الفصل التاسع

إخوان الصفاء

كان للفلسفة في العصر العباسي شأن عظيم، فاشتغل بها أكثر الذين عنوا بعلوم القدماء، لا سيما الأطباء منهم، وكان الفلاسفة في هذا العصر متهمين بالإلحاد والتعطيل، وكان الانتساب إلى الفلسفة مرادفًا للانتساب إلى الكفر، وشاعت النقمة على الخليفة المأمون، لأنه كان السبب في نقل الفلسفة إلى اللغة العربية، حتى قال فيه ابن تيمية: «ما أظن الله يغفل عن المأمون، ولا بد أن يعاقبه على ما أدخله على هذه الأمة!»

(١) أشهر أفراد جمعية إخوان الصفا

فاضطر أصحاب الفلسفة إلى التستر، فألفوا الجمعيات السرية لهذا الغرض وأشهرها جمعية إخوان الصفا، تألفت في بغداد في أواسط القرن الرابع للهجرة، وقد ذكروا من أعضائها خمسة هم:
  • (١)

    أبو سليمان محمد بن معشر البستي، ويعرف «بالمقدسي».

  • (٢)

    أبو الحسن علي بن هارون الزنجاني.

  • (٣)

    أبو أحمد المهرجاني.

  • (٤)

    العوفي.

  • (٥)

    زيد بن رفاعة.

وكانوا يجتمعون سرًّا ويتباحثون في الفلسفة على أنواعها حتى صار لهم فيها مذهب خاص هو خلاصة أبحاث فلاسفة الإسلام، بعد اطلاعهم على آراء اليونان والفرس والهند، وتعديلها على ما يقتضيه الإسلام.

وأساس مذهبهم «أن الشريعة الإسلامية تدنست بالجهالات واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة؛ لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية، وأنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة المحمدية فقد حصل الكمال».

(٢) رسائلهم الفلسفية

وقد دونوا فلسفتهم هذه في اثنتين وخمسين رسالة، سموها رسائل «إخوان الصفا» وكتموا أسماءهم، وهي تمثل الفلسفة الإسلامية على ما كانت عليه في إبان نضجها، وتشمل النظر في مبادئ الموجودات وأصول الكائنات إلى نضد العالم فالهيولى والصورة وماهية الطبيعة والأرض والسماء ووجه الأرض وتغيراته، والكون والفساد والآثار العلوية والسماء والعالم وعلم النجوم وتكوين المعادن، وعلم النبات وأوصاف الحيوان ومسقط النطفة وكيفية رباط الناس بها، وتركيب الجسد والحاس والمحسوس والعقل والمعقول والصناعات العلمية والعملية، والعدد وخواصه والهندسة والموسيقى والمنطق وفروعه واختلاف الأخلاق وطبيعة العدد، وأن العالم إنسان كبير والإنسان عالم صغير (وهذه هي نظرية «هربرت سبنسر» في علم الاجتماع) والأكوار والأدوار وماهية العشق والبعث والنشور وأجناس الحركات والعلل والمعلولات والحدود والرسوم، وبالجملة فقد ضمنوها كل علم طبيعي أو رياضي أو فلسفي أو إلهي عقلي.

ويظهر من إمعان النظر في تلك الرسائل، أن أصحابها دونوها بعد البحث الدقيق والنظر الطويل، وفي جملة ذلك آراء لم يصل أهل هذا الزمان إلى أحسن منها، وفيها بحث مستفيض من قبيل نظرية النشوء والارتقاء.

وكان المعتزلة ومن جرى مجراهم يتناقلون هذه الرسائل ويتدارسونها ويحملونها معهم سرًّا إلى بلاد الإسلام، ولم تمض مائة سنة على كتابتها حتى دخلت بلاد الأندلس على يد أبي الحكم عمرو بن عبد الرحمن الكرماني القرطبي.

وأبو الحكم هذا عالم من أهل قرطبة رحل إلى المشرق للتبحر في العلم، على جاري عادة الأندلسيين، فلما عاد إلى بلاده حمل معه الرسائل المذكورة، وهو أول من أدخلها إلى الأندلس، فما لبثت أن انتشرت هناك حتى تناولها أصحاب العقول البحاثة وأخذوا في درسها وتدبرها.

وطبعت في (ليبزج) سنة ١٨٨٣م وفي (بومباي) سنة ١٨٨٦م، وفي مصر سنة ١٨٨٩م. ونقلت إلى الهندستانية وطبعت في لندن سنة ١٨٦١م.

تتلخص فلسفة إخوان الصفا في اثنتين وخمسين رسالة مقسومة على أربعة أقسام:
  • القسم الأول: أربع عشرة رسالة رياضية تعليمية.
  • القسم الثاني: سبع عشرة رسالة جسمانية طبيعية.
  • القسم الثالث: عشر رسائل نفسانية عقلية.
  • القسم الرابع: إحدى عشرة رسالة ناموسية آلهية.

القسم الأول في الرسائل الرياضية التعليمية

  • الرسالة الأولى: في العدد.
  • الرسالة الثانية: في الهندسة.
  • الرسالة الثالثة: في النجوم.
  • الرسالة الرابعة: في الموسيقى.
  • الرسالة الخامسة: في الجغرافيا.
  • الرسالة السادسة: في النسب.
  • الرسالة السابعة: في الصنايع العلمية.
  • الرسالة الثامنة: في الصنايع العلمية.
  • الرسالة التاسعة: في بيان اختلاف الأخلاق.
  • الرسالة العاشرة: في إيساغوجي.
  • الرسالة الحادية عشرة: في قاطيغورياس.
  • الرسالة الثانية عشرة: في بارمينياس.
  • الرسالة الثالثة عشرة: في أنولوطيقا الأولى.
  • الرسالة الرابعة عشرة: في أنولوطيقا الثانية.

القسم الثاني

  • الرسالة الأولى: في الهيولى والصورة.
  • الرسالة الثانية: في السماء والعالم.
  • الرسالة الثالثة: في الكون والفساد.
  • الرسالة الرابعة: في الآثار العلوية.
  • الرسالة الخامسة: في كيفية تكوين المعادن.
  • الرسالة السادسة: في ماهية الطبيعة.
  • الرسالة السابعة: في أجناس النبات.
  • الرسالة الثامنة: في أصناف الحيوان.
  • الرسالة التاسعة: في تركيب الجسد.
  • الرسالة العاشرة: في الحاس والمحسوس.
  • الرسالة الحادية عشرة: في مسقط النطفة.
  • الرسالة الثانية عشرة: في معنى قول الحكماء «إن الإنسان عالم صغير» وهو «معنى العالم الكبير».
  • الرسالة الثالثة عشرة: في كيْفية نشر الأنفس الجزئية.
  • الرسالة الرابعة عشرة: في بيان طاقة الإنسان.
  • الرسالة الخامسة عشرة: في ماهية الموت والحياة.
  • الرسالة السادسة عشرة: في ماهية اللذات والآلام الجسمانية والروحانية.
  • الرسالة السابعة عشرة: في علل اختلاف اللغات.

القسم الثالث

  • الرسالة الأولى: في المبادئ العقلية على رأي الفيثاغوريين.
  • الرسالة الثانية: في المبادئ العقلية على رأي إخوان الصفا.
  • الرسالة الثالثة: في معنى قول الحكماء «إن العالم إنسان كبير».
  • الرسالة الرابعة: في العقل والمعقول.
  • الرسالة الخامسة: في الأكوار والأدوار واختلاف القرون والأعصار.
  • الرسالة السادسة: في ماهية العشق.
  • الرسالة السابعة: في ماهية البعث.
  • الرسالة الثامنة: في كمية أجناس الحركات.
  • الرسالة التاسعة: في العلل والمعلولات.
  • الرسالة العاشرة: في الحدود والرسوم.

القسم الرابع

  • الرسالة الأولى: في الآراء والمذاهب في الديانات الشرعية الناموسية والفلسفية.
  • الرسالة الثانية: في ماهية الطريق إلى الله عز وجل.
  • الرسالة الثالثة: في بيان اعتقاد إخوان الصفاء وخلان الوفاء.
  • الرسالةالرابعة: في كيفية عشرة إخوان الصفاء وخلان الوفاء.
  • الرسالة الخامسة: في ماهية الإيمان.
  • الرسالة السادسة: في ماهية الناموس الإلهي.
  • الرسالة السابعة: في كيفية الدعوة إلى الله عز وجل.
  • الرسالة الثامنة: في كيفية أفعال الروحانيين.
  • الرسالة التاسعة: في كمية أنواع السياسات وكيفيتها.
  • الرسالة العاشرة: في كيفية نضد العالم بأسره.
  • الرسالة الحادية عشرة: في ماهية السحر والعزائم.

وخلاصة فلسفتهم في رسالة جامعة لما في الرسائل الاثنتين والخمسين.

(٣) في كيفية عشرة إخوان الصفا وتعاون بعضهم بعضًا

سبق أن قلنا إن إخوان الصفا كانوا يجتمعون سرًّا، ويتباحثون في الفلسفة على أنواعها حتى صار لهم فيها مذهب خاص، ولما كان لهذه الجماعة دستور أتبعوه في حياتهم وأرادوا تعميمه بين من كان على شاكلتهم في سائر الأقطار، فقد أردنا أن نلخص هذا القانون لما فيه من الحكمة التاريخية.

فقد فرضوا على من كان مثلهم من الجماعات أن يكون لهم مجلس خاص يجتمعون فيه في أوقات معلومة لا يداخلهم فيه غيرهم، يتذاكرون فيه علومهم ويتحاورون فيه أسرارهم، وينبغي أن تكون مذاكراتهم أكثرها في علم النفس والحس والمحسوس والعقل والمعقول والنظر والبحث عن أسرار الكتب الإلهية والتنزيلات النبوية ومعاني ما يتضمنها موضوعات الشريعة، وينبغي أيضًا أن يتذاكروا العلوم الرياضية الأربعة وهي: العدد والهندسة والتنجيم والتأليف.

وأما أكثر عناياتهم وقصدهم فينبغي أن يكون البحث عن العلوم الإلهية التي هي الغرض الأقصى، وبالجملة ينبغي لهم أن لا يعادوا علمًا من العلوم أو يهجروا كتابًا من الكتب، ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب؛ لأن رأي إخوان الصفا ومذهبهم يستغرق المذاهب كلها ويجمع العلوم جميعها، وذلك أنه هو النظر في جميع الموجودات بأسرها الحسية والعقلية من أولها إلى آخرها ظاهرها وباطنها وجليها وخفيها، بعين الحقيقة من حيث هي كلها من مبدأ واحد وعلة واحدة وعالم واحد ونفس واحدة محيطة جواهرها المختلفة وأجناسها المتباينة.

(٤) مصادر علوم إخوان الصفا

وقد ذكر إخوان الصفا في رسالتهم الثانية أن علومهم مأخوذة من أربعة كتب، أحدها الكتب المصنفة على ألسنة الحكماء والفلاسفة من الرياضيات والطبيعيات، الثاني الكتب المنزلة التي جاءت بها الأنبياء مثل التوراة والإنجيل والفرقان، وغيرها من صحف الأنبياء المأخوذة معانيها بالوحي من الملائكة وما فيها من الأسرار الخفية.

والثالث الكتب الطبيعية وهي صور أشكال الموجودات بما هي عليه الآن من تركيب الأفلاك وأقسام البروج وحركات الكواكب ومقادير أجرامها، وتصاريف الزمان واستحالة الأركان وفنون الكائنات من المعادن والحيوان والنبات، وأصناف المصنوعات على أيدي البشر، كل هذه صور وكنايات وآلات على معانٍ لطيفة وأسرار دقيقة، يرى الناس ظاهرها ولا يعرفون معاني بواطنها من لطيف صفة الباري جل ثناؤه.

والرابع الكتب الإلهية التي لا يمسها إلا المطهرون الملائكة التي هي بأيدي سفرة كرام بررة، وهي جواهر النفوس وأجناسها وأنواعها وجزئياتها وتصاريفها للأجسام وتحريكها لها وتدبيرها إياها وتحكمها عليها وإظهار أفعالها بها ومنها، حالًا بعد حال في ممر الزمان وأوقات القرانات والأدوار وانحطاط بعضها تارة إلى قعر الأجسام، وارتفاع بعضها تارة من ظلمات الجثمان، وانبعاثها من نوم الغفلة والنسيان، وحشرها إلى الحساب والميزان، وجوازها على الصراط، ووصولها إلى الجنان أو حبسها في دركاتها الهاوية والنيران أو مكثها في البرزخ أو وقوفها على الأعراف.

(٥) آراؤهم في الصداقة

وينبغي لإخوان الصفا إذا أراد أحدهم أن يتخذ صديقًا أن يعتبر أحواله ويتعرف أخباره ويجرب أخلاقه ويسأله عن مذهبه واعتقاده، ليعلم هل يصلح للصداقة وصفاء المودة وحقيقة الأخوة أم لا.

واعلم بأن شر الطوائف كلها من لا يؤمن بيوم الحساب، وشر الأخلاق كِبر إبليس وحرص آدم وحسد قابيل، وهي أمهات المعاصي واعلم بأن الناس مطبوعون على أخلاقهم بحسب اختلاف تركيب أجسادهم.

واعلم بأن من الناس من هو مطبوع على خلق واحد أو عدة من أخلاق محمودة ومذمومة.

فينبغي لك إذا أردت أن تتخذ صديقًا أو أخًا أن تنتقده كما تنتقد الدراهم والدنانير والأرضين الطيبة التربة للزرع والغرس، وكما ينتقد أبناء الدنيا أمر التزويج وشراء المماليك والأمتعة التي يشترونها.

واعلم بأن من الناس من يتشكل بشكل الصديق ويتدلس عليك بشبه الموافق، ويظهر لك المحبة وخلافها في صدره وضميره.

واعلم بأن الإنسان كثير التلون قليل الثبات على حال واحد، وذلك أنه قل من الناس من تحدث له حال من أحوال الدنيا أو أمر من أمورها إلا ويحدث له خلق جديد وسجية أخرى، ويتغير خلقه مع إخوانه ويتلون مع أصدقائه، إلا إخوان الصفا الذين ليست صداقتهم خارجة من ذاتهم إنما هي قرابة رحم، ورحمهم ما من يعيش بعضهم ببعض ويرث بعضهم بعضًا، وذلك أنهم يرون ويعتقدون أنهم نفس واحدة في أجساد متفرقة، فكيفما تغيرت حال الأجساد بحقيقتها فالنفس لا تتغير ولا تتبدل.

وخصلة أخرى أن أحدهم إذا أحسن إلى أخيه إحسانًا فلا يمن عليه به لأنه يرى ويعتقد بأن إحسانه إلى نفسه كان، وإن أساء إليه أخوه لم يستوحش منه لأنه يرى بأن ذلك كان منه إليه، فمن اعتقد في أخيه مثل هذا واعتقد أخوه فيه مثل ذلك فقد أمن كل واحد من أخيه غائلته أن يتغير عليه في يوم من الأيام بسبب من الأسباب أو بوجه من الوجوه.

واعلم أن في الناموس أقوامًا يتشبهون بأهل العلم ويدلسون بأهل الدين: لا الفلسفة يعرفونها، ولا الشريعة يحققونها، ويدعون مع هذا معرفة حقائق الأشياء، ويتعاطون النظر في خفيات الأمور الغامضة البعيدة، وهم لا يعرفون أنفسهم التي هي أقرب الأشياء إليهم، ولا يميزون الأمور الجلية ولا يتفكرون في الموجودات الظاهرة المدركة بالحواس المشهورة في العقول، ثم ينظرون في الظفرة والقلقة والجزء الذي لا يتجزأ، فاحذرهم يا أخي فإنهم الدجالون.

فإذا كان الأمر كما وصفت فينبغي لك أيها الأخ أن لا تشغل بإصلاح المشايخ الهرمة، الذين اعتقدوا من الصبى آراء فاسدة وعادات ردية وأخلاقًا وحشية، فإنهم يتعبونك ثم لا ينصلحون، ولكن عليك بالشباب السالمي الصدور، واعلم بأن الله ما بعث نبيًّا إلا وهو شاب ولا أعطى لعبد حكمة إلا وهو شاب، كما ذكرهم ومدحهم فقال: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وكما قال: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ وقال أيضًا: وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ واعلم بأن كل نبي بعثه الله فأول من كذبه مشايخ قومه.

(٦) مراتب إخوان الصفا النفسية

واعلم أن قوة نفوس إخوان الصفا على أربعة مراتب:
  • الأولي: صفاء جوهر نفوسهم وجودة القبول وسرعة التصور، وهي مرتبة أرباب ذوي الصناعات في مدينتها التي ذكرت في الرسالة الثانية، وهي القوة العاقلة المميزة لمعاني المحسوسات الواردة على القوة الناطقة بعد خمسة عشر سنة من مولد الجسد.
  • الثانية: هي مرتبة الرؤساء ذوي السياسات، وهي مراعاة الإخوان وسخاء النفس وإعطاء الفيض والشفقة والرحمة، وهي القوة الحكيمة الواردة على القوة العاقلة بعد ثلاثين سنة من مولد الجسد، وهم الذين نسميهم الأخيار والفضلاء.
  • الثالثة: فوق هذه وهي مرتبة الملوك ذوي السلطان والأمر والنهي والنصر، والقيام بدفع العناد والخلاف عند ظهور المعاند المخالف لهذا الأمر بالرفق واللطف والمداراة في إصلاحه، وهي القوة الناموسية الواردة بعد مولد الجسد بأربعين سنة، وهم الذين نسميهم إخواننا الفضلاء الكرام.
  • الرابعة: فوق هذه وهي التي ندعو إخواننا كلهم في أي مرتبة كانت، وهي التسليم وقبول التأييد ومشاهدة الحق عيانًا، وهي قوة الملكية الواردة بعد خمسين سنة من مولد الجسد، وهي الممهدة للمعاد والمفارقة لليهولى، وعليها تنزل قوة المعراج وبها تصعد إلى ملكوت السماء، فتشاهد أحوال القيامة من البعث والنشر والحشر والحساب والميزان والجواز على الصراط والنجاة من النيران ومجاورة الرحمن، وإليها أشار فيثاغورس في الرسالة الذهبية في آخرها: «إنك إذا فعلت ما أوصيك، عند مفارقة الجسد تبقى في الهواء غير عائد إلى الإنسية ولا قابل للموت.»
واعلم بأن المطلوب من المدعوين إلى هذا الأمر أربعة أحوال:
  • أولها: الإقرار بحقيقة هذا الأمر.
  • ثانيها: التصور لهذا الأمر بضروب الأمثال بالوضوح والبيان.
  • ثالثها: التصديق له بالضمير والاعتقاد.
  • رابعها: التحقيق له بالاجتهاد في الأعمال المشاكلة لهذا الأمر.

(٧) إيضاح لفلسفة إخوان الصفا (الفلسفة الأخلاقية في نظر إخوان الصفا)

وقد اعتمدنا في تلخيصها على الرسالتين الرابعة والتاسعة من الجزء الأول، والثانية من الجزء الثاني، والسادسة من الجزء الثالث.

تكلم إخوان الصفا في الرسالة الرابعة من الرياضيات في علم الموسيقى وأثره في تهذيب النفس وإصلاح الأخلاق، وقد صرحوا بأن ليس غرضهم في هذه الرسالة تعليم الغناء وصنعة الملاهي، بل غرضهم معرفة النسب وكيفية التأليف اللذين بهما وبمعرفتهما يكون الحذق في الصنائع كلها، وإن من الأصوات والألحان والنغمات ما له في النفوس تأثيرات كتأثيرات صناعات الصناع في الهيوليات الموضوعات في صناعاتهم، فمن تلك النغمات والأصوات ما يحرك النفوس نحو الأعمال الشاقة وينشطها ويقوى عزماتها؛ وهي الألحان المشجعة التي تستعمل في الحروب، ولا سيما إذا غُني معها بأبيات موزونة، ومن الأبيات الموزونة أيضًا ما يثير الأحقاد الكامنة ويحرك النفوس الساكنة، فمن أجل هذا كانت الألحان والموسيقى تستعمل عند كل الأمم في الحزن والسرور، وتارة في بيوت العبادة والأسواق وعند الراحة والتعب، ويستعملها الرجال والنساء والعلماء، ويستعملها الجمالون للحداء في الأسفار، والصياد عند صيد الدراج والقطا.

وإن الأصوات نوعان: حيوانية، وغير حيوانية. كصوت الحجر والحديد والرعد والطبل والمزامير، والأصوات الحادة والغليظة متضادة ولكن إذا كانت على نسبة تأليفية ائتلفت وامتزجت وصارت لحنًا موزونًا واستلذتها المسامع، وإن الحكماء قد صنعوا آلات وأدوات كثيرة لنغمات الموسيقى، واعلم بأنه إن لم يكن لحركات أشخاص الأفلاك أصوات ولا نغمات لم يكن لأهلها فائدة في القوة السامعة، ويوجد في طباع الصبيان اشتياق إلى أحوال الآباء والأمهات، وفي طباع التلامذة والمتعلمين اشتياق إلى أحوال الأساتذة والمعلمين، وفي طباع العامة اشتياق إلى أحوال البلوغ، وفي طباع العقلاء اشتياق إلى أحوال الملائكة وتشبه بهم، كما ذكر في حد الفلسفة إنها التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسانية، ويقال إن فيثاغورس الحكيم سمع بصفاء جوهر نفسه وذكاء قلبه نغمات حركات الأفلاك والكواكب فاستخرج بجودة فكره أصول الموسيقى ونغمات الألحان.

ثم اعلم أن غرض الأنبياء في وضعهم الشرائع هو صلاح الدين والدنيا، وغرضهم الأقصى نجاة النفوس من محن الدنيا وشقاوة أهلها.

واعلم بأن تأثيرات نغمات الموسيقار في نفوس المستمعين مختلفة الأنواع، ولذة النفوس منها وسرورها بها تكون بحسب مراتبها في المعارف وبحسب معشوقاتها المألوفة من المحاسن.

واعلم أن أخلاق الناس وطبائعهم تختلف من أربع جهات:
  • الأولى: من جهة أخلاط أجسادهم ومزاج أخلاطها.
  • الثانية: من جهة ترب بلدانهم واختلاف أهويتها.
  • الثالثة: من جهة نشوئهم على ديانات آبائهم ومعلميهم وأساتذتهم ومن يربيهم ويؤدبهم.
  • الرابعة: من جهة موجبات أحكام النجوم في أصول مواليدهم ومساقط نطفهم.

واعلم أن مراتب النفوس ثلاثة أنواع: فمنها مرتبة الأنفس الإنسانية، ومنها ما هي فوقها، ومنها ما هي دونها.

فالتي هي دونها سبع مراتب، والتي فوقها سبع أيضًا وجملتها خمس عشرة مرتبة، والمعلوم من هذه المراتب خمس، منها اثنتان فوق رتبة الإنسانية وهي رتبة الملكية والقدسية، ورتبة الملكية هي رتبة الحكمية، ورتبة القدسية هي رتبة النبوة الناموسية، واثنتان دونها وهي مرتبة النفس النباتية والحيوانية.

وإن من الأخلاق والقوى ما هو منسوب إلى النفس النباتية الشهوانية، وما هو منسوب إلى النفس الحيوانية الغضبية، ومنها ما هو منسوب إلى النفس الإنسانية الناطقية، ومنها ما هو منسوب إلى النفس العاقلة الحكمية، ومنها ما هو منسوب إلى النفس الناموسية الملكية.

ثم تدرج إخوان الصفاء من هذه الفصول إلى نظرية كون العالم إنسانًا كبيرًا، وكون الإنسان عالمًا صغيرًا، وهي النظرية التي قال بها بعض فلاسفة اليونان، وأشار إليها ابن سيناء في قوله إن الإنسان انطوى فيه العالم الأكبر، واتخذها «سبنسر» أساسًا لبحثه في علم الاجتماع، فقالوا في بيان معرفة قول الحكماء، إن العالم إنسان كبير، إنهم يعنون بالعالم السماوات والأرضين وما بينهما من الخلائق أجمعين، وإنهم يرونه جسمًا واحدًا بجميع أفلاكه وأطباق سماواته وأركان أمهاته ومولداتها، ويرون أيضًا أن له نفسًا واحدة سارية قواها في جميع أجزاء جسمها كسريان نفس الإنسان الواحد في جميع أجزاء جسده.

وقد حاول إخوان الصفاء في الرسالة الثانية من الجزء الثاني الموسومة «بالسماء والعالم في تهذيب النفس وإصلاح الأخلاق» أن يذكروا صورة العالم ويصفوا كيفية تركيب جسمه، كما وصف في كتاب التشريح ترتيب جسد الإنسان، ثم وصفوا في رسالة أخرى ماهية نفس العالم وكيفية سريان قواها في الأجسام التي في العالم من أعلا الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، ثم بينوا فنون حركاتها وإظهار أفعالها في أجسام العالم بعضها في بعض.

وقد أتوا في ذلك بتمثيل بين حركات الأفلاك حول الأرض، كاختلاف دور الطائفين حول البيت الحرام (ص٢٦ جزء ٢ من رسائل إخوان الصفا).

وشرحوا معنى القيامة بأنه إذا فارقت النفس الجسد قامت قيامتها، قال محمد : «من مات فقد قامت قيامته.» إنما أراد قيام النفس لا الجسد، لأن الجسد لا يقوم عند الموت بل يقع وقوعًا لا يقوم بعده.

وقالوا إن النفس إذا فارقت هذا الهيكل فليس يبقى معها ولا يصحبها من آثار هذا الجسد إلا ما استفادت من المعارف الربانية والأخلاق الجميلة، فإذا رأت تلك الصورة فرحت بها، وذلك ثوابها ونعيمها.

وجعلوا الرسالة السادسة من الجزء الثالث مقصورة على البحث في ماهية العشق ومحبة النفوس والمرض الإلهي، وكثير من الحكماء وصفوا أعراض هذا المرض مما يعرض للعشاق من سهر الليل ونحول الجسم وغور العيون وتواتر النبض والأنفاس الصعداء، وقالوا إنه جنون إلهي. والأطباء يسمونه (ملنخوليا). وقال بعضهم: «العشق هو شدة الشوق إلى الاتحاد.» ولهذا أي حال يكون عليها العاشق يتمنى حالًا أخرى أقرب منها، ولهذا قال الشاعر:

أعانقها والنفس بعد مشوقة
إليها وهل بعد العناق تداني
وألثم فاها كي تزول صبابتي
فيزداد ما ألقى من الهيمان
كأن فؤادي ليس يشفى غليله
سوى أن ترى الزوجين يمتزجان

إن كثيرًا من الناس يظنون أن العشق لا يكون إلا للأشياء الحسنة حسب، وليس الأمر كما ظنوا؛ فقد قيل: «يا رب مستحسن ما ليس بالحسن.» ولكن العلة في ذلك هي الاتفاقات التي بين العاشق والمعشوق وهي كثيرة، منها المناسبات بين كل حاسة ومحسوساتها.

ثم اعلم أنه من ابتلي بعشق شخص من الأشخاص، ومرت به تلك المحن والأهوال وعرضت له تلك الأحوال، ثم لم تنتبه نفسه من نوم غفلتها فيتسلى ويفيق، أو نسي وابتلي من بعد بعشق ثان لشخص آخر؛ فإن نفسه نفس غريقة في عمائها سكرى في جهالتها.

والفرق بين الخاص والعامة، أن العامة إذا رأت مصنوعًا حسنًا أو شخصًا مزينًا تشوقت نفوسهم إلى النظر إليه والقرب منه والتأمل فيه، وأما الخواص فتتشوق نفوسهم إلى الصانع الحكيم والمبدع العليم والمصور الرحيم.

إلى هنا انتهينا مما أردنا تلخيصه من الأخلاق في فلسفة إخوان الصفاء، وهي كما يرى القارئ مزيج من الحكمة والتصوف، والفلك والرياضة.

ولما كانت فلسفة إخوان الصفاء تمثل فترة من تاريخ الفلسفة الإسلامية، وكانت مؤلفاتهم كاملة الشكل لا ينقصها إلا الضبط والتعليق وبعض التفسير، فيا حبذا لو أعيد طبعها في مصر طبعًا جيدًا لتكون حلقة جميلة في سلسلة آثار فلاسفة الإسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤