عندما تنام الشياطين

استطاعت «ريما» بطريقةٍ بارعةٍ أن تحصل على المعلومات اللازمة من السفارة الإيطالية، وعرفت أن السفارة لم تطلب أية صناديق … وهكذا تأكدت أن الصناديق الثلاثة التي وصلت باسم السفارة كانت مُحمَّلةً بأشياء غير مشروعةٍ، وأنها دخلت إلى «مصر» باسم السفارة الإيطالية بأوراقٍ مزورة.

عادت «ريما» مُسرعة إلى مقر الشياطين اﻟ «١٣» تحمل هذه الأنباء، ووجدت «إلهام» وحدَها فروت لها المعلومات التي حصلت عليها، وقالت «إلهام» وهي تنظر في ساعتها: «عثمان» لم يعُد حتى الآن … إنَّ هذا يعني أنه وقع في متاعب غير عادية!

ونظرت «إلهام» في ساعتها ثم قالت: من المفروض أن يعود «أحمد» ساعة الغداء، أو يتَّصِل بنا، فإذا لم يفعل فعلينا أن نتصرف.

ريما: هل ستتصلين برقم «صفر»؟

إلهام: الوقت ضيقٌ … إن «عثمان» في مأزقٍ، فليس من المعقول أن يتغيَّب كل هذه المدة!

ريما: في هذه الحالة من الأفضل الاتصال بمساعد رقم «صفر» في «القاهرة» … إن رمزه الشفري هو «أ. ش. س»، ورقم تليفونه السري عندنا.

إلهام: نعم، هذه أفضل طريقة فعلًا، وفي الثانية بعد الظهر إذا لم يعد «أحمد» أو يتصل فسنعتمِد على أنفسنا، بعد أن نحصل على المعلومات اللازمة من «أ. ش. س».

وقامت «إلهام» و«ريما» بإعداد نفسيهما للمعركة القادمة؛ فلم يعُد هناك بدٌّ منها … ومر الوقت وكل منهما تنظُر إلى ساعتها بين دقيقةٍ وأخرى، حتى إذا أصبحت الساعة الثانية تمامًا أمسكت «إلهام» بالتليفون، واتصلت ﺑ «أ. ش. س»، ثم تحدثت قائلة: من «۳ ش. ك. س»؛ نريد معلومات عن ثلاثة صناديق خشبية ضخمة خرجت أمس من «مطار القاهرة» في الساعة العاشرة ليلًا باسم السفارة الإيطالية … عندنا معلوماتٌ مؤكدةٌ أن السفارة ليست لها علاقة بهذه الصناديق، وأنها خرجت من جمرك المطار بأوراقٍ مُزورةٍ … كانت السيارة التي حملت الصناديق «نقل» من طراز مرسيدس، تحمل أرقام ٩٥٥٩ نقل القاهرة. متى ننتظر الرد؟

جاء صوت الرجل عبر أسلاك التليفون واثقًا وهو يقول: بعد ثلاث ساعاتٍ، على الأكثر، من الآن.

إلهام: شكرًا لك … إن المسألة في غاية الخطورة والأهمية.

الرجل: سنفعل المستحيل.

وضعت «إلهام» سماعة التليفون، ثُم التفتت إلى «ريما» قائلةً: أمامنا ثلاث ساعات من الانتظار حتى تصِلنا المعلومات.

في هذه الأثناء، كان «أحمد» يجلس على كرسي من الخشب في الغرفة تحت الأرض في شارع وسط القاهرة، وأمامه الرجل السمين مُشبِّكًا ذراعيه في هدوء على صدره … كان الموقف فظيعًا حقًّا … فقد وقع هو و«عثمان» مثل فأرَين صغيرَين في يد قطٍّ مفترس.

الشيء الوحيد الذي أحسَّ «أحمد» بالارتياح له، هو أن «عثمان» ما زال حيًّا، وما دام الأمر كذلك، فهناك فرصةٌ لعمل شيءٍ … وفي تلك الأثناء سمع «أحمد» صوت جرس تليفون يدق، ودُهش جدًّا أن يكون هناك تليفون تحت الأرض … ومدَّ الرجل السمين يدَه في دُرج أمامه وأخرج التليفون، وأخذ يتحدث، بينما كان «أحمد» ينصت باهتمامٍ شديد: لا … لا تبديل في الخطة … التجارب كلها ناجحةٌ … العينة وصلت أمس ولم يحدُث شيءٌ … ستبقى مكانها ونسحب منها كمياتٍ معقولة لحين التنفيذ.

ربط «أحمد» على الفور بين العينة التي وصلت أمس، وبين الصناديق التي خرجت من المطار، وبين الورقة التي عثر عليها «عثمان» في يد الرجل الميت … كان في الورقة «العينة ممتازة»، وعرف أن العينة هذه هي مدار عمل العصابة … فما هي العينة؟

الاحتمال الأكبر أنها مخدرات، وهو الآن أمام عصابة تهريب مخدرات … ولكن السؤال الهام: ما دخل المخدرات بكل هذه الاستعدادات تحت الأرض؟! — الأزرار، والعدادات، وآلات الشفط والضغط، والخراطيم — إن هذا كله لا علاقة له بتهريب المخدرات، إلا إن كانت هناك «تكنولوجيا» للتهريب لا يعرفها!

استمر الرجل يتحدَّث في التليفون لحظاتٍ أخرى ثم وضع السماعة، وتوقع «أحمد» أن يستأنف استجوابه، ولكن بدلًا من ذلك نظر إلى ساعته ثم قال بكلماتٍ حاسمة: إن الوقت ضيقٌ، والإجازة تقترب، وليس عندنا وقت نُضيعه مع هذا الولد … أرسله إلى المقابر.

أدرك «أحمد» من كلمة المقابر أنه ذاهبٌ إلى الموت … وسرعان ما انقضَّ عليه رَجُلان قيَّدا يديه خلفه، ثم كمَّما فمه وغطَّيا عينيه، ثم اقتاداه في دهاليز أحسَّ برطوبتها وهو سائرٌ، حتى وصلوا إلى غرفةٍ دفعوه فيها ثم أغلقا الباب.

سقط «أحمد» على جانبه، وأحس برطوبة الأرض التي طرح عليها، وشعر بالغضب يجتاحه كأنه تيار كهربائي، فلم يكن يتصوَّر أن يأتي يوم يَلقى فيه هذا المصير المؤلم، فيُلقى بهذا الشكل على الأرض كأنه جثة لا حياة فيها.

ولكن شعور الغضب تلاشى بعد قليل، ليحل محلَّه تفكير مُتزن فيما ينبغي عمله … فإن أول ما يجب أن يحرص عليه المغامر هو هدوء الأعصاب، وكان تفكيره ينصبُّ كله على كيفية التخلص من قيوده. ولِحُسن الحظ أنهم لم يفتِّشوه … فقد كانت هناك محفظةٌ صغيرةٌ من البلاستيك القوي معلقة على فخذه من الداخل، بها مجموعة من الأدوات الدقيقة التي تفتح أي قفلٍ … فلو استطاع أن يصِل إليها بأصبعه، لأمكنه أن يَفكَّ وثاقه وأن يفتح الباب ثم يحاول الخروج من هذا المأزق الخطير … ولكن المشكلة أن الرجلَين قيَّدا يديه خلف ظهره، وكان من المستحيل أن تصل أصابعه إلى المحفظة الصغيرة التي يضع فيها أدواته على فخذه. ومع ذلك أخذ يحاول، ويحاول، حتى أحسَّ بالتعب يحل بجسمه، واستسلم للنوم.

في نفس الوقت كان «عثمان» محبوسًا في قبو صغير تحت الأرض في مقابر «الغفير» دون طعام أو ماء، وفي لحظاتٍ كثيرة خُيِّل إليه أنه سيموت من فرط الجوع والإرهاق … وأخيرًا دخل عليه أحد الأشخاص ومعه كمية من الجبن والحلاوة والعيش، انقض «عثمان» على الطعام وكأنه لم يتناول طعامًا مدى حياته، وبعد أن تناول الطعام وشرِب الماء استسلم للنوم على الفور ….

بينما كان «أحمد» مُستسلمًا للنوم في غرفة تحت الأرض في شارع وسط «القاهرة»، كان «عثمان» ينام هو الآخر في غرفةٍ بالمقابر … ولكن كانت هناك «ريما» و«إلهام» اللَّتان لم تعرفا طعم النوم … ففي الساعة الخامسة مساء اتصل بهما رقم «أ. ش. س» تليفونيًّا، ردَّت «إلهام» فقال لها: الصناديق الثلاثة خرجت من المطار إلى طريق «صلاح سالم»، ثم اختفت في منطقة مقابر «الغفير». وقد قام رجالنا باستطلاع المكان، ووجدوا أن السيارة أفرغت حمولتها في حوش المرحوم «سيد سنقر بك» من أعيان الصعيد سابقًا.

إلهام: شكرا لك … إن هذه المعلومات على أكبر قدرٍ من الأهمية.

ردَّ الرجل: إننا رهن إشارتكم.

أغلقت «إلهام» التليفون وقالت: «ريما» … إن فرصتنا الوحيدة للكشف عن غموض هذه العصابة العجيبة التي لا نعرف لها هدفًا هو هذه الصناديق الثلاثة، وبالطبع سوف نعرف مصير «عثمان» أيضَا.

ريما: متى نذهب؟

إلهام: بعد هبوط الظلام؛ فوجود فتاتين تتجولان في المقابر ليس مسألةً عاديةً، ويجب أن نلبس ملابس سوداء حتى لا يَرانا أحد.

قامت «إلهام» و«ريما» بدخول غرفة التنكُّر في المقر السري، اختارتا ثيابًا مكونة من قميصٍ وبنطلون أسود اللون، وأعدَّتا مجموعة من الأسلحة الصغيرة الخفيفة في جيوب البنطلون، وبعض المتفجرات الخفيفة … عندما هبط الظلام تمامًا، أسرعتا بالخروج.

واختارت «إلهام» سيارة سوداء من طراز «بورش» من جراج المقر، ثم انطلقتا إلى طريق «صلاح سالم» فوصلتاه بعد نصف ساعة، وبعد عدة أسئلة مع بعض المارة أصبحتا أمام مقابر «الغفير» … وتحت عمود النور وجدتا شحاذًا عجوزًا يمدُّ يده في صمت، فاقتربت منه «إلهام» بالسيارة ووضعت في يده ورقةً من فئة اﻟ ٢٥ قرشًا، ما كاد الرجل يلمسها حتى فتح عينيه، وقالت «إلهام» تسأله: هل أنت من هذه المنطقة؟

ردَّ الرجل: نعم … أنا هنا منذ سبعين عامًا.

إلهام: هل تعرف المقابر والأحواش في «الغفير»؟

الرجل: أعرفها قبرًا قبرًا، وميتًا ميتًا.

إلهام: لك مبلغٌ آخر إذا استطعت أن تَدُلَّني على مقبرة «سنقر».

الرجل: إنني أعرف عائلة «سنقر» كلها … مَن تريدين»؟

إلهام: مقبرة «سيد بك سنقر».

الرجل: إنها على مسيرة ٥ دقائق من هنا.

إلهام: سأركن السيارة وأعود لك.

اختارت «إلهام» أن تخرج على الطريق، وتدخل في منطقة الرمال والصخور المحيطة بالقبور، ثم وقفت بجوار مقبرةٍ ضخمةٍ وأطفأت الأنوار، ونزلت هي و«ريما»، وسرعان ما كان الرجل العجوز يقودهما عبر المقابر الساكنة حتى وصل إلى جدارٍ من الحجر به باب مغلقٌ، وأشار لهما وقال: هذه هي مقبرة «السيد سنقر بك».

شكرته «إلهام» وأعطته ما وعَدَتْه به من نقود، وانتظرت حتى عاد الرجل أدراجه إلى الشارع، ثم اقتربت من الباب في هدوء، ووضعت أُذنها على فتحة المفتاح، بينما وقفت «ريما» بعيدًا عنها ببضعة أمتار، وقد أمسكت مُسدسًا ضخمًا، وأخذت ترقب المكان.

مضت لحظات دون أن تسمع «إلهام» شيئًا، فأخرجت كيسًا صغيرًا من البلاستيك، أخذت منه بعض الأدوات الرفيعة، وسرعان ما كانت تفتح الباب، ثم أخذت تدفعه تدريجيًّا فانطلق منه صريرٌ عالٍ، فابتعدت جانبًا … مضت لحظات ثم ظهر رجلٌ بيده بطارية أخذ يُطلقها يمينًا ويسارًا، وفي لحظة كانت «إلهام» قد طارت في الهواء، وهبطت على الرجل بضربةٍ مُوجعةٍ، سقط على إثرها على الأرض دون أن ينطق بحرف … بينما أسرعت «ريما» إلى الباب واجتازته وهي ترفع مُسدسها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤