نواة النهضة الموسيقية العربية

سائب خاثر

أجمع الثقاتُ، مثل الأصبهاني وابن خلدون وغيرهما، على أن نواة النهضة الموسيقية في البلاد العربية هو سائب خاثر؛ إذ لم تبلغ الموسيقى العربية قبله مبلغها من الإتقان وجودة الصناعة. وهو ابن راسم، فارسي من موالي بني ليث، ولزم عبد الله بن جعفر وانقطع إليه.

كان في أول أمره مُغنيًا بسيطًا، ولمَّا قدِم إلى المدينة نشيطٌ الفارسيُّ وغنَّى بالفارسية أُعجب به عبد الله بن جعفر؛ لجمال صوته وحسن فنِّه، فلمَّا سمعه سائب خاثر قال لعبد الله بن جعفر: أنا أصنع لك مثل غناء هذا الفارسي بالعربية، ثم غدا عليه وقد لحَّن:

لِمَن الديار رسومها قفر
لعبت بها الأرواح والقطرُ
وخلا لها من بعد ساكنها
حجج مضين ثمان أو عشرُ
والزعفران على ترائبها
شرق به اللبنات والنحرُ؟

والغناء من الثقيل الأول بالسبابة، وهو أول صوت غُنِّي به في الإسلام من الغناء العربي المُتقَن الصنعة.

ومن ذاك الوقت طفق يُلحِّن أصواتًا فنيةً متقنةً حتى ذاع صيته. وقد اصطحبه عبد الله بن جعفر حينما وفد على معاوية بن أبي سفيان، ثم عرض عليه بعض حوائجه، ثم ثنَّى بحاجة لسائب خاثر، فقال له معاوية: من سائب خاثر؟ قال: رجل من أهل المدينة ليثيٌّ يروي الشعر. قال: أوَكل من روى الشعر أراد أن نصله؟ فقال: إنه أحسنه، قال: وإن أحسنه! قال: فأدخله إليك يا أمير المؤمنين، قال: نعم! فلما دخل قام على الباب ثم رفع صوته يتغنى:

لمن الديار رسومها قفرُ

فالتفت معاوية إلى عبد الله بن جعفر فقال: أشْهدْ لقد حسَّنه! فقضى حوائجه وأحسن إليه.

وفي ليلة أشرف معاوية على منزل يزيد ابنه، فسمع صوتًا أعجبه واستخفَّه السماع، فاستمع قائمًا حتى ملَّ الوقوف، ثم دعا بكرسي فجلس عليه واشتهَى الاستزادة، فاستمع بقية ليلة حتى ملَّ، فلما أصبح غدا على يزيد فقال له: يا بني، مَن كان جليسك البارحة؟ فقال: أي جليس يا أمير المؤمنين؟ واستُعجِم عليه، قال: عرِّفني؛ فإنه لم يخفَ عليَّ شيء من أمرك، قال: سائب خاثر، فقال: فاختر له، يا بني، من برِّك وصَلَتك؛ فما رأيت بمجالسته بأسًا.

وقد أخذ عنه الغناء ابنه سريج وجميلة ومعبد وعزة الميلاء وغيرهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤