الموسيقى العربية في الأندلس

فتح العرب الأندلس والبرتغال، وتوغلوا في فرنسا إلى بواتييه، وكانت أوروبا تتخبط في غياهب الجهل، فما لبثوا أن أضاءت شموس معارفهم ومدنيتهم، فأزهرت في الأندلس الآداب والفلسفة والطب والزراعة والرياضيات، وفن العمارة والزخرفة والموسيقى، وعلم النبات والتاريخ والفلك وغيرها.

كانت حلقات دروس الفيلسوف الشهير ابن رشد يَؤمُّها الألوف من الإفرنج، وكانوا وقتئذ يتهافتون على تعلم اللغة العربية ليستعينوا بها على فهم علوم العرب وفنونهم. ومن تصفح فهرست مكتبة «الإسكوريال» بإسبانيا وجَد فيها عددًا عظيمًا من المؤلفات العربية مترجمةً إلى اللاتينية والإسبانيولية والعبرية وغيرها.

وما فتئت آثارهم الفنية التي بلغت المثل الأعلى من جمال الفن العربي ناطقةً بفضلهم، وما زالت الحمراء ومسجد قرطبة وغيرهما من القصور والمساجد والمدارس تختال في بردها القشيب وزخارفها الباهرة.

سَمت الموسيقى بدورها في الأندلس إلى أوج العُلى كباقي الفنون الجميلة، فابتدعوا الموشحات الأندلسية التي انتقلت من الأندلس إلى المغرب، ثم سارت إلى مصر فالشام فالعراق والعرب، وصارت الأبناء ترويها عن الآباء، وتناقلها الخلف عن السلف كأنفس الذخائر والطُّرف حتى عاشت لأيامنا هذه في جميع بلاد الشرق.

اشتهر زرياب بقرطبة حتى سحب ذيل النسيان على مَن سبقه بالأندلس من المغنين المجيدين؛ مثل: علون وزرقون، والقيان الشهيرات؛ مثل: فضل وعلم وقلم، وأصبحت إشبيلية أعظم مركز موسيقي في الأندلس، كما أشار إلى ذلك ابن رشد وابن خلدون؛ إذ قال الأخير:

حينما كان يموت عالم في إشبيلية ويراد أن تُباع كتبه بثمن عظيم تُرسل إلى قرطبة، وإن مات موسيقي في عاصمة الأندلس كانوا يرسلون آلاته الموسيقية ومخطوطاته إلى إشبيلية التي نمت فيها الموسيقى، وولع بها أهلها أشد الولع.

زرياب

كان لإبراهيم الموصلي عبد أسود يقال له: زرياب، وكان مطبوعًا على الغناء. علَّمه إبراهيمُ، وكان ربما حضر به مجلس الرشيد، فغنَّى فيه، ثم إنه انتقل إلى القيروان إلى بني الأغلب، فدخل على زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب فغنَّاه بأبيات عنترة الفوارس حيث يقول:

فإن تكُ أمي غرابيَّةً
من ابناء حامٍ بها عِبْتَني
فإني لطيفٌ ببيض الظُّبا
وسمر العوالي إذا جئتني
ولولا فرارك يوم الوغى
لقدتك في الحرب أو قدتني

فغضب زيادة الله، وأمر بصفع قفاه وإخراجه، وقال له: إن وجدتك في شيء من بلادي بعد ثلاثة أيام ضربت عنقك. فجاز البحر إلى الأندلس، وذهب إلى الأمير عبد الرحمن بن الحكم.

كان زرياب من فحول المغنين الملحنين الضاربين بالعود، وعند قدومه فتن به أهل الأندلس واحتفلوا به في كل بلد يمر به.

وكان المغنون من العرب يُكرِّرون اللحن لتلاميذهم حتى يحفظوه، ولكن زرياب كانت له طريقة عظيمة في التعليم؛ إذ كان يقسم التعليم إلى ثلاثة أقسام: الأول لتعليم الإيقاع «الوزن» في قراءة الشعر، وأن ينقر التلميذ الدف ليظهر له زمن الإيقاع، ويضبط الحركات، ثم يدرس في القسم الثاني الألحان في شكلها البسيط، والقسم الثالث لدراسة ترجيع الصوت، وحلية الغناء، وإظهار العواطف.

وكان يمتحن أصوات تلاميذه قبل البدء في تعليمهم، فيقعد الطالب على كرسي صغير، ويصيح بصوت عالٍ: يا حجام! أو يغني قائلًا: آه! ويرددها على جميع أنواع السلم الموسيقي.

كانت حياة زرياب كلها عمل ونشاط؛ إذ ترك عشرة آلاف صوت كانت ميراثًا فنيًّا عظيمًا للأندلس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤