الفصل الرابع

خطوات نحو الجدول الدوري

كان عقد الثمانينيات من القرن التاسع عشر عقدًا مهمًّا في اكتشاف الجدول الدوري؛ إذ بدأ الأمر بمؤتمر عُقِد في مدينة كارلسروه بألمانيا، وكان الهدف منه حل عددٍ من القضايا التقنية التي لها علاقة بفهم الكيميائيين لفكرة الذرات والجزيئات.

كما ذكرنا في الفصل الثاني، فإن قانون الأحجام الغازية المركبة الذي اكتشفه جاي لوساك، لم يمكن تفسيره إلا بافتراض وجود جزيئاتٍ ثنائية الذرة وتقبل الانقسام، مكونةٍ من اثنتين أو أكثر من الذرات المترابطة (المتحدة) مثل H2 وO2 … إلخ. وهذا الافتراض لا يزال غير مقبول بوجه عام بسبب الانتقادات الموجَّهة لدالتون وآخرين. ولكن في مؤتمر كارلسروه، حصلت الفكرة أخيرًا على قبولٍ واسعِ النطاق بفضل تأييدٍ من كانيزارو، وهو عالِم إيطالي من نفس بلدة أفوجادرو، الذي كان أول مَن اقترح الفكرة قبل ذلك بخمسين عامًا.

ولكن كانت هناك مشكلة تتمثَّل في أن الكثيرين من الباحثين أعطوا قِيَمًا مختلفة للأوزان الذرية للعناصر، حتى نجح كانيزارو في إنتاج مجموعة معقولة ومنطقية من القِيَم التي طبعها في كُتَيِّب صغير تم توزيعه على الوفود أثناء مغادرتهم المؤتمر، ولم يمر وقت طويل حتى تَمكَّن ستة من العلماء الفُرادَى، المتسلحين بما ورد في تلك التحسينات والإصلاحات العلمية، من استحداث منظومات دورية بدائية شملت أغلبَ العناصر المعروفة وقتئذٍ، وكان عددها ستين تقريبًا.

دو شانكورتوا

كان أولُ شخصٍ اكتشف الصفة الدورية الكيميائية للعناصر بالفعل جيولوجيًّا فرنسيًّا يُدعَى إميل بيجوييه دو شانكورتوا، الذي رتَّبَ العناصر بحسب تزايد أوزانها الذرية، على مخطط حلزوني نقشه حول أسطوانة معدنية، وبعد أن فعل هذا، لاحَظَ أن العناصر المتشابهة كيميائيًّا تقع على خطوط رأسية، تتقاطع مع اللولب أثناء الْتفافه حول الأسطوانة (شكل ٤-١). وهنا يكمن الاكتشاف الأساسي، بأن العناصر عندما تُرتَّب في ترتيبها الطبيعي، يبدو أنها تتكرَّر تقريبًا على فترات منتظمة. فتمامًا مثل أيام الأسبوع، أو شهور السنة، أو أنغام سلم موسيقي، هكذا تبدو الصفة الدورية أو التكرارية خاصيةً أساسيةً للعناصر. وقد يظل السببُ الأساسي لهذه التكرارية الكيمائية سرًّا غامضًا لسنوات كثيرة قادمة.

وقد أعرب دو شانكورتوا عن دعمه لفرضية براوت، وذهب في ذلك لدرجة تغييره قِيَمَ الأوزان الذرية وتقريبها إلى أعداد صحيحة في منظومته الدورية؛ فالصوديوم الذي وزنه الذري ٢٣، ظهر في منظومته بعيدًا بدورة كاملة عن الليثيوم الذي وزنه الذري ٧. وفي العمود التالي، وضع عناصر المغنسيوم والكالسيوم والحديد والإسترونشيوم واليورانيوم والباريوم، وفي الجدول الدوري الحديث تقع أربعة من هذه العناصر، وهي المغنسيوم والكالسيوم والإسترونشيوم والباريوم بالفعل في نفس المجموعة. وتبدو إضافةُ الحديد واليورانيوم لأول وهلة خطأً صريحًا، ولكن كما سنرى لاحقًا، فإن الكثير من الجداول الدورية القديمة ذوات النمط القصير كانت تُدرِج بعضَ العناصر الانتقالية ضمن ما صار يُسمَّى الآن «عناصر المجموعة الرئيسية».

fig15
شكل ٤-١: لولب دو شانكورتوا الدوري.

كان ذلك الرجل الفرنسي عاثرَ الحظ إلى حدٍّ ما في أن أول وأهم ما نشره لم يتضمَّن شكلًا توضيحيًّا لمنظومته، وهو إغفال علمي شديد الوطأة، إذا أخذنا في الاعتبار حقيقةَ أن استخدام الأشكال والرسوم البيانية هو الجانب الحاسم والمهم في أي منظومة دورية. ولكي يعالج دو شانكورتوا مشكلته، أعاد نشر بحثه بصفته الشخصية، ولكنْ نتيجةً لهذا لم يَحْظَ هذا البحث بما هو مطلوب من الصيت الذائع والانتشار الواسع، وبقي مغمورًا مبهمًا في مجتمع الكيميائيين الفرنسيين في تلك الآونة. بل إن اكتشاف دو شانكورتوا الرئيسي لم يلحظه أحد من علماء الكيمياء في العالَم؛ لأنه لم يكن واحدًا منهم، إذ كان جيولوجيًّا. وفي النهاية يمكننا القول إن الاكتشاف لم يُلحَظ؛ لأنه سبق أفكار علماء زمنه.

في واقع الأمر، حتى بعد أن حقَّقَ مندليف قدرًا طيبًا من الشهرة عن منظومته الدورية، التي بدأ نشرها في عام ١٨٦٩، لم يكن معظم الكيميائيين قد سمعوا بعدُ عن بحث دو شانكورتوا، لا في وطنه فرنسا ولا في أي بلد آخَر. ثم أخيرًا في عام ١٨٩٢، بعد ظهور بحث دو شانكورتوا الثوري، جاء ثلاثة من الكيمائيين، وبلغوا مبالغ متفاوتة في محاولتهم إحياء بحثه.

ففي إنجلترا شعر فيليب هارتوج بالاستفزاز بعد سماعه مندليف وهو يقول إن دو شانكورتوا لم يكن يعتبر منظومته شيئًا طبيعيًّا؛ ومن ثَمَّ نشر هارتوج بحثًا يعضد فيه دو شانكورتوا. وفي نفس الوقت في فرنسا، قدَّمَ اثنان — هما بول إميل لو كوك دو بواسبودران، وَألبير أوجست لابارن — دفاعين مماثلين لصالح ريادة مُواطِنهما، واستعادَا على الأقل شيئًا ولو يسيرًا من شرفه الغالي.

نيولاندز

كان جون نيولاندز كيميائيًّا في مجال صناعة السكر، وكان يقيم في لندن وإن كانت أمه إيطالية المولد، وهذه حقيقة يبدو أنها دفعته للتطوُّع كمقاتل في حملة جاريبالدي الثورية لتوحيد إيطاليا. وعلى أي حال، فإن نيولاندز الشاب لم يلحقه أي أذًى؛ فسرعان ما عاد إلى عمله في لندن. وفي عام ١٨٦٣؛ أيْ بعد ظهور بحث دو شانكورتوا بعام واحد، نشر نيولاندز أول تصنيف له للعناصر، ودون أن يستخدم الأوزانَ الذرية لكانيزارو التي لم يكن يدركها، وضع نيولاندز العناصر المعروفة وقتئذٍ في إحدى عشرة مجموعة تُظهِر عناصرُها خواصَّ متناظِرة، وفضلًا عن هذا، لاحَظَ أن أوزانها الذرية كانت تختلف بعامل رياضي مقداره ثمانية أو أحد مضاعفات الثمانية (شكل ٤-٢).
fig16
شكل ٤-٢: مجموعات نيولاندز السبع الأولى للعناصر في عام ١٨٦٣.

فعلى سبيل المثال: تكونت المجموعة ١ لديه من الليثيوم (٧)، والصوديوم (٢٣)، والبوتاسيوم (٣٩)، والروبيديوم (٨٥)، والسيزيوم (١٢٣)، والثاليوم (٢٠٤). ومن منظور حديث نقول إنه وضع الثاليوم في موضع غير صحيح؛ إذ إنه ينتمي في الحقيقة إلى مجموعة البورون والألومنيوم والجاليوم والإنديوم. كان عنصر الثاليوم قد اكتُشِف قبلها بعام واحد فقط على يد رجل إنجليزي يُدعَى ويليام كروكس، ولكن أول شخص وضع هذا العنصر في موضعه الصحيح في مجموعة البورون، كان مكتشِفًا مشارِكًا للمنظومة الدورية واسمه يوليوس لوثار ماير، وكان يعمل في ألمانيا. وحتى مندليف العبقري وضع الثاليوم في غير مكانه السوي في جداوله الدورية الأولى، ففعل مثل نيولاندز؛ إذ جعل ذلك العنصر ضمن الفلزات القلوية.

وقد أورد نيولاندز في بحثه الأول عن تصنيف العناصرِ الملاحظةَ التالية عن مجموعة الفلزات القلوية:

إن العلاقة بين مكافئات هذه المجموعة ربما يمكن إلى أبسط حدٍّ النصُّ عليها كما يلي:

١ ليثيوم (٧) + ١ بوتاسيوم (٣٩) = ٢ صوديوم.

وهذا بالطبع ليس إلا إعادة لاكتشاف العلاقة الثلاثية بين هذه العناصر؛ إذ إن:

Li 7
Na 23
K 39

وفي عام ١٨٦٤ بدأ نيولاندز في نشر سلسلة من المقالات تَلمَّسَ من خلالها طريقَه نحو منظومة دورية أفضل، ونحو ما سمَّاه فيما بعدُ قانونَ الثُّمانيَّات؛ وهي فكرة تقول إن العناصر تتكرَّر بعد الانتقال خلال تتابُع من ثمانية. وفي عام ١٨٦٥ أدرج ٦٥ عنصرًا ضمن منظومته، واستخدم أعدادًا ترتيبية بدلًا من الأوزان الذرية كوسيلةٍ لترتيب العناصر في تتابُع من الأوزان المتزايدة. ثم بدأ حينئذٍ، بثقة تامة في كتابة قانون جديد، بينما اقتصر دو شانكورتوا على وضع هذا الاحتمال في اعتباره، ولكن سرعان ما رفضه.

جدول ٤-١: جدول نيولاندز موضحًا قانون الثُّمانيَّات كما قدَّمه إلى الأوساط الكيميائية في عام ١٨٦٦. (From J. A. R. Newlands, as reported in Proceedings of Chemical Societies: Chemical Society, Chemical News, 13 113-114, 1866, table on p. 113.)
No. No. No. No. No. No. No. No.
Pt & Ir 50 I 42 Pd 36 Br & Ni 22 Co & Ni 22 Cl 15 F 8 H 1
Os 51 Cs 44 Ag 37 Rb 30 Cu 23 K 16 Na 9 Li 2
Hg 52 Ba & V 45 Cd 38 Sr 31 Zn 24 Ca 17 Mg 10 G 3
Tl 53 Ta 46 U 40 Ce & La 33 Y 25 Cr 19 Al 11 Bo 4
Pb 54 W 47 Sn 39 Zr 32 In 26 Ti 18 Si 12 C 5
Bi 55 Nb 48 Sb 41 Di & Mo 34 As 27 Mn 20 P 23 N 6
Th 56 Au 49 Te 43 Ro & Ru 35 Se 28 Fe 21 S 14 O 7
ولكن جزئيًّا بسبب هذا الاختيار من جانب نيولاندز للنمط الموسيقي عند مناقشته لقانون الثمانيات — التي تناظِر الأوكتافات الموسيقية — وأيضًا لأنه لم يكن كيميائيًّا أكاديميًّا، فقد تعرَّضت فكرته للسخرية والتهكُّم حين قدَّمَها شفهيًّا إلى جمعية الكيمياء الملكية في عام ١٨٦٦ (جدول ٤-١). وقد اكتفى أحد أعضاء أولئك الحاضرين الصارمين بسؤال نيولاندز عمَّا إذا كان قد فكَّرَ في ترتيب العناصر أبجديًّا. لم ينشر نيولاندز بحثه ضمن محاضر أعمال هذه الجمعية، وإن كان قد نشر مقالاتٍ أخرى بعدها في عدد من الدوريات الكيميائية الأخرى؛ ومعنى هذا أن وقت قبول هذه الفكرة لم يكن قد حان بعدُ، على الرغم من أنها بدأت تخامِر عقول بعض الكيميائيين، ولكن نيولاندز تصرَّفَ كالجندي المطيع واستجاب لمنتقديه، بينما نشر عددًا من الجداول الدورية الأخرى.

أودلنج

برز كيميائي آخر لينشر جدولًا دوريًّا مبكرًا وهو ويليام أودلنج، الذي كان بخلاف نيولاندز، كيميائيًّا أكاديميًّا رائدًا. كان أودلنج قد حضر مؤتمر كارلسروه وصار مدافعًا مغوارًا عن أفكار كانيزارو في بريطانيا، كما شغل مناصب مهمة؛ مثل درجة الأستاذية في الكيمياء بجامعة أكسفورد، ومدير المعهد الملكي بشارع ألبيمارل في لندن. وقام أودلنج مستقلًّا بنشر نسخته الخاصة من الجدول الدوري، وذلك بترتيب العناصر على أساس تزايُد أوزانها الذرية، كما فعل نيولاندز، وبإظهار العناصر المتشابهة في أعمدة رأسية.

جدول ٤-٢: جدول أودلنج الثالث عن فروق الأوزان الذرية. (From W. Odling, ‘On the Proportional Numbers of the Elements’, Quarterly Journal of Science, 1, 642–648, 1864, table on p. 645.)
16.5 = 19 35.5 or F Cl
16 = 23 39 Na K
16 = 7 23 Li Na
16 = 80 96 Se Mo
16 = 16 32 O S
16 = 24 40 Mg Ca
15 = 9 24 G Mg
17 = 14 31 N P
16.5 = 11 27.5 B Al
16 = 12 28 C Si
وفي بحث كتبه أودلنج عام ١٨٦٤، نصَّ على ما يلي:

عند ترتيب الأوزان الذرية أو الأعداد المتناسبة من العناصر الستين المعروفة، أو نحو ذلك، بحسب تدرُّج مقاديرها المختلفة، نلاحِظ استمراريةً ملحوظةً في السلسلة الحسابية الناتجة.

وقد أردف هذا بالمقولة التالية:

إن مدى سهولة أن نجعل هذا التسلسُل الحسابي الصرف يتناسب مع ترتيبٍ أفقي للعناصر بحسب مجموعاتها العادية المعترَف بها؛ مبيَّنٌ في الجدول التالي، الذي يكون التتابعُ العددي سليمًا في الأعمدة الثلاثة الأولى منه، بينما تكون حالات الشذوذ في العمودين الآخرين قليلة وطفيفة.

ولا نعرف بوضوح السببَ في عدم قبول اكتشاف أودلنج، فهو لم تنقصه المؤهلات الأكاديمية. ويبدو أن السبب هو حقيقة أن أودلنج نفسه كان يُعْوِزه الحماس لفكرة الصفة الدورية الكيميائية، وكان ممتنعًا عن الاعتقاد بأنها قد تمثِّل قانونًا للطبيعة.

هنريخز

في الولايات المتحدة عاش شاب دنماركي حديث الهجرة إلى البلاد، اسمه جوستافوس هنريخز، وكان منشغِلًا باستحداث منظومته الخاصة لتصنيف العناصر، التي نشرها في شكل شعاعي يلفت الأنظار. ولكن ما كتبه هنريخز كان يميل لأن ينطمس تحت طبقات من التلميحات الغامضة للخرافات والأساطير الإغريقية القديمة وغيرها من أوجه التطرُّف الشاذة، فضلًا عن حقيقة أنه كان يتعمَّد أن ينأى بنفسه عن زملائه وعن الاتجاهات الكيميائية السائدة في تلك الآونة.

وُلِد هنريخز في عام ١٨٣٦ في هولشتاين التي كانت حينئذٍ جزءًا من الدنمارك، ثم صارت بعدئذٍ إقليمًا ألمانيًّا. ونشر أول كتاب له وهو في سن العشرين حين كان طالبًا في جامعة كوبنهاجن. ثم هاجر إلى الولايات المتحدة في عام ١٨٦١ هربًا من الاضطهاد السياسي، وبعد عام من التدريس في مدرسةٍ ثانوية عُيِّن رئيسًا لقسم اللغات الحديثة بجامعة أيوا. وبعد عام آخَر فقط صار أستاذًا للفلسفة الطبيعية والكيمياء واللغات الحديثة. كما نال شرف تأسيس أول محطة للأرصاد الجوية في الولايات المتحدة الأمريكية، وعمل مديرًا لها على مدى ١٤ عامًا، وقد نُشِرت إحدى الكتابات التفصيلية القليلة عن حياة هنريخز وعمله، نشرها كارل زابفه، وقال فيها:

ليس ضروريًّا أن تقرأ بعمق أو تتوغَّل في مطبوعات هنريخز العديدة لتتعرَّف على علامات حماسةٍ أنانيةِ الطابع طمستِ الكثيرَ من إسهاماته، بفعل غرابة الأطوار التي تجلب عدم الثقة. ولكن في وقت متأخِّر فقط، صار من الممكن فصْلُ تلك الإلهامات التي كانت واقعية — والتي سيطرت على تفكيره — عن الخلفية التي اكتسبها خلال مسيرة تعليمه. وأيًّا كان المصدر، عادةً ما كان هنريخز يُلبس ذلك بلباس من التفاخر بلغات متعددة، بل وصل الأمر به إلى تقمُّص فكرة أنه كان يعتبر الفلسفةَ الإغريقية فلسفتَه الشخصية.

ولقد امتدت اهتمامات هنريخز الواسعة إلى مجال علم الفلك؛ ففعل هنريخز مثل الكثيرين من الباحثين الذين سبقوه، وصولًا إلى أفلاطون؛ إذ لاحظ بعضًا من الانتظامات العددية فيما يتعلق بأحجام المدارات الكوكبية. وفي مقالةٍ نشرها عام ١٨٦٤ عرض هنريخز الجدولَ المبيَّن في جدول ٤-٣، الذي تولَّى شرحه وتفسيره.
جدول ٤-٣: جدول هنريخز للمسافات الكوكبية (عام ١٨٦٤). ( From G. D. Hinrichs, ‘The Density, Rotation and Relative Age of the Planets’, American Journal of Science and Arts, 2(37), 36–56, 1864, table on p. 43.)
البُعْد عن الشمس
عطارد ٦٠
الزهرة ٨٠
الأرض ١٢٠
المريخ ٢٠٠
كويكب ٣٦٠
المشتري ٦٨٠
زحل ١٣٢٠
أورانوس ٢٦٠٠
نبتون ٥١٦٠
عبَّر هنريخز عن الفروق في هذه المسافات بالصيغة ؛ حيث n هو الفارق في بُعْدَيْ كوكبَيْ عُطارد والزهرة (مثلًا) عن الشمس، (أو ما يساوي ٢٠ وحدة)، وعلى حسب قيمة X، تعطي الصيغة من ثَمَّ المسافاتِ التاليةَ:
… إلخ.

وقبل ذلك بسنوات قليلة، وتحديدًا في عام ١٨٥٩، كان الألمانيان جوستاف كيرشوف وروبرت بنسن قد اكتشفا أن كل عنصر يمكن جعله يبعث ضوءًا يمكن من ثَمَّ تفريقه باستخدام منشور زجاجي وتحليله كميًّا. واكتشفَا أيضًا أن كل عنصر على حدة يعطي طيفًا مميزًا يتكوَّن من مجموعة من الخطوط الطيفية الخاصة بدآ في قياسها، ونشرَا القياسات التي توصَّلَا إليها في جداول تفصيلية. وقد أشار بعض الباحثين إلى أن هذه الخطوط الطيفية قد تقدِّم معلوماتٍ عن العناصر المختلفة التي أنتجتها، ولكن هذه الافتراضات واجهتِ انتقاداتٍ عنيفةً من أحد مكتشفيها؛ وهو بنسن. في الواقع، ظل بنسن معارِضًا لفكرة دراسة الأطياف بهدف دراسة الذرات أو تصنيفها بطريقة أو بأخرى.

fig17
شكل ٤-٣: منظومة هنريخز الدورية.

ومع ذلك، لم يتردد هنريخز في ربط الأطياف بذرات العناصر، وصار بصفة خاصة مهتمًّا بحقيقة أنه في حالة أي عنصر معين، تكون تردُّداتُ خطوطه الطيفية على ما يبدو عبارةً عن مضاعفات بأعداد صحيحة لأصغر فارق؛ فعلى سبيل المثال: في حالة الكالسيوم، لُوحِظ وجود نسبة مقدارها ١ : ٢ : ٤ بين تردداته الطيفية. وكان تفسير هنريخز لهذه الحقيقة جريئًا ومتسقًا؛ إذ قال إنه إذا كانت أحجام المدارات الكوكبية تنتج سلسلة منتظمة من الأعداد الصحيحة، كما ذكر آنفًا، وإذا كانت النِّسَبُ بين فروق الخطوط الطيفية تنتج أيضًا نِسَبًا من أعداد صحيحة، فإن سبب ذلك الأخير قد يكمن في النِّسَب الحجمية بين الأبعاد الذرية للعناصر المختلفة.

تتكوَّن «الخطوط» الأحد عشر التي تشع من مركز منظومة هنريخز الشبيهة بالعجلة من ثلاث مجموعات تغْلُب فيها اللافلزات، وثماني مجموعات تحتوي على الفلزات (شكل ٤-٣). من منظور حديث، تبدو مجموعات اللافلزات مرتَّبةً على نحو غير صحيح، من حيث إن تتابُعها يكون بمجموعات ١٦ ثم ١٥ ثم ١٧ حين نتقدَّم من اليسار إلى اليمين على قمة المخطط اللولبي. وقد رتَّبَ هنريخز المجموعة المحتوية على الكربون والسيليكون مع المجموعات الفلزية، ويُحتمَل أن هذا بسبب أنها تتضمَّن أيضًا فلزات النيكل والبالاديوم والبلاتين. وفي الجدول الحديث، جُمِعت هذه الفلزات الثلاثة معًا بالفعل، ولكن ليس في نفس المجموعة مع الكربون والسيليكون، اللذين ينسجمان مع الجرمانيوم والقصدير والرصاص في المجموعة ١٤.

ولكن بصفة عامة، تُعتبَر منظومة هنريخز الدورية ناجحةً نوعًا ما في تجميع الكثير من العناصر المهمة وتصنيفها معًا. ومن مزاياها الرئيسية وضوحُ تصنيفاتها، بالمقارنة مثلًا مع منظومتَيْ نيولاندز الأكثر تفصيلًا والأقل نجاحًا في عامَيْ ١٨٦٤ و١٨٦٥. كان هنريخز يمتلك معرفة عميقة بالكيمياء، فضلًا عن براعة في علم المعادن، ولعله كان أكثر مكتشفِي المنظومة الدورية جمعًا بين تخصُّصات مختلفة. وإن حقيقة أنَّ هنريخز توصَّل إلى منظومته من اتجاه يختلف عن الآخرين، قد يمكن الأخذ به لمنح المنظومة الدورية ذاتها دعمًا مستقلًّا.

وفي مقالة نُشِرت في مجلة «ذا فارماسيستس» في عام ١٨٦٩، ناقش هنريخز بعض المحاولات غير الناجحة السابقة لتصنيف العناصر، ولكن بفعله هذا أغفل ذِكْر جميع أترابه من المكتشفين المشاركين مثل دو شانكورتوا ونيولاندز وأودلنج ولوثار ماير ومندليف. ويبدو أن هنريخز قد تجاهَلَ كل المحاولات الأخرى لتصنيف العناصر تصنيفًا مباشِرًا على أساس أوزانها الذرية، وإن كان بوسع المرء أن يفترض أنه ربما كان مدرِكًا لتلك المحاولات، إذا أخذ بعين الاعتبار حقيقة أنه كان مُلِمًّا ببعض اللغات الأجنبية.

لوثار ماير

إن أول منظومة دورية تتصف ببعض التأثير في العالَم العلمي تُعْزَى إلى كيميائي ألماني اسمه يوليوس لوثار ماير كان يعمل بمدينة يينا. ولكن لوثار ماير يُنظَر إليه بصفة عامة باعتباره منافِسًا لمندليف فيما يتعلَّق بمَن اكتشف فعليًّا المنظومة الدورية. ويُعتبَر هذا التقييم حقيقيًّا بوجه عام، ولكن توجد بعض الجوانب في عمله توحي بأنه قد يُعتبَر مشاركًا في الاكتشاف، وليس مجرد منافس عادي.

فعل لوثار ماير مثل مندليف؛ إذ حضر مؤتمر كارلسروه، وكان حينئذٍ في شبابه، ويبدو أنه كان شديد التأثُّر بالأفكار التي قدَّمها كانيزارو في هذا الاجتماع، فسرعان ما نقَّح الطبعة الألمانية لأعمال كانيزارو. وفي عام ١٨٦٢، بعد مؤتمر كارلسروه بعامين فحسب، ابتكر لوثار ماير جدولين دوريين جزئيين يتكوَّن أحدهما من ٢٨ عنصرًا، مرتَّبة بحسب تزايد الأوزان الذرية، وتكون العناصر مجمعة في أعمدة رأسية تبعًا لتكافؤاتها الكيميائية (شكل ٤-٤).

وفي عام ١٨٦٤ نشر كتابًا قوي التأثير عن الكيمياء النظرية، أدخل فيه جدولَيْه المذكورين. وقد تضمَّن جدولُه الآخَر ٢٢ عنصرًا، وكان مرتَّبًا — جزئيًّا — بحسب تزايد الأوزان الذرية.

fig18
شكل ٤-٤: منظومة لوثار ماير الدورية في عام ١٨٦٢.

كان أسلوب لوثار ماير معبِّرًا عنه باعتباره كيميائيًّا نظريًّا أو فيزيائيًّا؛ إذ منح المزيد من التركيز لأمور كمية، مثل الكثافات والأحجام الذرية ونقط الانصهار للعناصر، أكثر من اهتمامه بخواصها الكيميائية. وعلى النقيض من الرواية الشائعة، ترك لوثار ماير بالفعل بعض الثغرات في جدولَيْه الدوريين، بل غامَرَ أيضًا بالتنبؤ ببعض خواص العناصر التي ربما تملأ هذه الفراغات؛ وكان أحد هذه التنبؤات عن عنصر تمَّ فصله في عام ١٨٨٦، وسُمِّي الجرمانيوم. وبخلاف مندليف، كان لوثار ماير يؤمن بوحدة المادة كلها، وكان داعمًا لفرضية براوت عن الطبيعة المركبة للعناصر.

وفي عام ١٨٦٨ أصدر منظومة دورية موسعة للطبعة الثانية لكتابه الدراسي الذي احتوى على ٥٣ عنصرًا معروفًا (شكل ٤-٥). ومما يُؤسَف له أن هذا الجدول لم يضعه الناشر في موضعه المطلوب، فلم يظهر في الطبعة الجديدة من كتابه ولا في أي مقالات بالدوريات. وحتى لوثار ماير نفسه، يبدو أنه نسي وجود هذا الجدول؛ إذ لم يذكر هذا الأمر مطلقًا بعد خلاف على الأسبقية شبَّ بينه وبين مندليف لاحقًا. فلو خرج هذا الجدول إلى النور وقتئذٍ، فلا نعرف، لعل ادِّعاء مندليف بالأسبقية ما كان ليحظى بهذا الثقل الذي يتمتع به اليوم.
fig19
شكل ٤-٥: منظومة لوثار ماير الدورية في عام ١٨٦٨.

كان لجدول لوثار ماير المفقود ميزة كبيرة لتضمُّنه الكثيرَ من العناصر، ولوجود أوضاع معينة أخفَقَ جدولُ مندليف الشهير الذي صدر في نفس العام في التوصُّل إليها. وقد نُشِر الجدول المفقود بعدها، بل أيضًا بعد وفاة لوثار ماير في عام ١٨٩٥؛ أيْ بعد فوات الأوان بحيث لم يَعُدْ له أي تأثير على التساؤل الذي برز عمَّن هو أول مَن أنجز المنظومة الدورية الأولى الناضجة تمامًا.

وخلال فترة ذلك الخلاف العام، اتخذ مندليف أسلوبًا أكثر شدةً؛ إذ افترض أن الفضل يعود إليه وحده؛ لأنه ذهب لأبعد من اكتشاف المنظومة الدورية، حين أصدر عددًا من التنبؤات الناجحة. ويبدو أن لوثار ماير اتخذ وضعًا انهزاميًّا بعض الشيء حين اعترف بأنه كان يفتقر إلى الشجاعة لكي يصدر بعض التنبؤات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤