قصةُ الخلق بين ثقافة الصحراء وثقافة النهر١

تأسيس

معلومٌ، أنه بعد انحسارِ عصر الجليد الأخير، تقاسمت الأرضَ حالتان طبيعيتان، الأولى: يمكن تمييزُها في تجمُّع شرايين المياه في أنهار، بعد استقرار أوضاعِ القشرة الأرضية. والثانية: وضحت في تصحُّر مطرد أدَّى إلى خفوت نبض الحياة تدريجيًّا، بحيث تناثرت الحياةُ حول عيون الماء والبِرَك المتباعدة، ومع ذلك التصحُّر المتزايد، وجدت الجماعةُ المشاعية الأولى — ذات النظام الأمومي — نفسَها، إزاء متغير طبيعي شحيح بمطالب الحياة والمنافع، ونرى أن ذلك قد أدَّى بالضرورة إلى تفكيك بِنْية ذلك المشاع، تبعًا للتفكيك الذي حدَث في الطبيعة، بحيث انتهى إلى وحدات اجتماعية أصغر، وأكثر قدرة على الاستمرار والديمومة، حيث كان التجمُّعُ الكبير يعني الهلاك جوعًا، والصراع على خيرات الطبيعة الضئيلة، وهو الصراع الذي — لا شك — حدَث، وأدَّى إلى ذلك التفكيك، ثم الانتشار المتباعد للأشكال القبلية الأولى.

وعليه، فقد وجَد الإنسانُ نفسَه في البيئة المتصحرة، أمام خيارَين: إما الموت جوعًا، أو تدجين الحيوان، ومن هنا حتَّم الظرفُ على البدوي الاعتمادَ على الحيوان ومنتجاته في معاشه، اعتمادًا شبه كامل، فكان يأكل لحمَه ويتغذَّى بلبنه، ويلبس من نسيج صوفه، ومن ذات النسيجِ كان يبني خيامَه.

ولندرة خيرات الطبيعة الأخرى، فقد أدَّى ذلك المتغير إلى تغير مماثل في تطوُّر البناء المجتمعي، فقد أصبحت الجماعةُ ترتبط برابطة الدم، وبنفس القوة ترتبط بحيواناتها وهي معتمد حياتها، وربما كان ذلك هو جذرَ الطوطمية، الذي عبَّر عن قرابة مماثلة — وبالدم أيضًا — بين الحيوان والجماعة، كما كانت الجماعة بحاجة ماسَّة إلى تنظيم يضمن للجماعة بشرًا وحيوانات، الأمانَ من النفوق أو الشرود أو التيه، ومع سعي هذه الجماعة المتجانسة وراء الكلأ، وما يحتاجه من قدرات عضلية لا تتوفر إلا للذكور، انهار وضْعُ المرأة، وتحولت الجماعة إلى الشكل الذكوري، خصوصًا بعد أن امتلك الذكورُ أساسًا إنتاجيًّا متينًا تمثَّل في القدرة على السيطرة على الحيوان وترويضه، في وسط صحراوي يعتمد القوةَ الغشوم، وساعد على تثبيت مركز الذكور، ذلك الصراع الذي — لا بد — قد شبَّ حول مواضع الكلأ بين الجماعات وبعضها، واحتاج قدراتٍ قتالية، وهو صراع طبيعي تمامًا في ضوء اعتماد تلك الجماعات على المعطى الطبيعي الشحيح وحده. بينما فقدت المرأةُ قيمتَها الاجتماعية في مجتمع الندرة، بحيث اقتصرتْ وظيفتُها على إنجاب مزيد من الذكور، أما الإناث فكانت أفواهًا تُضيف على الجماعة عبئًا، حدثنا التاريخُ القريب عن حلِّ إشكاليتها بوأْدها. وحتى تضمنَ الجماعةُ المتبدية تماسكَها، ذاب الفردُ في القبيلة وذابت القبيلةُ كلُّها في الفرد، وأصبح الفرد يُمثِّل القبيلة بكاملها في كل تصرفاته، وبحيث أصبحت القبيلةُ كلُّها مسئولةً عن أعماله، كما أصبحت مطالَبةً جميعُها بالالتزام بتصرفه، والثأر له إن أصابه مكروه، وذاب الكلُّ في واحد، هو طوطم القبيلة وسيِّدُها وسلفها، الذي أصبح محلَّ التبجيل والتقديس، وتحوَّل إلى رمز عزَّة قومية وجنسية ودينية، وكان كلُّ فرد في القبيلة يُمثِّل هذا السلف، أو هو — دون مبالغة — ذلك الطوطم الموحِّد والموحَّد.

وفي شكل من الديمقراطية البدائية، التي تضمن بدورها مشاركةَ الكل وذوبان الكل، كان مجلس القبيلة هو الذي يُحدِّد شيخَها وقائدها، بصفات محددة، وترتبط بظروف آنية، فقد يحتاج الظرف للحكمة مرة، وللجسارة والإقدام حينًا آخر، بمعنى أن الظرف كان هو الذي يُحدِّد مؤهلات الزعيم المطلوب، وحسب الحاجة، كما يُحدِّد أيضًا ظروفَ عزله وتعيين البديل الجديد المناسب. لكن من جانب آخر، تدنَّت مستوياتُ الإنتاج إلى حدٍّ كاد يكون اعتمادًا شبْهَ كامل على الطبيعة، ولأن علاقة الإنسان بالطبيعة هي علاقة عملٍ يؤدي إلى إنتاج اجتماعي، فإن الجماعة البدوية ظلَّت بعيدةً عن هذا المعنى الاصطلاحي، وظلَّت كائنًا طبيعيًّا في حصولها على الخيرات بالسعي الدائب وراء الكلأ، والغزو وسلْب خيرات الجماعات الأخرى، أو ما تمثَّل واضحًا في تطفُّلها المستديم على منتوج العمل في المناطق الخِصبة، والاستيلاء عليه والفرار في غزوات لم تنقطع، سجَّلتها لنا نصوصُ الحضارات القديمة، التي استقرَّت على الجانب الآخر من الفرز الطبيعي، أقصد في وديان الأنهار، التي طوَّرت قاعدةً إنتاجية، تَبِعتْها نقلاتٌ ضرورية على المستوى الاجتماعي.

وعلى مستوى العقائد، فإن الطبيعة المتصحرة الضنينة بأشكال الحياة وألوانها — تلك الأشكال والألوان التي تتعدَّدُ تعدُّدًا هائلًا في مناطق الخصب النهري — جعلت الإنسانَ في بداوته أُحادي النظرة، واحدي الاعتقاد والنظام، فهو — كما قلنا — واحدٌ في كلٍّ، يتمازج بذات الوحدة مع سلفه الواحد، الذي عادة ما تُمثِّلُه في أهم حيواناته النافعة؛ لذلك غالبًا ما قدَّس أنواع الشياه، بالذات؛ لذلك كان ذلك السلف المقدَّس هو ربَّه الواحد الأوحد، وهو أفضل من أرباب القبائل الأخرى، وهو الوطن — حيث لا وطن مع الانتقال الرعوي — والملاذ ومصدر العزة وموحد الكيان، ولا يوجد ربٌّ يمكن أن يدينَ بالطاعة له سواه؛ لأنه إنما يُمثِّل مصالحَ جماعته ووطنها الذي ينتقل معها أينما حلَّت أو ارتحلت، وهو البعد الذي نجده بعد ذلك في العقائد الإسرائيلية المبكِّرة، التي كانت لا تُنكر الأرباب الأخرى، لكن لا تراها في مرتبة ربِّ إسرائيل. ومن هنا لم يسمحِ الظرفُ بنشوء أنظمة مركزية تُوحِّد القبائلَ المتصارعة، فظلَّت في شتاتها، مع استمرار الإله الوطني والاعتزاز بالنسب إليه بحسبانه السلف الواحد اللامتعدد، ولا يمكن أن يتعدَّدَ؛ لذلك كان هو المعبود الواحد الذي يضمن لقبيلته تماسكَها اللزج وانصهارها وأمنها، لكنه من جانب آخر شكَّل أدلوجة واحدة للجميع، لم تسمح — لأزمان طويلة بعد ذلك — بظهور ثنائية طبقية تسمح بمزيد من التطور ودعم ذلك الوضع، الظرف ذاته الذي فرض استمرار الديمقراطية الابتدائية ومجلس القبيلة، والزعيم الظرفي الذي لم تثبت سيادتُه مدة زمنية تسمح بامتلاكه قدرًا يؤدي إلى ظهور تشكيلة طبقية.

هذا بينما على الجانب الآخر، وفي مناطق الخصب النهرية، كان استقرار الأنهار في مجاريها بشكل نهائي، قد استغرق زمنًا غير قصير، وسمح بوجود بيئة شبيهة بحال ما قبل انحسار الجليد الأخير، من حيث انتشارُ الأحراش والمستنقعات مما فرض بالتالي استمرارَ الوضع الابتدائي للمشاع زمنًا أطول، ضَمِن استمرارًا موازيًا لوضْع المرأة المتميز في النظام الأمومي، بسبب امتلاكها أساسًا اقتصاديًّا دعَّم ذلك الوضع (سنأتي على شرحه الآن)، واستمرَّ ذلك النظام فترة زمنية توازت مع المرحلة التي تغيَّرت فيها نُظُم المجتمع، الذي تحوَّل للبداوة في مناطق التصحر، وانتهت بالسيادة الذكورية، بينما كانت مناطق الخصب لم تستمتع بعدُ باستقرار الطبيعة النهرية تمامًا. ولتوضيح ذلك سنحتاج إلى وقفات تفصيلية — حسب المساحة المتاحة — لا بد منها، وهي وقفات تنتج لزومًا عن رؤيتنا، والتي تمثَّلت في اقتراح يحلُّ أو يحاول حلَّ مسألة أيهما كان أولًا: النظام الأمومي أم النظام الأبوي؟ فبينما كان «داروين» قد افترض — بالمقارنة مع عالم الحيوان — أن السيادة المطلقة كانت ذكرية لا شك فيها من البداية، أكمل «آتكسون» فقال: إنه حدث أن ثار الأبناء على الأب المتسلط القاسي المتوحش وقتلوه وافترسوه سويًّا‎ واستكمل «روبرتسون سميث» البحثَ ليؤكد أنه قد مرَّت بعد ذلك فترةٌ انتقالية ظهر فيها النظام الأمومي، وانتهى «فرويد» بعد البناء على ما سبق، إلى أن الأوضاع قد عادت إلى سابق عهدها وسادَ الذكر، بينما كان يقف على الجانب الآخر اقتراحٌ يحمل أدلة ربما كانت أقوى — كما عند «إنجلس» مثلًا — يؤكد أن البداية كانت نظامًا أموميًّا لا شك فيه.

وكان اقتراحي هو رفضَ السؤال: أيهما كان أولًا؟ من أساسه، بحسبانه الخطأَ الذي أدَّى إلى تضارُب الاجتهادات، وزعمتُ أنه لم يكن هناك قبل ولا بعد، ولا سابق ولا لاحق، حيث قد انتهى الظرفُ البيئي إلى تميُّز مجتمعَين عن بعضهما رغم تزامنِهما، هما مجتمع البداوة ومجتمع النهر، أي إن الاختلاف كان مكانيًّا وليس زمانيًّا، وهو الزعم الذي أضحَى بحاجة إلى تأييد، وهو تأييدٌ كما قلنا بحاجة إلى بعض التفصيل الوجيز.

سيادةُ الأنثى

لنقرَّ‎ مبدئيًّا أنه من غير المنطقي أن يوجد مجتمعٌ كلُّ آلهته إناث، ويسوده بشرٌ ذكور، أو العكس. ولنقرأ بعد ذلك الترتيلة السومرية التي تقول: «عندما تزوجت الإلهات الأم … وعندما توزعت الإلهات الأم بين السماء والأرض … وعندما ولدت الإلهات الأم … عند ذلك كتب العمل … الإلهات العظام يراقبن العمل، والأبناء يحملون السِّلال» (انظر مثلًا: فوزي رشيد، خلق الإنسان في الملاحم السومرية والبابلية، آفاق عربية، أيار ١٩٨١م). ولنلحظ أن البيئة السومرية في جنوب وادي الرافدين، لم تكن قد تحدَّدت فيها معالمُ نهرَي دجلة والفرات تحديدًا واضحًا، ولم تزل، وحتى الآن تختلطان في الدلتا وتنتشر بينهما الأهور والأحراش والمستنقعات شبْهُ الغابية.

حقيقة إني أرى في تلك الترتيلة حفرية رائعة، نُقش فيها ما حدَث في حُقْب الحياة القديمة، فالإلهات هنا هنَّ الإلهات الأم، اللاتي توزعْنَ بعد ذلك بين الأرض والسماء، ومن الجدير بالذكر أن أول تمثُّلٍ للأم الأولى الكبرى كان في تربة الأرض الخصبة، ومع نقْلات تطورية استغرقت زمنًا، تمَّ تمثُّلها — إلى جوار الأرض — في كوكب الزهرة المتلألئ ذي الحسن والدلال، وهو ما تُشير إليه الترتيلةُ بوضوح. ولك أن تلاحظَ أن قدسية الإلهات الأم قد ارتبطتْ ﺑ «عندما ولدت» ولنتذكرْ أهميةَ «ولدت تلك فسنعود إليها»، بينما أصبحت مهمة الأبناء، وهم جمع الذكور، العملَ، لتتفرغ الأمُّ الإلهة لإدارة شئون العشيرة، ومن ثَم لم يكن غريبًا أن يُناديَ السومريون تلك الإلهة بالنداء: ماما mama ومامي MAMI وأماه AMA (انظر حول تلك التسميات جان بوتيرو: الديانة عند البابليين، ١٩٧٠م، ص١١).
وتُلخِّص لنا الأنثروبولوجية جبكيتا هوكس JAQUETTA HAWKES الاتجاهاتِ البحثية بصدد تأليه الأم الأنثى الأولى، فتقول: إن أقدم تماثيل شكَّلها الإنسان للعبادة، تُمثِّل إناثًا ضُخِّمت فيهن الأعضاءُ المثيرة جنسيًّا، أَطلقتْ عليها هوكس اسمَ تماثيل أفروديت الولادة، وتبع ذلك عصرٌ اتضحت فيه بعضُ رسوم تتسم بالذكورة، تلاها عودةٌ كاسحة إلى الإلهات الإناث، وذلك مع اكتشاف الزراعة في العصر الحجري الحديث، ويعود تاريخ التماثيل الولادة إلى حوالي خمسة عشر ألف عام (أي في العصر الحجري القديم)، ولنا أن نلاحظ هنا أن الجليد قد تراجع قبل ذلك بآلاف عشر أخرى، مما يشير إلى التحولات التي أشرنا لحدوثها في البيئات المتصحرة على المستويين البيئي والمجتمعي، مع بقاء أوضاع المشاع في البيئات الخصيبة على حالها، إلى ما يزيد عن عشرة آلاف عام.
وتُؤكِّد هوكس أمرًا منطقيًّا تمامًا، هو أن النساء هنَّ مكتشفات الزراعة، إبَّانَ جمعهن للثمار في منطقة مستقرة مع أطفالهن، وملاحظتهن — بالصدفة المتكررة — لنمو الثمار المتساقطة على الأرض مرة تلو الأخرى، في وقت كان فيه الرجال يخرجون للقنص، وعند عودتهن يكون كلُّ الرجال لكل النساء، فينسب الأطفال للأم دون الأب، وقد شكَّل اكتشافُها الزراعة، وإجادتها لهذا العمل رغم بدائيته النسبية، أساسًا اقتصاديًّا ساعد على تثبيت سيادتها «التي حفرتها لنا الترتيلةُ السومرية»، ثم تلَا ذلك نهاية العصر الحجري الحديث، أي منذ حوالَي خمسة آلاف سنة تقريبًا، سيادة الذكور النهائية. ولاحظت هوكس أن ذلك اقترن بنشأة المدن المستقرة الكبيرة (للمزيد ارجع إلى: HAWKES, PRE HISTORY NEWYORK AMERICAN LIBERY, 1963, P.O. 35–357)، أما نحن فقد أجزنا لأنفسنا — وفق ما بيدنا من شواهد — أن نلاحظ أن ذلك الزمن تحديدًا، (نهاية العصر الحجري الحديث) كان بداية هبوط الموجات البدوية على المناطق الخصيبة بالهلال الخصيب، والتي استمرت نوعًا من الهجوم الدوري على الحدود لسلْب المحصول بعد جَنْيِه، وانتهت باستقرار السيادة البدوية في المناطق الخصيبة في شكل غزو استيطاني كامل، وهي الموجات التي اصطلح على تسميتها بالهجرات السامية، ولعلنا نذكر أن البداوة كانت السلطة المطلقة فيها الذكور.

تدعيم رؤيتنا

تقول ميد MEAD مقولة اعتيادية تمامًا هي: إن النساء بفضل قدرتهن على الإنجاب، ولأن مسألة الولادة كانت في عينَي الإنسان البدائي مثيرةً للدهشة والعجب — وربما الانبهار المؤدي للتقديس — فقد أدَّى ذلك إلى الاعتقاد أن النساء قابضات على أسرار الحياة (انظر: Male and Famale, New York, Morrow, 1949, pp. 102-103).

ونضيف إلى ميد: أن الولادة في مجتمع أمومي، يأتي فيه أيُّ ذكَر أيُّ أنثى، كانت لا تُعطي للذكَر فرصةً لملاحظة أثرِه ودوره في عملية الإنجاب، إضافةً إلى الفترة الطويلة الفاصلة بين الحمل والولادة، والتي كان يمكن أن تخفَى عن عين البدائي غير المدققة، للعلاقة بين الأمرين، كما أن معيشة الأولاد والبنات سويًّا حينذاك دون عائق قبل المراهقة، ومعرفتهم الجماع الذي لا تنتج عنه ولادة، أدَّى بدوره لعدم الربط بين الجماع والولادة، وعدم إعطاء الذكَر دورًا في عملية الميلاد. بل إن هناك من يعتقدون اليوم — في بعض المجتمعات المتخلفة — أنه يمكن للمرأة أن تحملَ دون رجل يأتيها، بل وتدخل تلك الفكرة ضمن معتقدات كبرى؛ لذلك كان طبيعيًّا أن يتصور الإنسان في المبتدأ أن الأنثى وحدها هي الكائن المسئول عن منْح الحياة، والقادر الوحيد على ذلك، بحيث أصبح إعطاءُ الوجود حياةً جديدة اختصاصًا أنثويًّا بحتًا، وقد دعَّم تلك الرؤية اكتشاف الأنثى للزراعة، حيث كانت الزراعةُ إنجابًا للحياة وامتلاكًا لأسرارها؛ لذلك لم يكن غريبًا أن تكون أول التماثيل المعبودة لإلهات إناث ولَّادات.

وإعمالًا لذلك نرى أنه قد تَبِع اكتشافَ الزراعة استقرارٌ دائم انتظارًا لنضج المحصول «وهو يُشابه انتظار نُضْج الجنين»، وتبعه بالضرورة دعمٌ لوضْع المرأة السيادي، لكن ذلك الأساس الإنتاجي ذاته استبطن في داخله الانهيار المقبل لوضْع المرأة، والمتغير الآتي الذي فرَضه التوسعُ في قطْع الغابات مع التحقيل وإحلال الزرع محلَّها، وما يحتاجه مثل ذلك العمل الجبار من قُوى عضلية، وما يحتاجه من حيوانات قوية مدجنة لجرِّ الأشجار المقطوعة، وللعمل في حراثة الحقل وحمل المحصول، وهو ما اقترن بالضرورة، بسيادة تدريجية للذكور أدَّت إلى تبادل المواقع السيادية، وقد حدث ذلك في الوقت الذي سجَّل لنا فيه التاريخ أن الجموع المتبدية ذات النظام الذَّكَري، قد هبطت بقطعان مواشيها القوية إلى أراضي الخصب، فيما يُعرف بالهجرات السامية.

والملحوظة الجديرة بالاهتمام هنا، هي أنه بعد هبوط الهجرات السامية على الهلال الخصيب «وهو نموذجنا هنا»، وما تلا ذلك من قيام الدول المركزية (وهو ما سنأتي على شرحه)، نجد استمرار تواجد الإلهات الإناث في حضارات الشرق الأدنى القديم، إلى جوار آلهة الدولة الحاكمة الذكور، ثم إن التماثيل التي تركتْها لنا فنونُ تلك الحضارات تُصوِّر لنا الإلهة الأنثى تحمل بيدها حزمة من الحِنطة، أو تقف في حقل حِنطة، أو تصور على ثوبها سنابلَ الحِنطة، هذا بالتبادل مع النخلة في رسوم أخرى، وإن كانت أقل انتشارًا، وهو ما يشير بوضوح إلى ارتباط الأنثى بالزرع، وبالحنطة تحديدًا (أول الزراعات المدجنة)، ولو أخذنا بالحسبان أنه بمرور الوقت، ومع النظام الاجتماعي الذَّكَري، ومع الاستقرار، بدأ الذَّكَرُ يلاحظ دورَه في علمية الإنجاب، كما لاحظ التشابهَ الواضح بين حبة الحنطة المفلوقة وبين فرْج الأنثى المفلوق، وأن كلا الفرجين ينفلق عن ميلاد وحياة جديدة بعد ريِّ الحبة بالماء وريِّ الفرج بمني الذكَر، فربط بين المني والماء واعتبر المني ماء الحياة المذكَّر «أوزيريس النيل في مصر، بعل المطر في الشام، أبسو وإنكي إلهي الماء في الرافدين … إلخ»، كما ربط بين الحِنطة والمرأة، ناهيك عن رصيدها في اكتشاف تدجينِ الحنطة تحديدًا، والتي تحمل التشابه مع الفرج الأنثوي، هذا مع ما حمله التشابهُ مع نواة التمر الذي انتهى بتقديس التمر بدوره، وبحيث حملت النخلة قدسية المرأة وأصبحت رمزًا دالًّا عليها في العبادات وفي الحوارات الجنسية، واحتسب التمر دواءً شافيًّا يحمل كثيرًا من البركات حتى اليوم، خصوصًا إذا خُلط باللبن، «وهو رمز المني الذكَري!» ولا ننسى أن مريم أتاها المخاضُ عند جِذْع النخلة والتفاعل معها بهزِّها.

أما الكلمة «تمر» فالواضح لدينا أنها الأصل والجذر في الكلمة الدالة على الزرع على وجه التعميم، أقصد كلمة «ثمر». وتأسيسًا على تلك التجربة والملاحظات، بنَى الإنسان تصوراتِه عن التكوين والوجود، فربط التكوينَ بدم الحيض الشهري، بعد أن لاحظ غياب الدم مع بدء الحمل المؤدِّي في النهاية إلى ظهور الحياة في المولود، فربَط الدم بالحياة، وتصور أن ذلك الدم المنجَّس داخل الرحم هو الذي يُكوِّن الوليد المقبل، وقد ربط ذلك بملاحظة أخرى هي الموت المحتوم الذي يصيب الإنسان المجروح عندما ينزف دمه، ذلك الدم الذي أصبح على وجه العموم سرَّ التكوين وسرَّ الحياة، وبقي في الذكَري، حتى في مجتمع السادة الذكور، بحسبانه منحةَ الأنثى الإلهة الأولى.

هذا وقد لاحظ بعض الباحثين (مثل فرويد) ارتباطَ الأنثى بالقمر، والذي كان عادة ينقش إلى جوارها في حالة الهلال، فاحتسبوا أن الإنسان القديم رمزٌ للأنثى بالقمر، وأن القمر هو الإله المؤنث، لكنا ذهبنا إلى اتجاه معاكس تمامًا، فقد افترضنا أن هذا الاقترانَ بين الأنثى والقمر إنما نتج عن تناغم إيقاعات الدورة الشهرية للمرأة مع التبدلات التي تطرأ على وجه القمر خلال الشهر القمري، الذي ينضبط إلى حدٍّ مدهش مع الإحدى وعشرين يومًا للدورة الحيضية، وأن غيابه يترافق مع نزول دم الحيض، ويربط تلك الظاهرة بظاهرة نزول دم البكارة عند أول جماع للفتاة البِكر، انتهى بتصور أن القمر هو الزوج الحقيقي أو الغائب للمرأة، بخاصة مع حدوث حالات حمل مع غياب الذكَر فترة طويلة للصيد أو في ظروف طارئة، والقمر قد اقترن من جانب آخر بحيوانات الرعي عمومًا (الشياه)، لشبَهِ الهلال بقرنَي الخروف أو الثور، وهي الحيوانات التي شكَّلت الأساس الاقتصادي الذي أدَّى إلى امتلاك الذكور قاعدةً إنتاجية دعَّمت وضعَهم السيادي، والذين مالوا عمومًا منذ البداوة إلى الترميز للهلال بالخروف، والذي عادة ما رمز بدوره للسلف الأب الذي في السماء.

وتأسيسًا على ذلك احتسبت أولى نظريات التكوين أن بداية الخلق جميعًا من الأنثى الولَّادة، التي تمثَّلت في قوة أنثوية تلدُ كلَّ شيء من الزرع إلى البشر، وأُدمجت كقوة خلْق كبرى في جميع الإناث بشرًا وحيواناتٍ وأرضًا ولودًا، وتمثَّلت المادة الأولى للتكوين في دم الأنثى تحديدًا.

ومن الطريف أنه بالقرب من موطني (مدينة الواسطى) وعلى الطريق إلى «الفيوم»، ظهرت كرامةٌ زراعية رائعة الدلالة، تُشير إلى بقاء المأثور القديم في الوجدان الشعبي بقوة. فمنذ زمنٍ غير بعيد (حوالي ٧ سنوات) انتشرت أسطورةٌ تقول إن رجلًا أراد قطعَ شجرة الجميز القابعة على الطريق الرئيسي، ومع أول ضربة بالفأس (وهو رمز ذكَري دائم لأنه يشقُّ رحِمَ الأرضِ) صرخت الشجرةُ ونزفتْ مكانَ الضربة دمًا غزيرًا، وفي تلك اللحظة تحديدًا، وكانت في الثلث الأول من الليل، وعندما سمع أهلُ القرية جميعًا دويَّ الصرخة الملتاعة، نزفت كلُّ امرأة كانت في حالة جماع مع زوجها، ومن ثَم اختار الأهلون للشجرة اسمًا لا جدال في دلالته، وهو «الشيخة خضرة!» ووضعوا بجوارها صندوقًا كُتب عليه: تبرعوا لبناء مسجد الشيخة خضرة! والغريب أنك عندما تقترب من الشجرة — التي أخذت المئذنة تتعالى من خلفها — لتطالع المادة الصمغية التي جفَّت قطراتُها على الساق المقطوع، ستجد أهل القرية قد علَّقوا على الفروع أشرطة من نسيج أخضر، وعلَّقوا على الجذع قرنَي خروف! أما الهلال السيادي فقد تمَّ الاهتمامُ بوضعه فوق المئذنة، حتى قبل إتمام بقية المسجد.

الأنثى والأرض

ويمكننا أن نرى ارتباط الأنثى الولود بالأرض، متمثِّلًا بروعة أخَّاذة في أسطورة سومرية تحمل اسم «أسطورة الشعير والنعجة»، ولنلحظْ بداية الشعير «وهو الحنطة رمز الخصوبة الأرضية، وأول ما دجنت المرأة من زروع، كما أن النعجة هي رمز الأنثى الأشهر»، وتتلخص الأسطورة في القول: إن البشر الأوائل قد خرجوا من تربة الأرض كما يخرج الزرع والحشيش وكلُّ صنوف الحياة.

ويمكنك أن تجد ذات الفهم في أسطورة سومرية أخرى تحمل عنوان «هبوط إينانا إلى العالم السفلي»، وقد وُضعت — فيما يبدو — لتفسير ظاهرة التناوب الفصلي بين الخصب والجدب، كما تُلخص المفاهيمَ الأولى عن الوجود والتكوين، وتقول: إن إلهة كوكب الزهرة إينانا، كانت تهبط إلى باطن الأرض دوريًّا كلَّ عام حيث عالمُ الموتى، وبتضحية اختيارية تتمُّ وقتَ الاعتدال الخريفي، حيث يبدأ فصلُ الجدب على سطح الأرض بغيابها، وهي الأنثى الأم الولَّادة مانحة الحياة، ثم تعود مع الاعتدال الربيعي إلى سطح الأرض، ومع عودتها تخصب الأرض وتتفتح الأزاهير؛ لأن عودتها تعني بدْأَ عملية الإخصاب والتوالد، «فيعود الخروف إلى شاته، والثور إلى أنثاه، والزوج الغاضب إلى بيته» أو كما قالت! لذلك لم يكن غريبًا — مع طرحنا — أن يتمَّ تعديلُ تلك الأسطورة السومرية الزراعية، بعد سيطرة الأكاديين على بلاد سومر وقيام دولتهم المركزية، وهم من أصل رعوي بدوي خيموي، ليتحوَّلَ اسمُ إينانا إلى عشتار وعشتروت من العشرة والمعاشرة والتعشير، لكنها لا تصبح السيدة المطلَقة المسئولة عن الخصب، إنما يظهر هنا سيدٌ جديد كان في الأساطير السومرية مجردَ ذكَرٍ خامل الذِّكْر، ضمن مجموعة عشاقها العديدين، «ترميزا لزمن الأنثى في المشاع»، ليرتفع ذلك الذكَر وتعلو مكانته ويصبح هو المسئول عن الخصب ومنح الحياة واستمرار الحياة، وهو المعروف في الأساطير السامية الرافدية باسم «تموز راعي الخِراف الطيب»، ويصبح هو رمز النبات الذي يموت في فصل الجدب وينزل إلى العالم السفلي، ويعود مع بداية الربيع، دون أيِّ ارتباط بواقع الخصب اللهم إلا الارتباط بمنطق السيادة التي حققها الذكور الأكاديون، منطق نظام اجتماعي يأخذ بالسيادة الأبوية في نُظُمِه الاجتماعية، «وهناك أمثلة عديدة يمكن للقارئ الرجوعُ إليها في أعمالنا المنشورة».٢

ورغم الواضح في المأثور الحضاري في المنطقة عن تراجع سيادة الأنثى، فيبدو أنها ظلَّت ذات وضْع سيادي في عالم الاعتقاد، ومعلومٌ أن بقاء المعرفي المتمازج من القديم مع جينات الجديد، يظلُّ فترةً أطول من تغير الواقع المادي الأسرع في التغيير، وقد أبقَى ذلك لنا ثروةً طيبة، وجدنا فيها طقسًا مثيرًا كان يُمارَس في المناسبات الدينية الاحتفالية بالإلهات الإناث في المراكز الحضارية الكبرى في الشرق القديم، والطقس عبارة عن احتفالية جنسية عمومية هائلة عددًا وعُدَّة، في أيام محدودة بجوار معبد الإلهة، وكان أشرف الأعمال التي يمكن للأنثى تقديمُها هي التضحية بالبكارة في هيكل الإلهة، ولا أجدني مخطئًا إن احتسبتُ ذلك الطقس أفضلَ قربان يمكن تقديمُه للإلهة المخصبة الولود الشَّبِقة المنجبة مانحة الحياة، تذكرة بالأيام الخوالي أيام كان الرجال للنساء جميعًا، والنساء للرجال جميعًا، وإذا كان ذلك ممجوجًا من قواعدنا الأخلاقية اليوم، فإنه كان حينذاك على العكس تمامًا، بل كان واجبًا دينيًّا خطيرًا تُقدِّمُه النساءُ للإلهة كي يفشوَ الخير وتأتيَ السنوات السِّمان، بتحريض القوى الإخصابية للأم الكبرى لتبدأ فعلَها في الطبيعة، تأسيسًا على مبدأ السحر التشاكلي حيث الشبيهُ يُنتِج الشبيه، وليس أدلَّ على شرف ذلك العمل الذي يتمُّ من أجل خير المجتمع كلِّه من تلك اللوحة التي عُثر عليها مؤخَّرًا في طرابلس بليبيا، منقوشة على عمود شرف مرمري يُعلن: أن الشريفة أورليا آماليا قد قدَّمت جسدَها قُربانًا للآلهة، وأنها في تديُّنها أصيلة، فقد قدمت أمُّها وجدَّتُها القربانَ ذاته، وأنه قد تمَّ للهيئة الكهنوتية التأكدُ من ذلك! (انظر: فريرز، أدونيس أو تموز، ترجمة جبرا إبراهيم، ص٤٥).

ولنلحظ استمرار التواجد الأنثوي في العبادة حتى الآن في العقيدة المسيحية، حيث تُعتبر مريم أمَّ الإله المسيح من أبيه السماوي، وهذه الأم الإلهية تستوجب الاحتفالَ والتقديس؛ لذلك اختصَّت دون بقية الأقانيم الثلاثة بصيام العذراء، الذي يصوم فيه المسيحيون عن كل ما هو حيواني، ويقتصرون فيه على الأكل النباتي لتذكيرٍ واضح لا لبسَ فيه، بالمجتمع الذي زعمناه في سالف الأزمان، يعيش في البيئات الخصيبة، ويستغني عن اللحم في الغذاء ويعتمد على الوفرة النباتية، وتسوده أم إلهية مقدسة، ولا ننسى التبادل بين كلمتي «نبات» و«بنات».

أما اللغة فكانت كعادتها تحمل دلالاتٍ أحفورية حملت الخِبرة القديمة وما تأسَّس عليها من مفاهيم، تقولبت في ألفاظ تحمل دلالاتِ تلك المفاهيم، فالكلمة قديسة هي في العبرية قديشا، وكانت في الأكادية القديمة قاديشتو، وكان إبَّانها اللقب الذي تحوزه العشتارية، أي المصطفاة من جموع النساء الحاشدة ليلة الحفل النزوي خارج معبد عشتار، لتقوم بدور الإلهة داخل هيكل الإلهة مع الكاهن الأكبر الذي عادة ما كان الملك يقوم بدوره (انظر كمثال فاضل عبد الواحد، عشتار ومأساة تموز، بغداد، ص١٥٨، كذلك بالمرجع السابق ص٧٠)، أما التي كان أهلها من النبلاء يقدمونها طائعة للهيكل، فكانت تحوز لقب الإلهة الأم ذاتها وهو «البتول» وهو في الكنعانية والأكادية والعبرية «بتول، بتولتا، بتولًا»، ويعني في العقائد القديمة «إشارة للإلهة» الأنثى غير المتزوجة وغير العفيفة في آنٍ معًا.

الخَلْق في الفهم الذكَري

لأن الخلْق بالميلاد في النظام الأمومي كان يعتمد مادتَه الأساسية دمَ الحيض، فإن سيطرة الذكور التامة بعد الغزو البدوي لمناطق الخصب، وسيادة النظام الذكَري، كان لا بد أن تُعيدَ صياغة الأدلوجة بما يتفق والشكلَ السيادي الجديد، ولأن مفهوم التكوين من الدم بات راسخًا، فقد لجأت الأسطورة الذكَرية إلى صياغة جديدة تتلاءم مع الظرف الجديد، تجاوزت شرطَ الولادة لأن الذكَر لا يلدُ، وأخذت منحًى آخر أعطَى الذكَر الدورَ الأساسي، فالآلهة الذكور عندما قرَّروا خلْق البشر، قاموا بذبح إله يُدعَى «كنجو»، وعجنوا الترابَ بدمه ومن هذا العجين تمَّ خلْقُ الإنسان، وهو ما سجلتْه لنا الملحمة الرافدية «إينوما أيليش»، وتعني «في العلى عندما».

أما خلْق الكون برمته فقد اعتمد خطأ آخر، تمَّ فيه وصْمُ الأنثى بصفة الشرِّ، حيث احتسبت الأمُّ الإلهة العظمى «تيامة» إلهة شريرة، أزعجت الآلهة الذكور، فقام إلهُ الدولة الذكَرية «مردوخ» بمُنازلتها وهزيمتها، وهو تعبير واضح عن انتصار النظام الجديد، ثم قام «مردوخ» بشقِّ «تيامة» كما تُشَقُّ الصدفةُ إلى قسمين، رفع القسم العلوي وجعله سماء، وترك النصف السفلي ليُصبح أرضًا، وفي تلك التنظيرة نجد اعترافًا ضمنيًّا بضرورة الأنثى للتكوين، فمن جسد الإلهة الكبرى تمَّ تشكيل الكون سماءً وأرضًا.

ولأن الجديد استبطن القديم، ولم يكن ممكنًا التخلصُ نهائيًّا من دور الأنثى في البناء المعرفي، القائم على فرْز مادي تاريخي عريق، فقد حملت الأنثى في ظلِّ السيادة الذكرية قيمة ثنائية، فهي في لغة البداوة السامية (في العبرية مثلًا) حواء، لكن الكلمة حفرت في تركيبتها ومفهومها جذر الحياة، وفي الوقت نفسه حملت الوجه الآخر الجديد فارتبطت حواء بالحية مصدر الأذى والشر، ولنلحظ الارتباط الجذري بين: حواء، حياة، حية، حيا أي «فرج»، والمرجح في ربطها بالحية ملاحظة البشر للحية تنسلخ من جلودها كلَّ عام، فتصوروا أن الحية خالدةٌ تُجدِّد حياتها بهذا الأسلوب كلَّ عام، فربطوها بالأنثى حواء مصدر الحياة المتجددة، ومع ذلك فإن الحية في المأثور التوراتي الأشهر، وهو قمة وتطور وخلاصة المأثور البدوي الذكَري، ترتبط بالمرأة لكن في صيغة تبخيسية، فهي توعز لحواء بأكل الثمرة المحرمة في عالم الخلد، فيفقد الرجل الخلود بسببها، وتتحول المرأة عن مِنَح الحياة إلى سلب الحياة، وفقدان الخلود، وعليها يجب أن يقع هذا الوزر إلى الأبد.

أما على مستوى القاعدة الاجتماعية، والشكل السياسي، وارتباطهما بالمنظومة المعرفية، في ظلِّ السيطرة الذكَرية، فقط ارتبط جميعُه بخطوات تطورية سريعة تلاحقت بعد الغزو البدوي السامي للرافدين، فإن المشتركاتِ الأولى ظلَّت تتمتع ببقايا الديمقراطية البدائية البدوية، وبمجلس القبيلة الذي أصبح مجلسَ المشترك الذي يختار الزعيم، لكن مع الاستقرار في البيئة النهرية، والتحول إلى الفلاحة، وما يفرضه النهر من تلاحم القوى البشرية للسيطرة على مجاري المياه الهائلة وتوزيعها، فإن ذلك فرَض نوعًا من الطوارئ المستمرة، التي أدَّت إلى استمرار مماثل في سلطة الزعيم، بحيث انتهى الأمر مع بقائه ببقاء الطوارئ إلى تسليمه كلَّ ألوية وشارات القبائل المتبدية، ليتحوَّل الشكلُ السياسي إلى المركزية الصارمة، وإلى توارث الزعامة في بيت الزعيم الملك، بعد دمْج المشتركات الإقليمية في الدولة المركزية، بعد صراع مزمن بين تلك المشتركات، وهو ذات الأمر الذي حدَث في عالم السماء، حيث تقول ملحمةُ الإينوما أيليش أن مجمع الآلهة الخمسين (ولا شك أنه يُقابل مجلس القبيلة الأرضي، أو مجموعة الأقاليم) قد سلَّم سُلُطاتِه للإله مردوك، وأنهم قد اجتمعوا في السماء ومنحوه قدرةَ تغيير كلِّ شيء، وخلْقِ أيِّ شيء، بمجرد النطق بالكلمة، تعبيرًا عن السلطان المطلق الذي أصبح يتمتَّع به الملكُ الأرضي، وبعد أن أصبحت كلمته نافذةً لا تقبل الإرجاء، حيث تقول الملحمة: «واجتمع الآلهة الخمسون، في أبشوكينو فرحين، وسلَّموا مردوك شاراتِهم، وقالوا: مَن مثلك ملك، مُرْ قطعة القماش الممزقة تلتئم، مرْها ثانية تعود سيرتَها الأولى.»

لكن الواضح في كل الأساطير الرافدية القديمة، أن تلك القدرة كانت بالقوة لا بالفعل، فهي قدرة مرجأة حيث كان الخلق يتمُّ دومًا بالفعل اليدوي، بل ويظهر في التوراة التي أقرَّت الخلق بالكلمة، لكن في كل مرة كان الربُّ يصنع مخلوقاتِه بيدَيه صنعًا، مما يشير إلى أن الأمر قد تمَّت صياغتُه فقط لتبرير إطلاقية الكلمة السيادية على الأرض (راجع الإصحاحات الأولى من سِفر التكوين التوراتي).

١  نُشر في ديسمبر ١٩٩٠م، بمجلة أدب ونقد، القاهرة.
٢  انظر تفصيلات أوسع لهذا الموضوع في كتابنا الأسطورة والتراث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤