أسطورة الدم وانحطاط السلالات المختلطة

لقد كان اختلاط دماء المجموعات والسلالات مادةَ نقاش لا نهاية له، وتتجدد الآراء في هذا الموضوع تبعًا لوجهات النظر فيما يختص بالسلالة واختلاف السلالات. لهذا نرى مناهضي اختلاط السلالات يبدءون بافتراض عدم تساوي البشرية، حين يبدأ مؤيدو الاختلاط بالاعتقاد بأن الاختلافات بين المجموعات البشرية ليست بالدرجة التي تُصبح معها عائقًا للاختلاط. ومن ثم فإن أول ما نحتاج إليه لدراسة المشكلات المترتبة على اختلاط السلالات هو، بلا شك، تعريف واضح لمدلول كلمة السلالة، واختيار المقاييس التي يُمكن بواسطتها تقرير ما إذا كانت هناك سلالات نقية أم لا.

وبناء على أكثر التعريفات ميوعة، فإن كلمة السلالة تعني: وجود مجموعات تشترك في مميزات جسدية معيَّنة متشابهة، وهذه الصفات الجسدية تَتَّسم بصفة الدوام والاستمرار بناء على قوانين الوراثة البيولوجية، مع تَرْك هامش أو فرصة للتغيرات الفردية.

وسكان أوربا متعددو الأصول لدرجة أن أي محاولة لتصنيفهم على أساس صفتين جسديتين فقط (مثل: لون العين والشعر) ستنتهي باستثناء ثلثي السكان في أي إقليم من أقاليم أوربا يقع عليه الاختيار لدراسته، أي: أننا سنجد اشتراك هاتين الصفتين في ثلث السكان فقط. وبإضافة صفة جسدية ثالثة مثل (تكوين الجمجمة) إلى الصفتين السابقتين يتبقى لنا مجموعةٌ أصغرُ من السكان يظهر فيها الترابط المطلوب بين الصفات الجسدية الثلاثة. وإذا أضفنا إلى هذه الصفات طول القامة، والنسبة الأُفُقية فإن عدد السكان الذين تظهر فيهم هذه الصفات كلها سيتضاءل إلى حد كبير.

وعلى هذا الأساس يمكن القول إنه لا توجد سُلالات بشرية نقية، وكل ما يمكن أن نقوله: إن في الإمكان تحديد جنس نقي إذا كان المعيار الذي نقيس به هو الاشتراك في صفة جسدية واحدة، ولكنا لن نستطيع تحديد جنس نقي إذا كنا نريد اشتراكًا وتشابهًا في كل، أو غالبية، الصفات الجسدية الموروثة. وعلى الرغم من هذه الحقيقة فإن هناك اعتقادًا سائدًا بأنه كانت هناك أجناسٌ نقية في وقت ما في الماضي البعيد، وأن اختلاط الأجناس لم يحدث إلا في عهد حديث نسبيًّا، وأن هذا الاختلاط يهدد الإنسانية بالتقهقر والتدهور. هذا الاعتقاد لا يستند إلى أقل دليل علمي، فالاختلاطُ بين الأجناس عمليةٌ مستمرة منذ بداية الحياة البشرية على سطح الكرة الأرضية، ومن الواضح أن هذه العملية قد تضاعفت وزادت في القرنين الماضيين نتيجة تحسُّن وسائل المواصلات وزيادة السكان فالهجرة قديمة قدم السلالة البشرية، والهجرة تعني: اختلاط الجماعات تلقائيًا، ومن المحتمل أن تكون سلالة الكرومانيون Cro-Magnon التي عاشت في العصر الحجري القديم الأعلى قد اختلطت بإنسان «نياندرتال Neandertal»، ويدل على ذلك اكتشاف بقايا عظمية تتسم بصفات وسط بين صفات الكرومانيون والنياندرتال.

وأكثر من هذا، فإن وجود السلالات المغولية والزنجية في أوربا في عصر ما قبل التاريخ يُعد دليلًا آخر على أن اختلاط السلالات ليس ظاهرة حديثة، وأن أقدم سكان أوربا ليسوا إلا نتاجًا لعملية الاختلاط بين السلالات التي استمرت آلاف السنين، ومع ذلك فسكان أوربا لا يتسمون بعدم الانسجام، أو التدهور الذي يعتقد كثير من الكُتَّاب أنه ينجم عن اختلاط السلالات.

ويُشير التاريخ إلى أن جميع الأقاليم التي نشأت فيها حضاراتٌ عالية كانت موضع عملية غزو من جماعاتٍ من البدو الرُّحل للسكان الأصليين، تنتهي بانهيار التقسيم الطبقي، وتكوين خليط جديد من السكان، وهؤلاء، وإن اعتبرهم البعض أُممًا متجانسة جنسيًا، ليسوا في الواقع سوى قوميات جديدة تضم سلالات مختلفة.

أما أولئك الذين يعتقدون أن الاختلاط خطر يتهدد مستقبل البشرية أمثال: جون ميون١ فيؤكدون أن الاختلاط مصدر التدهور الجسمي، وأن الحصانة الطبيعية ضد بعض الأمراض تَقِلُّ نتيجة له. ويدَّعون أن الساقطات والمتشردين أكثر وجودًا بين العناصر الخليطة منها بين السلالات النقية. كذلك يدَّعون أن مرض السل يزداد انتشارًا بين الأجناس المختلطة، مع نقص في نشاط القوى العقلية وزيادة في الميل نحو الإجرام. وهذه البيانات ليست ذات قيمة؛ لأن الكاتب لم يحدد أنواع الأفراد الذين أُجريت عليهم الدراسة، ولم يحدد الصفات العامة لهذه السلالات التي حدث بينها الاختلاط. وكان يجب عليه أيضًا أن يُثبت أن الأُسر المعنية التي نتج عن اختلاطها الأفراد الذين كانوا موضوع الدراسة، كانت صحيحة من الناحيتين الجسدية والعقلية، وخالية من علامات التدهور والعجز، كذلك يتغاضى جون ميون عن أثر البيئة الاجتماعية في سلوك الأفراد.
أما ديڨنبورت٢ فيوضح وجود ظاهرات غير مُتجانسة في العناصر الخليطة، مثل وجود أجهزة هضمية صغيرة نسبيًّا في أجسام ضخمة، وأسنان قوية في فك ضعيف، وأفخاذ كبيرة بالنسبة لتناسق الجسد … إلخ. وليس من شك في وجود أفراد يتميزون بمثل هذه الظاهرات، ولكن لم يتضح أن سببها يرجع إلى الاختلاط. وقد وُجدت حالات مماثلة بين أفراد عائلات قديمة، كما أنه يمكن القول بوجه عام أن الاختلاط بين السود والبيض قد أنتج أفرادًا متناسقي الأجسام.
وقد أكد همفري S. K. Humphery وجرانت M. Grant وشتودارد L. Stoddard وغيرهم أن سكان أمريكا الشمالية سوف يفقدون صفاتهم المتجانسة الحالية نتيجة الاختلاط بعناصر غريبة، وقد ذهب بعض الكُتَّاب إلى أبعد من هذا ليؤكدوا أن عدم التجانس سيؤدي إلى سلسلة من الشرور الاجتماعية والنزعات السيئة.
ويُقَدم لندبورج٣ سلسلة من الأدلة يدحض بها هذه المزاعم ويفندها، ويؤكد أن الاختلاط بين الجماعات أكثر حدوثًا بين الطبقات الاجتماعية الفقيرة منه بين الطبقات المتوسطة والثرية. ومن ثم فإن المظاهر التي لاحظها كل من دڨنبورت وميون لا تعود في أصل مسبباتها إلى ارتباط الاختلاط بالتدهور وقلة القدرة والحيلة، إنما ترجع إلى الحقيقة الواقعة، وهي أن الاختلاط يحدث بين أفراد من أشد الطبقات الاجتماعية فقرأ. ومثل هذه المظاهر تحدث أيضًا نتيجة الزواج داخل الأسرة، كما تحدث في حالة ممارسة نظام الاغتراب في الزواج، ولذا لم يكن هناك أي أثر لاختلاط السلالات في مشكلة التدهور، وفي الحقيقة أن الملاحَظ أن التدهور يحدث بين أفراد الأسر التي تتزاوج فيما بينها، وإن نسبة التدهور تزداد في هذه الحالات عما لاحظه ميون ودڨنبورت في حالات الاختلاط بين الجماعات.

والثابت أَنَّ كُلًّا من نظامي الإضواء (التزاوج الداخلي)، والاغتراب في الزواج يُستخدم حسب الحاجة في حالات تحسين النسل بين الحيوانات، فإذا كانت هناك سلالة من الحيوان تتميز بصفة مرغوبة من جانب صاحب المزرعة فإن التزاوج الداخلي بين أفراد هذه السلالة يستمر أجيالًا عدة دون خَلْطِهِ بدماء غريبة، ودون أن يظهر على هذه الأجيال أي مظهر من مظاهر التدهور. ونظام الإضواء يكشف للباحث كل الإمكانيات الوراثية لأية مجموعة، ذلك أنه يُظهر باستمرار كل الصفات الوراثية الكامنة، التي تظل كامنة إذا كانت ممثَّلة في واحد من الأبوين (أي: إذا كان الأب والأم من سلالتين مختلفتين). أما في الحالات التي تكون الرغبة فيها متجهة إلى التخلص من بعض الصفات فإن الخطوة الضرورية المنطقية هي اتباع نظام الاغتراب لإتاحة الفرصة لتقديم عاملٍ وراثيٍّ جديد قوي يُضعف الصفة الكامنة غير المرغوب فيها.

وهكذا، فإن النتيجة المباشرة للاختلاط والتهجين هي وقف عيوب كامنة وراثية في السلالة أو الجنس. وبعبارة أخرى: فإن التزاوج داخل السلالة يُظهر العيوب والشذوذ الكامن الوراثي، في حين أن الاغتراب (الاختلاط) يقضي عليها، أو يقلل من شأنها.

ومثل هذه الأدلة يمكن تطبيقها على حالات المواهب الوراثية المفيدة، والميزات والكفاءات، ومن ثم فليس في الاستطاعة أن نُؤكد في عبارات عامة أن آثار الاغتراب، أو التزاوج الداخلي في السلالة آثارٌ مرغوبة أو مكروهة، فإن طبيعة النتائج تتوقف في كل حالة على الميزات الوراثية للأفراد.

ويرى مؤيدو نظرية الاختلاط بين السلالات أن نظام التزاوج الداخلي يؤدي إلى تدهور الجنس، وأن العناصر المولدة، أو الخليطة، أقوى وأنشط نتيجة دخول «دماء جديدة» تزيد من حيوية المجموعة … إلخ. وهذا أيضًا تعميمٌ خاطئ يمكن رفضه بنفس الحجج التي رفضْنا بها الآراءَ السابقة.

ويرى المؤلف أن هناك وجوهًا للمشكلة لم يتناولها مؤيدو أو معارضو نظرية التهجين بالبحث وهي:
  • (أ)

    نتائج الاختلاط بين جماعات ثبت قطعًا أنها فوق المتوسط وبين جماعات أدنى من المتوسط.

  • (ب)

    الشكل الذي تأخذه العوائق البيئية، والتي يجب على العناصر المولدة الخليطةِ الدماءِ مجابهتُها عادة.

فإذا كانت العناصر الخليطة في أي بلد من البلاد تُعامل على أنها تكوِّن مواطنين من الدرجة الثانية (سواء من النواحي الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية) فهناك احتمال كبير أَلَّا يتماثل ما يُسهمون به في البناء الحضاري للدولة مع قدراتهم الكامنة، ومن الواضح أنه يجب ألا تقوم دراسة آثار اختلاط الدماء على أساس المستوى الذي يصل إليه المولدون إذا كانوا يعيشون في ظل نظام طبقي متشدِّد لا يوجد فيه أدنى احتمال لأن يرتقي فيه الفرد عن المستوى الاجتماعي المنخفض الذي وُجِدَ فيه أبوه. ومن الناحية الأُخرى فإن نشاط المولدين في مجتمع يقوم أساسُ تقسيمه الاجتماعي على الجدارة الفردية؛ دليل قاطع على صفاتهم ومزاياهم.

وإنه من الصعب في الحقيقة أن نُميز بين آثار الاختلاط، والتهجين بين السلالات، على هذه الصورة، وبين الاختلاط والتهجين الذي يحدث بين الطبقات المنحطة اجتماعيًّا في الشعوب بغَضِّ النظر عن أصولهم الجنسية. وقد ظهر من بين حالات التهجين بين الطبقات الراقية في التقسيم الاجتماعي أفرادٌ من أحسن الناس، ولكن لا يجوز أن نعزو هذه النتائج في هذه الحالات إلى اختلاط الدماء فقط، وفي حالتنا العلمية الراهنة لا يوجد دليلٌ على أن اختلاط الدماء يترتب عليه تدهور أو ارتقاء في الأجيال المولدة.

ولا شك أن فكرة انقسام الإنسانية إلى أقسام وسلالات منفصلةٌ تمامَ الانفصالِ غيرُ صحيحة فهي مبنية على أُسس خاطئة ومبنية، على وجه الخصوص، على نظرية «الدم»، وآثاره الوراثية، وهذه النظرية خاطئةٌ خطأ النظريات العنصرية القديمة.

فجملة «من دم واحد» جملةٌ لا معنى لها؛ نظرًا لأن عوامل الوراثة لا علاقة لها مطلقًا بالدماء، وهي عوامل مستقلة لا تتحد، إنما تميل إلى التشعُّب والاختلاف، فالوراثةُ ليست سائلًا يقومُ الدم بنقله إلى السلالة. كذلك ليس صحيحًا أن دماء الآباء والأُمهات تتحد وتمتزج في نسلهما.

وأُسطورة الدم — بوصفه المقياس الحاسم فيما يختص بقيمة النتاج — ما زالت سائدة إلى يومنا هذا، وما زال الناس يتكلمون عن «الدم» على أنه وسيلةُ توريثِ الصفات والميزات؛ ولهذا نسمع الكثيرين يقولون «من دمي أنا»، و«صوت الدم»، و«دماء مختلطة»، و«دماء جديدة» … إلخ. كما أصبحت الاصطلاحات «دم أزرق»، و«دم شعبي» جزءًا لا يتجزأ من أحاديثنا اليومية حينما نصف سليل الأرستقراطية، وسليل العوام. ولكلمة الدم معانٍ أُخرى منها مدلول القومية، مثل قولنا «دم ألماني»، و«دماء إسبانية»، و«دماء يهودية» … إلخ. وتصل كلمة «دم» في استخدامها كمقياس إلى حضيض السخافة في أحوال معينة، مثل التقسيم السائد في الولايات المتحدة الأمريكية للأفراد على أنهم «زنوج»، أو «أميرند» (هنود حمر) إذا احتوت شرايينهم على جزء من ستة عشر جزءًا ( ) من الدماء السوداء، أو الأميريندية. وبعبارة أخرى فإن المقاييس الأمريكية تعد الفرد زنجيًّا مثلًا إذا كان واحد من أجداد أجداده زنجيًّا، والمعروف أن درجة جد الجد تشتمل على ستة عشر شخصًا، وهذا ما يعنيه التقسيم الأمريكي بأن الفرد يُعد زنجيًّا إذا كان في دمائه من الدم الزنجي.

أولئك الذين ينحون هذا المنحى في التفكير هم في الواقع قاصرون تمامًا عن فهم طبيعة مظاهر الوراثة، والمظاهر الاجتماعية التي تلعب فيها الوراثة دورها: ولنا أن نتساءل: لماذا يختلف الأخوين في الشخصية، مع أن الدم الذي يجري في عروق كل منهما دمٌ واحد؟ وكيف نفسر ظهور مميزات، وصفات في بعض الأفراد كانت لأجدادهم، ولم تكن لآبائهم؟

ولا شك أن الكثير من الناس يجهلون أنه ليس للدم ارتباطٌ قط بعملية التلقيح، والوراثة، كما أنه قد ثبت أخيرًا أن الأم لا تغذي الجنين بدمائها، بل إن الجنين يُكوِّنُ ويُطوِّرُ نظامه الدموي الخاص منذ البداية، كما ذكر أشلي منتاجيو٤ في كتابه أسطورة الدم عام ١٩٤٣م، وهذه الحقيقة توضح لنا سبب الاختلاف الذي قد يحدث بين نوع دم الطفل، ودم الأم.

وأخيرًا، فإن نجاح عمليات نقل الدم بين الأفراد من السلالات المختلفة — بشرط تجانس نوع ومجموعة الدم — لَدليل جديد قاطع على أن «أسطورة الدم» تفتقر افتقارًا كليًّا إلى أيٍّ من الأُسس البيولوجية.

ومن الواضح الذي لا لبس فيه ولا غموض أن السلالات الإنسانية الرئيسية ترجع إلى أُصول مهجنة، وأن عملية الاختلاط، والتهجين استمرت عبر الآلاف من السنين التي انقضت منذ انفصال النوع الأساسي للإنسان عن بقية الكائنات في سلسلة التطور، ويشير ديكسون Dixon إلى أن السلالة الألبية Alpine ذات الرأس العريض هي التي أَسست الحضارة البابلية، على الرغم من أن جرانت Grant وغيره من الكُتَّاب قد وضعوا هذه السلالة موضع الازدراء، والاحتقار، كذلك من الثابت أن هجرة العناصر الدُّورية الألبية إلى اليونان قد سبقت عهد ازدهار الحضارة الهلينية الإغريقية مباشرة. ومن الثابت أيضًا أن روما لم تبلغ كمال مجدها، وعظمتها إلا بعد أن قامت جماعات من الألبيين بغزو إقليم «لاتيوم» الذي كان يسكنه جماعات من سلالة البحر المتوسط، وارتقاء الحضارة الصينية جاء بعد أن اندمجت عناصر ألبية في السكان الذين ينتمون إلى السلالة «القزوينية»، والتقدم المذهل السريع للمدنية الأوربية الراهنة حدث في النطاق الذي تختلط فيه السلالات الألبية، والقزوينية وسلالة البحر المتوسط.

وهناك أمثلة أخرى عديدة في أقاليم الحضارات العالمية الكبرى، مثل مصر والعراق والهند، وكلها تمثل المناطق التي التقت فيها السلالات والشعوب المختلفة واختلطت.

ومن الطبيعي أن يكون كثير من أصحاب النظريات العنصرية، مثل «جوبينو Gobineau» الذي يُعد الاختلاط بين السلالات عملية ذات نتائج مفزعة، قادرين على كتابة سخافات مثل تلك التي تؤكد أن ستًّا من المدنيات العشر العالمية العالية هي من إنتاج «العنصر الآري»، وهو النوع، أو السلالة الأكثر رقيًّا، في نظرهم، من بين أقسام وسلالات «الجنس الأبيض»، وهذه الحضارات الست هي الهندوكية، والمصرية، والأشورية، والإغريقية، والرومانية، والجرمانية، أما المدنيات الأربع الباقية، وهي الصينية، والمكسيكية، وحضارتا بيرو، وشعب المايا Maya (في أمريكا الوسطى في شبه جزيرة يوكوتان) فهي من إنتاج «الجنس الأبيض» بعد اختلاطه بعض الشيء بسلالات أدنى وأحط منه، ويختتم جوبينو سخافته قائلًا: إن من بين علامات الانهيار والتطور في الأجناس الخليطة ظهور وانتشار فكرة المساواة، والحركات الديمقراطية، وغيرها، كما يرى أن الاختلاط يتولد عنه مخلوقاتٌ ثانوية لا أهمية لها من البشر، «رجال يتميزون بعقلية القطيع»، «وشعوب استكانت لنوم مَهلك» … «وأناس كقطيع الجاموس يمضغ ما يجتره من جوفه على حواف البرك الراكدة في المستنقعات البنطية»، وليس من الضروري أن نبرهن مرة أخرى على خطأ مثل هذه الآراء السخيفة، المبنية على مقاييس أصحاب نظريات التفوق الجنسي، وهي المقاييس التي تحدوها أغراض سياسية وفلسفية تبنى على قضايا بيولوجية شبه علمية، سبقت مناقشتُها وتوضيح خطئها.

ولنضرب الآن أمثلة على حدوث اختلاطٍ بين السلالات التي تتكوَّن فيها شعوب نعدها شعوبًا متمدينة، فبريطانيا كانت منذ أقدم العصور مأهولة بسكان ينتمون إلى جنس الكرومانيون، وآخرين ينتمون إلى السلالة النوردية، وغيرهم ممن ينتمون إلى سلالة البحر المتوسط، والسلالة الألبية. وفي العصور التالية غزت بريطانيا قبائل السكسون، وجماعات نرويجية، ودانمركية وقبائل النورمنديين. وهيهات والحالة هذه أن نقول في عصرنا هذا: إن هناك جنسًا إنجليزيًّا نقيًّا، بل على العكس أمامنا من الأدلة ما يعطينا مثالًا طيبًا لخليطٍ جنسيٍّ عجيب.

أما فرنسا فكان يسكنها في العصر الحجري القديم عددٌ من المجموعات والسلالات البشرية البائدة: النياندرتال والكرومانيون، والشانسلا Chancelade والجريمالدي Grimaldi، وفي العصر الحجري الحديث سكنها عدة فروع من سلالة البحر المتوسط إلى جانب جماعات معينة من السلالة الألبية البدائية التي وفدت إلى فرنسا من الشرق. وفي القرن السابع قبل الميلاد غزت فرنسا جماعاتٌ من قبائل الكلت، وفي القرن الأول الميلادي تمكنت فرنسا، بفضل قوة الدولة الرومانية، من صد جماعات البرابرة، ولكن لم يمض قرنان من الزمن حتى احتلت قبائل الفندال Vandals بلاد الغال Gaul وأسس القوط الغربيون Visigoth مملكة في جنوب فرنسا ظلت متماسكة إلى القرن الثامن الميلادي.
وهذه الأمثلة القليلة تؤكد بوضوح لا محل معه للشك، درجة الاختلاط الجنسي في فرنسا، وتوضح إلى أي مدًى بلغت عملية التهجين في السلالات والجماعات التي نشأ عنها شعب فرنسا. ولا شك … أن شمال فرنسا تبرز فيه صفات العنصر التيوتوني Teutonie (الألماني) أكثر من جنوب غرب ألمانيا، وأن الكثير من بقاع ألمانيا الشرقية تبرز فيها المميزات الصقلبية أكثر من روسيا ذاتها.

وقد تشابهت مجريات الأحداث في قارات أخرى، وإذا كنا نعتقد أن اختلاط السلالات قد بلغ أقصى مراحله في القارات الأمريكية عقب اكتشاف كولمبس لها، فإن ذلك مرده فقط أننا نشهد عملية التهجين، والاختلاط بأعيننا، ومعاصرة الشيء أشد وقعًا من قراءته مدونًا في كتب التاريخ، وعلى كل حال يجب أن نضع في الأذهان أن سكان أمريكا قبل اكتشاف كولمبس لها كانوا أيضًا، ومنذ البداية، يمثلون خليطًا من السلالات، أي: أن الأميرند (الهنود الحمر) ليسوا بسلالة نقية.

وفي كل المناطق التي نجد فيها حضارات عالية نجد أيضًا غزوات وهجرات واختلاط أجناس، ولهذا فإن الادعاء بالتدهور نتيجة الاختلاط قد ثبت خطؤه؛ لأن كل سكان العالم عبارة عن نتاج اختلاط مستمر، يتزايد استمراره على الدوام.

وتشير الوقائع والحقائق إلى أن المجموعات البشرية المنعزلة لم يكن لها إلا قدر ضئيل، وربما لم يكن لها إطلاقًا أيُّ أثر في التقدم الحضاري البشري، في حين أن اختلاط السلالات كان من أكبر العوامل التي تُساعد كثيرًا من الجماعات على أن تلعب دورًا هامًا في تقدم المدنية وارتقائها.

والواضح أن هجرة الجماعات التي تنتمي إلى سلالة البحر المتوسط والقزويني إلى شمال إيطاليا كان له أثر واضح، بل ربما كان عاملًا من عوامل ازدهار عصر النهضة في تلك المنطقة. وإذا استطردنا في هذا الموضوع فإنه يصح لنا أن نتساءل: هل كان من قبيل الصدفة أن تبدأ المدنية الأوربية في التقدُّم، والارتقاء بعد العصور المظلمة على إثر تبلور الاختلاط الجنسي (الذي ساد أوربا خلال العصور المظلمة)، وتكوين شعوب جديدة مهجنة؟ وأخيرًا فإن أوضح الأمثلة على بلوغ عملية الاختلاط، والانصهار بين السلالات، والجماعات ذروتها هو — ولا شك — الولايات المتحدة الأمريكية: هذه الدولة تمثل في عصرنا الراهن أحد المراكز الرئيسية للمدنية الحديثة.

وعلى أساس ما تقدم يمكن أن نلخص موقفنا من نظرية الدم في النقط التالية:
  • (١)

    لقد حدث اختلاط السلالات، والجماعات منذ فجر الحياة البشرية.

  • (٢)

    ينتج عن الاختلاط تغيُّراتٌ جسدية، ونفسية، ويسمح بظهور أنواع عديدة من تركيبات عوامل الوراثة، وبهذا يزداد مدى الصفات الوراثية في مجموعات السكان المهجنة.

  • (٣)

    واعتمادًا على الناحية البيولوجية لا يمكن القول إن التهجين، والاختلاط عاملان لهما آثار مباركة أو آثار سيئة؛ إذ إن أثر الاختلاط يستند أساسًا، وفي كل حالة، إلى الصفات الفردية للأشخاص الذين تحدُث بينهم عملية الاختلاط، وبما أن غالبية عمليات الاختلاط قد حدثت بين أفراد ينتمون إلى الأوساط الاجتماعية الدنيا، وفي ظروف اقتصادية واجتماعية غير ملائمة، فإن أسباب ظهور أنواع معينة من الشذوذ (والتدهور) التي سُجلت في هذه الحالات، يجب أن تعزى إلى هذه الحقيقة، وليس إلى الاختلاط ذاته.

  • (٤)

    أما وجود أمثلة عن سلالات نقية، أو مجموعات بشرية منعزلة استطاعت أن تُطَوِّرَ حضارة عالية مستقلة عن غيرها، فهي استثناء، لا قاعدة.

  • (٥)

    وعلى العكس من ذلك، فإن الغالبية العظمى من المناطق التي نشأت فيها مدنيات وحضارات عالية، قد غمرتْها مجموعات، وسلالات بشرية مختلفة.

١  John A. Mjoen; “Harmonic and disharmonic Race crossing and Harmonic and unharmonic Crossing” 1922.
٢  C. B. Davenport; “The Effects of Racial Miscegntioan” 1917.
٣  M. Lundeborg; “Hybrid types of the Human Race” 1931.
٤  F. M. Ashley-Montagu; “The Myth of Blood” 1943.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤