبًا باطنية، لا يطلع عليها إلَّا فريق من الخاصة المقربين، وأن هذه الكتب ليست فيما وجد في مكاتب الأندلس، وأهمها كتاب المضنون به وهو موجود بصحبة أربع رسائل للغزالي في المكتبة الوطنية بباريس (المكتبة الإمبراطورية سابقًا) تحت عدد ٨٨٤ نسخ خطية، وذكره العلامة شمولدرز في مقالته ص٢١٣ مذكرة أ بالهامش، وفي هذا الكتاب «المضنون به» أظهر الغزالي اتفاقه مع الفلاسفة على قدم العالم، ويقول كقولهم بأن الذات العلية تعلم الأمور إجمالًا لا تفصيلًا أي تحيط بالكليات لا بالجزئيات، وأنها مجردة عن الصفات، ولكن بعض المؤلفين نفى نسبة مثل هذا الكتاب للغزالي، لبعده عما كان يقول به حجة الإسلام في أمهات كتبه. (يراجع فهرست الحاج خليفة طبعة الموسيو فلوجل ج٥ ص٥٩٠).

وجملة القول أن الغزالي إذا كان له مبدأ خاص به فإنه لم يهتد إليه إلَّا بالتأمل وبالانجذاب الذي حل به منذ تصوَّف، ولا تكون نتيجة الانجذاب في الواقع مبدأ فلسفيًّا. ثم أن الغزالي يعلق أهمية كبرى على العمل وهو يمثله في كتابه «أيها الولد» بالثمرة والعلم بالشجرة. ومن أهم كتبه في الأخلاق والحث على الفضيلة كتاب «ميزان الأعمال» طبع له تفسير عبري في ليبزيج عام ١٨٣٩ وناقله عن العربية المعلم إبراهيم بن حسد أي الإسرائيلي الأندلسي.

وأهمية الغزالي عند الإفرنج هي في جحوده العلوم الفلسفية، ويقول علماؤهم إنه طعن الفلسفة في الشرق العربي طعنة قاضية، وكاد يكون نصيبها في الغرب كذلك لو لم تلق في ابن رشد حاميًا لها أحياها قرنًا من الزمان.

إيضاح عن الغزالي

١

لا شك في أن هذا الفيلسوف الحكيم، يعد من أعظم أعلام الفكر العربي الإسلامي، ومن أئمة أهل البحث والنظر في علوم الدنيا والدين، وقد عده كثيرون من مؤرخي الفلسفة والأدب من نوادر الدهر نبوغًا ونورًا، وقد كان من الفطاحل الذين زانوا القرن الخامس الهجري بعد نهاية الصدر الأول، وقد شاء أن كون من تأليفه ذلك الكتاب الذي فيه إحياء وانتعاش لأثمن آثار السلف الصالح، فلقبوه بحجة الإسلام بحق دون مغالاة أو مجاملة.

أما عن اسمه فقد اختلفوا في هل كان الغزالي بتخفيف الزاي أو تشديدها، وقد بحثت هذه المسألة في «شذرات الذهب» والعبر لشمس الدين الذهبي و«طبقات الشافعية» لعبد الرحيم الإسنوي، فقرروا أن اسمه كان بتشديد الزاي، فقالوا الغزَّالي كالعطَّاري والخبَّازي بتشديد الزاي والطاء والباء، وهذه لهجة أهل خراسان في غزَّال وعطَّار وخبَّاز بتشديد الحروف الوسطى. وجاء في «طبقات الشافعية» أن أباه كان يغزل الصوف فلقبه مستفاد من صناعة أبيه، ولكن السمعاني قال: «إن لقبه مستفاد من نسبته إلى غزالة وهي إحدى ضواحي طوس.» ونحن نميل إلى تعليل السمعاني وإطلاق اللقب بتخفيف الزاي.

وسواء أكان الوالد يغزل الصوف ويبيعه في حانوته أم لم يكن، فقد توفي تاركًا ولديه محمدًا (وهو أبو حامد) وأحمد في غضاضة الطفولة، وكان بلا ريب رقيق الحال، فأوصى بهما صديقًا متصوفًا قام على تهذيبهما حتى استنفد تركة أبيهما، وقد شاءت الأقدار للغزالي أن يسافر ويرحل في طلب العلم ككل الفلاسفة والحكماء والأنبياء والمصلحين، الذين لا تتكون نفوسهم إلا بالآلام في أوطانهم وفي اغترابهم. وقد صار الغزالي أنظر أهل زمانه، واستطاع أن يؤلف ويدرس ويفيد الناس في حياء أستاذه، وهو في مقتبل عمره، وهو شبيه في ذلك بابن سينا.

٢

وما شاهدناه في اتصال الفلسفة السابقين، وهم الكندي والفارابي وابن سينا بالخلفاء والوزراء، وما اتخذوه من ذلك وسيلة لنشر أفكارهم وترويج مبادئهم، نشاهده أيضًا في حياة الغزالي، فقد اتصل بنظام الملك وفخر الملك وعاش في ظلال آل سلجوق، فكأن الفلسفة المسكينة كانت أبدًا في حاجة للاحتماء بقوة الدولة منذ بداية التاريخ، وهذا أرسطوطاليس اليوناني والمعلم الأول كان يعيش في ظل فيليبس المقدوني وابنه الإسكندر، وكان فولتير في الأزمان الحديثة يعيش في بلاط فردريك الأكبر، وكان جوته الألماني العظيم في بلاط أمير فيمار، ولم تتحرر الفلسفة وأصحابها إلا في حالتين: حالة الفيلسوف القانع الذي يعيش من عمله الضئيل ليغذي الحكمة، مثل سبينوزا الذي قضى حياته في صناعة الساعات والتأليف؛ والحالة الثانية حالة الفيلسوف الممول، إما بميراث مثل أرثور شوبنهور، وإما بثمرات مؤلفاته مثل جون ستيوارت ميل، وهذا أندر ما يكون بين الحكماء، فمعظم هؤلاء القوم فقراء يعيشون من ثمرة أفكارهم بالتدريس والكتابة، مثل فردريك نيتشه وبرجسون وغيرهما.

٣

بين كتب أبي حامد التي ذكرناها في ترجمته كتاب «المضنون به على غير أهله»، وقد وصفه بعض كتاب الإفرنج بأنه اعتراف الغزالي تشبيهًا له باعتراف جان جاك روسو، على أن هناك فرقًا جوهريًّا بين الكتابين، فجان جاك روسو دون اعترافه شاملًا لجميع شئون حياته المادية والمعنوية والعقلية، ولكن الشيخ الغزالي جعل هذا الاعتراف قاصرًا على حياته العقلية والقلبية، وهو رسالة إلى صديق له وصفه بأنه أخوه وجعل هذا الكتاب جوابًا على سؤال توجه إليه من هذا الأخ، فقال في استهلاله: «فقد سألتني أيها الأخ أن أبث إليك غاية العلوم وأسرارها، وأحكي لك ما قاسيته في استخلاص الحق من بين اضطراب الفرق مع تباين المسالك والطرق، وما استجرأت عليه من الارتفاع عن حضيض التقليد إلى يفاع الاستبصار، وما احتويته ثانيًا من طرق أهل التعليم القاصرين لدرك الحق على تقليد الإمام، وما ازدريته ثالثًا من طرق التفلسف، وما ارتضيته آخرًا من طريق التصوف، وما انحل إليَّ في تضاعيف تفتيشي عن أقاويل الخلق من لباب الحق، وما صرفني عن نشر العلم ببغداد مع كثرة الطلبة، وما دعاني إلى معاودتي بنيسابور بعد طول المدة.»

والظاهر من هذه النبذة الافتتاحية أن الغزالي قاسى كثيرًا في استخلاص الحق، وأنه ازدرى الفلسفة وارتضى التصوف وهذا هو مفتاح حياته العقلية، وظاهر من اعتراف الغزالي أنه كان في عنفوان شبابه منذ راهق البلوغ قبل بلوغ العشرين، إلى أن أناف على الخمسين أي قبيل موته بخمس سنين، لأنه توفي في نصف العقد السادس، يحاول أن يستكشف أسرار كل طائفة بحرية مطلقة لا فرق في ذلك بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع، فجمع في بحثه بين درس الفيلسوف ليقف على كنه فلسفته، والمتكلم ليجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، والصوفي ليحرص على العثور على سر صفوته، وأيضًا الزنديق المعطل والملحد الجاحد ليتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته.

٤

وهذه حرية في البحث واستقصاء في الدرس يدلان على سعة صدره وسمو فكره، إذ لا يمكن للمحقق أن يستوعب سبل الحقيقة بغير الجمع بين سائر مظاهرها مما يقال للشيء وعليه، كما كان شأن «قانت» في كتابه الجليل «نقد العقل الصحيح أو العقل الصراح».

وقد كان هذا الشيخ الجليل الغزالي في تعطش إلى درك حقائق الأمور من أول أمره وريعان عمره، وكان البحث وراء الحقيقة غريزة وفطرة وضعتا في جبلته. ومما يجدر بالنظر في نفسية هذا الفيلسوف أنه ما زال هذا دأبه وديدنه حتى انحلت عنه رابطة التقليد وانكسرت على العقائد الموروثة، لأن مطلوبه كان العلم بحقائق الأمور، ومن أمثاله التي ضربها في رفعة قدر العلم في نظره أنه إذا علم أن العشرة أكثر من الثلاثة، فلو قال له قائل: لا بل الثلاثة أكثر بدليل أني أقلب هذه العصا ثعبانًا. وقلبها وشاهد ذلك منه، لن يشك بسبب هذه المعجزة أو الكرامة أو الحيلة السحرية في معرفته أن العشرة أكثر من الثلاثة، ولم يحصل له منه إلا التعجب من قدرة هذا الذي قلب العصا ثعبانًا، فأما الشك فيما علم فلا، ثم ثبت له أن كل ما لا يعلمه على هذا الوجه ولا يتأكده على هذا النوع اليقيني فهو علم لا ثقة له به ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني.

٥

والغريب في أمر هذا الفيلسوف أنه سلك سبيل الفلسفة الحسية قبل (دافيد هيوم) الإنجليزي بستة أو سبعة قرون، وإذا علمنا أن دافيد هيوم كان له أعظم فضل في تنمية فكر «عمانوائيل قانت» الألماني الذي أقر في كتابه بأن هيوم هو الذي أيقظه من غفلته، لعلمنا مقدار عقل الفيلسوف الغزالي بالنسبة لهؤلاء المحدثين الأمجاد من أهل أوروبا، فإن الغزالي فتش عن العلوم فوجد نفسه عاطلًا من علم موصوف بهذه الصفة إلا في الحسيات والضروريات، فقال الآن بعد حصول اليأس لا مطمع في اقتباس المشكلات إلا من الجليات وهي الحسيات والضروريات، فلا بد من إحكامها أولًا ليتبين أن ثقته بالمحسوسات وأمانه من الغلط في الضروريات من جنس أمانه الذي كان من قبل في التقليديات.

٦

ولما وصل إلى الفلسفة، قال إن الدهريين أول الفلاسفة الأقدمين، وإنهم جحدوا الصانع المدبر العالم القادر، وزعموا أن العالم لم يزل موجودًا كذلك بنفسه لا بصانع ولم يزل الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان كذلك كان وكذلك يكون أبدًا.

والصنف الثاني الطبيعيون وهم قوم أكثروا بحثهم عن عالم الطبيعة وعن عجائب الحيوان والنبات وأكثروا الخوض في علم تشريح أعضاء الحيوانات، فزعموا أن النفس تموت ولا تعود، وجحدوا الآخرة، وأنكروا الجنة والنار، والقيامة والحساب، فانحل عنهم اللجام وانهمكوا في الشهوات انهماك الانعدام، والصنف الثالث وقد وصفهم الغزالي بأنهم الإلهيون وهم المتأخرون، منهم سقراط وهو أستاذ أفلاطون، وأفلاطون أستاذ أرسطوطاليس، وأرسطوطاليس هو الذي رتب لهم المنطق وهذب العلوم وخمر لهم ما لم يكن مخمرًا من قبل، وأنضج لهم ما كان فجًّا من علومهم، وهؤلاء الإلهيون ردوا على الصنفين السابقين وهم الدهريون والطبيعيون، وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا به غيرهم، ثم رد أرسطوطاليس على أفلاطون وسقراط ومن كان قبله من الإلهيين ردًّا لم يقصر فيه حتى تبرأ عنهم جميعًا.

ومن العجيب أن الإمام الغزالي مع اعترافه بفضل فلاسفة الإغريق لا سيما أرسطو، فإنه عاب على الفلاسفة الإسلاميين اتِّباعهم إياه، وذكر أن ابن سينا والفارابي لم يقم بنقل أرسطو من فلاسفة الإسلام أحد كقيام هذين الرجلين. وكان هذا بالطبع قبل ظهور ابن رشد ولو أدركه الغزالي لفضله عليهما وإن كان لهما فضل السبق والتقدم.

٧

ولما فرغ الغزالي من النظر في العلوم الفلسفية، وقبل منها ما قبل، وزيف ما زيف شعر بأن علومهم غير وافية بكمال الغرض، فاتجه نظره إلى البحث في مذهب التعليم وغائلته، ولكنه قبل الشروع في درس هذا المذهب وصل إلى ما وصل إليه «عمانوائيل قانت» من أن العقل ليس مستقلًّا بالإحاطة بجميع المطالب، ولا كاشفًا للغطاء عن جميع المعضلات وبهذه العقيدة الجديدة التي تعد المرحلة الثانية في تكوين عقل الغزالي، فإن المرحلة الأولى كانت التقليد، والثانية كانت البحث في أقوال المتكلمين والفلاسفة، أخذ يدرس مبادئ الطائفة التعليمية فابتدأ بطلب كتبهم كما فعل في كتب الفلسفة، وترتيب كلامهم ورتبه ترتيبًا محكمًا مقارنًا للتحقيق، واستوفى الجواب عنه حتى أنكر بعض أهل زمانه من العلماء عليه مبالغته في تقرير حجتهم، وقالوا إن هذا سعي لهم أي لطائفة التعليمية، وإنهم كانوا يعجزون عن نصرة طائفتهم لولا تحقيق الغزالي وترتيبه.

٨

وليس هذا الاعتراض بين علماء الإسلام حديثًا، فقد أنكر أحمد بن حنبل على الحارس المحاسبي كتابه في الرد على المعتزلة، فأجابه الحارث بأن الرد على البدعة فرض، فقال ابن حنبل: «نعم ولكنك حكيت شبهتهم أولًا، ثم أجبت عنها فلم تأمن أن يطالع الشبهة من تعلق ذلك بفهمه، ولا يلتفت إلى الجواب أو ينظر إليه ولا يفهم كنهه.»

وما ذكره ابن حنبل حق ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر، أما إذا انتشرت فالجواب عنها واجب ولا يمكن الجواب إلا بعد حكاية الشبهات على حقيقتها كما فعلنا في كتاب «الشهاب الراصد» الذي جعلناه ردًّا على موضوع الشعر الجاهلي.

ويظهر لنا أن الغزالي لم يكن مدفوعًا إلى الرد على مذهب التعليم من تلقاء نفسه فقط، بل كان هناك دافع سياسي، لأنه بانتشار مذهب التعليمية شاع بين الناس تحدي هذه الطائفة بمعرفة معني الأمور من جهة الإمام المعصوم القائم بالحق، ويظهر أن الخليفة فطن إلى ما يتهدد مركز الخلافة من شيوع هذا المذهب فكلف الغزالي بالرد عليهم، فقال الغزالي في حكاية هذا التكليف ما نصه: «ثم اتفق أن ورد عليَّ أمر حازم من حضرة الخلافة بتصنيف كتاب يكشف عن حقيقة مذهبهم فلم يسعني مدافعته، وصار ذلك مستحثًا من خارج ضميمة للباعث الأصلي من الباطن.» وهذا ألطف ما يقال في حسن التعليل؛ إذ الظاهر من مذهب التعليمية أنه مزيج من السياسة والشريعة، والسياسة فيه أظهر، وقليل من الفلسفة اتخذه أربابه ترويجًا لمذهبهم ليصبغوه بصبغة الحكمة فاقتدوا ببعض أقوال فيثاغورس.

فلم يكن هذا البحث يخلو من رائحة الفلسفة؛ لأن التعليميين لما عرضت لهم إشكالات لم يفهموها ولم يحلوها، وأحالوها على الإمام الغائب، قالوا إنه لا بد من السفر إليه وضيعوا عمرهم في طلب المعلم وفي التنجع بالظفر به.

٩

وعلى كل حال فإن هذا البحث الأخير وجه الغزالي إلى ما كان مخلوقًا له حقًّا، وهو طريق الصوفية، فأقبل عليه بهمته، وكان حاصل علمهم قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله، وكان العلم أيسر من العمل فقرأ كتبهم وطالع رسائلهم وأهمها: كتب أبي طالب المكي، والحارث المحاسبي والمأثور عن الجنيد والشبلي والبسطامي. وحصل الغزالي كل ما يمكن تحصيله من طريقتهم بالتعلم والسماع، إلى أن ظهر له أن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات، فكم من الفرق بين أن يعلم الإنسان حد الصحة وحد الشبع وحد السكر وأسبابها وشروطها، وبين أن يكون صحيحًا وشبعان وسكران.

وكل باحث في حقيقة المتصوفين يعلم يقينًا أنهم أرباب أحوال لا أصحاب أقوال.

١٠

على أن الغزالي الذي رأيناه يعجب بمعجزة قلب العصا ثعبانًا ولا يجعلها دليلًا أو وسيلة لإنكار ما ثبت في نفسه من طريق العلم اليقيني، نراه عند ولوجه باب التصوف يقول إنه قد حصل له من العلوم التي مارسها والمسالك التي سلكها في التفتيش عن العلوم العقلية والشرعية إيمان يقيني بالله تعالى وبالنبوة وباليوم الآخر، وإن هذه الأصول الثلاثة من الإيمان كانت رسخت في نفسه لا بدليل معين مجرد أي كما رسخ في نفسه أن العشرة أكثر من الثلاثة، بل بأسباب وقرائن وتجاريب لا تدخل تفاصيلها تحت الحصر، وكان بحكم السن وانقضاء العمر في مكارم الأخلاق وفضائل المجاهدات ظهر عنده أن لا مطمع له في سعادة الآخرة إلا بالتقوى وكف النفس عن الهوى، وأن رأس ذلك كله قطع علاقة القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، وأن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال والهرب عن الشواغل.

١١

وقد عرضت تلك المشكلة للغزالي وهو في قمة مجده منغمس في العلائق، وقد أحدقت به من الجوانب، وأهم أعماله إذ ذاك التدريس والتعليم، والباعث عليهما طلب الجاه وانتشار الصيت، فلم يزل يفكر في العزم على الخروج من بغداد لمفارقة تلك الأحوال ستة أشهر؛ من رجب سنة ٤٨٨ هجرية إلى آخر تلك السنة، حتى مرض ويئس الأطباء من شفائه، فخرج مرغمًا مضطرًّا وهو يظهر أنه مسافر إلى الشام حذرًا من أن يطلع الخليفة وأصحابه على عزمه؛ وهو أن لا يعود إلى بغداد أبدًا، ثم دخل الشام وأقام بها سنتين في العزلة والخلوة والرياضة، ثم دخل إلى بيت المقدس واختلى في الصخرة، ثم سار إلى الحجاز، ثم جذبته دعوات الأطفال إلى الوطن، ودام على ذلك مقدار عشر سنين، وانكشفت له في أثنائها أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، وخلاصتها التي يجوز الانتفاع بها هي أنه علم يقينًا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق.

١٢

وظاهر من هذا أن الغزالي لم يكن فيلسوفًا عقليًّا، إنما كان حكيمًا دينيًّا بالفطرة، وأنه اتخذ العلم والعقل والشرع ذاته وسيلة للوصول إلى الحال التي هيأته لها الطبيعة، على أن هذا لا يمنعنا من القول بأن عقله النادر المثال لدى مروره بالفلسفة اليونانية والعربية أفادها واستفاد منها، وهذا ظاهر من مؤلفاته التي ذكرناها، لا سيما «مقاصد الفلاسفة» و«إحياء علوم الدين» و«تهافت الفلاسفة» الذي سيرد الكلام عليه بالتفصيل في عرض الكلام على ابن رشد، وهو الفيلسوف الإسلامي الوحيد الذي رد عليه بكتاب مثله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤