الفصل السادس

علم الفيزياء يقتحم الجدول الدوري

على الرغم من أن جون دالتون كان قد أعاد إدخال فكرة الذرات إلى مجال العلوم، تبع ذلك نشوب الكثير من المجادلات بين علماء الكيمياء، وأنكر أغلبهم حرفيًّا وجود الذرات في حد ذاتها. كان من أولئك الكيميائيين المتشكِّكين مندليف نفسه، ولكن كما رأينا في فصول سابقة، فإن هذا لم يمنعه من نشر أنجح منظومة دورية من بين كل ما قُدِّم في عصره. ولكن إثر ما ظهر من أبحاثٍ لعلماء في الفيزياء مثل ألبرت أينشتاين، صارت حقيقة الذرة أكثر تأكيدًا مع بدايات القرن العشرين؛ فقد قَدَّم بحثٌ لأينشتاين في عام ١٩٠٥ عن الحركة البراونية — مستخدِمًا وسائل إحصائية — تبريرًا نظريًّا حاسمًا لوجود الذرات، ولكن كان ينقصه الدعم التجريبي؛ وسرعان ما قدَّمَ هذا الدعمَ التجريبيَّ الفيزيائيُّ التجريبي الفرنسي جان بيرين.

كان هذا التغيير مصحوبًا بكثير من الخطوط البحثية التي تهدف إلى استكشاف بنية الذرة، كما كان مصحوبًا أيضًا بتطوُّرات كان لها بالتأكيد تأثيرٌ كبير على محاولات العلماء لفهم المنظومة الدورية نظريًّا. وفي هذا الفصل ندرس بعضًا من هذه الأبحاث الذرية، فضلًا عن العديد من الاكتشافات الرئيسية الأخرى في مجال علم فيزياء القرن العشرين، التي أسهمت فيما أسمِّيه غزْوَ الفيزياء للجدول الدوري.

لقد جاء اكتشاف الإلكترون، وأول جسيم تحت ذري، وأول تلميح إلى أن للذرة بنية تفصيلية؛ في عام ١٨٩٧ على يد العالم الرائع جيه جيه طومسون، أثناء عمله بمختبر كافندش في كامبريدج. وقبل هذا بقليل، وتحديدًا في عام ١٨٩٥، كان العالم فيلهلم كونراد رونتجن قد اكتشف الأشعةَ السينية في فيورتسبورج بألمانيا، وسرعان ما وُضِعت تلك الأشعة الجديدة موضعَ الاستخدام المثمِر من قِبَل هنري موزلي، وهو فيزيائي شاب كان يعمل في البداية في مانشستر، ثم انتقل إلى أكسفورد ليقضي فيها بقيةَ حياته العلمية القصيرة.

وبعد أن قدَّمَ رونتجن وصفًا علميًّا للأشعة السينية بعام واحد فقط، اكتشف هنري بيكريل في باريس ظاهرةً مهمة جدًّا اسمها النشاط الإشعاعي؛ حيث تتحلَّل ذرات معينة تلقائيًّا بينما تطلق عددًا من أنواع جديدة مختلفة من الأشعة. أما مَن سكَّ بالفعل مصطلح «النشاط الإشعاعي» فهو العالمة البولندية المولد، والفرنسية الإقامة، ماريا سكلودوفسكا (التي صار اسمها فيما بعدُ ماري كوري) (شكل ٦-١)، التي شاركتْ زوجَها العالم الفرنسي بيير كوري عملَه العلمي بإجراء التجارب على تلك الظاهرة الجديدة الخَطِرة، وسرعان ما اكتشفَا عنصرين جديدين أطلقَا عليهما اسمَي البولونيوم والراديوم.
fig20
شكل ٦-١: ماري كوري.

وعن طريق دراسة كيفية تفكُّك الذرات بينما يحدث لها تحلُّلٌ إشعاعيُّ النشاط، صار من الممكن سبر أغوار مكونات الذرة بفاعلية أكبر، فضلًا عن القوانين التي تحكم كيفية تحوُّل الذرات إلى ذرات أخرى؛ ومن ثَمَّ، وعلى الرغم من أن الجدول الدوري يتعامل مع ذرات فردية متمايزة أو ذرات لعناصر مختلفة، فإن هناك على ما يبدو بعض «الصفات» التي تسمح لبعض الذرات بأن تتحوَّل إلى ذرات أخرى في الظروف السليمة وبالشروط الصحيحة؛ فعلى سبيل المثال: فقدان عنصرٍ ما لجسيم ألفا الذي يتركَّب من نواة هيليوم فيها بروتونان، ينتج عنه خفض العدد الذري لهذا العنصر بمقدار وحدتين.

هناك فيزيائي آخَر كان له تأثير كبير، وكان يُجرِي أبحاثه في تلك الآونة؛ هذا العالم اسمه إرنست رذرفورد، وهو نيوزيلندي الأصل، وصل إلى كامبريدج ليحصل على زمالة بحثية، ثم أمضى فترات من الزمن بجامعة ماكجيل في مونتريال وبجامعة مانشستر، وبعد ذلك عاد إلى كامبريدج ليتولى إدارة معمل كافندش خَلَفًا للعالم جيه جيه طومسون. كانت إسهامات رذرفورد في علم الفيزياء الذرية كثيرة ومتنوعة، وشملت اكتشاف القوانين التي تهيمن على الانحلال الإشعاعي، فضلًا عن كونه أول مَن «شطر الذرة». كما كان رذرفورد أول مَن حقَّقَ عملية «تحويل» العناصر إلى عناصر أخرى جديدة، وبهذه الطريقة حقَّقَ نظيرًا اصطناعيًّا لعملية النشاط الإشعاعي التي تُنتِج بالمثل ذرات من عنصر مختلف تمامًا، كما أكَّد مجددًا على فكرة أخرى هي الوحدة الجوهرية لجميع صور المادة، ومن قبيل المصادفة أن مندليف كان يعارض بشدةٍ هذه الفكرة أثناء حياته.

كما كان لرذرفورد اكتشاف آخَر يتمثَّل في النموذج النووي للذرة، وهو مفهوم يكاد يكون من المسلمات اليومَ؛ هذا المفهوم يتمثَّل تحديدًا في الفكرة القائلة بأن الذرة تتركَّب من نواة مركزية تحيط بها مدارات تدور فيها إلكترونات سالبة الشحنة. وكان سلفه في كامبريدج، وهو طومسون، يظن أن الذرة تتركب من كرة موجبة الشحنة تدور في داخلها الإلكترونات في شكل حلقات.

ومع ذلك، لم يكن رذرفورد أول مَن اقترح نموذجًا نوويًّا للذرة يشبه نظامًا شمسيًّا مصغرًا؛ إذ إن هذا المفهوم المتميز ينتمي إلى الفيزيائي الفرنسي جان بيرين، الذي افترض في عام ١٩٠٠ أن الإلكترونات السالبة تدور حول النواة الموجبة كما تدور الكواكب السيارة حول الشمس. وفي عام ١٩٠٣ تعرَّضت هذه المضاهاة الفلكية لتحريفٍ جديد من جانب هانتارو ناجاوكا من اليابان، الذي تقدَّم بنموذجه «الزُّحلي» الذي حلت فيه الإلكترونات محل الحلقات الشهيرة التي حول كوكب زحل، ولكن لم يستطع بيرين ولا ناجاوكا التوصُّل إلى دليل تجريبي قوي يدعم نموذجَيْهما عن الذرة، بينما استطاع رذرفورد ذلك.

قام رذرفورد، ومعه زميلاه جايجر ومارسدن، بإطلاق سيل من جسيمات ألفا تجاه رقاقة معدنية مصنوعة من الذهب، فحصلوا على نتيجة أدهشتهم كثيرًا؛ فبينما مرت معظم جسيمات ألفا خلال رقاقة الذهب بسهولة ودون إعاقة تقريبًا، فإن عددًا ملحوظًا منها انحرف بزوايا مائلة جدًّا. وكان استنتاج رذرفورد أن ذرات الذهب أو أي شيء آخَر يتصل بهذه المادة، يتركب في معظمه من فراغ تام، باستثناء نواة مركزية كثيفة. وحقيقةُ أن بعض جسيمات ألفا قد ارتدَّتْ عكسيًّا بشكل غير متوقَّع باتجاه تيار جسيمات ألفا المسلَّطة؛ كانت دليلًا على وجود نواة مركزية دقيقة في كل ذرة.

ومن ثَمَّ تبيَّن أن الطبيعة أكثر مرونةً ممَّا كان يُظَن سابقًا؛ فعلى سبيل المثال: كان مندليف يعتقد أن العناصر لها طبيعة فردية تمامًا، ولم يتقبَّل فكرة أن العناصر يمكن أن تتحوَّل إلى عناصر أخرى مختلفة. وفي الواقع، وبعد أن بدأ الزوجان كوري يعلنان عن التجارب التي توحي بتفكُّك الذرات، سافَرَ مندليف إلى باريس ليرى الأدلةَ بنفسه، وحدث هذا قرب نهاية حياته. وليس من الواضح ما إذا كان قد وافَقَ على هذه الفكرة الجديدة غير العادية حتى بعد زيارته لمختبر كوري.

الأشعة السينية

في عام ١٨٩٥ حقَّقَ العالم الفيزيائي الألماني رونتجن اكتشافًا خطيرًا وهو في سن الأربعين، وفي هذا الشأن كان نتاجُ أبحاثه رائعًا إلى حدٍّ كبير، وقد كتب في حقه فيما بعدُ العالِمُ الفيزيائي إيميليو سيجريه يقول:

بحلول عام ١٨٩٥ كان رونتجن قد كتب ثمانية وأربعين بحثًا، صارت الآن في طي النسيان تقريبًا. ولكن في بحثه التاسع والأربعين حقَّقَ اكتشافًا مذهلًا.

كان رونتجن يستكشف تأثير تيار كهربي داخل أنبوب زجاجي مفرَّغ يُسمَّى أنبوب كروكس؛ إذ لاحظ أن هناك شيئًا ما يتوهَّج — لم يكن جزءًا من تجربته — على الجانب الآخَر من مختبره. كان هذا الشيء عبارة عن شاشةٍ مغطاةٍ بمادة بلاتينوسيانيد الباريوم، وسرعان ما تأكَّدَ أن التوهُّج ليس نتيجةً لتأثير التيار الكهربي، واستنتج أنه قد يكون ثمة نوعٌ جديد من الأشعة نتج داخل أنبوب كروكس الذي لديه. وسرعان أيضًا ما اكتشف رونتجن أشهر خاصية تُعرَف بها الأشعة السينية؛ فقد وجد أن بإمكانه أن يصنع صورة ليده تُظهِر بوضوح شكلَ عظامه فقط. وخرجت بهذا إلى النور تقنيةٌ قوية جديدة تتيح تطبيقاتٍ طبيةً عديدة. وبعد أن كان رونتجن يعمل سرًّا على مدى سبعة أسابيع، صار جاهزًا للإعلان عن نتائجه وإبلاغها إلى الجمعية الفيزيائية الطبية في فورتسبورج، وهي مصادفةٌ مثيرة للاهتمام إذا أخذنا في الاعتبار مسألةَ أن أشعته الجديدة سيكون لها ارتباطٌ بالمجالَيْن الطبي والفيزيائي، اللذين كانا لا يزال كلٌّ منهما متباعِدًا عن الآخر في تلك الآونة.

أرسل رونتجن بعضًا من صور أشعته السينية الأصلية إلى باريس؛ حيث وصلت إلى هنري بيكريل، الذي صار مهتمًّا بدراسة العلاقة بين الأشعة السينية وخاصية التفسفر (أي الوميض الفوسفوري)؛ حيث تطلِق موادُّ معينةٌ ضوءًا عند تعرُّضها لأشعة الشمس. ولكي يختبر بيكريل هذه الفكرةَ غلَّفَ بعض بلورات أحد أملاح اليورانيوم بورق سميك، ونظرًا لغياب أشعة الشمس في تلك الفترة، قرَّرَ أن يضع هذه المواد في أحد الأدراج لبضعة أيام. وكانت ضربةَ حظٍّ أخرى؛ إذ كان بيكريل قد وضع بلوراته المغلَّفة فوق لوحة فوتوغرافية غير مُظهَّرة (أي غير محمضة)، قبل أن يغلق الدرج ويذهب لبعض مشاغله لبضعة أيام من أيام باريس الملبدة بالغيوم.

وعندما فتح بيكريل الدرج أخيرًا، أخذته الدهشة حين وجد صورةً تكوَّنت على اللوحة الفوتوغرافية بسبب بلورات اليورانيوم، على الرغم من عدم وجود أشعة الشمس لتؤثِّر عليها؛ وأوحى إليه هذا بوضوح أن ملح اليورانيوم كان يُطلِق أشعةً ذاتية، بغضِّ النظر عن عملية التفسفر. وهكذا اكتشف بيكريل النشاطَ الإشعاعي بعينه، وهي عملية طبيعية تحدث في بعض المواد؛ حيث يُطلِق الانحلالُ التلقائيُّ للذرات انبعاثاتٍ قويةً، تكون خَطِرة في بعض الحالات. وكانت ماري كوري هي التي أطلقَتْ على هذه الظاهرة اسمَ «النشاط الإشعاعي» بعد ذلك ببضع سنين.

وقد تبيَّن أن العلاقة التي افتُرِضت بين هذه التجارب والأشعة السينية غيرُ صحيحة؛ إذ أخفق بيكريل في العثور على أي علاقة بين الأشعة السينية والتفسفر. وفي واقع الأمر، لم تكن الأشعة السينية قد دخلت ضمن هذه التجارب. ومع ذلك اكتشف بيكربل ظاهرةً قُدِّر أن تكون لها أهميةٌ هائلة بأكثر من جانب؛ فأولًا: كان النشاط الإشعاعي خطوة مبكرة وجوهرية نحو استكشاف المادة والإشعاع، وثانيًا: قُدِّر لها أن تؤدِّي بشكل غير مباشر إلى تطوير أسلحةٍ نوويةٍ.

عودة إلى رذرفورد

نحو عام ١٩١١ توصَّلَ رذرفورد إلى استنتاج أن الشحنة التي في نواة الذرة تساوي ما يقرب من نصف وزن تلك الذرة؛ أي إن Z ≈ A/2، وذلك بعد تحليله لنتائج تجارب التشتيت الذري. وقد دعم هذا الاستنتاجَ فيزيائيٌّ في أكسفورد يُدعَى تشارلز باركلا، الذي توصَّل إليه من طريق مختلف تمامًا، مستعينًا بتجاربه على الأشعة السينية.
وفي الوقت نفسه، كان هناك شخص خارج نطاق هذا المجال، هو الخبير الاقتصادي الهولندي أنطون فان دن بروك، كان يتفكَّر مليًّا في إمكانية تعديل جدول مندليف الدوري. وفي عام ١٩٠٧ تقدَّم بجدول جديد يحتوي على ١٢٠ عنصرًا، بالرغم من أنه قد ترك فيه فراغاتٍ كثيرةً خالية. ثم تمَّ بعدها شَغْل عددٍ لا بأس به من تلك الأماكن الشاغرة ببعض المواد المكتشَفة حديثًا، وإن كانت حالتُها كعناصر كانت لا تزال غير مؤكَّدة، وتشمل ما يُسمَّى انبعاث الثوريوم واليورانيوم-إكس (وهو منتجٌ تحلُّليٌّ من اليورانيوم غيرُ معروف)، واﻟ Gd2 (وهو منتجٌ تحلُّليٌّ من الجادولينيوم)، وأنواعًا أخرى جديدة كثيرة.
إلا أن السمة الحقيقية لقصة بحث فان دن بروك تَمثَّلَت في افتراضه أن جميع العناصر هي مركبات لجسيم سمَّاه «ألفون»، يتركَّب من نصف ذرة هيليوم، وتساوي كتلتُه وحدتَيْ وزنٍ ذري. وفي عام ١٩١١ نشر مقالةً أخرى أسقط منها أيَّ ذِكْر للألفونات، ولكنه استبقى فكرة أن العناصر تختلف بمقدار وحدتين من الوزن الذري. ثم تَقدَّمَ خطوةً أخرى نحوَ مفهوم العدد الذري؛ إذ كتب خطابًا من ٢٠ سطرًا أرسله إلى مجلة «نيتشر» اللندنية قال فيه:

… إن عدد العناصر المحتمَلة مساوٍ لعدد الشحنات الدائمة المحتمَلة …

وهكذا كان فان دن بروك يفترض أنه إذا كانت الشحنة النووية للذرة نصفَ وزنها الذري، وكانت الأوزانُ الذرية للعناصر المتتابعة تزداد بطريقة تدريجية بمقدار اثنين، فإن الشحنة النووية تحدِّد موضعَ العنصر في الجدول الدوري. وبتعبير آخَر، فإن كل عنصر تالٍ في الجدول الدوري تكون شحنتُه النووية أكبرَ بمقدار واحد من العنصر الذي يسبقه.

وقد لفتَتْ مقالةٌ أخرى نشرها في عام ١٩١٣ انتباهَ نيلز بور، الذي استشهد بفان دن بروك في بحثه الثلاثي الشهير في عام ١٩١٣ عن ذرة الهيدروجين والتوزيعات الإلكترونية للذرات الكثيرة الإلكترونات. وفي نفس العام كتب فان دن بروك مقالةً أخرى نُشِرت أيضًا في مجلة «نيتشر»، وفي هذه المرة ربط بوضوحٍ العددَ المسلسلَ لكل ذرة بشحنة كل ذرة. ولعل ما هو أهم من هذا أنه فصل هذا العددَ الذري المسلسل عن الوزن الذري. وقد أشاد بهذه الطبعة الفارقة العديدُ من الخبراء في هذا المجال، وفيهم سودي ورذرفورد؛ فجميعهم أخفقوا في رؤية هذا الأمر بالوضوح الذي رآه به ذلك الهاوي فان دن بروك.

موزلي

صحيح أن الهاوي فان دن بروك أذهل الخبراء وحيَّرهم بتوصُّله إلى مفهوم العدد الذري، إلا أنه لم يُكمِل تمامًا مهمةَ تأسيس هذا العمل العلمي الكبير، والشخص الذي أكمله بالفعل، والذي يُمنَح على نحوٍ شبه دائم شرفَ اكتشاف العدد الذري، هو العالم الفيزيائي الإنجليزي هنري موزلي، الذي مات في الحرب العالمية الأولى ولم يتجاوز عمره ٢٦ عامًا. وقد بُنِيت شهرته على بحثين اثنين فقط، أكَّدَ فيهما تجريبيًّا أن العدد الذري هو مبدأ ترتيبي للعناصر أفضل من الوزن الذري. كما يُعتبَر هذا البحث العلمي مهمًّا أيضًا؛ لأنه أتاح للآخرين أن يحدِّدوا عددَ العناصر التي لم تكن قد اكتُشِفت بعدُ فيما بين حدود العناصر الموجودة طبيعيًّا (ما بين الهيدروجين واليورانيوم).

كان موزلي قد تلقَّى تدريبه في جامعة مانشستر كتلميذ لأستاذه رذرفورد، وتضمَّنت تجاربه قيامه بجعل الضوء يرتدُّ عن أسطح عيِّنات من عناصر مختلفة، وتسجيل التردُّد المميز للأشعة السينية التي أطلقها كلٌّ منها. تحدُث هذه الانبعاثات بسبب طرد إلكترون داخلي من الذرة؛ مما يحثُّ إلكترونًا خارجيًّا على أن يملأ الفراغَ الناتج في عمليةِ تكوُّنٍ مصحوبة بانبعاث للأشعة السينية.

بدأ موزلي بانتقاء ١٤ عنصرًا، ٩ منها — وهي من التيتانيوم إلى الزنك — كوَّنت تتابُعًا مستمرًّا من العناصر في الجدول الدوري. وما اكتشفه هو أن الرسم البياني المكوَّن من تردُّد الأشعة السينية المنبعِثة في مقابل مربع عددٍ صحيح يمثِّل موضعَ كل عنصر في الجدول الدوري؛ يشكِّل خطًّا مستقيمًا. كان هذا تأكيدًا لفرضية فان دن بروك بأن العناصر يمكن ترتيبها عن طريق تتابُعٍ من الأعداد الصحيحة، التي سُمِّيت فيما بعدُ «بالأعداد الذرية»؛ عدد لكل عنصر بدءًا من الهيدروجين = ١، ثم الهيليوم = ٢، وهكذا.

وفي بحث آخَر، بسط موزلي نطاقَ هذه العلاقة لتشمل ٣٠ عنصرًا آخَر؛ ممَّا قوى مركزه أكثر. ثم صار من السهل نسبيًّا على موزلي أن يُثبِت ما إذا كانت المزاعمُ التي تُطلَق بين الحين والآخَر عن عناصر كثيرةٍ جديدةٍ صحيحةً أم لا؛ فعلى سبيل المثال: كان الكيميائي الياباني سيجي أوجاوا قد زعم أنه عزل عنصرًا ما ليملأ الفراغَ الذي يوجد أسفل المنجنيز في الجدول الدوري، وقاس موزلي تردُّدَ الأشعة السينية التي أطلقَتْها عينة أوجاوا حين سلَّطَ عليها وابلًا من الإلكترونات، فوجَدَ أنه لا يتطابق مع القيمة المتوقَّعة من العنصر ٤٣.

بينما كان الكيميائيون يستخدمون الأدوات الذرية لترتيب العناصر، كان ثمة قدرٌ كبير من عدم اليقين بشأن عدد العناصر الباقية التي لم تُكتشَف بعدُ؛ وكان هذا بسبب الفجوات غير المنتظمة الموجودة بين قِيَم الأوزان الذرية للعناصر المتتابعة في الجدول الدوري. وقد اختفت هذه المشكلة حين تحوَّلَ العلماء إلى استخدام العدد الذري، وحينئذٍ صارت الثغراتُ التي بين العناصر المتتابعة منتظمةً تمامًا، بمقدار وحدة واحدة من العدد الذري.

بعد وفاة موزلي استخدم كيميائيون وفيزيائيون آخَرون طريقته، ووجدوا أن العناصر المجهولة المتبقية أعدادُها الذرية هي ٤٣، و٦١، و٧٢، و٧٥، و٨٥، و٨٧، و٩١، متخللة التتابع المتساوي المسافات من الأعداد الذرية. وتمَّ شَغْل آخِر تلك الفراغات في عام ١٩٤٥، عقب تخليق عنصرٍ رقمه الذري ٦١، وهو البروميثيوم.

النظائر

يُعَدُّ اكتشافُ نظائر أيِّ عنصر معين خطوةً مهمةً أخرى على طريق فهم الجدول الدوري تحقَّقت في فجر علم الفيزياء الذرية. ويتألَّف مصطلح «النظير» أو isotope من مقطعين؛ هما: iso (أيْ «نفسه»)، وtopos (بمعنى «مكان»)، ويُستخدَم لوصف نوع ذري من أي عنصر معين يختلف عنه في الوزن، ولكنه يحتلُّ نفس المكان في الجدول الدوري. وقد جاء هذا الاكتشاف بصفة جزئية بدافع من الضرورة، وأدَّت التطورات الجديدة في الفيزياء الذرية إلى اكتشاف عددٍ من العناصر الجديدة، مثل: الراديوم Ra، والبولونيوم Po، والرادون Rn، والأكتينيوم Ac، وهي العناصر التي اتَّخذتْ بسهولة مواضعَها الصحيحة في الجدول الدوري. ولكن فضلًا عن هذا، تم اكتشاف نحو ٣٠ من العناصر الجديدة الأكثر بروزًا على مدى فترة زمنية وجيزة، وأُطلِقت على هذه الأنواع الجديدة أسماء مؤقتة؛ مثل: انبعاث الثوريوم، وانبعاث الراديوم، والأكتينيوم-إكس، واليورانيوم-إكس، والثوريوم-إكس، وغير ذلك؛ للدلالة على العناصر التي يبدو أنها تنتجها. وتدل اللاحقة إكس على أنها أنواع مجهولة. وقد تَبيَّنَ فيما بعدُ أنها نظائر لعناصر مختلفة في أغلب الأحيان؛ فعلى سبيل المثال: تَبيَّنَ لاحقًا أن اليورانيوم-إكس هو نظير للثوريوم.

وقد حاوَلَ بعض مصمِّمي الجدول الدوري، مثل فان دن بروك، أن يُسكِنوا هذه «العناصر» الجديدة في جداول دورية ممتدة كما رأينا آنفًا. وفي الوقت نفسه أعَدَّ سوِيدِيَّان، هما دانيال أسترومهولم وتيودور سفيدبيرج، جداولَ دورية أقحمَا فيها بعضًا من هذه الأنواع الجديدة الغريبة في نفس الموضع؛ فعلى سبيل المثال: أسفل غاز الزينون الخامل وضعَا انبعاثَ الراديوم، وانبعاث الأكتينيوم، وانبعاث الثوريوم، وهذا على ما يبدو يمثِّل توقُّعًا لوجود النظائر، ولكنه ليس تأكيدًا واضحًا لهذه الظاهرة.

وفي عام ١٩٠٧، الذي تُوفِّي فيه مندليف، أعلن عالم الكيمياء الإشعاعية الأمريكي هربرت ماكوي عن استنتاجٍ يفيد بأن الثوريوم المُشِع غيرُ قابل للانفصال مطلقًا عن الثوريوم بالعمليات الكيميائية. وكانت هذه ملاحظة مهمة لم تلبث أن تكرَّرت بشأن الكثير من أزواج المواد الأخرى التي كان يُعتقَد أصلًا أنها عناصر جديدة، وحظيت هذه الملاحظات الجديدة بالتقدير الكامل من قِبَل فريدريك سودي الذي كان تلميذًا سابقًا لرذرفورد.

وبالنسبة إلى سودي، كان عدم قابلية الفصل كيميائيًّا يعني شيئًا واحدًا؛ أن هذه المواد المُشِعَّة هي صورتان أو أكثر من نفس العنصر الكيميائي. وفي عام ١٩١٣ ابتكر سوديٌّ لفظَ النظائر للتعبير عن وجود ذرتين أو أكثر من نفس العنصر، وهي ذرات غير قابلة للفصل كيميائيًّا بالمرة، إلا أن أوزانها الذرية مختلفة. وقد لاحظ أيضًا هذه الصفة من عدم القابلية للانفصال كيميائيًّا كلٌّ من فريدريش بانيث وجورج فون هيفيشي في حالة الرصاص و«الرصاص المشع»، بعد أن طَلَب منهما رذرفورد أن يفصلاهما كيميائيًّا. وبعد محاولتهما إنجازَ هذا العملِ الفذِّ بعشرين وسيلة كيميائية مختلفة، لم يجدوا بُدًّا من الاعتراف بالفشل الذريع، وقد كان فشلًا في بعض النواحي إلا أنه أضاف المزيدَ من الدعم لفكرة وجود عنصرٍ ما، وهو الرصاص في هذه الحالة، في صورة نظائر لا تقبل الفصلَ كيميائيًّا. ولكن لم يذهب كلُّ هذا العمل البحثي أدراجَ الرياح؛ إذ أتاحت جهودُ بانيث وفون هيفيشي لهما أن يستحدِثَا تقنيةً جديدة لتصنيف الجزيئات من حيث النشاط الإشعاعي، ممَّا صار الأساس لنظامٍ ثانوي مفيد إلى حدٍّ بعيد وكبيرٍ وله تطبيقات بعيدة التأثير، في مجالات مثل الكيمياء الحيوية والأبحاث الطبية.

وفي عام ١٩١٤ حظيت قضية النظائر بالمزيد والمزيد من الدعم بفضل أبحاثٍ أجراها تي دبليو ريتشاردز بجامعة هارفرد، الذي تولَّى قياسَ الوزن الذري لاثنين من نظائر نفس العنصر، وقد اختار هو أيضًا الرصاص؛ إذ إن هذا العنصر يُنتِجه عددٌ من سلاسل التحلُّل المشع، ولا يثير الدهشة أن ذرات الرصاص المتكوِّنة من هذه المسارات البديلة، التي تضم عناصرَ وسيطةً مختلفة تمامًا، نتج عنها تكوُّنُ ذراتِ رصاصٍ تختلف بقيمة كبيرة نسبيًّا مقدارها ٠٫٧٥ من وحدة الوزن الذري، وقد تَمكَّنَ علماء آخرون فيما بعدُ من زيادة هذه النتيجة إلى ٠٫٨٥ عن الوحدة.

وأخيرًا، أتاح اكتشافُ النظائر المزيدَ من الحل لمشكلةِ وجودِ أزواجِ العناصر المنعكسة، كما في حالتَي التيلوريوم واليود اللتين ابتُلِي بهما مندليف. إن التيلوريوم وزنه الذري أعلى من اليود، على الرغم من أنه يسبقه في الجدول الدوري؛ لأن متوسط أوزان جميع نظائر التيلوريوم قيمته واقعيًّا أعلى من متوسط أوزان نظائر اليود؛ ومن ثَمَّ يُنظَر إلى الوزن الذري باعتباره شيئًا أو كمًّا اشتراطيًّا ثانويًّا يعتمِد على مقدار وفرة جميع نظائر عنصرٍ من العناصر. وأما الكمُّ الأكثر أساسيةً، فيما يتعلَّق بالجدول الدوري، فهو العدد الذري الذي أوصى به كلٌّ من فان دن بروك وموزلي، أو بتحديدٍ أكثر — كما أدرك العلماء فيما بعدُ — هو عدد البروتونات في نواة الذرة. ويُعرَف نوع العنصر بعدده الذري وليس بوزنه الذري؛ إذ إن هذا الأخير يختلف تبعًا للعينة المحدَّدة التي عُزِل منها العنصر.

وفي حين أن الوزن الذري للتيلوريوم في المتوسط أعلى ممَّا لليود، فإن عدده الذري أقل بمقدار وحدة واحدة، فإذا استخدمنا العددَ الذري بدلًا من الوزن الذري كمبدأ ترتيبي للعناصر، يندرج كلٌّ من التيلوريوم واليود ضمن مجموعتيهما المناسبتين من حيث السلوك الكيميائي. نخلص من هذا إلى أن العلماء لجئوا إلى الانعكاسات الزوجية لبعض العناصر، فقط لأنهم استخدموا مبدأً ترتيبيًّا غير سليم في جميع الجداول الدورية التي أُعِدت في مرحلةِ ما قبل بدايات القرن العشرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤