الفصل السادس

ابن طفيل

أبو بكر محمد بن عبد الملك بن طفيل القيسي، أحد أكابر حكماء العرب بالأندلس، ولد في أوائل القرن الثاني عشر للمسيح (القرن السادس للهجرة) بوادي آش إحدى مدن ولاية غرناطة، واشتهر بالطب والرياضيات والحكمة والشعر. شغل منصب كاتم أسرار حاكم غرناطة زمنًا يسيرًا، ثم صار وزيرًا وطبيبًا للأمير يوسف أبي يعقوب ابن عبد المؤمن، ثاني أمراء أسرة المهدي المتوفى سنة ٥٨٠ﻫ.

ذكر ابن الخطيب أن ابن طفيل علَّم الطب في غرناطة وألف فيه كتابين. وروى عبد الواحد المراكشي، وهو ممن اتصلوا بأولاد ابن طفيل، أن المودة كانت بين الحكيم والأمير عظيمة جدًّا، وأنه رأى بنفسه كتبًا في الفلسفة وفي علم النفس وكثيرًا من شعره بخط الفيلسوف، وقد انتهز ابن طفيل فرصة تقربه من الأمير فجلب إلى القصر مشاهير حكماء عصره، وهو الذي قدم إلى الأمير، حكيم الأندلس ابن رشد، وكان الأمير طلب منه يومًا أن يرشده إلى عالم خبير بمؤلفات أرسطو ليطلب إليه تفسيرها وتحليلها تحليلًا جليًّا، فطلب ابن طفيل إلى ابن رشد أن يقوم بهذا العمل، واعتذر للأمير عن إنجازه بكبر سنه، فلبى ابن رشد هذا الطلب وقام بتحليل كتب أرسطو.

وقد توفي ابن طفيل في مراكش عام ١١٨٥ وسار المنصور في جنازته.

ولم يبق لنا من مؤلفات ابن طفيل إلَّا كتاب واحد هو كتاب «حي بن يقظان»، وذكر كازيري كتابًا اسمه «أسرار الحكمة المشرقية» وهو كتاب «حي بن يقظان» نفسه، وذكر ابن أبي أصيبعة في ترجمة ابن رشد، أن ابن رشد ذكر لابن طفيل كتابًا «في البقع المسكونة والغير المسكونة». وقال ابن رشد أيضًا في الإلهيات (الكتاب الثاني عشر) إنه كانت لابن طفيل آراء ثمينة في الأجرام الداخلة والخارجة.

وهذا يدل على أنه كان لابن طفيل علم واسع بالفلك، وذكر أبو إسحق البتروجي الفلكي الشهير في مقدمة كتابه في الفلك، وهو الذي أراد أن يستبدل نظريات بطليموس به: «تعلم يا أخي أن أستاذنا القاضي أبا بكر ابن طفيل قال إنه وفقًا لنظام فلكي لتلك الحركات، كان يتبعه غير النظام الذي ابتعه بطليموس، وأنه في غنى عن الدوائر الداخلة والخارجة، وأن نظامه يحقق حركات الأجرام بدون وقوع في الخطأ، ووعدنا بالتأليف في هذا الباب، ولا عجب فإن علمه غني عن الأطناب.»

أما الكتاب الوحيد الذي يثبت فضل ابن طفيل فهو الذي يتضمن فلسفة وقته في شكل قصة خيالية.

ويظهر من هذا الكتاب أن ابن طفيل كان من الإشراقيين، وقد حاول بطريق التأمل أن يحل معضلة كبرى شغلت حكماء وقته، وهي علاقة النفس البشرية بالعقل لأول، فإنه لم يقنع برأي الغزالي الذي اكتفى في الاتصال بالتصوف، إنما اتبع رأي ابن باجه وأظهر نمو الفكر الإنساني درجة فدرجة في شخص إنسان منقطع بعيد عن مشاغل الحياة سليم من آثارها وأدرانها، واختار ابن طفيل مخلوقًا لم يعلم من الحياة شيئًا، وقد نما عقله في الانفراد المطلق بذاته، وتنبه فكره بقوته وبدافع من العقل الفعَّال، فأحاط بفهم أسرار الطبيعة وحل أعضل المسائل الإلهية: هذا ما أراده ابن طفيل من كتابه «حي بن يقظان» وسيأتي الكلام عليه عند تحليل فلسفته.

فكان ابن طفيل فلكيًّا، رياضيًّا وطبيبًا وشاعرًا، ناثرًا رشيق الأسلوب رقيق العبارة، والفضل في إظهار مواهبه والاحتفاظ بها إلى الأمير يوسف بن عبد المؤمن، فقد كان عبد المؤمن عهد في حياته إلى أكبر أولاده وهو محمد بالإمارة وبايعه الناس وكتب ببيعته إلى البلاد، فلما مات عبد المؤمن لم يتم لابنه محمد الأمر وخُلع. وكان الذي سعى في خلعه أخواه يوسف وعمر ابنا عبد المؤمن. ولما تم خلعه دار الأمر بين الأخوين المذكورين، وهما من نجباء أولاد عبد المؤمن ومن ذوي الرأي، فتأخر منهما أبو حفص عمر وأسلم الأمر إلى أخيه يوسف، وهو أبو يعقوب يوسف بن أبي محمد عبد المؤمن بن علي القيسي الكومي صاحب المغرب، فبايعه الناس واتفقت عليه الكلمة.

كان الأمير يوسف المذكور أعرف الناس كيف تكلمت العرب، وأحفظهم لأيامها في الجاهلية والإسلام، وقد صرف عنايته إلى ذلك ولقي فضلاء أشبيلية أيام ولايته، ويُقال إنه كان يحفظ صحيح البخاري وكان يحفظ القرآن الكريم مع جملة من الفقه، ثم طمح إلى علم الحكمة وبدأ من ذلك بعلم الطب، وجمع من كتب الحكمة شيئًا كثيرًا.

وكان ممن صحبه من العلماء بهذا الشأن أبو بكر محمد بن طفيل، وكان متحققًا بجميع أجزاء الحكمة، قرأ على جماعة من أهلها، ويحسب ابن خلكان في ج٢ ص٣٧٤ أن أبا بكر بن الصائغ، وهو المعروف بابن باجه السابقة ترجمته في هذا الكتاب، كان من أساتذة ابن طفيل وهذا غير صحيح، بنص صريح من قول ابن طفيل نفسه في كتبه سيأتي ذكره في هذا الفصل وكان ابن طفيل حريصًا على الجمع بين علم الشريعة والحكمة وكان مفننًا، ولم يزل بجمع إليه العلماء في كل فن من جميع الأقطار، ومن جملتهم أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، كما سيأتي ذكره بالتفصيل في ترجمة ابن رشد.

جعل ابن طُفيل فلسفته في شكل جواب على سؤال توجه إليه من أحد إخوانه، وهذا بالطبع تقليد لابن سينا والغزالي قال:

سألت أيها الكريم الأخ الصفي الحميم، منحك الله البقاء الأبدي، وأسعدك السعدَ السرمديَّ، أن أبثَّ إليك ما أمكنني بثه من أسرار الحكمة المشرقية، التي ذكرها الشيخ الإمام الرئيس أبو علي ابن سينا. فاعلم أن من أراد الحق الذي لا جمجمة فيه فعليه بطلبها والجد في اقتنائها.

(١) وصف الحال التي شعر بها ابن طفيل

ولقد حرك مني سؤالك خاطرًا شريفًا، أفضى بي والحمد لله إلى مشاهدة حال لم أشهدها قبل، وانتهى بي إلى مبلغ هو من الغرابة بحيث لا يصفه لسان، ولا يقوم به بيان؛ لأنه من طور غير طورها وعالم غير عالمها. غير أن تلك الحال لما لها من البهجة والسرور، واللذة والحبور، لا يستطيع من وصل إليها وانتهى إلى حد من حدودها، أن يكتم أمرها أو يخفي سرها، بل يعتريه من الطرب والنشاط، والمرح والانبساط ما يحمله على البوح بها مجملة دون تفصيل، وإن كان ممن لم تحذقه العلوم، قال فيها بغير تحصيل، حتى أن بعضهم قال في هذا الحال: س. ب. ح. ا. ن. ي. م. ا. أ. ع. ظ. م. ش. ا. ن. ي! وقال غيره: أ. ن. ا. ا. ل. ح. ق! وقال غيره ليس في الثوب إلَّا. ا. ل. ل. ه!

وأما الشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله فقال متمثلًا عند وصوله إلى هذه الحال.

فكان ما كان مما لست أذكره
فظن خيرًا ولا تسأل عن الخبر

(٢) فلسفة ابن باجه في رأي ابن طفيل

وانظر إلى قول أبي بكر بن الصائغ المتصل بكلامه في صفة الاتصال، فإنه يقول: «إذا فهم المعنى المقصود من كتابة ذلك، ظهر عند ذلك أنه لا يمكن أن يكون معلوم من العلوم المتعاطاة في رتبة، وحصل متصوره بفهم ذلك المعنى في رتبة يرى نفسه فيها مباينًا لجميع ما تقدم مع اعتقادات أخر ليست هيولانية، وهي أجل من أن تنسب إلى الحياة الطبيعية، بل هي أحوال من أحوال السعداء، منزهة عن تركيب الحياة الطبيعية، بل هي أحوال من أحوال السعداء خليقة أن يقال لها أحوال إلهية يهبها الله سبحانه وتعالى لمن يشاءُ من عباده.» وهذه الرتبة التي أشار إليها أبو بكر ينتهي إليها بطريق العلم النظري والبحث الفكري، ولا شك أنه بلغها ولم يتخطها …

(٣) الذي يعنيه ابن طفيل بإدراك أهل النظر والطعن في ابن باجه

الذي نعنيه بإدراك أهل النظر هو ما يدركونه مما بعد الطبيعة، مثل ما أدركه أبو بكر، ويشترط في إدراكهم هذا أن يكون حقًّا صحيحًا، وحينئذٍ يقع النظر بينه وبين إدراك أهل الولاية الذين يعتنون بتلك الأشياء بعينها مع زيادة وضوح وعظيم التذاذ. وقد عاب أبو بكر ذكر هذا الالتذاذ على القوم، وذكر أنه للقوة الخيالية، ووعد بأن يصف ما ينبغي أن يكون حال السعداء عند ذلك بقول مفسر مبين. وينبغي أن يقال له: «لا تستحل طعم شيء لم تذق، ولا تتخطَ رقاب الصديقين!» ولم يفعل الرجل شيئًا من ذلك ولا وفى بهذه العدة (الوعد)، وقد يشبه أن منعه عن ذلك ما ذكره من ضيق الوقت واشتغاله بالنزول إلى وهران، أو راعى أنه إن وصف تلك الحال اضطره القول إلى أشياء فيها قدح عليه في سيرته وتكذيب لما أثبته من الحث على الاستكثار من المال والجمع له وصرف وجوه الحيل في اكتسابه (كذا).

ولم يكن في المتأخرين أثقب ذهنًا ولا أصح نظرًا ولا أصدق رؤية من أبي بكر ابن الصائغ، غير أنه شغلته الدنيا حتى اخترمته المنية قبل ظهور خزائن علمه وبث خفايا حكمته. وأكثر ما يوجد له من التآليف إنما هي غير كاملة ومجزومة من أواخرها، ككتابه في النفس وتدبير المتوحد وما كتبه في المنطق وعلم الطبيعة. وأما كتبه الكاملة فهي كتب وجيزة ورسائل مختلفة، وقد صرح هو نفسه بذلك وذكر أن المعنى المقصود برهانه في «رسالة الاتصال» ليس يعطيه ذلك القول عطاءً بينًا إلا بعد عسر واستكراه شديد، وأن ترتيب عبارته في بعض المواضع على غير الطريق الأكمل، ولو اتسع له الوقت مال لتبديلها. فهذا حال ما وصل إلينا من علم هذا الرجل ونحن لم نلقَ شخصه، وأما من كان معاصرًا له ممن لم يوصف بأنه في مثل درجته فلم نرَ له تأليفًا.

(٤) نقد فلسفة الفارابي وغيره من المتقدمين بقلم ابن طفيل

وأما من جاء بعدهم من المعاصرين لنا، فهم بعد في حد التزايد أو الوقوف على غير كمال، أو ممن لم تصل إلينا حقيقة أمره.

وأما ما وصل إلينا من كتب أبي نصر فأكثرها في المنطق، وما ورد منها في الفلسفة فهي كثيرة الشكوك، فقد أثبت في كتاب «الملة الفاضلة» بقاء النفوس الشريرة بعد الموت في آلام لا نهاية لها بقاءً لا نهاية له، ثم صرح في السياسة المدنية بأنها منحلة وصائرة إلى العدم، وأنه لا بقاء إلَّا للنفوس الكاملة. ثم وصف في كتاب الأخلاق شيئًا من أمر السعادة الإنسانية، وأنها إنما تكون في هذه الحياة التي في هذه الدار. ثم قال عقب ذلك كلامًا هذا معناه: «وكل ما يذكر غير هذا فهو هذيان وخرافات عجائز.» فهذا قد أيأس الخلق جميعًا من رحمة الله تعالى، وصير الفاضل والشرير في رتبة واحدة؛ إذ جعل مصير الكل إلى العدم، وهذه زلة لا تقال وعثرة ليس بعدها جبر! هذا ما صرح به من سوء معتقده في النبوة، وأنها بزعمه للقوة الخيالية خاصة، وتفضيله الفلسفة عليها إلى أشياء ليس بنا حاجة إلى إيرادها. (راجع ما أوردناه عن هذه المسألة الدقيقة في [فصل الفارابي]).

(٥) نقد فلسفة ابن سينا

وأما كتب أرسطوطاليس فقد تكفل الشيخ أبو علي! بالتعبير عما فيها، وجرى على مذهبه وسلك طريق فلسفته في كتاب الشفاء، وصرح في أول الكتاب بأن الحق عنده غير ذلك، وأنه إنما ألف ذلك الكتاب على مذهب المشائين، وأن من أراد الحق الذي لا جمجمة فيه فعليه بكتابه في الفلسفة المشرقية، ومن عني بقراءة كتاب الشفاء وبقراءة كتب أرسطوطاليس ظهر له في أكثر الأمور أنها تتفق، وإن كان في كتاب الشفاء أشياء لم تبلغ إلينا عن أرسطو، وإذا أخذ جميع ما تعطيه كتب أرسطو وكتاب الشفاء على ظاهره دون أن يتفطن لسره وباطنه، لم يصل به إلى الكمال حسبما نبه عليه الشيخ أبو علي في كتاب الشفاء.

(٦) نقد فلسفة الغزالي

وأما كتب الشيخ أبي حامد الغزالي فهو بحسب مخاطبته للجمهور يربط في موضع ويحل في موضع آخر، ويكفر بأشياء ثم يتحللها، ثم إن من جملة ما كفر به الفلاسفة في كتاب التهافت إنكارهم لحشر الأجساد وإثباتهم الثواب والعقاب للنفوس خاصة، ثم قال في أول كتاب «الميزان» إن هذا الاعتقاد هو اعتقاد شيوخ الصوفية على القطع. ثم قال في كتاب «المنقذ من الضلال والمفصح بالأحوال» إن اعتقاده هو كاعتقاد الصوفية، وإن أمره إنما وقف على ذلك بعد طول البحث. وفي كتبه من هذا النوع كثير يراه من تصفحها وأمعن النظر فيها، وقد اعتذر عن هذا الفعل في آخر كتاب «ميزان العمل»، حيث وصف أن الآراء ثلاثة أقسام: رأي يشارك فيه الجمهور فيما هم عليه، ورأي يكون بحسب ما يخاطب به كل سائل ومسترشد، ورأي يكون بين الإنسان ونفسه لا يطلع عليه إلَّا من هو شريكه في اعتقاده. ثم قال بعد ذلك: «ولو لم يكن في هذه الألفاظ إلَّا ما يشكك في اعتقادك الموروث لكفى بذلك نفعًا، فإن من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والحيرة.» ثم تمثل بهذا البيت:

خذ ما تراه ودع شيئًا سمعت به
في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل

فهذه صفة تعليمه وأكثره إنما هو رمز وإشارة لا ينتفع به إلَّا من وقف عليها ببصيرة نفسه أولًا ثم سمعها منه ثانيًا، أو من كان معدًّا لفهمها فائق الفطرة يكتفي بأيسر إشارة. وقد ذكر في كتاب «الجواهر» أن له كتبًا مضنونًا بها على غير أهلها، وأنه ضمنها صريح الحق، ولم يصل إلى الأندلس في علمنا منها شيء، بل وصلت كتب يزعم بعض الناس أنها هي تلك المضنون بها، وليس الأمر كذلك، وتلك الكتب هي «كتاب المعارف العقلية» وكتاب «النفخ والتسوية» و«مسائل مجموعة» وسواها، وهذه الكتب وإن كانت فيها إشارات فإنها لا تتضمن عظيم زيادة في الكشف على ما هو مثبوت في كتبه المشهورة، وقد يوجد في كتاب «المقصد الأسنى» ما هو أغمض مما في تلك، وقد صرح هو بأن كتاب «المقصد الأسنى» ليس مضنونًا به، فيلزم من ذلك أن هذه الكتب الواصلة ليست هي الكتب المضنون بها، وقد توهم بعض المتأخرين من كلامه الواقع في آخر كتاب المشكاة أمرًا عظيمًا أوقعه في مهواة لا مخلص له منها، وهو قوله بعد ذكر أصناف المحجوبين بالأنوار ثم انتقاله إلى ذكر الواصلين: «إنهم وقفوا على أن هذا الموجود العظيم متصف بصفة تنافي الوحدانية المحضة.» فأراد أن يلزمه من ذلك أنه يعتقد أن الحق سبحانه في ذاته كثرة ما، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا! ولا شك عندنا في أن الشيخ أبا حامد ممن سعد السعادة القصوى ووصل تلك المواصل الشريفة المقدسة، لكن كتبه المضنون بها المشتملة على علم المكاشفة لم تصل إلينا.

(٧) تمهيد لفلسفة ابن طفيل التي أفرغها في قالب رسالته «أسرار الحكمة المشرقية»

ولم يتخلص لنا نحن الحق الذي انتهينا إليه، وكان مبلغنا من العلم بتتبع كلام الغزالي وكلام الشيخ أبي علي، وصرف بعضهما إلى بعض، وإضافة ذلك إلى الآراء التي نبغت في زماننا هذا، ولهج بها قوم من منتحلي الفلسفة حتى استقام لنا الحق أولًا بطريق البحث والنظر، ثم وجدنا منه الآن هذا الذوق اليسير بالمشاهدة، وحينئذ رأينا أنفسنا أهلًا لوضع كلام يؤثر عنا، وتعين علينا أن تكون أيها السائل أول من أتحفناه بما عندنا، وأطلعناه على ما لدينا لصحيح ولائك وزكاء صفائك، غير أنا إن ألقينا إليك بغايات ما انتهينا إليه من ذلك من قبل أن تحكم مباديها معك، لم يفدك ذلك شيئًا أكثر من أمر تقليدي مجمل، هذا إن أنت حسنت ظنك بنا بحسب المودة والمؤالفة، لا بمعنى أنَّا نستحق أن يقبل قولنا، ونحن لا نقنع لك بهذه الرتبة ولا نرضى لك إلَّا ما هو أعلى منها، إذ هي غير كفيلة بالنجاة فضلًا عن الفوز بأعلى الدرجات، وإنما نريد أن نحملك على المسالك التي تقدم عليها سلوكنا، ونسبح بك في البحر الذي قد عبرناه أولًا حتى يفضي بك إلى ما أفضى بنا إليه، فتشاهد من ذلك ما شاهدناه، وتتحقق ببصيرة نفسك كل ما تحققناه، وتستغني عن ربط معرفتك بما عرفناه. وهذا يحتاج إلى مقدار معلوم من الزمان غير يسير، وفراغ من الشواغل وإقبال بالهمة كلها على هذا الفن، فإن صدق منك هذا العزم وصحت نيتك للتشمير في هذا المطلب فستحمد عند الصباح مسراك وتنال بركة مسعاك، وتكون قد أرضيت ربك وأرضاك، وأنالك حيث تريده من أملك وتطمح إليه بهمتك وكليتك، وأرجو أن أصل من السلوك بك على أقصد الطريق وآمنها من الغوائل والآفات، وإن عرضت الآن إلى لمحة يسيرة على التشويق والحث على دخول الطريق فأنا واصف لك قصة «حي بن يقظان وأبسال وسلامان»، ففي قصصهم عبرة لأولي الألباب وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

(٨) إيضاح لفلسفة ابن طفيل

١

فلسفة ابن طفيل الباقية لنا موجودة في كتابه الوحيد الذي سماه «أسرار الحكمة المشرقية»، وهو بنفسه رسالة «حي بن يقظان»، ويظن الذين اطلعوا عليها أن ابن طفيل استخلصها من فلسفة ابن سينا، وهذا خطأ لأنها فلسفة قائمة بذاتها، وقد فرغنا فيما ترجمنا له من عرض آرائه في فلسفة الأئمة السابقين كالفارابي والغزالي وابن سينا وابن باجه، ورأينا هذا الفيلسوف الأندلسي يختط لنفسه خطة قائمة بذاتها مستقلة عن أفكار الجميع، وقد مهد لها بتمهيد بليغ، أقر فيه بأنه وقف على آراء الجميع واستخلص لنفسه مذهبًا، وهو أول فيلسوف إسلامي صب فلسفته في قالب قصصي وجعل بطل قصته شخصًا متوحدًا، يكون نفسه وأفكاره بالاحتكاك بالطبيعة وبالكائنات التي هي أقل منه درجات من جماد ونبات وحيوان إلى أن يصل إلى نقطة الإدراك والاتصال، فهذه القصة الخيالية تعد بحق نوعًا من الطوبى العقلية التي قلدها ونسج على منوالها كثيرون من كتَّاب الإفرنج ومفكريهم.

٢

وقد ذكر هذا الفيلسوف أنه علم عن السلف الصالح أن جزيرة من جزائر الهند التي تحت خط الاستواء، وهي الجزيرة التي يتولد بها الإنسان من غير أم ولا أب، وبها شجر يثمر نساء. ولا يخفى ما في هذا القول من مفارقة بينه وبين تاريخ نشوء الإنسان من آدم وحواء، فإن جميع الأديان اتفقت على أن أصل الإنسان من رجل وامرأة خلقهما الله، ولم يقل أحد من علماء الدين أن الإنسان يخلق من الأرض لاعتدال جوها وخصب تربتها، فهذا القول من ابن طفيل يعد غريبًا بوصف كونه حكيمًا مسلمًا نشأ في القرن السادس للهجرة، يقول ابن طفيل بعد أن تكلم على تكون الحرارة بسبب الحركة وملاقاة الأجسام الحارة والإضاءة، وأن بقاع الأرض التي على خط الاستواء لا تسامت الشمس رءوس أهلها سوى مرتين في العام: عند حلولها برأس الحمل، وعند حلولها برأس الميزان. وهي في سائر العام ستة أشهر جنوبًا وستة أشهر شمالًا منهم، فليس عندهم حر مفرط ولا برد مفرط، وأحوالها بسبب ذلك متشابهة. وهذا القول يحتاج إلى بيان أكثر من هذا لا يليق بما نحن بسبيله، وإنما نبهناك عليه لأنه من الأمور التي تشهد بصحة ما ذكر من تجويز تولد الإنسان بتلك البقعة من غير أم ولا أب، فمنهم (أي من علماء السلف الصالح) من بت الحكم وجزم القضية بأن حي بن يقظان من جملة من تكون في تلك البقعة من غير أم ولا أب، ومنهم من أنكر ذلك وروى من أمره خبرًا نقصه عليك:

ثم اندفع ابن طفيل يروي قصة خيالية عن زواج سري بين يقظان وأخت ملك تلك الجزيرة، وأن هذا الزواج السري أثمر طفلًا وضعته أمه في تابوت وألقته في البحر، كما حدث لموسى عليه السلام.

وأن الذي كفل الطفل، الذي خاله ملك تلك الجزيرة وأبوه يقظان، ظبيةٌ حنت عليه ورئمت به وألقمته حلمة ثديها وأروته لبنًا سائغًا، وما زالت تتعهده وتربيه وتدفع عنه الأذى.

على أن ابن طفيل لم ترضه تلك القصة فعاد إلى رواية التكوين الطبيعي بغير أم ولا أب فقال: وأما الذين زعموا أنه تولد من الأرض فإنهم قالوا إن بطنًا من أرض تلك الجزيرة تخمرت فيه طينة على مر السنين والأعوام، حتى امتزج فيها الحار بالبارد والرطب باليابس امتزاج تكافؤ وتعادل في القوى، وكانت هذه الطينة المتخمرة كبيرة جدًّا، وكان بعضها يفضل بعضًا في اعتدال المزاج والتهيؤ لتكون الأمشاج. وكان الوسط منها أعدل ما فيها وأتمه مشابهة بمزاج الإنسان، فتمخضت تلك الطينة وحدث فيها شبه نفاخات الغليان لشدة لزوجتها وحدث للوسط منها لزوجة ونفاخة صغيرة جدًّا منقسمة بقسمين بينهما: حجاب رقيق ممتلئ بجسم لطيف هوائي في غاية من الاعتدال اللائق به فتعلق به عند ذلك الروح الذي هو من أمر الله تعالى وتشبث به تشبثًا يعسر انفصاله عنه عند الحس وعند العقل!

٣

ويستمر ابن طفيل في سرد قصة هذا الطفل، الذي هو أشبه الناس بروبنصون كروزو إسلامي أندلسي يتميز عن ذاك الملاح المتوحد بأنه نشأ فريدًا لم يعرف بشرًا، ولم يألف إنسًا، ولم يقف على شيء من شئون الحياة المادية والمعنوية. ولم يفت ابن طفيل بعد أن مس مذهب النشوء والارتقاء عن بعد، أن يلم بمبدأ تنازع البقاء بين الإنسان والحيوان فقال:

واتخذ من أغصان الشجر عصيًّا سوى أطرافها وعدل متنها، وكان يهش بها على الوحوش المنازعة له، فيحمل على الضعيف منها ويقاوم القوى منها، فنبل بذلك قدره عند نفسه بعض نبالة، وعلم أن لِيَدِه فضلًا كثيرًا على أيديها إذ أمكن له بها من ستر عورته، واتخاذ العصي التي يدافع بها عن حوزته ما استغنى به عما أراده من الذنب والسلاح الطبيعي!

٤

ولما كان ابن طفيل طبيبًا وعالمًا بالطبيعة والفلك والرياضيات، فقد جعل بطل قصته الفلسفية على صورته وصورة من سبقه من الفلاسفة.

«فبعد أن ماتت الظبية التي كانت تغذيه بلبنها، تتبع ذلك كله بتشريح الحيوانات الأحياء والأموات، ولم يزل ينعم النظر فيها ويجيد الفكرة حتى بلغ في ذلك كله مبلغ كبار الطبيعيين فتبين له أن كل شخص من أشخاص الحيوان، وإن كان كثيرًا بأعضائه وتفنن حواسه وحركاته، فإنه واحد بذلك الروح الذي مبدؤه من قرار واحد».

وكان حي بن يقظان ينازع الحيوان البقاء في سن سبع سنين. فلما بلغ واحدًا وعشرين عامًا كان قطع مرحلتين في الحياة الأولى: إتقانه التشريح ووقوفه على سر الحياة المادية، والثانية استعماله بعض الجماد والنبات أدوات للمحاربة والتغلب، واتخاذه بعض الحيوان بالحيلة أو بالقوة لإخضاع البعض الآخر مما هو في حاجة إلى استخدامه.

هذا ما أردنا إيراده من تلخيص تلك الفلسفة وسنذكر الآن بعض نصوص من قلم ابن طفيل نفسه في وصف الترقي الروحاني، ووصف الطريق التي سلكها حي بن يقظان إلى أن وصل إلى الغاية التي يرمي إليها ابن طفيل، وقد قسمنا موضوع الاقتباس إلى ستة أقسام:
  • القسم الأول: في كيفية علم حي بن يقظان أن كل حادث لا بد له من محدث.
  • القسم الثاني: في نظر حي بن يقظان في الشمس والقمر والكواكب وبقية الأجرام السماوية.
  • القسم الثالث: في أن كان الذات ولذتها إنما هو بمشاهدة واجب الوجود.
  • القسم الرابع: في أنه نوع كسائر أنواع الحيوان وأنه إنما خلق لغاية أخرى.
  • القسم الخامس: في أن السعادة والفوز من الشقاء إنما هي في دوام المشاهدة لهذا الموجود والواجب الوجود.
  • القسم السادس: في الفناء والوصول.

(٨-١) القسم الأول

في كيفية علم حي بن يقظان أن كل حادث لا بد له من محدث:

فعلم بالضرورة أن كل حادث لا بد له من محدث فارتسم في نفسه بهذا الاعتبار فاعل للصورة ارتسامًا على العموم دون تفصيل، ثم إنه تبع الصور التي كان قد علمها قبل ذلك صورة صورة، فرأى أنها كلها حادثة، وأنها لا بد لها من فاعل، ثم إنه نظر إلى ذوات الصور فلم ير أنها شيء أكثر من استعداد الجسم لأن يصدر عنه ذلك الفعل، مثل الماء؛ فإنه إذا أفرط عليه التسخين استعد للحركة إلى فوق، وصلح لها فذلك الاستعداد هو صورته، إذ ليس ههنا إلا جسم وأشياء تحس عنه، بعد أن لم تكن مثل الكيفيات والحركات وفاعل يحدثها بعد أن لم تكن، فصلوح الجسم لبعض الحركات دون بعض هو استعداده بصورته، ولاح له مثل ذلك في جميع الصورة، فتبين له أن الأفعال الصادرة عنها ليست في الحقيقة لها، وإنما هي لفاعل يفعل بها الأفعال المنسوبة إليها، وهذا المعنى الذي لاح له هو قول رسول الله : «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به.» وفي محكم التنزيل فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى فلما لاح له من أمر هذا الفاعل ما لاح على الإجمال دون تفصيل، حدث له شوق حثيث إلى معرفته على التفصيل، وهو بعد لم يكن فارق عالم الحس، فجعل يطلب هذا الفاعل المختار من جهة المحسوسات.

(٨-٢) القسم الثاني

في نظر حي بن يقظان في الشمس والقمر والكواكب وبقية الإجرام السماوية:

فنظر أولًا إلى الشمس والقمر وسائر الكواكب فرآها كلها تطلع من جهة المشرق وتغرب من جهة المغرب، فما كان منها يمر على سمت رأسه رآه يقطع دائرة عظمى، وما مال عن سمت رأسه إلى الشمال أو إلى الجنوب رآه يقطع دائرة أصغر من تلك، وما كان أبعد عن سمت الرأس إلى أحد الجانبين كانت دائرته أصغر من دائرة ما هو أقرب، حتى كانت أصغر الدوائر التي تتحرك عليها الكواكب دائرتين اثنتين، إحداهما حول القطب الجنوبي، وهي مدار سهيل، والأخرى حول القطب الشمالي وهي مدار الفرقدين، ولما كان مسكنه على خط الاستواء الذي وصفناه أولًا، كانت هذه الدوائر كلها قائمة على سطح أفقه ومتشابهة الأحوال في الجنوب والشمال، وكان القطبان معًا ظاهرين له، وكان يترقب إذا طلع كوكب من الكواكب على دائرة كبيرة، وطلع كوكب آخر على دائرة صغيرة، وكان طلوعهما معًا فكان يرى غروبهما معًا، وأطرد له ذلك في جميع الكواكب وفي جميع الأوقات فتبين له بذلك أن الفلك على شكل الكرة، وقوى ذلك في اعتقاده ما رآه من رجوع الشمس والقمر وسائر الكواكب إلى المشرق بعد مغيبها بالمغرب، وما رآه أيضًا من أنها تظهر لبصره على قدر واحد من العظم في حال طلوعها وتوسطها وغروبها، وأنها لو كانت حركتها على غير شكل الكرة لكانت لا محالة في بعض الأوقات أقرب إلى بصره منها في وقت آخر.

(٨-٣) القسم الثالث

في أن كمال الذات ولذتها إنما هو بمشاهدة واجب الوجود:

فلما تبين له أن كمال ذاته ولذتها إنما هو بمشاهدة ذلك الموجود الواجب الوجود على الدوام مشاهدة بالفعل أبدًا، حتى لا يعرض عنه طرفة عين، لكي توافيه منيته وهو في حال المشاهدة بالفعل، فتتصل لذته دون أن يتخللها ألم، وإليه أشار الجنيد شيخ الصوفية وإمامهم عند موته بقوه لأصحابه: «هذا وقت يؤخذ منه الله أكبر وأحرم الصلاة.» ثم جعل يتفكر كيف يتأتى له دوام هذه المشاهدة بالفعل حتى لا يقع منه أعراض، فكان يلازم الفكرة في ذلك الموجود كل ساعة كما هو، إلا أن يسنح لبصره محسوس ما من المحسوسات، أو يخرق سمعه صوت بعض الحيوان، أو يعترضه خيال من الخيالات، أو يناله ألم في بعض أعضائه، أو يصيبه الجوع أو العطش، أو البرد أو الحر، أو يحتاج إلى القيام لدفع فضوله، فتختل فكرته ويزول عما كان فيه، ويتعذر عليه الرجوع إلى ما كان عليه من حال المشاهدة إلا بعد جهد، وكان يخاف أن تفجأه منيته وهو في حال الإعراض فيفضي إلى الشقاء الدائم وألم الحجاب، فساءه حاله ذلك وأعياه الدواء.

(٨-٤) القسم الرابع

في أنه نوع كسائر أنواع الحيوان وأنه إنما خلق لغاية أخرى:

قطع بذلك على أنه هو الحيوان المعتدل الروح الشبيه بالأجسام السماوية كلها، وتبين له أنه نوع كسائر أنواع الحيوان، وأنه إنما خلق لغاية أخرى وأعد لأمر عظيم لم يعد له شيء من أنواع الحيوان، وكفى به شرفًا أن يكون أخس جزأيه، وهو الجسماني، أشبه الأشياء بالجواهر السماوية الخارجة عن عالم الكون والفساد المنزهة عن حوادث النقص والاستحالة والتغير، وأما أشرف جزأيه فهو الشيء الذي به عرف الموجود الواجب الوجود، وهذا الشيء العارف أمر رباني إلهي لا يستحيل ولا يلحقه الفساد، ولا يوصف بشيء مما توصف به الأجسام، ولا يدرك بشيء من الحواس ولا يتخيل ولا يتوصل إلى معرفته بالة سواه، بل وصل إليه به فهو العارف والمعروف والمعرفة، وهو العالم والمعلم والمعلوم لا تباين في شيء من ذلك، إذ التباين والانفصال من صفات الأجسام ولواحقها، ولا جسم هناك ولا صفة جسم ولا لاحق بجسم.

(٨-٥) القسم الخامس

في أن السعادة والفوز من الشقاء إنما هي في دوام المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود:

وقد وقف على أن سعادته وفوزه من الشقاء إنما هي في دوام المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود، حتى يكون بحيث لا يعرض عنه طرفة، عين ثم إنه نظر في الوجه الذي يتأتي له به هذا الدوام، فأخرج له النظر أنه يجب عليه الاعتماد في هذه الأقسام الثلاثة من التشبيهات: أما التشبه الأول فلا يحصل له به شيء من هذه المشاهدة، بل هو صارف عنها وعائق دونها، إذ هو تصرف في الأمور المحسوسة والأمور المحسوسة كلها حجب معترضة دون تلك المشاهدة، وإنما احتيج إلى هذا التشبه لاستدامة هذا الروح الحيواني الذي يحصل به التشبه الثاني بالأجسام السماوية، فالضرورة تدعو إليه من هذا الطريق، ولو كان لا يخلو من تلك المضرة. وأما التشبه الثاني فيحصل له به حظ عظيم من المشاهدة على الدوام، فهو مع تلك المشاهدة يعقل ذاته ويلتفت إليها حسبما يتبين بعد هذا. وأما التشبه الثالث فتحصل به المشاهدة الصرفة والاستغراق المحض الذي لا التفات فيه بوجه من الوجوه إلا إلى الموجود الواجب الوجود، والذي يشاهد هذه المشاهدة قد غابت عنه ذات نفسه وفنيت وتلاشت، وكذلك سائر الذوات كثيرة كانت أو قليلة، إلا ذات الواحد الحق الواجب الوجود جل وتعالى وعز!

(٨-٦) القسم السادس

في الفناء والوصول:

فأصغ الآن بسمع قلبك، وأحدق ببصر عقلك إلى ما أشير إليه، لعلك تجد منه هديًا يلقيك على جادة الطريق! وشرطي عليك أن لا تطلب مني في هذا الوقت مزيد بيان بالمشافهة على ما أودعه هذا الأوراق، فإن المجال ضيق والتحكم بالألفاظ على أمر ليس من شأنه أن يلفظ به خطر. فأقول إنه لما فني عن ذاته وعن جميع الذوات، ولم ير في الوجود إلا الواحد الحي القيوم، وشاهد ما شاهد ثم عاد إلى ملاحظة الأغيار عندما أفاق من حاله تلك، التي هي شبيهة بالسكْر، خطر بباله أنه لا ذات له يغاير بها ذات الحق تعالى وإن حقيقة ذاته هي ذات الحق، وإن الشيء الذي كان يظن أولًا أنه ذاته المغايرة لذات الحق ليس شيئًا في الحقيقة، بل ليس ثَم شيء إلا ذات الحق، وإن ذلك بمنزلة نور الشمس الذي يقع على الأجسام الكثيفة فتراه يظهر فيها، فإنه وإن نسب إلى الجسم الذي ظهر فيه فليس هو في الحقيقة شيئًا سوى نور الشمس، وإن زال ذلك الجسم زال نوره وبقي نور الشمس بحاله لم ينقص عند حضور ذلك الجسم ولم يزد عند مغيبه، ومتى حدث جسم يصلح لقبول ذلك النور قبله فإذا عدم الجسم عدم ذلك القبول ولم يكن له معنى.

وتقوى عنده هذا الظن بما كان بأن له من أن ذات الحق عز وجل لا تتكثر بوجه من الوجوه، وأن علمه بذاته هو ذاته بعينها، فلزم عنده من هذا أن من حصل عنده العلم بذاته فقد حصل عنده ذاته، فقد كان حصل عنده العلم فحصل عنده الذات، وهذه الذات لا تحصل إلا عند ذاتها ونفس حصولها هو الذات، فإذن هو الذات بعينها، وكذلك جميع الذوات المفارقة للمادة العارفة بتلك الذات الحقة التي كان يراها أولًا كثيرة، وصارت عنده بهذا الظن شيئًا واحدًا، وكادت هذه الشبهة ترسخ في نفسه لولا أن تداركه الله برحمته وتلافاه بهدايته، فعلم أن هذه الشبهة إنما ثارت عنده من بقايا ظلمة الأجسام وكدورة المحسوسات، فإن الكثير والقليل والواحد والوحدة والجمع والاجتماع والافتراق؛ هي كلها من صفات الأجسام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤