الفصل الثالث

الوزن الذري وفرضية براوت وثلاثيات دوبرينير

أُجرِيت أول تصنيفات للعناصر إلى مجموعاتٍ بناءً على التشابهات الكيميائية بين العناصر؛ بمعنى أن هذا كان على أساس جوانبها النوعية الكيفية لا الكمية؛ فعلى سبيل المثال: كان من الواضح أن فلزات الليثيوم والصوديوم والبوتاسيوم تتشارك في كثير من أوجه الشبه بما فيها صفات الليونة والطفو على الماء، والحقيقة القائلة بأنها — خلافًا لأغلب الفلزات — يمكنها التفاعل بشكل مرئي مع الماء.

إلا أن الجدول الدوري الحديث يتأسس بناءً على الخصائص الكمية للعناصر بمقدارِ ما يتأسس على خواصها النوعية، وقد بدأ علم الكيمياء ككلٍّ في اكتساب الصفة الكمية؛ بمعنى دراسة «مقدارِ» ما يتفاعل وليس «الكيفية» التي يتم بها التفاعل، وذلك منذ القرنين السادس عشر والسابع عشر. كان من العلماء المسئولين عن هذا الأسلوب أنطوان لافوازييه، وكان نبيلًا فرنسيًّا أُعدِم بالمقصلة في أعقاب نشوب الثورة الفرنسية. كان لافوازييه من بين أوائل الذين أجرَوْا قياسات دقيقة لأوزان المواد المتفاعلة كيميائيًّا ونواتجها، وبفعله هذا صار قادرًا على أن يفنِّد ادِّعاءً طالَ استمرارُه بأن هناك مادة تُسمَّى «اللاهوب»، تتكوَّن حين تُحرَق المواد.

على العكس من هذا الاعتقاد، اكتشف لافوزاييه أن حرق أي مادة، مثل عنصرٍ ما، تنتج عنه زيادةٌ في الوزن وليس نقصًا فيه. كما اكتشف أنه في أي عملية كيميائية، تكون كمِّيَّتَا المادة قبل العملية وبعدها متساويتين. وقد تبع اكتشافَ قانونِ بقاء المادة هذا اكتشافُ قوانين أخرى عن الارتباط الكيميائي، وبدأ كلُّ ذلك يحتاج لتفسيرٍ أعمق من شأنه أن يؤدِّي في نهاية الأمر إلى اكتشاف الجدول الدوري.

أيضًا ابتعد لافوازييه عن الفكرة الإغريقية التي تقضي بوجود عنصر تجريدي كحامل للخواص والصفات، وبدلًا من هذا ركَّز على العناصر باعتبارها المرحلةَ النهائية في تحلُّل أيِّ مركَّب. وعلى الرغم من افتراض أن العناصر التجريدية يمكن أن تعود فيما بعدُ في ثوب معدَّل، فقد كان لزامًا أن يضع حدًّا فاصلًا دون الأعراف اليونانية العتيقة، لا سيما وقد استمرَّ الكثير من الأفكار الغامضة وغير العلمية في الازدهار والاستفحال في العصور الوسطى بين الخيميائيين.

وعودة إلى الجوانب الكمية للعناصر، نشر بنيامين ريختر، الذي كان يعمل في ألمانيا في عام ١٧٩٢، قائمةً بما صار يُعرَف بالأوزان المكافئة (جدول ٣-١)، وكانت قائمةً بأوزان فلزات مختلفة تتفاعل مع كمية محدَّدة من حمض معين كحمض النيتريك مثلًا؛ وهكذا أمكن حينئذٍ، ولأول مرة، المقارَنةُ بين خواص عناصر مختلفة بطريقة كمية بسيطة.
جدول ٣-١: جدول ريختر للأوزان المكافئة، بعد تعديل فيشر في عام ١٨٠٢. (From E. G. Fischer, Claude Louis Bethollet uber die Gsetze der Verwandtschaft, Berlin, 1802. Table on p. 229.)
قواعد أحماض
الألومينا ٥٢٥ الهيدروفلوريك ٤٢٧
المغنسيا ٦١٥ الكربونيك ٥٧٧
النُّشادر ٦٧٢ السيبايك ٧٠٦
الجير ٧٩٣ المورياتيك ٧١٢
الصودا ٨٥٩ الأكساليك ٧٥٥
الاسترونشيا ١٣٢٩ الفوسفوريك ٩٧٩
البوتاس ١٦٠٥ الكبريتيك ١٠٠٠
الباريتا ٢٢٢٢ السكسكينيك ١٢٠٩
النيتريك ١٤٠٥
الخليك ١٤٨٠
السِّتريك ١٥٨٣
الطرطريك ١٦٩٤

دالتون

في عام ١٨٠١ نشر مدرسٌ شاب في مدينة مانشستر بإنجلترا، يُدعَى جون دالتون، بدايات نظريةٍ ذريةٍ حديثة. فبالسير على دَرْب العُرْف الجديد لكلٍّ من لافوازييه وريختر، عالَجَ دالتون الفكرةَ الإغريقية القديمة عن الذرات، أو الجسيمات الأصغر لأي مادة، فجعلها كميةً. ولم يكتفِ بأن افترض أن كل عنصر يتكوَّن من نوع معين من الذرات، بل بدأ أيضًا يقدِّر أوزانَها النسبية.

على سبيل المثال: اعتمد دالتون على تجارب لافوازييه عن ارتباط الهيدروجين والأكسجين لتكوين الماء، فلقد بيَّنَ لافوازييه أن الماء يتركَّب من ٨٥٪ أكسجين و١٥٪ هيدروجين، وافترض دالتون أن الماء يتركب من ذرة واحدة من الهيدروجين ترتبط بذرة واحدة من الأكسجين لتكوين صيغة هي HO، وأن الوزن الذري للأكسجين بناء على هذا هو ٨٥ / ١٥ = ٥٫٦٦، مفترضًا أن وزنَ ذرة الهيدروجين وحدةٌ واحدةٌ. وأما في الوقت الحاضر، فالمعروف أن الوزن الذري الحقيقي للأكسجين هو ١٦، ويكمن الفارق في أمرين لم يكن دالتون يدركهما؛ أولهما أنه لم يكن مُصِيبًا حين افترض أن صيغة الماء هي HO، فكل الناس يعرفون الآن أن الصيغة الحقيقية هي H2O؛ وثانيهما أن بيانات لافوازييه لم تكن دقيقة جدًّا.

لقد أعطت فكرةُ دالتون عن الأوزان الذرية تفسيرًا معقولًا جدًّا لقانون النسبية الثابتة، الذي ينص على أنه حين يتَّحِد عنصران معًا، فإن هذا يتم بنسبة ثابتة بين وزنَيْهما. ويمكن الآن اعتبار هذا القانون نُسخةً أشمل لاتحاد اثنتين أو أكثر من الذرات التي لديها أوزانٌ ذرية معينة. والحقيقةُ القائلة بأن العينات العيانية تتكوَّن من نسبة ثابتة وزنًا من عنصرين؛ تعكس واقعًا بأن ذرتين معينتين تتحدان مرات ومرات كثيرة، وحيث إن لديهما كتلتين معينتين، فإن ناتج اتحادهما سيعكس أيضًا النسبةَ الكتلية هذه.

إلا أن هناك كيميائيين آخَرين، فضلًا عن دالتون ذاته، اكتشفوا قانونًا آخَر عن الاتحاد الكيميائي، وهو قانون النِّسَب المتعددة؛ فحين يتحد العنصر «أ» مثلًا مع عنصر آخَر «ب»، ليكوِّنا أكثر من مركب واحد، تكون ثمة نسبةٌ بسيطة بين كتلتَيْ «ب» المتحدتين في المركبين الاثنين؛ فعلى سبيل المثال: يتحد الكربون والأكسجين معًا لتكوين أول أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكربون، ويكون وزنُ الأكسجين المتحد في ثاني الأكسيد ضعفَ وزن الأكسجين المتحد في أول الأكسيد. وفوق هذا، وجد هذا القانون تفسيرًا جيدًا في نظرية دالتون الذرية؛ لأنها افترضت أن ذرة واحدة من الكربون تتحد بذرة واحدة من الأكسجين في أول أكسيد الكربون CO، بينما تتَّحِد ذرتان من الأكسجين بذرة واحدة من الكربون في ثاني أكسيد الكربون CO2.

فون هومبولت وَجاي لوساك

الآن ضع في اعتبارك قانونًا آخَر عن الارتباط الكيميائي، ولكن لم تفسِّره نظرية دالتون في بادئ الأمر. ففي عام ١٨٠٩ اكتشف كلٌّ من ألكسندر فون هومبولت وَجوزيف لويس جاي لوساك أنه حين يتكوَّن بخار الماء بتفاعل غازين هما الهيدروجين والأكسجين، يكون حجم الهيدروجين ضعفَ حجم الأكسجين تقريبًا. فضلًا عن هذا، يكون حجم بخار الماء المتكوِّن مثل حجم الهيدروجين المتحد تقريبًا.

حجمان من الهيدروجين + حجم من الأكسجين حجمان من بخار الماء.
كما تبيَّن أن هذا النوع من السلوك الكيميائي ينطبق على غازات أخرى تتحد معًا؛ ومن ثَمَّ استطاع فون هومبولت وَجاي لوساك أن يستنتجا القانون التالي:

إن أحجامَ الغازات الداخلة في تفاعل كيميائي والنواتجَ الغازية لهذا التفاعل؛ تكون بنسبة من أعداد صحيحة صغيرة.

هذا القانون الجديد في علم الكيمياء طرح تحديًا كبيرًا أمام نظرية دالتون الذرية الجديدة؛ فبحسب ما قاله دالتون، فإن الذرة — أي ذرة — تكون غير قابلة للانقسام، ولكن هذا القانون الجديد لا يمكن تفسيره إذا افترضنا أن ذرات الغازات المتفاعلة غير قابلة للانقسام، فلا بد بالضرورة أن تكون ذراتُ الأكسجين قابلةً للانقسام، حتى يمكن أن يحدث تفاعلُ الهيدروجين والأكسجين المذكورُ سابقًا بين ذرتين من الهيدروجين وذرة من الأكسجين.

وقد جاء الحل لهذا اللغز حين أدرك فيزيائي إيطالي يُدعَى أميديو أفوجادرو أن جزيئين اثنين ثنائيَّي الذرة من الهيدروجين هما اللذان يتحدان مع جزيء واحد ثنائي الذرة من الأكسجين، ولم يخطر ببال أي امرئ قبله أن هذه الغازات تتركب من ذرتين من العنصر تتحدان معًا لتكوِّنا جزيئًا ثنائيَّ الذرة. ونظرًا لأن كلًّا من هذه الجزيئات يتركب من ذرتين، فإن الجزيئات هي التي تقبل الانقسام وليست الذرات. وهكذا فإن نظرية دالتون وفكرة عدم قابلية الذرات للانقسام لا يزال بالإمكان الأخذ بهما وقبولهما، وعن طريق افتراض وجود جزيئات غازية ثنائية الذرة، يتركب كلٌّ منها من ذرتين من نفس العنصر؛ يكون بالإمكان أيضًا تفسيرُ القانون الجديد لِفون هومبولت وجاي لوساك.

يحدث التفاعل بين الهيدروجين والأكسجين بحيث ينقسم جزيئان من الهيدروجين، كلٌّ منهما ثنائي الذرة، لتكوين أربع ذرات، بينما ينقسم جزيء واحد ثنائي الذرة من الأكسجين لتكوين ذرتين، وهكذا يتكون جزيئان اثنان من بخار الماء أو H2O، ليكونا الأصل لجميع الذرات الداخلة في التفاعل. كل هذا يبدو شديد البساطة الآن وقد اتضحت الأمور، ولكن إذا عرفنا أن الجزيئات الثنائية الذرة كانت تمثِّل في الزمن الماضي فكرةً ثورية، وأن الصيغة الكيميائية لجزيء الماء لم تكن معروفة، فلا عجب إذن أن هذه المعادلة الكيميائية البسيطة:
استغرقت نحو ٥٠ عامًا قبل أن يتم فهمها فهمًا تامًّا.

ولكن في تحوُّل تاريخي عجيب، رفض دالتون نفسه قبول فكرة الجزيئات الثنائية الذرة؛ لأنه كان يعتقد اعتقادًا راسخًا أن أي ذرتين من نفس العنصر لا بد أن تتنافرَا؛ ونتيجةً لهذا فلا يمكن أبدًا أن تكوِّنا جزيئًا ثنائي الذرة. كانت فكرة وجود رابطة كيميائية بين أي ذرتين متشابهتين لا تزال جديدة، واستغرقت وقتًا حتى يتعوَّد المرء عليها، وخصوصًا امرأً مثل دالتون الذي كانت وجهة نظره معقَّدة بعض الشيء فيما يتعلَّق بالسلوك الواجب للذرات. وفي نفس الوقت استطاع شخص آخر، هو أفوجادرو، أن يكون أكثر جرأةً وتحرُّرًا، وأن يفترض وجود جزيئات ثنائية الذرة، فلا تعوقه فكرة أن الذرتين المتشابهتين تتنافران، وهي فكرة غير صحيحة في الواقع، كما ندرك في يومنا هذا.

كما وردت نفس فكرة أفوجادرو عن الجزيئات الثنائية الذرة على نحوٍ مستقل إلى مخيلة عالم فرنسي آخَر هو أندريه أمبير، الذي تُسمَّى الآن باسمه وحدة قياس شدة التيار (الأمبير)، ولكن بقي هذا الاكتشاف الحاسم كامنًا غير معروف لفترةٍ دامت نحو ٥٠ عامًا، إلى أن أحيا هذه الفكرة عالِمٌ إيطالي آخَر اسمه ستانيسلاو كانيزارو، كان يقطن في صقلية.

فرضية براوت

بعد مرور بضع سنوات منذ أن بدأ دالتون وآخَرون نشْرَ قوائم عن الأوزان الذرية، لاحَظَ فيزيائي اسكتلندي يُدعَى ويليام براوت شيئًا يثير الاهتمام بعض الشيء. كان الكثير من الأوزان الذرية التي حدَّدها العلماء للعناصر يبدو كمضاعفات بأعداد صحيحة لوزن ذرة الهيدروجين. كان استنتاجه بديهيًّا إلى حدٍّ ما، فربما كانت جميع الذرات تتكوَّن ببساطة من ذرات من الهيدروجين. ولو كان هذا صحيحًا، فلعله يفترض أيضًا وحدة المادة كلها في مستواها الأساسي، وهي فكرة كانت تدور في مخيلة الكثيرين منذ فجر الفلسفة الإغريقية، وطفت على السطح مرات ومرات في صور مختلفة.

لكن ليست كل الأوزان الذرية التي تم نشرها مضاعفات دقيقة لوزن ذرة الهيدروجين، ولم يفُتَّ هذا الأمر في عضد براوت، بل افترض أن السبب يكمن في حقيقة أن أوزان هذه الذرات «الداخلية» لم تكن قد حُدِّدت بدقة حتى ذلك الحين؛ ومن ثَمَّ كانت فرضية براوت — كما صارت تُعرَف لاحقًا — مثمرةً حيث حفَّزت أناسًا آخَرين لأن يقيسوا الأوزان الذرية بمزيد من الدقة لكي يثبتوا صحةَ كلامه أو خطأه. وما نتج عن هذا من زيادة دقة الأوزان الذرية لعب من ثَمَّ دورًا محوريًّا في اكتشاف الجدول الدوري وتطويره.

ولكن كان الإجماع الأوَّلي للعلماء في البداية فيما يتعلَّق بفرضية براوت، أنها غير صحيحة؛ إذ أوحَتْ قياساتُ الأوزان الذرية الأكثر دقةً بأن الذرات — بصفة عامة — ليست مضاعفات من ذرات الهيدروجين، ومع ذلك، فإن فرضية براوت كانت مكرَّسة لتوطئة الطريق لمَن سيأتون فيما بعدُ، للوصول إلى صورة معدَّلة ومنقَّحة.

ثلاثيات دوبرينير

اكتشف الكيميائي الألماني فولفجانج دوبرينير مبدأً عامًّا آخَر، كان إسهامًا كذلك في سياق الحاجة لمزيدٍ من الدقة في قياس الأوزان الذرية، ومن ثَمَّ مهَّدَ الطريقَ للجدول الدوري؛ فبدءًا من عام ١٨١٧ اكتشف دوبرينير وجودَ مجموعات مختلفة من العناصر، يكون فيها لأحد العناصر خواص كيميائية ووزن ذري مساوٍ تقريبًا لمتوسطِ ما يخص عنصرين اثنين آخرين، وهذه المجموعات المكوَّن كلٌّ منها من ثلاثة عناصر قد صارت تُعرَف بالثلاثيات؛ فعلى سبيل المثال: الليثيوم والصوديوم والبوتاسيوم كلها فلزات تميل لليونة، ولونها رمادي، وكثافتها منخفضة. لا يُظهِر الليثيوم تفاعلًا كبيرًا مع الماء، بينما يكون البوتاسيوم شديد التفاعل، وأما الصوديوم فيُظهِر مستوى تفاعليةٍ متوسِّطًا بين مستويَيْ تفاعليةِ هذين العنصرين الآخَرين، زميلَيْه في الثلاثية.

وفضلًا عن هذا، فإن الوزن الذري للصوديوم (٢٣) يكون وسطًا بين الوزن الذري لِلِّيثيوم (٧) وللبوتاسيوم (٣٩). ويُعَدُّ هذا الاكتشافُ شديدَ الأهمية؛ لأنه أعطى أول تلميح لوجود انتظام عددي يكمن في قلب العلاقة بين الطبيعة وخواص العناصر، فقد أوحى بوجود نظام رياضي يحكم كيفيةَ الارتباط بين العناصر كيميائيًّا.

ثمة ثلاثية أساسية أخرى اكتشفها دوبرينير، تتكوَّن من ثلاثة عناصر هالوجينية؛ وهي الكلور والبروم واليود، ولكن دوبرينير لم يحاول أن يربط بين هذه الثلاثيات المختلفة معًا بأي طريقة، ولو كان فعل هذا، فلربما اكتشَفَ الجدول الدوري قبل مندليف وآخَرين بخمسين عامًا.

وخلال استكشاف دوبرينير لثلاثيات عدة، كان يشترط وجود تشابه كيميائي بين العناصر الثلاثة موضوع الدراسة، فضلًا عن العلاقة الرياضية المذكورة آنفًا. ولم يكن الباحثون الآخَرون الذين جاءوا بعده مثله في شدة الحرص على دقة التفاصيل في المقام الأول، فكان البعض منهم يعتقدون أنهم اكتشفوا الكثير من الثلاثيات الأخرى؛ فعلى سبيل المثال: في عام ١٨٥٧، نشر كيميائي ألماني في العشرين من عمره، يُدعَى إرنست لنسن، وكان يعمل في فيسبادن، مقالةً رتَّبَ فيها كلَّ العناصر الثمانية والخمسين المعروفة وقتئذٍ في عددٍ إجمالي مقداره ٢٠ ثلاثية. وكانت عَشرٌ من هذه الثلاثيات تتكوَّن من لا فلزات وفلزات مكوِّنة للأحماض، والعشر الباقيات من الفلزات العادية.

جدول ٣-٢: ثلاثيات لنسن العشرون. (From E. Lenssen, ‘Uber die gruppirung der elemente nach ihrem chemisch-physikalishen charackter’, Annalen der Chemie und Pharmazie, 103, 121–131, 1857.)
الأوزان الذرية المقررة الأوزان الذرية المحسوبة
6.95 23.00 39.11 23.03 = Na = (K + Li)/2 1
20 47.63 68.59 44.29 = Sr = (Ba + Ca)/2 2
55.7 32.5 12 33.8 = Zn = (Mg + Cd)/2 3
29.5 28 27.5 28.5 = Fe = (Mn + Co)/2 4
49.6 47 47.3 28.5 = Ce = (La + Di)/2 5
? ? 32       Yt Er Tb 6
13.7 ? 59.5 Th norium Al 7
60 33.6 7 33.5 = Zr (Be + Ur)/2 8
31.7 29.6 26.8 29.3 = Ni = (Cr + Cu)/2 9
100 103.6 108 104 = Pb = (Ag + Hg)/2 10
6 7 8 7 = N = (O + C)/2 11
9.5 11 15 12.2 = Bo = (Si + Fl)/2 12
63.5 40 17.7 40.6 = Br = (Cl + J)/2 13
64.2 39.7 16 40.1 = Se = (S + Te)/2 14
60 37.5 16 38 = As = (P + Sb)/2 15
25 59 92.3 58.7 = Sn = (Ta + Ti)/2 16
46 68.5 92 69 = V = (W + Mo)/2 17
51.2 52.1 53.2 52.5 = Ru = (Pa + Rh)2 18
98.5 99 99.4 98.9 = Pt = (Os + Ir)/2 19
98.4 100 104 101.2 = Hg = (Bi + Au)/2 20

وقد زعم لنسن، باستخدام الثلاثيات العشرين المذكورة في الجدول أدناه، أنه اكتشف عددًا إجماليًّا من ٧ ثلاثيات فائقة، يقع بها متوسط الوزن المكافئ من كل ثلاثية وسطية في منتصف المسافة تقريبًا بين متوسطات أوزان الثلاثيات الأخرى في مجموعة من ثلاث ثلاثيات؛ فكانت تلك ثلاثياتِ الثلاثياتِ كما افترضها. ولكن منظومة لنسن كانت قسريةً بعض الشيء؛ فعلى سبيل المثال: في مكان إحدى الثلاثيات الأصلية وضَعَ عنصرًا واحدًا فحسب، هو الهيدروجين، معتبرًا أنه يشكِّل ثلاثية؛ لأنه وجد أن من المناسب أن يفعل هذا. وفضلًا عن ذلك، فإن الكثير من الثلاثيات التي ادَّعَى لنسن وجودَها كانت تبدو مقبولةً من الناحية العددية، ولكن دون أهمية كيميائية. وصار لنسن وبعض الكيميائيين الآخرين مفتونين بالأوضاع العددية المنتظمة ظاهريًّا، تاركين الكيمياء وراء ظهورهم.

هناك منظومة أخرى لتصنيف العناصر تُنسَب إلى ليوبولد جملِن الذي كان يعمل في ألمانيا في عام ١٨٤٣. وقد اكتشف هذا الباحث بعضَ الثلاثيات الجديدة، وبدأ بالفعل يربطها معًا ليشكِّل منظومةً تصنيفية شاملة لها شكل محدَّد إلى حدٍّ ما (شكل ٣-١). وكانت منظومته تحوي ما وصل إلى ٥٥ عنصرًا. ويبدو أن جملِن — توقُّعًا لمنظومات ستُكتشَف فيما بعدُ — رتَّبَ أغلب العناصر على أساس تزايُد أوزانها الذرية، على الرغم من أنه لم يصرِّح بهذه الفكرة قطُّ.

ومع ذلك، لا يمكن اعتبار منظومة جملن منظومةً دورية؛ إذ إنها لا تُظهِر التكرار في خواص العناصر. بعبارة أخرى، خاصيةُ الدورية الكيميائية التي يشتق الجدول الدوري اسمَه منها لم تكن قد اتضحتْ بعدُ. وقد استخدم جملن منظومته من العناصر لكي يصدر كتابًا عن الكيمياء يتألف من ٥٠٠ صفحة أو ما يقارب ذلك.

fig14
شكل ٣-١: جدول جملِن للعناصر.

ولعل هذه أول مرة يُستخدَم فيها جدولٌ من العناصر كأساس لكتاب عن الكيمياء بكامله، وهو أمر يُعتبَر قياسيًّا في هذه الأيام، على الرغم من أننا يجب أن نتذكر أنه لم يكن جدولًا دوريًّا بحق.

كريمرز

إن الجدول الدوري الحديث ليس مجرد تجميع لمجموعات من العناصر التي تُظهِر خواصَّ كيميائيةً متشابهة؛ فبالإضافة إلى ما يحتويه ممَّا يمكن أن نطلق عليه «العلاقات الرأسية» التي تشمل ثلاثيات من العناصر، فإن ذلك الجدول الدوري الحديث يربط مجموعات من العناصر معًا في تتابع منتظم ومرتَّب.

جدول ٣-٣: فروق الوزن الذري لدى كريمرز في سلسلة الأكسجين.
O S Ti P Se
الوزن الذري 8 16 24.12 32 39.62
الفرق 8 8 ~8 ~8
يتركب الجدول الدوري من بُعْد أفقي يحتوي على عناصر غير متشابهة، فضلًا عن بُعْد رأسي به عناصر متشابهة. أول شخص فكَّر في وجود علاقة أفقية هو بيتر كريمرز من مدينة كولونيا في ألمانيا؛ فقد لاحَظَ الانتظام التالي بين سلسلة قصيرة من العناصر التي شملت الأكسجين والكبريت والتيتانيوم والفوسفور والسلينيوم (جدول ٣-٣).
كما اكتشف كريمرز بعض الثلاثيات الجديدة مثل:

من وجهة نظر حديثة، قد لا تبدو هذه الثلاثيات مهمة من الناحية الكيميائية، ولكن هذا مرجعه أن النمط المتوسط الطول من المنظومة الدورية يخفق في إظهار العلاقات الثانوية بين بعض العناصر؛ فالكبريت والتيتانيوم — على سبيل المثال — كلاهما يُظهِر تكافؤًا مقداره أربعة، وعلى الرغم من ذلك فهُما لا يظهران في نفس المجموعة في النمط المتوسط الطول من المنظومة الدورية. ولكن ليس أمرًا بعيد المنال أن نعتبرهما متناظرين كيميائيًّا. وإذا عرفنا حقيقة أن التيتانيوم والفوسفور يُظهِران عمومًا تكافؤًا مقداره ثلاثة، فإن هذا الوضع ضمن المجموعات أيضًا ليس خطأً بالدرجة التي قد يظنها القارئ المعاصر. ولكن بمجمل القول، كما في حالة لنسن، فإن هذه تُعَدُّ محاولة يائسة لاستحداث ثلاثيات جديدة بأي ثمن، وقد صار الهدف على ما يبدو هو العثور على علاقات من الثلاثيات بين أوزان العناصر، بغضِّ النظر عمَّا إذا كانت لها أهمية كيميائية أم لا. وقد وصف مندليف في وقت تالٍ هذا النشاطَ بين زملائه باعتباره ولعًا غير سويٍّ بالثلاثيات، التي اعتقد أنها كانت السببَ وراء تأخُّر اكتشاف المنظومة الدورية السوية «الناضجة».

ولكن، عودةً إلى كريمرز، نقول إن أكثر إسهاماته حسمًا يكمن في اقتراحه نظامًا ثنائيَّ الاتجاه يتعلَّق بما سمَّاه «الثلاثيات المقترنة»؛ إذ تعمل هنا عناصر معينة كأفراد في ثلاثيتَيْن اثنتين محدَّدتين تتعامد كلٌّ منهما على الأخرى.

K 39.2 Na 23 Li 6.5
Cd 56 Zn 32.6 Mg 12
Ba 68.5 Sr 43.8 Ca 20

وهكذا كان كريمرز، وبطريقة أكثر عمقًا ممَّن سبقوه، يقارن كيميائيًّا بين عناصر غير متشابهة، وهي الطريقة التي لم تصل إلى اكتمال نضجها إلا في جداول لوثار ماير ومندليف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤