أقولها كلمة صدق

لم أعد أذكر على وجه الدقة متى كان ذلك، حين تلقيتُ دعوة الوزير للقائه في مكتبه، وكل ما أذكره هو أن ذلك قد حدث عندما اقتربت الخمسينيات من نهايتها. والذي يُساعدني على التذكر، هو أحداث صغيرة سبقت دعوة الوزير، فلقد أشاعت تلك الأحداث — على صغرها — مزيجًا في نفسي من الخوف والدهشة، فمنها أنني لاحظتُ أن بوَّاب العمارة التي كنتُ أسكنها يبتسِم لي كلما خرجتُ أو دخلت، ابتسامةً تكاد تنطق أن وراءها معنًى، ولكني صبرتُ على القلق، حتى أقدَمَ هو على الهمس في أذني قائلًا: لقد شهدتُ لك بما أرضيتُ به ضميري، فأنت رجلٌ طيب. فسألته: ولمن كانت تلك الشهادة يا عم أحمد؟ فلم يُجِب بأكثر من ابتسامة الخجل، وتكرَّر هذا نفسه مع سائس الجراج، لكن السائس كان أكثر جرأةً وصراحة، فلمَّا سألته السؤال نفسه، ولمن كانت تلك الشهادة يا عم عبده؟ أجابني: ومن يكون إلا رجلًا من المباحث؟ وربما صدق الرجلان أو كذبا، فلستُ أدري.

ومرَّت أيام قلائل بعد حديثي مع البوَّاب والسائس. لقِيني بعدها زميل في كلية الآداب، ولم يكن معنا ثالث، فقال لي إن زائرًا من جهةٍ رسميةٍ زاره في داره؛ ليسأله عما يعرفه عني، وبالطبع كانت شهادة الزميل طيبة، وإلا لسكتَ عما حدث، فسألته: وهل علمتَ لماذا السؤال؟ فأجابني بأنه لا يعلم ذلك، لكنه من الواضح أنه إمَّا ليدفعوك دفعةً إلى أعلى، وإما ليجذبوك جذبةً إلى أسفل، فكِلتا هاتَين الحالتين تحتاج إلى سؤال.

نعم، أحدث لي كل ذلك مزيجًا من الدهشة والخوف، وظللتُ صابرًا أنتظر، حتى جاءتني دعوة الوزير للقائه في مكتبه، فلقِيَني أكرمَ لقاء، ثم أنبأني بما انعقد عليه العزم من نقلي إلى منصبٍ ذي شأن، فقلت له: إنني إذ أشكر شكرًا صادقًا ومُخلصًا، ألتمس قبول اعتذاري، فدهش الرجل لِما سمعه مني، وقال: أتأبى أن تكون كذا وكيت؟ ألستَ على استعدادٍ لخدمة «البلد»؟ فأجبته: لا يا سيادة الوزير، عفوًا إنني إذا كنتُ قد رغبتُ عن المنصب المعروض، فإنني في الوقت نفسه أُقرِّر بأنني إنما أردتُ بذلك أن أخدم البلد فيما أستطيع الخدمة فيه، وهو التعليم، أليست هي خدمة لمصر حاضرًا ومُستقبلًا أن أشارك في تعليم شبابها؟

معلم أنا مهنةً وفطرة معًا، فلو لم تسِر بي ظروف حياتي نحو مهنة التعليم، لاخترتُ بطبيعتي أن أكون مُعلمًا، فلستُ أحب في هذه الدنيا الطويلة العريضة شيئًا أكثر من حُبي للمعرفة وشرحها وتوضيحها ونشرها، وذلك هو التعليم، لكنني إذا قلت ذلك عن نفسي، فكأنما قلتُ معه شيئًا آخر، وهو أن المعرفة التي أحبُّ تحصيلها وشرحها وتوضيحها، هي معرفة أُومن بصوابها، فإذا عرفت ما يُناقضها مما أظن فيه الخطأ، استخدمته للمُقارنات التي يزداد بها الصواب وضوحًا في الأذهان.

ولو كانت المعرفة التي أبحث عنها، وأبحث فيها، وأنقلها إلى الآخرين تدريسًا وكتابة، مما يندرج في العلوم الرياضية أو العلوم الطبيعية، لما قلتُ كلامًا كهذا عن الصواب والخطأ؛ لأن تلك العلوم تبلغ من دقة النتائج ما لا يتركها نهبًا للآراء والظنون، لكن المعرفة التي أشرتُ إليها تقع في مجال ما اصطُلِح على تسميته بالعلوم الإنسانية آنًا، أو بالعلوم الاجتماعية آنًا آخر، ثم هي معرفة تدور حول معان، فيها من السخاء ما يكاد يسمح لكل من شاء، أن يكون فيها صاحب رأي. وماذا أنت قائل في فكرة كالحضارة أو «الثقافة» أو «التقدم» أو أي عضوٍ من أعضاء هذه الأسرة الضخمة من المعاني التي تتلفَّع بغلالاتٍ لطيفة من الضباب، الذي يُظهر منها جانبًا ويُخفي جانبًا؟ إنك إذا طرحتَ واحدًا منها للنقاش، فتوقَّع أن تسمع من المشاركين في المناقشة عجبًا من العجب، دون أن تجد بين يديك الوسائل الرادعة الفاصلة التي تحسم الرأي بين صوابٍ وخطأ.

إننا في بحر هذه المعاني الضرورية رغم غموضها، والغامضة رغم ضرورتها، نضرب بأيدينا وبأرجلنا ضربًا لا نضمَن به أن نجتاز المَوج العاتي لنبلُغ شاطئ السكينة والأمان، ومع ذلك فلا مندوحة للسابحين في ذلك البحر عن السباحة؛ إذ هو حتمٌ محتومٌ علينا أن نكون لأنفسنا من تلك المعاني الفضفاضة المُتصلة بالثقافة والحضارة، صورةً فيها من الوضوح حدًّا أدنى، يكفي للهداية في ميادين التعليم والإعلام. وهي الميادين التي تكاد تنفرد بواجب الإعداد للمُستقبل المأمول، وإلا فكيف نصوغ الأهداف التي نريد لشبابنا أن يستهدفوها، إذا لم تكن أمامنا وأمامهم صورة لما نبتغي؟

ولقد كان نصيبي من الحياة، منذ الشباب وإلى الآن، أن أكون بالتعليم وبالكتابة، من المشاركين في محاولات رسم الصورة المُستقبلية المنشودة، وأعترف هنا بأنني قد سرتُ الطريق على مرحلتَين، كان لي في المرحلة الأولى تصوُّر مُعين، ثم أدخلت على ذلك التصوُّر تعديلًا هامًا في المرحلة الثانية. وليس في هذا التحوُّل ما يعيب أحدًا إلا من تشبَّث برأيه، حتى ولو ظهر بطلانه، والأمر في هذه التصورات — كما قلت — ليس أمر معادلات رياضية أو قوانين علمية، مما لا تعرف لنفسها إلا طريقًا واحدًا في العصر الواحد، بل هو أمر اجتهادات قوامها آراء وظنون.

فأما المرحلة الأولى من حياتي الفكرية، فقد كنتُ فيها لا أجد بديلًا لصورة الحضارة الغربية كما هي في عصرنا؛ لأنها هي حضارة القوة والعلم والإبداع والمغامرة وتحقيق السيادة على الطبيعة، فتُسخِّرها تسخيرًا لا يقتصر نفعه على قلة من الناس، بل إن نفعها ليعمُّ حتى يصل إلى أصغر كوخٍ في أقصى الأرض.

لكنني عدتُ بعد تلك المرحلة الأولى، فرأيت أنها وإن تكن ضرورية ضرورة الحتم الذي لا يدع مجالًا للاختيار، إلا أنها ليست وحدَها كافية؛ إذ لا بدَّ أن تُضيف إليها كل أمة ما يُميزها من سمات ثقافية هي التي حدَّدت لها هويتها، أبًا عن جد، ثم عن جدود، يتعاقبون جميعًا جيلًا بعد جيل ليُكوِّنوا «تاريخًا» واحدًا موصول الحلقات.

ومنذ انفتحت عيناي على هذا الشرط الضروري، وضحت أمامي الصورة بكل قسَماتها، وهي صورة لم يَكفِني لعرضها مقالة أو مقالتان، ولا كتاب أو كتابان، بل أخذتُ أكتب من الكتُب — بادئًا بكتاب الشرق الفنان سنة ١٩٦٠م — ما يربو على عشرة، ومن المقالات عشرات، كلها يتناول الصيغة الثقافية المطلوب لها أن تكون محور نشاطنا.

وكان آخر محاولاتي في هذا السبيل، مقالة عنوانها «هيا إلى اقتحام العقبة»، والعقبة التي رأيتُ أننا لم نقتحمها بعد، فوقفتْ في طريقنا كَأْداءَ لا تسمح لأحدٍ منا بسرعة السير، هي غموض اكتنف فكرتنا عن «الماضي»، وكيف يكون دوره في حياة الأحياء. وقد اضطررتُ في سبيل شرحي للفكرة التي أردتُ عرضها، أن أُمهِّد لها بتوضيحٍ للأساس الذي تنبني عليه رؤية العصر الذي نحياه، وهو أساس قد اختلف في عصرنا عمَّا كانت عليه الحال في العصور السابقة. ولا بأس في أن نزيد الأمر وضوحًا هنا، فنقول إن العصر المُعيَّن من عصور التاريخ عادةً ما يبني تصوُّراته على أساس علمٍ مُعين، تكون له السيادة بالنسبة لسائر العلوم، وكانت «الرياضة» هي النموذج أمام العقل البشري منذ اليونان الأقدَمين. ومعنى ذلك أن جوهر ذلك النموذج الفكري هو «الثبات»؛ لأن الصورة الرياضية توحي بذلك، فينتج عن نموذج الثبات نوعٌ من الاتجاه عند الناس نحو أي موقفٍ عقلي — بما في ذلك موقفهم من ماضيهم — خلاصته ألا مجال للتغيير فيه. وأما النموذج الفكري في عصرنا الراهن، فمُستمَدٌّ من علوم الأحياء (البيولوجيا)، فانظر إلى أي كائنٍ حي، من نباتٍ أو حيوانٍ أو إنسان، تجد أمامك حقيقةً من صورةٍ أُخرى غير الحقيقة الرياضية؛ إذ تجد أمامك حقيقةً نامية، كل مرحلةٍ من مراحلها مُستنِدة إلى المرحلة التي سبقتها، لكنها لا تُكررها، فالثمار والأوراق والفروع والجذع جميعًا لا تَستغني عن الجذور الغائرة في التربة؛ إذ هي تستمدُّ من تلك الجذور ريَّها وغذاءها، لكنها مع ذلك أشياء مختلفة الصور والوظائف، لا تُشبه الجذور لا صورةً ولا وظيفة. وعلى هذا النموذج الحي ينظُر الإنسان المعاصر إلى كل شيء، بما في ذلك حقيقة وجوده هو نفسه، ووجود ماضيه.

فكل حياتنا الحاضرة — من وجهة النظر البيولوجية هذه — تَستمدُّ حيويتها من ماضيها، كما تستمدُّ الشجرة حيويتها من جذورها، لكن حياتنا الحاضرة مع ذلك ليست مُطالبة بتكرار صور الماضي كما كانت، على نحو ما تكون الثمار والأوراق والفروع غير مُطالبة بأن تتخذ صورة الجذور. والفرق بعيدٌ بين الحالتين: حالة من يحيا ليُكرِّر ماضيه، وحالة من يحيا ليَحذو في الإبداع حذوَ الماضي فيما أبدع. خُذ الشعر مثلًا، فنحن لا نُلزِم الشاعر العربي الحديث أن يلتزم كل شيءٍ التزمه الشاعر القديم، لكننا نُلزمه أن يرتويَ من الشعر القديم، حتى تمتلئ أوعيته بذَوق عربي سليم، ثم يُبدع ما شاءت له ملكاته أن يُبدع؛ لأن القديم نفسه لم يكن على صورةٍ واحدةٍ مُكررة، فليس الشعر في العصر العباسي هو كالشعر في العصر الأموي أو في الجاهلية، بل تغير في تفصيلاتٍ كثيرة. ومع ذلك ظلَّ النموذج في فحولة الشعر عند النقاد، قائمًا على الشعر الجاهلي، كأنما جعلوه كالأصل الثابت من الشجرة، وأما فروعها فمن حقِّها أن تعلوَ في السماء، ما دامت موصولةً بشريان الحياة مع ذلك الأصل الثابت.

ومسألة الماضي وعلاقتنا به هي اليوم في مقدمة المُشكلات التي تتطلَّب النظر الجاد، أكثر جدًّا مما كانت في أي مرحلةٍ من مراحل تاريخنا؛ وذلك لأننا خلال تلك المراحل، لم نكن نواجِه حضارةً أخرى غير الحضارة التي كنَّا نعيشها مرحلة مرحلة. أما اليوم فتواجهنا حضارة أخرى غير حضارتنا، وهي حضارة العصر، التي إذا نحن أهملناها كنَّا كناطح صخرة ليُوهنها، وإذا نحن انغمسْنا في غمرها بغير حساب، كنَّا كمن ألقى بشخصه في العباب ليهلك. والسؤال المُلِحُّ علينا هو: ماذا نحن فاعلون؟

كان ذلك هو موضوع الحديث في مقالتي التي عنوانها «هيا إلى اقتحام العقبة»، والذي لم أتنازل فيه عن التمسُّك بماضينا قيدَ شعرة، ولو فعلتُ ذلك لكنتُ في عِداد المجانين، لكن السؤال هو: كيف؟ وكان جوابي هو أن نتشرَّب تراثَنا تشرُّبًا يُحوِّله في قلوبنا ونفوسنا وعقولنا إلى «ضميرٍ» نُقيمه على أنفسنا من الداخل رقيبًا وحسيبًا، كما هي حال الضمير دائمًا مع الإنسان، لكن ليس من المعقول أن يظلَّ الماضي بحذافيره قائمًا أمام أبصارِنا لنكون في حياتنا نسخةً مطبوعة. وقلتُ في ذلك المقال إنه ليس أقتَلُ لنا ولا أقتَلُ للنموذج المُقام ذاته من أن نجعل أنفسنا نسخةً مكررة. أما وجودنا نحن فينمحي إذ يُصبح زائدة لا إضافة عنده يُضيفها، وأما النموذج المقام، فإن جدته تذهب عنه بكثرة تكراره، وإلا لاكتفى التاريخ كله بأصلٍ واحدٍ دون أن يجيء له من يُكرِّره.

فثارت عليَّ ثائرة ناقدٍ غاضب، وقذفَني بوابلٍ من الاتهامات التي طالما شهِدْنا أمثالها مئات المرَّات بعد مئات، وباتت في مسامعنا كليشيهات محفوظة عن ظهر قلب، حتى لكأنها تُباع مُحنطة مُعلبة في دكاكين العطارة، وما على الناقد إلا أن يشتريَ وهو في طريقه إلى بيته علبةً أو علبتَين، يسكُب ما فيهما على الورق، ثم ينام ليستريح، فلا المشكلة عُولِجت، ولا هو فكَّر في حلها، ولا المُتهم قد وجد ما يتطهَّر به من خطيئته.

فليس أسهل على الناقد الثائر من أن يقول إن الرؤية التي تُريدنا على أن ننظُر إلى الماضي نظرتنا إلى تاريخ، أو إلى سِيرة، أو إلى عملية النماء في الكائن الحي، تتلاحَق فيها حلقات النمو، بحيث تجيء آخر الحلقات ظهورًا في الزمن، مُستوعِبةً استيعابًا حيويًّا للحلقة الأولى، دون أن تكون الأخيرة تكرارًا للأولى، أقول إنه ليس أسهل على الناقد الثائر الغاضب، من أن يتَّهِم مثل هذه الرؤية الحيوية بأنها تتنكَّر لمبادئنا وقِيَمنا ومُثلنا العُليا، مع أن ذلك الناقد الثائر الغاضب لو تمهَّل وتأمَّل هذه المعاني نفسها التي ذكرها: «مبادئ» و«قيم» و«مُثل عُليا» لوجدها جميعًا — بحُكم تعريفها — تُعطيك «الاتجاه»، ولا تُملي عليك كل خطوةٍ على الطريق، فكأنما هي بمثابة من يقول لِمن ضلَّ الطريق في الفلاة: اجعل وجهتك نحو الجنوب الشرقي، وأما ماذا أصنع وكيف أتصرَّف إذا ما سرتُ في هذا الاتجاه ووجدتُ حيوانًا مفترسًا، أو وجدت بركة ماء، أو وجدت سدًّا من شجيراتٍ وأعشاب، فهذه كلها صعاب الطريق التي يَحلُّها المسافر بما تُوجبه عليه ضرورة الموقف، وطالما هو مُلتزم بالاتجاه نحو الجنوب الشرقي، فهو مُلتزم بالمبادئ وبالقِيَم وبالمُثل العُليا.

إني لأقولها كلمةَ صدقٍ يا سيدي، بأنه لن يُجديك شيئًا، كلَّا ولن يُجدينا أن تتلفَّع بدثارك مُطمئنًّا مُستريحًا، فتغفو عيناك في نعاس، ثم تصحو فجأة لتجد شفتيك تُتمتِمان ألف مرة بهذه الألفاظ الثلاثة: مبادئُنا مبادئُنا … قِيَمُنا قِيَمُنا … مُثلنا العُليا مُثلنا العُليا … فالدواء لا يشفي علةً لمريضٍ إذا ظل مُغلقًا في زجاجته، فالمريض طريح فراش، وزجاجة الدواء هناك على المنضدة، وكذلك مبادئنا وقِيَمنا ومُثلنا العُليا لا بد لها أن تنتقل من كونها كلمات، لتتجسَّد عملًا مَرئيًّا مُنتجًا، نراه في زارع الأرض وفي عامل المصنع. وإنه لحق ما قيل من أن المبادئ والقِيَم والمُثل العُليا، لن تبلُغ غاياتها في حياة الإنسان، إلا إذا غاصت في نفسه إلى عُمقها، وتحوَّلت عنده من حالة الوعي بها إلى حالة اللاوعي، بحيث تفعل فِعلها فيه، وكأنها جزءٌ لا يتجزأ من فطرته، وعندئذٍ لا تسمع مثل ذلك الإنسان يقولها ألفاظًا، ولكنك تراه في أوجه نشاطه يحياها سلوكًا.

إنه لن يكون لنا إحساس حي بوجودنا، وقدرة على المشاركة الإيجابية في حضارة عصرنا، إلا إذا استطاع حاضرنا أن يبتلِع ماضينا، ابتلاعًا ينقل ذلك الماضي من حالة كونه تُحفة نتفرَّج عليها، وعباراتٍ نُردِّدها، إلى حالة كونه غذاءً للدماء في شرايينها، أي أن ينتقل الماضي من خارجنا إلى داخلنا ليُصبح فينا ضميرًا حاكمًا ومُوجهًا لسلوكنا، لا بمُحاكاتنا لما قد كان مُحاكاةً حرفية كما يقولون، بل بإبداعنا للجديد الذي يتناسَب مع عصرنا، كما كان الأسلاف يُبدعون ما كان مُتناسبًا مع عصرهم.

والإسلام من حيث هو دين، له أركانه الخمسة التي يعرفها كل مُسلم، ويلتزمها كل مُسلم، ومن حيث هو شريعة له أحكامه التي يُفصِّلها لنا علماء الفقه، فنعتزُّ بها أحكامًا تضبط مناشط حياتنا. لكننا حين نتعرَّض لمسألة الحاضر والماضي، فإنما نتعرض للوجه الحضاري الذي ينبثق كما تنبثق الزهرة من غصنها، ولم يقُل أحد، بل ولا يجرؤ أحد على القول، بأن المُسلم لا يسعه بحُكم إسلامه إلا أن يتمخَّض عن زهرة حضارية واحدة تظلُّ تتكرَّر بِذاتِها عصرًا بعد عصر، وإقليمًا بعد إقليم، فالعِلم صورته واحدة، والفن صورته واحدة، والعمارة صورتها واحدة، والأدب صورته واحدة، وأسواق التجارة صورتها واحدة، ومصانع النسيج صورتها واحدة.

والذي أقوله، وأعيد قوله، هو أننا إذا غيَّرنا هذه الأوجه الحضارية كثيرًا أو قليلًا، لم نزِدْ في ذلك على أننا نقلْنا عن الغرب مُنتجاتهم، ولم نشارك بالإضافة التي قد تتميَّز بطابعنا الخاص إذا نحن استطعنا الإضافة. والسؤال إذن هو: ولماذا عجزنا عن الإضافة؟ والجواب هو: إننا لم نتشرَّب روح عصرنا بعد، وشغلنا أنفسنا بضروبٍ من القول هي أقرب إلى الوخم المُتثائب عند من يُشرف على نعاس، فهل أبَى الإسلام على المؤمنين فيما مضى، وهل يأبى الآن، وهل سيأبى عليهم يومًا إلى آخر الدهر أن يُخرجوا من أنفسهم زهراتٍ حضارية مُختلفة اللون والعطر كلما اختلفت حولهم ظروف العيش؟ ألا يقول رسول الله عليه الصلاة والسلام في حديثٍ شريفٍ له، ما معناه أن ما يراه المُسلمون حسنًا فهو عند الله حسن؟ تأمَّلوا بإمعانٍ أبعاد المعنى في هذه العبارة، فكأنها تقول إنه إذا أجمع رأي المُسلمين في عصرٍ ما على أن خيرَهم يتحقَّق بصورةٍ مُعينةٍ من الفكر والعمل، وكانت تلك الصورة هي المقبولة عند الله سبحانه، وهل نقول اليوم أكثر من هذا؟

عندما طالعتُ رسالة الناقد الغاضب، لم يُفزعني اختلاف الرأي، فاختلاف الرأي في أمثال هذه المسائل أمرٌ لا بدَّ منه في حياةٍ فكريةٍ صحيحةٍ قوية، لكن الذي أفزعني حقًّا اختلاف اللغة — إذا جاز لنا هذا القول — فسيادته لم يُفكر بمِقدار ما رفع السَّوط مُهددًا بالوَيل والدمار. ونحن إذا تخاطبنا بلغاتٍ مُختلفةٍ على هذا النحو المُخيف، فأخشى أن يُصيبنا ما أصاب أهل بابل، الذين استطاعوا حين كانت لهم لغة واحدة، أن يتعاونوا على بناء مدينتهم، والارتفاع ببُرجها نحو السماء، وكانوا بذلك أمةً واحدة، لكنهم لم يلبثوا أن اختلفت لُغاتهم، و«تبلبل» لسانهم، فتفكَّكوا وكفُّوا عن البنيان، ومن هنا أُطلِق على مدينتهم وبُرجها اسم بابل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤