الهدف … خمسون مليونًا

اجتازت «إلهام» باب المقبرة الكبيرٍ، وكم كانت دهشتها عندما وجدت أن الباب ليس إلا بداية شارعٍ كبيرٍ لا يمكن توقُّعه … ولكن بدلًا من أن يكون هذا الشارع على سطح الأرض ككل الشوارع، كان يغوص في الأرض، أشبه ما يكون بنفقٍ تحت القبور، وعلى الجانبين كانت هناك أبوابٌ مغلقةٌ لا أحد يدري ما خلفَها، ثم رأت إلى اليسار بابًا مفتوحًا يؤدِّي إلى هيكل مقبرة … وعلى ضوء البطارية كان الشاهد الرخامي مكتوبًا عليه «سيد سنقر»، وعرفت على الفور أن اسم المرحوم يُستخدم كستارٍ للأعمال المُريبة التي تمارسها العصابة؛ الأعمال التي لا يعرفون عنها حتى هذه اللحظة أي شيء.

لحقت «ريما» ﺑ «إلهام» بعد لحظاتٍ، وكان الاتفاق بينهما أن تَمشِيا بنظامٍ مُعين … «إلهام» تسبق و«ريما» من بعيدٍ حتى لا تقعا في كمينٍ واحدٍ.

بعد لحظات توقفت «إلهام» عند مشهدٍ من أغرب ما رأت، فعند أحد المُنحنيات أطلَّت برأسها لترى عشرة موائد كبيرة قد صُنعت بطريقةٍ معينة، وقد تكوَّم عليها مئات من رزم الورق الأبيض، وفي الوسط تمامًا كانت هناك ماكينةٌ متوقفة عن العمل، ورجلان يقِفان أمام مجموعةٍ من البراميل الصغيرة التي لوَّثتها الأحبار الحمراء والخضراء والزرقاء.

كان أحد الرجلين يتحدَّث إلى الآخر قائلًا: لقد تعطَّلنا ساعتين … الوقت ضيقٌ ولم يأتِ المهندس الذي سيتولى إصلاح الآلة.

الآخر: لقد اتصلتُ الآن بالزعيم … وسوف يصل المهندس بعد لحظات.

الأول: تعالَ نشرب شيئًا لحين وصوله.

واختفى الرجلان خلف أحد الأبواب، وأشارت «إلهام» إلى «ريما» وتقدمتا مُسرعتَين إلى الآلة، وفحصتها «إلهام» بسرعةٍ ثم قالت هامسة: آلة طباعة؟!

ريما: تزييف!

وانتقلت الفتاتان إلى ما بعد الآلة، وكان أمامهما مشهد لا يُنسى … كميات لا حصر لها من أوراق البنكنوت المصري من مُختلِف الفئات؛ أوراق من فئة العشرة جنيهات، والخمسة جنيهات … أكوام من أوراق النقد لا تقلُّ عن بضعة ملايين … جديدةٌ لامعة … وتذكَّرت «إلهام» على الفور الورقة الصغيرة التي عثر عليها «عثمان» في يد الميت، تذكرت رقم الخمسين مليونًا، إذن فالخمسون مليونًا هي خمسون مليون جنيهٍ، ويا له من رقم!

سمِعَتا حركةً مفاجئة، فانحنتا بجوار الماكينة، ومرَّ شخصٌ يحمل بعض الطعام على صينية وكوبًا من الماء. ومن التجارب التي مرَّت بها الفتاتان عرفتا على الفور أن هذا الطعام ذاهبٌ إلى سجين، وعرفت «إلهام» أنه لا بدَّ أن يكون «أحمد» أو «عثمان».

ومشت «إلهام» خلف الرجل في خفة القط، وخلفها «ريما» بالمسدس في يدها، وسرعان ما وقف الرجل أمام بابٍ مغلقٍ، ومدَّ يده بمفتاح الباب، ثم دخل … وفي ثلاث قفزاتٍ سريعةٍ كانت «إلهام» خلفه، دخلت ورأت على ضوء لمبةٍ خفيف «عثمان» وهو مُلقًى على الأرض، والرجل مُنحنٍ ليضع له الطعام، فانقضت «إلهام» كالصاعقة، وبضربةٍ مُحكمة ارتمى الرجل على الأرض، ودون كلمة واحدة أخذت «إلهام» تفكُّ قيود «عثمان». وابتسم الشيطان الأسمر في الظلام، ومدَّ يده فتناول كوب الماء فتجرعه، ثم قال: أين «أحمد»؟

إلهام: ألم تره؟

عثمان: لا.

إلهام: لقد خرج في الصباح ولم يعد …

عثمان: من معك؟

إلهام: ريما … إنها تقف عند الباب للمراقبة.

قام «عثمان» وخرج مع «إلهام» وهو يتمطَّى، كان قد نام طويلًا، وأحسَّ بأنه يستطيع أن يضرب عشرة رجالٍ … وأشارت له «إلهام» فتبعها حتى وصلا إلى تلِّ النقود وعندما رآها «عثمان» كاد يطلق صيحة دهشةٍ وقال: الخمسون مليونًا!

إلهام: «بالضبط … إنها أكبر عملية تزييف في التاريخ … ولكن كيف كانوا سيصرفون هذا المبلغ؟

عثمان: لا أدري … ولكن سنعرف كل شيءٍ بعد قليلٍ.

وسمعا صوت أقدامٍ مقبلةٍ، واختفيا خلف الماكينة من ناحية، و«ريما» من الناحية الثانية. وكم كانت دهشة الثلاثة عندما ظهر «أحمد» يمشي مُقيَّد اليدَين ومُكمَّم الفم ومعصوب العينين، وخلفه رجلان.

اقترب الثلاثة من الماكينة وقال أحدهم للآخر: اذهب به إلى غرفة مجاورة لزميله، سوف يتم القضاء عليهما بالدفن تحت الأرض بعد أن ننتهيَ من الكمية كلها، ولم يبقَ إلَّا ثلاث ساعات من العمل تقريبا.

أحسَّ «عثمان» بالأسف أن كرته الجهنمية ليست معه، كان من المُمكن أن يصطاد الآن أحد الرَّجُلين ببساطةٍ … وكأنما كانت «إلهام» تقرأ أفكاره، فقد مدَّت إليه يدها بالكرة التي كانت تحمِلها مُعلقةً في حزامها.

أمسك «عثمان» بالكرة وهزَّها في يده ثم أرسلها كالرصاصة، فمضت حتى ارتطمت برأس الرجل الأول، فسقط على الأرض دون أن ينطق بآهةٍ واحدةٍ، وبدا الذهول على وجه الرجل الثاني وأخذ ينظر حوله، وقبل أن يُدرك ما حدث كان «عثمان» قد لفَّ حول الماكينة وانقض عليه كالصاروخ ورفعه بين يدَيه ثُم ضربه في الماكينة، فسقط متهدلًا كأنه قطعةٌ قديمة من القماش.

في نفس الوقت كانت «إلهام» قد أسرعت إلى «أحمد» وفكَّت وثاقه، ولم يكد «أحمد» يفتح عينيه، وينظر حوله حتى بدت الدهشة على وجهه: وقال «عثمان» مُشيرًا إلى تلال النقود: أكبر عملية تزييف في التاريخ.

خبط «أحمد» رأسه بيدَيه، وقال: الآن فهمت.

ولكن قبل أن يُكمل جُملته ظهر رجلٌ من باب جانبي، ونظر إلى الأربعة ثم صاح بأعلى صوته: النجدة …

على الفور ظهرت بضع رءوس من الأبواب الجانبية، وانطلق مسدس «ريما» بنظامٍ مُحكم … ولكن عدد الرجال تزايد، وانكمش الشياطين الأربعة خلف أحد الأبواب، ثم أخرجت «إلهام» أصبعًا صغيرًا من الديناميت ألقته في وسط الرجال، فانفجر مُحدثًا دويًّا خفيفًا، وسقط رجلان، ولجأ الآخرون إلى الأبواب يختبئون خلفها. وأشار «أحمد» للشياطين بالإسراع في الخروج وقال ﻟ «إلهام»: هل معكِ متفجرات أخرى؟

أمسك «أحمد» بمجموعة من أصابع الديناميت ثم ألقاها دفعةً واحدة وهم يتراجعون، وارتفع الدخان في المقبرة الكبيرة، وانهارت الأسقُف وارتفعت ألسنة الدخان والتراب، ثم أغلق «أحمد» الباب الرئيسي للدهليز، وقال: هيَّا بنا … إن زعيم العصابة وبقية الرجال خلف شارع «الشريفين».

عثمان: أليس هذا الشارع قرب «البنك الأهلي»؟

أحمد: نعم، «البنك الأهلي» و«البنك المركزي»، لقد فهمت الآن كل شيءٍ.

خرج الأربعة إلى الهواء الطلق، وقفزوا إلى السيارة «البورش» التي انطلقت بهم في الظلام يقودها «أحمد». ولم تمضِ نصف ساعة حتى كانوا قد دخلوا الشارع الضيق، وركن «أحمد» السيارة ووقف للحظاتٍ، ثم قال: سأقوم أنا و«عثمان» بالدخول أولًا … سنعتمِد على عنصر المفاجأة، هل معكما أسلحة؟

إلهام: نعم. معنا مجموعة من مختلف الأسلحة الصغيرة.

أحمد: ادخلي بعدَنا بخمس دقائق … عليك يا «ريما» باستخدام الديناميت في نَسف المكان إذا لم نخرج بعد ربع ساعة.

نزل «أحمد» و«عثمان». بواسطة أداةٍ صغيرةٍ، فتح «أحمد» بها باب متجر التُّحف الذي دخله هذا الصباح، ثم دخل بهدوءٍ … كان يعرف طريقه، وكان يحمل مدفعًا رشاشًا صغيرًا … وعندما التقى بأول رجلٍ من العصابة، كانت الدهشة كافية؛ لتجعل الرجل يقف فاتحًا فمه كأنه يرى الشيطان؛ فمنذ ساعةٍ واحدةٍ كان هذا الشاب الذي يحمل المدفع قد خرج معصوب العينين واليدين، وها هو يعود.

واكتفى «عثمان» بأن وضع شريطًا لاصقًا على فم الرجل وقيَّده وألقاه جانبًا … ثم اقتحم «أحمد» الغرفة الكبيرة التي تُشبه الغوَّاصة، وكان بها ثلاثة رجال، الزعيم ورجلان معه.

وقال «أحمد»: أرجو ألَّا يحاول أحد منكم أن يتصرف بغباءٍ، سأطلق النار فورًا.

قال الرجل السمين: إن في إمكاني أن أقول لك شيئًا.

أحمد: لن تقول أي شيءٍ … لقد فهمتُ ماذا تريدون، ولم تعُد عصابتكم هذه المرة تقوم بعمل بلا أدلةٍ؛ لقد حصلنا على الأدلة … كانت خُطَّتكم سرقة أموال الدولة من خزائنها، ووضع نقودٍ مُزيفةٍ مكانها، خمسين مليونًا من الجنيهات … وكان هذا يكفي لانهيار الاقتصاد الوطني أليس كذلك؟

لم يستطع واحد من الثلاثة الرد، ومضى «أحمد» يقول: كنتم ستقومون باستبدال النقود الليلة؛ فغدًا إجازة العيد ومُدتها يومان.

وسكت «أحمد» ليلتقط أنفاسه، ثم قال: «عثمان» … اطلب «أ. ش. س» بالتليفون، وقُل له أن يرسل قوةً من رجال الشرطة للقبض على هؤلاء.

أسرع «عثمان» يتَّصِل بعميل رقم «صفر» وأمسكت «إلهام» بالمدفع الرشاش، بينما قام «أحمد» بشد وثاق الرجال الثلاثة.

بعد أقل من ربع ساعة كان الشياطين الأربعة ينسحبون في جانبٍ من شارع «الشريفين» الضيق، ويراقبون قوات الشرطة وهي تجتاح الغرفة السرية تحت الأرض حيث كانت العصابة تحفر نفقًا تحت البنك المركزي للوصول إلى خزائنه.

•••

بعد ساعةٍ من هذه الأحداث كان رقم «صفر» يتلقَّى التقرير التالي:

من «ش. ك. س» إلى رقم «صفر»

«اتضح أن الهدف ليس «لا شيء»، ولكن الهدف ضرب الاقتصاد المصري … تَمَّ القبض على العصابة وعلى الخمسين مليونًا من الجنيهات المُزيفة … سنُرسل تقريرًا أطول غدًا؛ فإننا في أشدِّ الحاجة إلى الراحة.»

«ش. ك. س»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤