الفصل السادس

الضمير أو الوجدان

يرى الافتطاريُّون أن مِن قوى العقل قوة أدبية خاصة تُميز الحق من الباطل لأول وهلة، تلك هي الضمير. هذا الضمير أو الوجدان هو — في نظرهم — مبدأُ الأخلاق الأعلى.

فالضميرُ إذن هو القوةُ العقلية التي تشعر وتدرك بالبداهة صفة الثبات من المبدأ الأخلاقي، أو هو قوة الافتطارية للحكم الأدبي الذي نُصدره على أفعالنا.

فإذا عرض علينا منهجان من السلوك في آنٍ واحدٍ فإنا نشعر على الفور بأن أحدهما أرقى من الثاني أدبيًّا أو أحق منه أو أنه أكثر انطباقًا على القانون الأدبي من الثاني.

هذا الشعور هو المقصود بقولنا «الضمير أو الوجدان»، وقد يسمى الضمير أو الوجدان بالحاسة الأدبية لاقتداره على التمييز بين القِيَم الأدبية لأفعالٍ مختلفة.

وقد رأينا مما سبق أن الضمير يكشف عما في أنفُسنا من مبادئ القانون الأدبي فلا يُمكن والحالة هذه أن يخطئ ولا يمرن ولا يربى ولا يمكن أن يُعَدَّ مسئولًا عن أحكامنا الأدبية أو شعورنا؛ لأنه ليس إلا كشافًا، وظيفته الإبانة فإذا أخطأنا في الحكم فما يكون الخطأ من الضمير ولكن من سوء ما فسرنا به المبادئ التي يبين عنها الضمير ومن خطأ في تطبيقها.

فيرى الافتطاريون أن الضمير إذن:
  • (١)

    افتطاري؛ أي يحكم مباشرة كما تحكم حاسة البصر والسمع وغيرهما؛ ولذلك فهو لا يحتاج إلى تهذيب بما أَنَّ الحق والباطل معروفان بالغريزة.

  • (٢)

    لا يمكن تحليله إلى أصول أولية.

  • (٣)

    عام؛ أي أنه موجود في الناس كافة. وأنه خلقي كسائر قوانا العقلية.

ولكن هذا الضمير في نظر الأنانيين والنفعيين هو الشعورُ بالألم الذي يسببه سوء السلوك؛ أي شعور الإنسان أنه بما أساء جديرٌ باللوم أو العقاب لو تكشف الأمر للناس، وبما أننا نحاول تحصيل اللذة واجتناب الألم فالضمير إنما يتخير اللاذَّ ويتجنب المؤلم، وأنه ليس إلا شعورًا بما يهم الذات.

فضميرنا على هذا هو صدى الرأي العام في نفوسنا أو صورة منبعثة منه عليها.

أهل هذا الرأي يرون أن الناس تحكم علينا قبل أن نحكم نحن على أنفسنا على أَنَّ الأمر على النقيض من ذلك؛ لأننا نمدح أو نذم أنفسنا بصرف النظر عن مدح الناس أو ذمهم إيانا، وإننا بشعورنا بصوابنا أو خطأنا نعبر عما يحكم الناس به على أعمالنا.

وعلى هذا الرأي أيضًا ينبغي أن نشعر بالأسف والوخز لأي خطأ في سلوكنا ولو كان تافهًا لا للخطأ الأدبي وحده نظرًا إلى أَنَّ ضمائرنا قد تتهمنا بالجرم والناس ترضى عنه أو ترتاح لعمل والناس تأباه.

فالضميرُ على هذا الاعتبار هو دستور أحكامنا الأدبية الثابت، فمبدأه ومنتهاه في ذات الفرد وحده ولكنه يستمد سلطته من تلك المفتطرات الأدبية أو المبادئ التي يكشف لنا عنها.

على أن بعض الناس لا يرى الضمير فطريًّا كالسمع والبصر، بل يعتقد أنه نتيجة الوراثة والتربية معًا.

إنا نتقبَّض بالفطرة من كل ما هو مؤلم أو غير لاذٍّ كاستهجان الناس، ومن العقاب، ولا شك أن هذا التقبُّض من الألم موروثٌ عن آبائنا، وإننا نتعلم على التدرج إسناد الألم إلى كثيرٍ من الأفعال التي نحذر منها، فتكتسب نفوسنا بذلك كراهيةَ هذه الأفعال وخشيتها؛ لأن نتائجها الألم والشقوة، وقال الأستاذ «بين» Bain: «إن كل ما يقوم بنفوسنا أو نفهمه من قولنا «سلطة الضمير» أو «الشعور بالإلزام» أو «الإحساس بالحق» والتبكيت، ليس إلا صيغًا من التعبير عن هذه الكراهية المكتسبة» فالضمير إذن مركب من جزأين:
  • (١)

    شعور باللذة أو الألم مسبب عن الفعل ذاته.

  • (٢)

    قرار أو حكم على الصفة الأدبية التي للفعل.

من هنا تتضح ضرورة دفع أخطاء الأطفال في حينها.

وهناك عواملُ أخرى تعمل على تنمية الضمير في الأدوار التي تلي الطفولة الأولى، غير الخشية من النتائج المؤلمة؛ كالرغبة في إحداث مسرة لمن نحب أو لمن نعنَى بأمرهم والرغبة في سعادة الغير واستقامة حاله، والعطف وغير ذلك؛ كل هذا يعمل عمله في تنمية الضمير.

ما ضمير الإنسان إلا مطابقة أعماله لدستور الحق الذي أقامه هو بنفسه لنفسه أو عدم مطابقته، فإذا كان هذا الدستور ناقصًا كان الضمير ناقصًا، وفي هذا دلالةٌ وبيانٌ لخطورة أمر المنزل والمدرسة في تربية أخلاق الطفل وآدابه على دستور أخلاقي صحيح تغرسُهُ في نفس الطفل يدُ الأسوة الحسنة، كما يوحى إليهم بالإشعار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤