سرُّ الأسماء المقدسة١

في كتاب المواجهة الصادر ضمن سلسلة كتاب الأهالي، كتب الأستاذ خليل عبد الكريم (ص١٤٧) يقول: «الحواريون أو الرسل أو التلاميذ الذين كانوا مع المسيح عليه السلام كانوا ثلاثة عشر، وعُدَّة أهل بدر الكبرى من المسلمين كانوا ثلاثة عشر وثلاثمائة، فهل هناك صلة من نوع خاص بين الديانتَين الساميتَين، وبين الرقم ١٣؟ وهل لهذا الرقم مكانٌ ملحوظ في الميثولوجيا السامية القديمة؟ هذا ما أدعو أخي وصديقي د: سيد محمود القمني عالم الميثولوجيا المرموق أن يجيبني عنه.»

وعندما يطرح مفكر في قيمة الأستاذ خليل عبد الكريم سؤالًا، فإن الحصافة تستدعي الاستجابة الفورية للرجل الذي أثرى مكتبتَنا العربية بقراءته المستنيرة في منتوج الفكر الإسلامي، وإعمالًا لذلك قمتُ بكتابة هذه العجالة السريعة، مع وعْد بتقديم دراسة مطولة حول الأرقام والأشياء والظواهر المقدسة في ديانات حوض المتوسط الشرقي، في المستقبل القريب.

مقدسات البيئة

ورغم اشتراك معظم ديانات شعوب العالم في معالم أساسية مقدسة، فإن هناك اختلافاتٍ جذرية في كثير من التفاصيل بين تلك الديانات، كنتيجة محتمة لاختلاف الظروف البيئية باعتبار الإنسان ابن بيئته، وأن الدين يتفاعل مع ظروف البيئة والمجتمع، كذلك يسهم اختلافُ المكان والزمان والتشكيلات الاجتماعية والأنماط الاقتصادية والمرحلة التطورية التي وصلها المجتمع، وكَمُّ التراكم المعرفي لديه وكيف يسهم جميعُه في طبع الدين بسمات تختلف أو تقترب من ديانات الشعوب الأخرى.

وملاحظة الأستاذ خليل حول تشابه ديانات شرقِيَّ المتوسط السامية أمرٌ صحيح تمامًا، من حيث كونُ تلك الديانات قد ظهرت في مجتمعات تتشابه في ظروفها الاجتماعية والبيئية مع التجاور المكاني، وإن اختلفت زمانيًّا فدخل على المتأخر منها بعضُ التطوير والتجريد الذي لم يحظَ به السابق.

ولعل أكثر أوجه التشابه تكمن بين الديانتين الساميتين: اليهودية والإسلام، لتشابه الظرفِ المجتمعي والبيئي، فكِلا المجتمعَين قد نشأ في بيئة صحراوية جبلية، وكلاهما كان مجتمعًا قبليًّا تسوده أعرافُ القبيلة ونُظمُها ومرحلتها في التطور التاريخي، ومن ثَم تجد ألوانًا من التقديس لأرقام بعينها، ولأشياء أخرى عينية هي من أهم معالم البيئة الصحراوية، فكلتا الديانتين ديانة قمرية: الشهور قمرية، مواعيد التضحية قمرية، الاحتفاليات الكرنفالية الكبرى قمرية، الصيام قمري، «والقمر يعلو المآذن الإسلامية»، والمُطالع للتوراة سيكتشف أن القمر في أحيان كثيرة كان يُعَدُّ أحدَ تمثلات الإله ذاته.

كذلك قدَّس البدوُ الصخور النادرة والأحجار والجبال، فاليهود يُقدسون جبل «حوريب، كاترين» بسيناء، ويطلقون عليه اسم «جبل الله»، وعربُ الجاهلية والإسلام يُقدسون جبل عرفات، وكان اليهود يُقدسون كلَّ مرتفع من الأرض، يُقدمون عنده قرابينَهم وأضحياتِهم، ويمارسون عليه طقوس الجنس المقدس. وعرب الجزيرة كانوا أيضًا يذبحون عند عرفات ويقدسون الصفا والمروة.

كما كان تقديسُ الأحجار في البيئة الصحراوية أمرًا واضحًا في ديانات الصحراء، خاصة إذا كان الحجر من النوع النادر، ومن ثَم قدَّس العربان منذ القديم الأحجارَ النيزكية المنصهرة القادمة من الفضاء، باعتبارها قادمةً من حيث عرشُ الإله، ونتيجة انصهارها اكتست بلون أسود لامع زاد في روعتها وجلالها، ومن ثَم قاموا يضعونها في أفنية البيوت المقدسة والمعابد، وللسبب ذاته قدَّس اليهودُ النيزك الكبير الموجود بالقدس، والموجود الآن تحت ما يُعرف باسم قبة الصخرة، وأحاطته القدسية الإسلامية بعد حديث الإسراء والمعراج، كذلك قدَّس عربُ الجاهلية حجرًا أسودَ وضعوه بالكعبة، ورغم ما جاء به الإسلامُ من تطور، فإنه جعل للحجر الأسود مكانةً قدسية.

الرقم ٧

ويلحظ الباحثون أن رقم ٧ قد أحيط بهالة كبرى من التقديس في الديانات السامية الكبرى، فقصة الخلق التوراتية تقول: إن الله خلَق السمواتِ والأرض في ستة أيام، ثم استراح من عناء عمله في اليوم السابع؛ لذلك تقدس اليوم السابع الذي اعتبروه يوم السبت، من «شباث» أو الثبات والسكون؛ لذلك لا يعمل اليهودي يوم السبت ويُقلل من حركته ما أمكن، واعتقد اليهود بأن المحافظة على قدسية اليوم السابع مجلبةٌ لرضا الإله ولحسن الحظ، وأن انتهاكه نذيرُ شؤم ودمار، ثم انصرف ذلك التقديسُ إلى مواضيع شتى يشغل فيها الرقم ٧ مكانًا بارزًا فتحدثوا عن أعمار الإنسان السبعة، وما للقطط من سبعة أرواح … إلخ، ثم جاءت المسيحية لتستمر في تقديس ذات الرقم، وتحدثنا عن الخطايا السبع المميتة، وسيوف الحزن السبعة في قلب العذراء، وأبطال المسيحية السبعة، مع تقديس اليوم السابع الذي أصبح يوم الأحد، وكلُّها لدى المؤمن المسيحي أمورٌ واضحة ومعقولة لمجرد أنها سبعة وكفى بذلك سبيلًا.

أما القرآن الكريم، فقد قال بقصة الخلق ذاتها، لكن الإسلام خالف كِلا المعتقدين في يوم الراحة المقدس، وكرَّس له يوم الجمعة الذي كان يُعرف باسم يوم العروبة، ثم أفسح مجالًا فسيحًا للرقم ٧ وهو ما نجد نماذج له في الآيات الكريمة:
  • ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ (البقرة: ٢٩).
  • كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ (البقرة: ٢٦١).
  • وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ (يوسف: ٤٣).
  • وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ (يوسف: ٤٣).
  • وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ (المؤمنون: ١٧).
  • اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ (الطلاق: ١٢).
  • سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ (الحاقة: ٧).
  • وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي (الحجر: ٨٧).
  • لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (الحجر: ٤٤).
  • وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ (لقمان: ٢٧).
ومع الميل للمبالغة يصل التقديسُ من السبعة إلى السبعين، كما في عدد السبعين إسرائيليًّا الذين اختارهم موسى لمقابلة الإله «يهوه» في جبل سيناء، كذلك السبعون تابعًا للمسيح، وهو ما يجد صداه في الآيات الكريمة من قبيل:
  • فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا (الحاقة: ٣٢).
  • وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا (الأعراف: ١٥٥).
  • إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (التوبة: ٨٠).

أما الحسنات السبعون فمتكررات في كثير من الأحاديث النبوية الشريفة.

أصل الأسبوع

من غير المعلوم يقينًا السرُّ في تقديس الرقم ٧، وقد وُضع بسبيل ذلك عدةُ احتمالات، منها أنه عددٌ تامٌّ لا يقبل القسمة إلا على نفسه، وقيل إن الجذر «سبع» لغة يعني الكفاية والتمام والامتلاء، وهو بالعبرية «شبع»، أي امتلأ، ثم هو يعني القَسَم المغلظ، كما في حادثة بئر سبع التي أقسم عندها إبراهيمُ وأهل فلسطين، وتُسمَّى لذلك بئرَ القَسَم، كما تعني أيضًا رقم ٧؛ لأنهم ذبحوا عندها سبعَ نِعاج، أما السبُع — الأسد — فهو ملك الحيوانات وأكملها وأجلها شأنًا. ولما كانت الباء تتبادل مع الفاء في اللغات السامية، باعتبار أن كلتَيهما من الحروف الشفاهية، فقد تحولت «سبع» و«شبع» لتصبح «شفع»، علامة على الأرباب الشفعاء في الجاهلية، أما الإسلام فقد ألغى جميع الشفاعات وأبقى على شفاعة واحدة للمصطفى .

لكن بعد التأمل والتدقيق، يمكن أن يُطلعَنا على السر وراء كل ما أسبغ على الرقم سبعة من هالات قدسية، لنكتشفَ أنه ليس لخاصية فيه، بقدر ما كان ناتجًا عن تقديس الساميين القدماء، وبخاصة أهل الرافدين للكواكب السيارة الخمسة مع النيرين الكبيرين الشمس والقمر وعددهم سبعة.

وكان للقمر بالذات في البداوة وليل الصحراء مكانُه المتميز؛ لذلك كان ألصقَ بخيال البدوي من الشمس المحرقة خاصة في ليل الصحراء، مع السحر القمري المبهر المتمثل في تحولاته ما بين هلال وتربيع وبدر ومُحاق.

وقد لاحظ الساميون القدماء أن تحولات القمر تنقسم إلى قسمين متساويين، من ولادته إلى تمامه بدرًا أربعة عشر يومًا، ومن ظهوره بدرًا إلى مُحاقه أربعة عشر يومًا، والأربعة عشر يومًا ينقسم إلى قسمين متساويين ٧ + ٧، ومن هنا وصلوا إلى تقسيم الزمان بمعرفة معنى الأسبوع، الذي هو ربع الشهر قمري، وقد قرن البابليون المتفوقون في دراسة الأفلاك تلك النتيجة بالسيارات الخمس المعروفة آنذاك: المشترى «الإله مردوخ»، والزهرة «الإلهة عشتار»، وزحل «الإله نيناب»، وعطارد «الإله نابو»، والمريخ «الإله نرجال» مع الشمس «الإله شماس»، والقمر «الإله سين»، (وعددهم جميعًا سبعة آلهة)، لينتهوا إلى وضْع الزمن في أسابيع على عدد الآلهة السماوية السبعة، وكانت أعظم الآلهة في المعتقدات الرافدية، وغنيٌّ عن الذكر أن هياكل بلاد الرافدين كانت هياكل لعبادة تلك الأجرام، كما كانت في الوقت نفسه مراصدَ فلكية ومحلًّا لدراسة الأفلاك ومتابعتها.

ولعل القارئ سيلحظ معنا أن السنة تتكون من ٥٢ أسبوعًا، ولو جمعنا طرفي الرقم ٢ + ٥ سيعطينا النتيجة ٧.

والخلاصة من كل ذلك أن تقديس الرقم ٧ يعود أصلًا إلى تقديس الآلهة الكوكبية السبعة العظمى المعروفة بالآلهة مقررة المصائر، وقد تمت عبادةُ كلِّ إله من تلك الآلهة في يوم سُمِّيَ باسمه، وقد ترك ذلك التقديسُ القديم أثرَه في أسماء تلك الأيام حتى اليوم في أسماء الأيام الإفرنجية، التي تعود إلى أصول سكسونية قديمة، فيوم الأحد كان يوم عبادة الشمس، وكان في السكسونية sund’s day الذي جاء منه اسم يوم الأحد Sunday، ويوم الاثنين المكرس لعبادة الإله القمر اسمه Monday، وقد أخذ من الأصل السكسوني Moond’s day، أما الثلاثاء الذي كان مكرَّسًا لعبادة إله الحرب، وهو عند السكسون الإله Tiwes فقد جاء منه اسم يوم الثلاثاء Tiwesday، كذلك شأن الأربعاء الذي كرس لعبادة الإله ودن Woden، ومنه جاء اسم يوم الأربعاء Wednes day، ثم الخميس يوم إله الرعد الصاعقة Ther، ومنه جاء اسم الخميس Thurs day، أما الجمعة المنسوبة للإله Friga، فاشتق منه الاسم Fri day، لينتهيَ التقسيم بيوم عبادة الإله زحل Satern الذي اشتق من اسمه اسم يوم السبت Satur day.

الرقم ١٢

وهكذا كانت عبادةُ الأجرام السماوية هي الأصلَ والمنشأ لمقدسات ظلَّت تفرض وجودها في تاريخ الإنسانية حتى اليوم، وهو الأمر الذي قصدنا بيانه من خلال التوضيح العاجل السالف، لنصلَ إلى عدد تلامذة المسيح وحواريِّيه، إلى العدد ١٢، وهو ما جاء في سؤال الأستاذ خليل بخطأ من قبيل السهو، فقال: إن عددهم ثلاثة عشر.

والرقم ١٢ أُحيلت إليه أعدادٌ مقدسة لأشخاص مقدسين، فتلامذةُ المسيح من غير اليقيني أبدًا أنهم كانوا اثنَي عشر حواريًّا، لكن كتاب الأناجيل ضبطوا عددَ التلاميذ مع العدد المقدس، وكذلك فعلت التوراةُ عندما جعلت أبناء يعقوب — إسرائيل المعروفين بالأسباط — اثنَي عشر ولدًا هم بنو إسرائيل، وفي الجلجال بفلسطين كان يقوم اثنا عشر عمودًا مقدسًا من سالف الأزمان، كذلك كانت مجالس الأمفكتيون المشرفة على المعابد اليونانية تتكوَّن من اثنَي عشر عضوًا، كذلك كان عدد أعضاء مجلس معبد دلفي المشهور في اليونان، أما يسوع المسيح فقد أظهر تفوقَه العقلي وهو يناهز الثانية عشرة، عندما كان يواجه كهنةَ الهيكل ويفحمهم (انظر مثلًا: إنجيل لوقا، ٢: ٤٧).

وكما كانت قدسية الرقم سبعة قد فرضت نفسها حتى أصبحت أشواط الحج سبعة، ليدور المؤمنون حول المركز المقدس، كما تدور الكواكب السيارة حول مركزها الإله الكبير الشمس، فقد جاء كذلك تقديس الرقم ١٢ من ذات المصدر القديم، فالمنازل السماوية للكواكب الإلهية المعروفة بالبروج عددها اثنا عشر برجًا، فالعدد ١٢ هو رسم البروج، أي عدد علامات الزودياك، وكما كانت الآلهة السبعة تسكن البروج الاثني عشر الفلكية البابلية القديمة، فقد تم إسكان أسابيع الزمن في اثنَي عشر شهرًا وهي عدة شهور السنة عند الله.

١  نشر في صحيفة العربي، الاثنين ٢٨ / ٨ / ١٩٩٥م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤