الفصل الخامس

آمال ورغبات

وما هذه الآمال والرغبات إلا آمالُ ورغباتُ شابٍّ من أبناء الريف شَهِد بعينَيه هذه الحياة الشقيَّة البالغة أقصى مراتب الشقاوة، التي يعيشها الفلَّاح المصري ويحياها هذا المسكين الطيِّب، فلم يشَأ أن يكتم آلامه ويُسكِت أنينه، بل رأى أنه من الواجب ومن الوفاء للوطن وللقرية، ومن الاحترام لنفسه ولضميره، أن يَجْأر بالثورة على هذه الحياة التي تتنافى وكلَّ مظهر من مظاهر الإنسانية أو الرحمة، في عصرٍ يقولون كثيرًا ويردِّدون أنه عصر الحريات وعصر الإنسانية، وما هذه الآمال والرغبات إلا مزيج من الرحمة والإشفاق والألم والأمل والشعور الحق بالقومية، والصرخة الحارَّة للأنَفة وللعزة الوطنية والدعوة المُبتعَثة من الجسم ومن الروح، المُتقطعة من اللحم ومن الدم، إلى الهدم ثم إلى الإنشاء؛ فلقد آنَ الأوان بأن نُعمِل مَعاولَ الهدم والتقويض في كل ما يؤخِّرنا في سيرنا ويتَّخذه الغربيون سُبَّة ووَصْمة لنا، وفي كل ما لا يتَّفق وصورَ حياتنا المدنية الغربية المُتحضرة، وفي كل ما يكون نشزًا أو ضعفًا أو اضطرابًا في لحننا القومي وأغنيتنا الكبرى الوطنية. نعم، آنَ الأوان بألَّا نُشفِق على قديم لمجرَّد أنه قديمٌ يخلع عليه القِدم صبغةً من القداسة، وبألَّا نجبن مُطلَقًا في العمل على تغيير وجهات جميع مرافق حياتنا تغييرًا كليًّا شاملًا، تغييرًا لا يفصل بيننا وبين الشرقية بصفةٍ عامة، والمصرية بصفةٍ خاصة، التي تمتزج بنا لحمًا ودمًا، والتي هي في ماضينا وفي حاضرنا وفي مستقبَلنا أيضًا، والتي هي في عقولنا، وفي قلوبنا، وفي أرواحنا، وفي أحلامنا، وفي نزعاتنا، وفي ثقافتنا، وفي أعصابنا، وفي كل خلية حية من خلايا وجودنا، تغييرًا يُبقِي لنا الطابع المصري الجميل في مصريته الفرعونية، ومصريته العربية، ومصريته الحديثة المصفَّاة من هذه الحضارات والثقافات الفرعونية واليونانية والرومانية والعربية واللاتينية والسكسونية، والمُمتزجة المُتفاعلة بهذه جميعًا.

نعم، لا نريد أن نتغيَّر كأمَّة لها من حضارتها الأولى ومن هذه الحضارات جميعًا مجدها وعزها المقدَّس طفرةً واحدة، ونقطع كل صلتنا بالماضي الحبيب إلينا المُتغلغل في كل أعصابنا وحواسنا، بل نريد أن نوفِّق ما استطعنا بين الماضي والحاضر والمستقبَل ليتألَّف من هذا جميعًا لحنٌ جميل واحد للفَخار المصري وللقومية المصرية، نريد أن تكون «مصر» التي وسعت أرضها الخِصبة ونيلها الخالد كلَّ الحضارات الإنسانية جميعًا، والتي غذَّت من تُربتها ومن مائها ومن سمائها ومن تاريخها كل الثقافات القديمة العريقة في القِدَم، نريد أن تكون «مصر» هذه لا تتأخَّر في عصرها الحديث وفي نهضتها الكبرى عن أن تستأنف غذاءها وإلهامها ووحيها لهذه الحضارات والثقافات الحديثة العالمية، وأن تؤدِّيَ رسالتها الكبرى إلى خدمة العالم جميعًا مؤتلِفةً من فن الشرق ومن علم الغرب!

إذن ليس لنا مَناص وقد اصطنعنا وسِرْنا على نهج الحياة الغربية الراقية من أن نهدم كلَّ ما لا يستطيع البقاء، وما يَعُوقنا عن أن نكون أمَّة المستقبل الفاخر كما كنَّا أمَّة الماضي الخالد، وما يؤخِّرنا عن أن نبعث من جديدٍ مصر العلوم والفنون، مصر الحكمة والفلسفة، مصر الحب والخير، مصر الحق والجمال، مصر السلام والجلال!

وإذا كنَّا في حاجة إلى الهدم لنبدأ في عملية الإنشاء، فنحن أحوَج إلى أن نهدم نظام حياتنا الريفية رأسًا على عَقِب كما يقولون؛ فإن وصمات العار التي تلطِّخ فَخارنا القومي وسخريات الغربيين التي يتفكَّهون بها علينا، وعوامل التأخُّر والجمود التي تُعرقل خطواتنا الواسعة في الإصلاح وفي البناء، كل ذلك جاثم لنا في الريف ومُلازمنا أبدًا في حياتنا الريفية.

لقد وقف القارئ على صورةٍ بسيطة من حياة فلَّاحنا وآلامه وضروب إرهافه وغَبْنه، وعرف أن هذا الفلَّاح النَّشِط العامل سيِّد مصر حقًّا إنما يعيش عيشةً خشِنة قذِرة كلها التعسُّف والإهمال والفقر والجهل والجمود والحِرمان والظلام، رغم ما يسكب المسكين من دمه، ويقتطع من قلبه، ويُريق من عَرَقه ليُطعِم أبناء مصر وليكسوَهم وليُنميَ ثروتهم، بينما هو يتقلَّب على أشواك الخصاصة والمَسغبة، وبينما هو يمشي بين الناس نِصف عُريان لا يمتلك إلا اللباس الذي يستر به جسمه. وبينما هو في معظم الليالي يبيت طاويًا جائعًا هو وأولاده المساكين وزوجه الوفية، ورغم حِرمانه كل حقوقه في الحرية الحقَّة والتعليم وضروب السلوى والعزاء واللهو، وحرمانه حتى حق إبداء شكواه، ورغم عبث الحكام واستغلالهم لجهله ولفقره، ورغم تحكُّم الملَّاك فيه وفي أولاده، ورغم تجاهل رجال الحكومات إياه كأنه ليس هو الذي على أكتافه يَصِلون إلى ما يَصِلون من كراسي الحكم ومراتب الجاه ومنازل السطوة والسلطان!

لا نريد الآن أن نعود إلى تصوير تلك الحياة الشقيَّة لفلَّاحنا المسكين؛ فإنَّا لنحسب أن فيما أوردنا في الفصول السابقة، وفيما حاوَلنا تصويره من حياته كما نعرفها وكما نُشاهدها وكما نشعر بها، وكما نعتقد ونؤمن أنها الحق، نحسب أن في هذا الكفاية النسبية لمن لا يعرف شيئًا عن الفلَّاح المصري، وعن لون حياته التي يحياها في عصر النور والحريات، خصوصًا إذا لاحظنا وتذكَّرنا أننا لا نريد من هذه السطور إذاعةَ رسالة علمية دقيقة؛ فليست هذه السطور كما قلنا في «المقدمة» إلا شعورًا حَرَصنا على تصويره كما هو دون تصنيف أو ترتيب، وإلا نداءً باطنيًّا أحسسنا بقوته وسمعنا صرخته، فقمنا بتبليغه في سبيل الواجب وفي سبيل الضمير!

والآن، تُرى، ماذا تكون تلك المكافأة وهذا الاعتراف بالفضل وبالجميل من حكومتنا ومن ملَّاكنا وأغنيائنا لهذا الفلَّاح المصري النَّشِط، فخر الصبر والنشاط والعمل في العالم جميعًا؟ أتدري ما هي هذه المكافأة، وما هو هذا الاعتراف بالفضل وبالجميل؟ تعسُّفٌ وحرمانٌ واستغلال وإرهاق وإهمال واحتقار! وهكذا يُخرِج المسكين أثمار الأرض للملَّاك، ثم يُحرَم هو كفاية عيشه ورزق أولاده. وهكذا تُبْنى المدارس من غَرْس يده ودمه، ومن عَرَقه ومن لحمه ومن شقائه ومن نشاطه، ثم يُحرَم هو التعليم فيها، كالشمعة التي تُنير للناس لتنطفئ هي. هكذا تُخطَّط المدن وتُرصَف الشوارع وتُنار وتَزْدان على حسابه ومن جيوبه، بل من قلبه، ثم يُحرَم هو دارًا نظيفة، وعيشةً راضية، وحياةً محترمة موفورة إنسانية!

يا رجال الحكومة، ويا أصحاب الأرض والطين! لقد آنَ لكم أن تدخلوا الميدان وأن تعملوا بجد للإصلاح وللإنشاء، فلئن صبر الفلَّاحُ طويلًا في العصور القديمة على الضَّيم والحِرمان والإهمال، فلن نضمن ولن تضمنوا هذا الصبر وهذا السكوت في هذه العصور، ولئن كانت سياسة الاستعباد قد حالت بيننا وبين الإصلاح المرجوِّ في العصور الماضية، فلقد زالت هذه السياسة ولو ظاهريًّا، وأوشكت أن تنفض يدها من مصالحنا الداخلية الخاصة، وأصبحنا الآن مسئولين وحدنا عن نواحي الضعف والإهمال والفساد والخلل في حياتنا الاجتماعية.

جُودوا يا رجال الحكومة على الفلَّاح المسكين بالتجوُّل في القُرى والعِزب والكُفور، وتنازلوا بالاستماع إلى شكاياته التي يبعثها فقرُه وحِرمانه، وتكرَّموا بالنظر وبالتأمُّل والتفكير في حياته، فسوف تجدون معنا أنه من العار كل العار، بل من الظلم وأي ظلم، أن يعيش هذا الصنف من الإنسان العامل النبيل الطيِّب الكريم هذه العيشةَ الوبيئة التي نعرفها وتعرفونها، والتي تُحرك عيوننا بالدمع السخين، وتُفجر قلوبنا بالرحمة والشفقة عليه، والتي لا نشكُّ مُطلَقًا في أنها تحرِّك فيكم وتفجِّر ما تحرِّك فينا وتفجِّر، وتدعوكم إلى نسيان مراكزكم ومناصبكم وجاهكم حينًا لتُفكروا في وضاعة وحقارة ومَسكنة هذه الحياة التي يحياها صنفٌ مسكين ضعيف من الإنسان، تربطكم به رابطةٌ نبيلة مَكينة مقدَّسة، لا رابطة الوطنية وحدها، ولا رابطة اللحم والدم وحدها، ولا رابطة اللغة والدين والإحساسات والآلام والآمال وحدها، بل رابطةٌ أسمى وأعلى وأقدس من هذه الروابط جميعًا؛ رابطة الإنسان بالإنسان، رابطة الأخ بأخيه!

وليس ما نَعرِضه هنا من الآمال والرغبات سوى مطالب مُتواضعة تدفعنا إلى البوح بها وإلى إذاعتها العدالةُ البشرية والمبادئ الإنسانية، التي لا نشكُّ مُطلَقًا أنها سوف تجد لها بين أبناء هذا الوادي الطيِّب الخصيب المُبارَك أنصارًا وأعوانًا، إن لم يكُن يدعونا إليها شعورنا القومي وإيماننا الوطني، ولا نشكُّ مُطلَقًا في أنكم تشعرون معنا هذا الشعور، وتؤمنون معنا هذا الإيمان!

وقبل أن نبدأ في ذِكر هذه الرغبات، نرى من الحق ومن الواجب علينا أن نسجِّل حقيقةً لا مناص لنا من الإقرار والاعتراف بها بين سطور هذه الرسالة، وهي تلك المُحاوَلة المبدئية التي توجَّهت نحو التفكير في شئون الفلَّاح المصري والريف المصري، تلك المحاولة المشكورة التي أهدتها إلينا حياتنا النيابية، والتي تُشجعنا على التفاؤل وعلى المُضيِّ والسير في واجبنا هذا الذي أخذنا نفسنا به؛ ليتمَّ السعي وتنجح المحاولة، ونرى ريفنا وفلَّاحنا كما نحب أن نراهما!

وإذا شكَرْنا هذا السعي الشريف المبرور إلى إصلاح العامل المصري، والذي أخذ مظهره في بناءٍ حي جديد خاص بالعُمال، وفي تشريعٍ خاص يحمي حقوقهم إزاء وتجاه أصحاب المصانع وأصحاب رءوس الأموال، نقول إذا شكَرْنا لحياتنا النيابية ولحكومتنا هذا السعيَ المبرور، وهذه الحركة المُبارَكة بخصوص حماية وتنظيم حياة وحقوق فئة عاملة نَشِطة حية، هي إحدى فئات وبنايات ودعامات حياتنا الاقتصادية وثروتنا الإنتاجية القومية، وهي فئة العُمال، مُجاراةً لتلك الحركات الشريفة القومية التي قامت بها جميع دول أوروبا وأمريكا المُتحضرة؛ نقول إذا شكرنا لها هذا، فكم نُنحي عليها باللائمة لأنها عُنيت بطائفةٍ كبرى من طوائف الإنتاج وأهملت طائفة قد تكون أهمَّ وأكبر وأخطر في كل نواحي ثروتنا وإنتاجنا، وهي طائفة الفلَّاحين، خصوصًا إذا راعينا أننا بلدٌ زراعي، وأننا نعتمد في كل ثروتنا ومَرافق حياتنا المختلفة على الزراعة وعلى الفلَّاح بمعنًى أدق، فكان يجب أن نبدأ أولًا بطبقة الفلَّاح، ثم طبقة العامل إن عجزنا عن البدء بالطائفتَين معًا. وإذا كان العامل المصري سيُوفَّق في القريب إلى تشريعٍ يحمي حقوقه تجاه أصحاب الأعمال ورأس المال، ويحدِّد أجوره وساعات عمله حتى يكون بمَنجاة من استغلال واستبداد أصحاب المصانع؛ ثم إلى سُكْنى مُريحة هنيئة في حيٍّ خاص وفي نظامٍ جديد يتَّفق ومُقتضيات الحياة الجديدة وروحها ونزعاتها، فكم هو أحرى بالفلَّاح المصري فخر مصر وسيِّدها بلا نزاعٍ أن يكون له تشريعٌ خاصٌّ يَحميه من ظلم ومن استبداد واستغلال ملَّاكه أصحاب الأرض والطين، وأن ينصَّ صراحةً في هذا التشريع على وجوبِ تحديدِ حدٍّ أقصى للإيجار حتى لا يستغلَّ الملَّاك جهالةَ الفلَّاح وسذاجته وفقره، وحتى يخافوا الله فيه وفي أولاده، ولْيكُن هذا التحديد كما أشار السير «ويليم ويلكوكس»، وخبرته بالشئون المصرية وبشئون الفلَّاح المصري خاصةً، لا يمكن نُكْرانها أو الجدال فيها.

أشار هذا الرجل الإنجليزي مدفوعًا بالعامل الإنساني النبيل، لا العامل الجنسي، بوجوب عدم زيادة قيمة الإيجار عن خمسة أو ستة أمثال الضريبة المفروضة على الأرض، وهي تلك الضريبة العقارية التي تختلف قلةً وكثرة.

فكم يُنقَذ الفلَّاح المصري من وطأة الملاك الذين لا يهمُّهم إلا أن يسدِّد لهم المسكين قيمةَ الإيجار، سواء أكان من جيبه أم من دمه إذا سُنَّ تشريعٌ خاص للإيجارات يحمي الفلَّاح من مظالم المُلاك، ويمكِّنه من أن يعيش حياةً متوسطة مُعتدلة إنسانية محترمة. ويحدِّد هذا التشريع حدًّا أقصى للإيجار، وتُحدَّد عقوبة أو غرامة لمن يُخالفه؛ فإذا فعلنا هذا — ونأمل أن نفعله قريبًا — هذَّبنا إنسانية الغالبية الساحقة منَّا، وخفَّفنا عليها بعضًا من أرزائها ومصائبها ومظالمها، وأتَحنا لها الأمل في حياةٍ جديدة مُريحة واسعة عادلة!

وإذا كنَّا قد فكَّرنا في شئون العامل وشرعنا في وضع تشريع خاص له ينظِّم حياته ويحمي حقوقه، فأولى بنا أن نفكِّر في شئون الفلَّاح المصري، وأن نَشْرع في وضع تشريع خاص له أسوة بأخيه العامل، وأن نضع أيضًا نظامًا خاصًّا لسُكْناه كما نريد مع أخيه العامل، ولقد آنَ لنا ونحن في عصرنا هذا وفي عهد إحيائنا القومي العام أن نضع لائحةً خاصة لنظام البناء والسُّكنى في الريف؛ فمثلًا نشترط على من يريد بناء دار له ألَّا يخرج على قواعد تلك اللائحة بأن يبنيَ داره بالشكل وبالنظام، وبحسب الشروط المدوَّنة في تلك اللائحة، وإن خالف ذلك فيُعاقَب بعقوباتٍ مختلفة.

ولهذا الغرض نأمل كلَّ الأمل أن تُكوَّن لجان خاصة في الدوائر الحكومية، يكون من اختصاصها النظر في هذه المسألة الهامة، وأن يُعيَّن من الفنيِّين والمُهندسين في كل مركز من مراكز المُديريات، يُباشر كل واحد منهم ويُراقب في حدود مركزه واختصاصه عمليةَ البناء بهذا النظام الجديد، وهو الذي يضع لهم الرسوم والتصميمات التي يجب عليهم أن يبنوا وفقًا لنظامها وقواعدها، وتكون هذه الرسوم واحدةً مُتجانسة في كل أبنية القرية.

إذا فعلنا هذا — وأملُنا كبير في فِعله — جعلنا من القرية المصرية وحدةً شكلية مُتجانسة تُريح النفس وتُرضي القلب والذوق، وتذكِّرنا بأن في حياتنا المصرية الريفية نظامًا وذوقًا وتجانسًا.

ولكني نسيت! ليتمَّ لحياتنا الريفية جمالها كما نَبْغي، يجب أيضًا أن يُسَن في تلك اللائحة على وجوب إلقاء الردم والسباخ وما إليهما من أوحال وقاذورات في الجهات القبلية من القرى، لا من بَحريها، وبعيدًا عن الدُّور بمسافةٍ تضمن عدم وصول رائحتها للأهالي.

نظنُّ أنْ لا مبالغة فيما نقول ولا إسراف فيما نطلب؛ فإنه قد وجب علينا كأمَّة تشعر بحيويتها وبكرامتها وبذاتها أن نُنظم كل مَرافق حياتنا، وخصوصًا الداخلية منها، ولا نظنُّ شيئًا هو في أشد الحاجة إلى هذا التنظيم مِثل حياتنا الريفية التي بقيت على حالها إلى الآن، كما كانت في عهود العرب والأتراك والمماليك ومن إليهم!

ومن واجبنا جميعًا حكومة وشعبًا أن نجعل من ريفنا جنَّاتٍ خضراء نحجُّ إليها إذا تكدَّست على قلوبنا همومُ الأسى، أو أضعفت المدن وملاهيها من إيماننا، من واجبنا جميعًا أن نسير بالريف كما سِرْنا بالمدن وبكل نواحي الإصلاح التي سِرْنا بها والخُطى التي خطَوناها؛ حتى لا نهرب بذلك من بلادنا إلى ربوع الغرب، نبحث هناك عن السلوى ونتفقد العزاء والراحة واللهو، ومن واجبنا جميعًا أن نحبِّب إلينا ريفنا الذي درجنا على أرضه وبين ربوعه الهادئة البريئة بأن نُجمله، وبأن نُنظمه ليكون دائمًا جميلًا أمامنا حبيبًا إلينا عزيزًا علينا، فإنه في حالته الآن وبصورته التي هو عليها في النظام القديم الذي شهد عصور الإقطاع وعصور السُّخرة وعصور الاستبداد، ينفر كثير منَّا عنه، وقد تربَّينا في أحضانه بين حقوله وقنواته وسواقيه وأجرانه، وقد نُقِشت ذكرياته الحبيبة الخالدة في رءوسنا وفي صدورنا وفي قلوبنا، ونمَت مع عقولنا وخيالاتنا وأحلامنا؛ إذ ماذا نشعر الآن في هذا العصر وريث وربيب تلك العصور القديمة المُظلمة، والذي يأخذ شيئًا فشيئًا إلى الانسلاخ المُعتدل عنها؟ كآبةٌ دائمة وقُطوبٌ مستمر؛ فلن نشهد في الريف جديدًا، ولن يتغير شعور يومنا عن أمسنا، ولن نأمل كثيرًا أن يكون غدنا خيرًا من يومنا؛ حياة ثابتة جامدة لا جدة فيها ولا حياة، ما نراه اليوم نراه غدًا، الشمس تُشرِق من الشرق وتغرُب في الغرب، والحقول تخضرُّ وتيبس، والمواشي تذهب وتجيء، والفلَّاحون يعملون في الغيطان ثم يعودون، والنساء يحملن جرَّاتهن أو يعملن في الحقول مع رجالهن، والأطفال في الحارات يتمرَّغون في التراب أو يلعبون! حياةٌ مُبقية على ثيابها خلال كل هذه الأجيال المُتناسلة والعصور الطويلة؛ فالرجل الذي تُقابله اليوم قد لا يُقابلك إلا هو في الغد بنفس الصورة والشكل والوضع الذي رأيته عليها بالأمس واليوم، والمرأة التي تُشاهدها اليومَ في الغيط أو على التُّرعة هي هي التي قد تُشاهدها غدًا بنفس ملابسها وهيئتها، ومشاهد الطبيعة وكل ما حولك من أرض وسماء وماء وشجر هي هي التي شَهِدتها بالأمس وتشهدها اليوم وستشهدها غدًا وبعد غد، وإلى أن يرث الله الأرضَ ومَن عليها، والساقية التي تمرُّ بها الآن وتسمع غناءها وموسيقيتها هي التي مرَّ بها غيرك مئات المرَّات، وهي التي ستمرُّ عليها أنت آلاف المرَّات، لن تتحوَّل عن مكانها ولن تغيِّر من موسيقيتها أو تجدِّد في غنائها، والأصوات التي تسمعها اليومَ من أفواه الناس ومن غِناء الفلَّاحين ومن الأُرغول والمِزمار والسلَّامية، هي التي سمعتها بالأمس، وهي التي ستسمعها غدًا وغدًا، وصاحبُها اليومَ هو صاحبها بالأمس، بل صاحبها من منذ أعوام، في صوته وفي هيئته.

وهكذا حياة الريف عندنا في كثيرٍ من بقاعها ونواحيها؛ جمود لا يَعدِله جمود، وقديمٌ عريق في قِدَمه، حياة لا يشعر فيها الغريب أو المدني أو المُستنير بجدة في الشعور أو حيوية في العواطف أو ائتلاف في الميول، وإنما يشعر أنه غريب عما حوله بنزعات فِكره وبخواطر نفسه وبآماله وبآلامه وبميوله وبشهواته، ويكفي كل هذا لأن يجعل الإنسان غريبًا حقًّا بكل معاني الغُربة!

فكم نحن في حاجة إلى أن نجعل من هذا الريف المُهمَل المنبوذ جناتٍ نحجُّ إليها، ونجدِّد فيها حبنا وعواطفنا، ونتغذَّى منها مبادئ عبادة الجمال!

وإذا كنا قد جهَرْنا بتنظيم حياة السُّكنى في الريف وبتجميله، بحيث يتَّفق مع ما نصبو إليه من مظاهر الحضارة والقوة والنظام والجمال، فلن يكون جهرنا بالإكثار من المستشفيات والمصحَّات وكل وسائل الصحة في تلك الربوع الريفية المحرومة منها أضعف أو أخفت! كلنا نعلم أن الأمراض العديدة، كالبلهارسيا والأنكلستوما وأمراض الرمد وما إليها جميعًا، تغزو فلَّاحنا المسكين وتهدِّد حياته، وتجعل من لون بشرته ووجهه لونًا حائلًا باهتًا مائلًا إلى الصُّفرة وإلى الذبول، وإلى فقد الدم والحياة، وكلنا نعلم أن فقره وبؤسه يَحُولان بينه وبين تطبيب نفسه، ونعلم أنه حين يعجز عن وجود المال يضطرُّ إلى الاستدانة، ولو بفائظٍ فادح من جماعة المُرابين، وقد يضطرُّ المسكين إلى بيع ما عنده من غلال أو مواشٍ أو نعاج! كل هذا نَعلمه ونُشاهده كل يوم، ونسمع أنَّات المرضى، ونرى الوجوه الحائلة الباهتة والصدور الشاكية، فهل لم تبلغ بنا إلى الآن الشفقة والرحمة بهذا المسكين الذي يُدرُّ علينا الخير والنعمة والخِصب من فوقنا ومن تحتنا ومن يميننا ومن شمالنا؛ أن نبنيَ له المستشفيات التي تُنقِذه من غزوات أمراضه العديدة، ومن فتكها بحياته الغالية علينا جميعًا! لا لأنه مصري تربطنا به رابطة الجنس واللغة والدين والمشاعر والإحساسات وحدها، بل لأنه أكبر وأشرف من ذلك، بل لأنه إنسان؟!

وبهذه المناسبة لا نودُّ أن يفوتنا تسجيل تلك الظاهرة الطيِّبة، التي أخذت تبدو تحت سماء مصر المُحسِنة الخيِّرة خلال هذه الشهور الأخيرة، بفضل جماعة من أغنيائنا نسُوا جاههم وأنفُسهم حينًا، وذكروا مصر التي من أرضها وتحت سمائها نشأ غِناهم ونما وترعرع وازدهر، نعم يسرُّنا كل السرور أن برزت هذه الجماعة الفاضلة من رجال المال في مصر تحمل راية الخير والإحسان، وتتزعم وتقود عملية البناء في بلدٍ حديث العهد بالبناء، والذي يسرُّنا أكثر من هذا ليس العمل نفسه، بل تلك الدلالات التي يمكننا أن نستقيَها منه؛ فلقد بدأنا نُقدر الإحسان، وبدأنا نشعر ونأسى لجِراحات المُعوِزين، وبدأنا نذكُر أننا لا نعيش في هذه الحياة لأنفسنا فحسب، بل نعيش لأنفسنا وللجماعة وللوجود وللإنسانية جميعًا، وبدأت قلوبنا تتفجر عن حب الخير لمن أمَضَّهم العَوَز وذلَّهم السؤال وهدَّهم الفقر، وبدأنا نفهم ونعرف أن الحياة ليست في جلب المال وتكديسه واكتنازه فحسب، وأنها ليست في بناء القصور وإنشاء الرياض وحيازة الخدم وعبادة الطين والمال فحسب، ولكنها أيضًا في جبر القلوب الكسيرة، وفي تضميد الجِراحات الدامية، وفي تجفيف سيول الدموع الذليلة، وفي إعلاء شأن هذا الوطن الذي درجنا على أرضه وتغذَّينا من ثماره وارتوينا من مائه، وفي تهذيب ناحية من نواحي الإنسانية المعذَّبة بالبناء وبالصَّقل وبالتجميل.

إذن ليست الحياة أن نأكل ونشرب فحسب، ولكن أن نشعر وأن نعطف، أن يكون لنا بطون وأمعاء تُحسِن ازدراد الطعام وهضمه، وأنوفٌ تتلذَّذ برائحة الطهي، ولكن أن يكون لنا قلوب تَخفق بالحب وبالرحمة، وأعصاب تتأثر للعوز وللذلة، ونفوس وأرواح تأنف الضعة وتقدِّس الكرامة وتعبد الجمال!

نسجِّل إذن والسرور يملأ نفوسنا ويغمر قلوبنا تلك الحركة المُبارَكة المشكورة في سِجل مصر الحديثة، ونأمل من كل قلوبنا أن تُفشيَ ثقافة الخير والإحسان في مصر الخِصب والجود والخير والجمال والإحسان! ونستزيد تلك الحركة المُبارَكة نشاطًا وعملًا وسعيًا، ونأمل أن يكون عندنا في مصر بين رجال الطين والمال غَيرةٌ ومنافسة في عمل الخير والإحسان، وفي عمليات البناء والإنشاء، كما يغارون ويتنافسون في تكديس الأموال وفي بناء القصور وتوسيع الضياع!

ونريد أن نذكِّرهم دائمًا بأن مصر الحديثة في حاجة إلى بعض أموالهم ليتمَّ بعثها وإحياؤها، ولتقف على أرجُلها بين الأمم التي تشعر بوجودها وتتيه بمجدها وفخارها، وبأن الواجب يقضي عليهم أن يتحمَّلوا نصيبهم من الإصلاح في سبيل مصر وفي سبيل الإنسانية جميعًا!

ونريد أن نذكِّرهم أيضًا بأن الأمم بأفرادها لا بحكوماتها؛ فالأفراد هم تلك الخيوط المنسوجة في ذلك الثوب المُزركَش المحبوك، وليست الحكومات إلا أداةً تقوم بإرادة الشعوب، ولْيكُن لهم من أغنياء أوروبا وأمريكا خير مثال يُحتذى، إذا كانوا يريدون أن يقوموا بواجبهم ويُلبُّوا النداء الصارخ، ونحسبهم فاعلين!

•••

تأتي بعد ذلك مسألة التعليم، وهي مسألة المسائل بلا جدل؛ فلا يزال الجهل أعدى أعدائنا، ولا يزال هو المُستعمِر مصر لا حراب إنجلترا كما نظن. وللتعليم في القرى أهميةٌ خطيرة؛ لأنه التعليم الأوَّلي، وهو اللَّبِنة الأولى في البناء التعليمي، وأولى باللبنة أن تكون قويةً مَكينة ليكون البناء مدعَّمًا مَتينًا. ونحن وإن فَرِحنا وشِدْنا بتلك المدارس الأوليَّة الإلزامية الصغيرة التي خلقتها حياتنا النيابية، فإننا نحب أن نسجل هنا في تلك الرسالة الصغيرة أسفنا الكبير على اندثار الكتاتيب القديمة اندثارًا نُشاهده يخطو خطواته بالتدريج؛ فلقد كانت هذه المدارس الحديثة عاملًا كبيرًا في هدم هذه الكتاتيب، فهُدمت بذلك تلك الصور والذكريات الجميلة الأولى في فطرتها وفي بداوتها، وكانت أشد خطورةً من ذلك، كانت العامل الأكبر في إلغاء التعليم القرآني شيئًا فشيئًا، وتلك نكبة النكبات جميعًا!

نعم! فإننا ننسلخ شيئًا فشيئًا من الروح الديني في مدارسنا الأولى ومن التعليم القرآني، وابتدأ يطغى علينا وعلى عقول ناشئتنا الصغيرة تلك السيولُ الجارفة من التعليم الحديث الذي هو إلى القشور أكثر منه إلى اللُّباب، وإلى حشو الأدمغة أكثر منه إلى تنمية العقول وصقل النفوس. ومن العجيب حقًّا في هذه المدارس الريفية الصغرى أن الصبي يتلقَّى من هذه القشور ما لا يتَّفق مُطلَقًا وعقله الصبي الناشئ، فلست أدري كيف يُسيغ عقل في سن السادسة أو السابعة مبادئ التاريخ الطبيعي أو التربية الوطنية؟ إن هذه طفرةٌ تُشبِه الجنون. ومن أعجب العَجب أيضًا أن كثيرًا من المُدرسين في هذه المدارس الريفية لا يعرفون من هذه العلوم الحديثة إلا ما في الكتب المقرَّرة للتدريس، وكان الله يُحبُّ المُحسِنين!

وكم نأمل ونحن نكتب هذه السطور أن تكون خطواتنا جميعًا أكثر اتِّزانًا وريثًا واعتدالًا حتى لا يُتخِمنا الطعام فننفجر.

نأمل ألا يذهب أبناؤنا وأخواتنا في التعليم الأوَّلي ضحيَّة هذه البرامج المزوَّقة كما ذهبنا نحن ضحاياها، نأمل أن نقضيَ على تلك الفكرة القديمة، والتي لا يزال فيها بعض من الحياة إلى الآن، وهي أن الغرض من التعليم كما أراد السيد «دنلوب» تخريج الموظفين وكَتَبة الدواوين وسُعاة المصالح والتعهُّد للمشارب والقهاوي وللأندية وللأرصفة بما يكتظُّها ويملؤها من شباننا!

ونأمل أن يكون التعليم القرآني هو الأساس الأول لهذه المدارس الإلزامية؛ لأن في القرآن الكريم كِياننا ووجودنا وقوميتنا كما قال بحقٍّ أحدُ المُستشرقين حديثًا!

ونُحبُّ هنا بمناسبة التعرُّض لمسألة التعليم أن نسجِّل رجاءنا الكبير لوزارة الزراعة بأن تجعل من الفن السينمائي وسيلةً إلى تعليم الفلَّاحين الطُّرُق الحديثة في الزراعة التي توصَّل إليها الفنُّ الزراعي في أوروبا وأمريكا، وتُعلمهم بذلك زراعة محصولات جديدة، وتعهد الزرع بالحفظ والعناية، وتُعلمهم بخاصةٍ فن الخضراوات والبساتين، وتلك الصناعات الزراعية العديدة التي تنشأ مع الزراعة كعمل المربَّات والزبدة وتجفيف الفواكه وعمل الحبال، إلى غير هذه الصناعات الزراعية العديدة التي تمخَّضت عن الفن الزراعي حديثًا، وتُعلمهم بخاصةٍ كيفية حفظ الزرع من آفاته الزراعية التي تفتك به وتقضي على جزءٍ كبير من محصوله.

ونأمل مع تقدُّم الكهرباء أن يكون لريفنا نصيب منها حتى تتعدَّد صناعاتنا الزراعية، وحتى ينتقل الفلَّاح المصري من طور العمل اليدوي إلى العمل الكهربائي. وهذا الأمل وإن يكُن لا يزال جنينًا فإنه على كل حال أمل، وكل الأعمال إنما كانت أولًا مجرَّد أحلام وآمال!

وكم نُحبُّ هنا بهذه المناسبة أن نَلفِت نظر أغنيائنا وكبار زُرَّاعنا إلى زراعة الفواكه والخضراوات، بدلًا من الانغماس في زراعة القطن والقمح وحدهما؛ فإن مصر فقيرةٌ من هذه الناحية فقرًا مُدقِعًا، وهم بذلك إنما يزيدون في إنتاجنا وفي خلق رُبوع للمناظر الجميلة؛ وبذلك يمكننا أن نزرع الذهب على حدِّ تعبير الأستاذ سلامة موسى.

•••

وما أحوَجَنا ونحن بلدٌ حياته في الزراعة إلى الجماعات التعاونية الزراعية، خصوصًا بعد أن عَمِلنا كل جهدنا في تصوير حياة الفلَّاح المصري البائس البالغة حياته أقصى مراتب الفاقة والعَوَز؛ فالحكومات تتجاهل وجوده وهي مع ذلك تعيش عليه، والمالك يستبدُّ به ويُرهقه ويكاد يستعبده، وكل ما حوله إلبٌ عليه، إزاء هذه الحال المُبكية الأليمة كان من المعقول أن يكون له جماعاتٌ تشعر بشعوره وتفهم لغة آلامه، تُنجيه من استبداد المُرابين وطُغيان الملَّاك وتجاهُل الحكومات وعداء الأقدار ومصائب الحياة، وتُنجيه أكثر من ذلك، من شرِّ جهله فيما يبيع ويشتري!

ولقد وُلِدت عندنا هذه الفكرة حوالَي سنة ١٩٠٤، ثم مشت بعض خطوات وهي في طفولتها الأولى، ثم عجزت عن السير ولم تقوَ على الحركة، ثم عاوَدت نشاطها في عهدنا النيابي الحديث، وأخيرًا ركنت إلى الدعة وإلى النوم وإلى الخمول.

ولسنا ندري كيف تكون أرواحنا في الزراعة ثم لا تتشرَّب نفوسنا الروح التعاوني، ولا يكون لنا نظامٌ تعاوني منظَّم قوي مُنتِج؟ أمامنا بلاد التعاون الكبرى مثل دنمرك وألمانيا وفرنسا وإنجلترا، فلماذا لا نبحث عن أسباب نجاحها وأسباب فشلنا، ونبني نظامنا التعاوني على تلك الأُسس القوية المَتينة الخالدة؟ لا ينقصنا شيءٌ سوى الإرادة، وسوى الشعور بالحاجة إلى هذه الجماعات، ولكن ما دامت حكوماتنا تنفُض يدها من مساعدة هذه الجماعات ماليًّا وأدبيًّا، وما دام أغنياؤنا أو أكثرهم لا يُعنَون إلا بأنفُسهم، وإلا وراء تكديس الأموال ثم بعثرتها في مصافي أوروبا وفي مشاتيها، فسنبقى على ما نحن عليه أبد الآبدين، وسيبقى فلَّاحنا المسكين نُهْبة الطامعين وضحيَّة المُرابين ولعبةً في أيدي اللاهين، وسيبقى المسكين ضحيةَ جهله، فيبيع محصوله بنفسه بثمنٍ بَخس، أو يبيعه له مالكه بثمن إن كان عظيمًا فالذي يستفيد من ذلك هو المالك لا الفلَّاح؛ فالمُلاحَظ في كثير من القُرى أن الفلَّاح ليس له إلا محصول الذرة والمحصول الشتوي، أما القطن فللمالك؛ فإن لم يسدِّد منه الفلَّاح إيجاره فيولِّي وجهه شطر ما حصل عليه المسكين من الذرة والغلال، وإن زاد عن الإيجار كان الربح للمالك وحده، فيكون بذلك الغُرم على الفلَّاح دائمًا وليس له من الغُنم شيء.

وغير ذلك فإن جماعة المُرابين اللصوص تعيش على جهله وعلى عَوَزه وحاجته، ومن النادر ألا يحتاج إليهم خلال السنة، خصوصًا في شهور الضنك والجدب، وهنا يُعطونه من جيوبهم ليأخذوا ويقتطعوا من قلبه ويشربوا من دمه.

إزاء كل هذا كان من طبيعة العدل أن يكون لنا جماعاتٌ تعاونية تأخذ بيد الفلَّاح المصري من هذه الوهدة، وتُريه النور وتُشعِره الراحة والطمأنينة، وخصوصًا جماعات التوريد والمصارف التعاونية. ولتنجح هذه الجماعات يجب كما قلنا أن تتزعَّمها أولًا الحكومة ولو من طريق الإشراف أو المراقبة أو المساعدة، وأن نعمل الدعايات الكافية لبثِّ الروح التعاوني بين الفلَّاحين بواسطة جماعة من المُتعلمين، وبواسطة نشرات دورية عن الحركة التعاونية، ولكن نرى أن تكون الخطوة الأولى في ذلك استشعار الفلَّاح المصري أولًا بفائدة التعاون؛ لأنه بدون ذلك لن يقوم للتعاون في مصر قائمة، وهذا الاستشعار يكون بالتعليم وبالمحاضرات من رجال الزراعة، ونشر المعارف الأولى للنظام التعاوني وطُرُقه في غرب أوروبا.

ويوم يكون لنا هذا النظام، يوم نشعر ونؤمن أن الفلَّاح المصري بدأ يرى بعينَيه النور ويتَّصل بالوجود وبالعالم، وهذا العمل من واجب كل مصري تحرِّكه الشفقة بوطنه وبأخيه الفلَّاح، وهنا نقول لكل مصريٍّ ما قال «ولنجتون» لجنوده: «إن مصر تطلب من كلٍّ منكم أن يقوم بواجبه.»

ولقد آن الأوان لأن يكون لنا صناعةٌ زراعية؛ فمن العار كل العار أن نكون بلدًا زراعيًّا ثم نشتريَ الجبنة والزبدة من يد الغربيين. وإذا كان البعض قد قال إن مصر لا تصلُح للصناعة، فإن هذا القول تخدير للأعصاب، ويُراد به قتل مصر؛ فلسنا نعرف لشعبٍ حياةً موفورة صحيحة بدون صناعة، خصوصًا وأن الصناعة الآن هي مِحور النظام الاقتصادي في كل ربوع العالم.

إذن من أول واجباتنا أن ندعوَ إلى الصناعة الزراعية في مصر كصناعة الألبان وعمل الزبدة، ويُمكِننا أن نتَّخذ «دنمرك» في ذلك مثالًا نُحاكيه، ثم صناعة الحبال بعد أن نُدخِل في مصر زراعة «القنب»، ثم عمل المربَّات وتجفيف الفواكه حتى يكون هناك بذلك مجالٌ فسيح لعمل النساء، إلى غير هذه الصناعات العديدة التي أشار بها تقرير لجنة التجارة والصناعة في سِنِي الحرب، والتي بعثها من مَرقدها أخيرًا بنك مصر في تقريره القيِّم الجديد، يرفع به صوت مصر إلى الحياة وإلى البعث وإلى القوة وإلى الإنتاج.

نعم آن الأوان أن نخطوَ في عملنا خطواتٍ جريئة، وأن نقطع تلك المراحل التي قطعها العالم الأوروبي والأمريكي، وأن نستخدم ثرواتنا المُكتنَزة المدفونة المجهولة، وألَّا نعتمد مُطلَقًا على الزراعة وحدها، وإلا حُقَّ علينا الفناء، إن عاجلًا وإن آجلًا.

والماء! ليس ماءً ما يشرب الفلَّاح المسكين، ولكنه عُكارة وطين وميكروبات في مُستنقَعاتٍ مليئة بالجِيَف والنتن، ولن تُرضيَ هذه الحال السيئة إنسانًا له قلب وضمير.

لقد سَمِعنا بالمشروعات الحديثة حول تكرير الماء في القرى، وحول ردم البِرَك والمُستنقَعات، ونخشى كل الخشية أن يموت الجنين في بطن أمه قبل أن يظهر إلى عالم الوجود؛ فقد تعوَّدنا في مصر أن نسمع كثيرًا من معمل المشاريع الميتة ثم لا نرى شيئًا.

ولعلنا في هذه المرة نرى الجنين يحبو ويرتع ويلعب ويُكافح الحياة والوجود.

وبمناسبة الماء نريد ألَّا تفوتنا تلك الملاحظة التي نُلاحظها في كل ربوع ريفنا، وهي تلك الشكوى الصارخة من سوء التصرف في المياه، ويا ليتها تقف عند حد الشكوى والصراخ، إذن لَهانَ الأمر، ولكن هي أخطر من ذلك؛ فإن الفلَّاح المصري إذا ما عزَّت عليه المياه، وكثيرًا ما تَعزُّ، أخذ يلعن في الحكم المصري وفي الموظَّفين المصريين، وتدرَّج من ذلك إلى الإشادة بالحكم الإنجليزي وبالموظَّفين الإنجليز الذين كانوا يُحسِنون تصريف المياه وتوزيعها بعدل بين الناس. ولا يُمكِننا مُطلَقًا أن نَلُوم الفلَّاح على هذا؛ لأن في الماء حياته، ولأن الموظَّفين المصريين غالبًا يتخذون نحوه خطةً لا تُساعد على الأُلفة والعدل والطمأنينة، وهكذا يهدمون ما نَبْني، ويخمدون هذا الشعور الوطني البحت الحي، الذي خلقته في قلوبهم تلك النهضة الكبرى المباركة! فعسانا نُقبِل على عهدٍ جديدٍ حي، وعسانا نتعلَّم كيف ننظر إلى الفلَّاح وكيف نحترمه ونقدِّره!

والآن يجب أن نختتم ونقول إن هذه الآمال التي ذكرناها، وهذه الشِّكاية الصارخة التي بُحْنا بها ليست إلا صدًى لآمال الفلَّاح المصري ولشِكاياته ولجِراحاته، وليست إلا جزءًا مما يدور بخَلَدنا جميعًا من آمال لإنهاض البلد وهدم كل ما لا يتَّفق ونهضتَنا، ولإنشاء جيل جديد يشعر ويضطلع بالمسئوليات الكثيرة المُلقاة على كاهله، وبالتركات السيئة التي خلَّفها لنا السلف والآباء وقالوا: «وبعدنا الطوفان!»

نوجِّه إذن نداءنا الصارخ إلى كل مصري حُر كريم، إلى كل من تحرِّكه ولو أبسط عوامل الرحمة والإنسانية، أن يوجِّهوا أنظارهم جميعًا إلى الريف المصري النائم المنبوذ؛ فهناك الفقر فاغِرٌ فاه، وهناك الجهل جاثِمٌ في مَربضه وناشِرٌ أجنحته السوداء، وهناك ضروب البطش والجور على أحدث طراز، وهناك تلك البقية الباقية من عصور المماليك المناكيد، هناك يجب أن نبدأ بعملية الهدم لنشرع في عملية البناء!

•••

الفلَّاح المصري يُناديكم يا أنصار «حقوق الإنسان»!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤