مبلغ علمنا من الموسيقى في الجاهلية

غير خافٍ أن تاريخ الجاهلية غامض جدًّا، ولم يقع تحت أيدينا إلا نتف مبعثرة وقليل من أشعارهم. وهذا يرجع إلى أمية العرب؛ إذ كان لا يوجد فيهم من يعرف القراءة غير الكهان، وكانوا يعدون على أصابع اليد الواحدة.

ويظهر أن الغناء في عصر الجاهلية كان قاصرًا على القيان وحدهن؛ إذ لم نسمع فيما وصل إلينا من أخبارهم عن رجال مغنين.

وأقدم ما عُرف من أخبار قيانهم خبر جرادتي عادٍ اللتين يُضرب بهما المثل العربي: «تركته تغنيه الجرادتان.» وهو يضرب لمن كان لاهيًا في نعمة ودَعَة. والجرادتان قينتان لمعاوية بن بكر، أحد العماليق. وإن عادًا لما كذَّبوا النبي هودًا — عليه السلام — توالت عليهم ثلاث سنوات لم يروا فيها مطرًا، فبعثوا من قومهم وفدًا إلى مكة ليَسْتَقوا لهم، ورأَّسوا عليهم قيل بن عنق، ولقيم بن هزال، ولقمان بن عاد — وكان أهل مكة إذ ذاك العماليق، وهم بنو عمليق بن لاوذ بن سام، وكان سيدهم بمكة معاوية بن بكر — فلما قدموا نزلوا عليه لأنهم كانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهرًا، وكان يُكرمهم والجرادتان تغنيانهم، فنسوا قومهم شهرًا، فقال معاوية: هلك أخوالي، ولو قلت لهؤلاء شيئًا ظنوا بي بخلًا، فقال شعرًا وألقاه إلى الجرادتين، فأنشدتاه وهو:

ألا يا قيل ويحك قم فهينم
لعل الله يبعثها غمامَا
فيسقي أرض عادٍ إن عادًا
قد امْسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو
لها الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير
فقد أمست نساؤهم أيامَى
وإن الوحش يأتيهم جهارًا
ولا يخشى لعاديٍّ سِهامَا
وأنتم ها هنا فيما اشتهيتم
نهاركم وليلكم التماما
فقُبِّح وفدُكم من وفد قوم
ولَا لقوا التَّحيَّة والسَّلاما

فلما غنَّتهم الجرادتان بهذا قال بعضهم لبعض: يا قوم، إنما بعثكم قومكم يستسقون بكم، فقاموا ليدعوا وتخلَّف لقمان — وكانوا إذا دعوا جاءهم نِداءٌ من السماء أن سَلُوا ما شئتم؛ فتُعطَون ما سألتم — فدعوا ربهم، واستسقوا لقومهم، فأنشأ الله لهم ثلاث سحابات بيضاء وحمراء وسوداء، ثم نادى منادٍ من السماء: يا قيل، اختر لقومك ولنفسك واحدةً من هذه السحائب. فقال: أما البيضاء فجفل، وأما الحمراء فعارض، وأما السوداء فهطلة، وهي أكثرها ماءً، واختارها، فنادى منادٍ: قد اخترت لقومك رمادًا رمددًا لا تُبقي من عادٍ أحدًا، لا والدًا ولا ولدًا إلا تركته همدًا.

ولما عاد الوفد لقومهم، وبينما هم ينتظرون الغيث، وإذا بالسحابة قد خرجت عليهم، وقبل أن يتبينوا ما فيها من العذاب فرحوا واستبشروا، وقالوا: هذا عارض ممطرنا، فقيل لهم: بل هو ما استعجلتم به؛ ريح فيها عذاب أليم، تدمر كل شيء بأمر ربها، فسلَّطها الله عليهم فأهلكتهم ودمرت مساكنهم، وذكر الله خبرهم في القرآن إذ قال: سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا * فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ.

أما جرادتا النعمان، فكل ما عُلم عنها أنهما كانتا قينتين تغنيانه، والغالب أنه سماهما بالجرادتين تشبيهًا لهما بجرادتي عاد.

وكذلك جرادتا عبد الله بن جدعان، وقد سماهما أيضًا جرادتي عاد، وقد وهبهما لأمية بن أبي الصلت، الشاعر الذي كان يَفدُ عليه ويمدحه، ولا يُعلم من غنائهما إلا صوتان «لحنان»؛ أحدهما أوله:

أقفر من أهله مصيف
فبطن نخلة فالعريف

ولحنه من خفيف الثقيل، وهو من المائة صوت المختارة، والثاني أوله:

عطاؤك زين لامرئ إن حبوته
ببذل وما كل العطاء يزين

ولا يعلم مقامه «نغمته».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤