في انتظار مكالمة تليفونية

انقضى بقيةُ اليوم دون أن يحدث ما يستحق الذِّكر … وبدا واضحًا أنَّ ما قالته «نوسة» و«عاطف» سيتحقق … فقد خرج اللغز من أيدي المغامرين الخمسة إلى رجال الأمن، ولم يعُدْ لهم دورٌ فيه … حتى إن «لوزة» و«عاطف» فكَّرا في السفر إلى الإسكندرية لقضاء أسبوع عند عمهما هناك … وقرَّرا أن يُناقشا هذا القرار مع بقية المغامرين في صباح اليوم التالي … ولكنَّ صباح اليوم التالي حمَل إلى المغامرين مفاجأةً غير متوقعة … فقد اختفى «زنجر» …

وعندما اجتمَع المغامرون في حديقة منزل «عاطف» كالمعتاد … كان أول المتحدثين هو «تختخ» الذي نقَل إليهم خبر اختفاء «زنجر» وقالت «لوزة» بارتياع: كيف حدث هذا؟

قال «تختخ»: كما تعلمون … لم يكن هناك شيءٌ أمسِ يستحق الذكر بعد الحديث الذي دار بيننا وبين المفتش والأستاذ «صالح إبراهيم» وعُدت إلى البيت … وبعد الغداء لاحظت أن «زنجر» لم يأتِ ليتناولَ طعامه كعادته … وتذكرت أنني نهرتُه أمس عندما حاول معاكسةَ الشاويش كعادته … وحسبتُ أنه ربما يكون غاضبًا مني … وهكذا حملت طعامه وذهبت … ووجدته فعلًا … ولكنه فيما يبدو كان لا يزال غاضبًا مني … فقد استقبلني بلا حماس …

قالت «نوسة»: يا له من كلبٍ شديد الحساسية!

قال «محب»: إن بعض الكلاب تموت غمًّا إذا عاملها أصحابها بقسوة!

مضى «تختخ» يُكمل حديثه قائلًا: المهم أنني وضعتُ الأكل أمامه … وأخذتُ أحدثه قليلًا … ثم تركتُه ومضيت … ونسيتُ المسألة؛ فقد كان عندنا ضيوف على العشاء، وبعده أحسستُ أنني مجهد … فصعدتُ إلى غرفتي … وقرأتُ قليلًا … ثم سرعان ما استغرقتُ في النوم …

عاطف: ألم تُلاحظ إذا كان «زنجر» مريضًا أم لا … لا تنسَ أنه أُصيب في المغامرة الماضية برصاصة … وأنه لم يكن قد شُفي تمامًا!

تختخ: الحقيقة أنني لم ألتفت إلى هذه النقطة … إلا في الصباح … فقد تذكرت إصابة «زنجر» وعزَوتُ مقابلته الفاترةَ لي إلى أنه مريض … وهكذا أسرعت بالنزول بعد الإفطار إلى الكشك الخشبي الذي ينام فيه … ولكنني لم أجد أثرًا له.

وأدار «تختخ» عينَيه في الأصدقاء ثم مضى يقول: وذهبتُ إلى المطبخ فقالت لي الشغالة «حُسنية» إنها لم ترَه هذا الصباح … ودُرت حول الفيلا وأخذتُ أناديه … ولكن عبثًا … فلم يكن له أثرٌ على الإطلاق.

نوسة: على كل حال يجب ألا نقلقَ سريعًا هكذا … فليس من المستبعد أن يكون قد خرج للنزهة مثلًا … أو لمطاردةِ قِطة … أو أي شيء آخر!

ردَّ «تختخ» على الفور: معكِ حق في كل هذا يا «نوسة» … لولا هذه!

ورفع «تختخ» يده … ونظر إليهما الجميع … كان بين أصابعه أنبوبة خضراء صغيرة من البلاستيك في حجم عُقلة الإصبع …

قالت «لوزة» بلهفة: ما هذه يا «تختخ»؟

وضَع «تختخ» الأنبوبة قُرب عينيه ثم قال: إنها أنبوبة مخدر!

قال «محب» مندهشًا: مخدِّر … أين وجدتَها؟

تختخ: وجدتُها بجوار إناء الماء الذي يشرب منه «زنجر» ومن الواضح أن «زنجر» عندما ذهبتُ إليه كان نِصفَ مخدَّر … ولهذا لم يستطع القيامَ لاستقبالي … ثم عندما شرب المزيدَ من الماء تخدَّر تمامًا.

عاطف: هذا حادثٌ خطير.

نوسة: ولكن «زنجر» كلبٌ بوليسي شديد الذكاء … كيف لم يتنبه لرائحة المخدر؟

تختخ: ليس له أيُّ رائحة … إنه مخدر من نوع جديد لا لون له ولا رائحة … وقد شممتُه عشرات المرات دون أن أجد له رائحة … ولكن الأنبوبة مكتوبٌ عليها: إنه مخدر قوي …

محب: دون أيِّ شك فإن صاحب المصلحة الوحيد في تخدير «زنجر» هو «ميراكل» لأن «زنجر» يعرفُ رائحته!

نوسة: ولكن لماذا يُخدره؟ لماذا لم يقتله إذا كان يريد القضاء عليه؟

تختخ: لسببٍ بسيط … إنه خدَّره ليخطفه … ويخطفه ليساومَ عليه …

لوزة: يُساوم مَن؟

تختخ: يُساوم المغامرين الخمسة طبعًا …

لوزة: على أيِّ شيء؟

تختخ: لا أدري … ولا أحد يدري … ما علينا إلا أن ننتظر … وأعتقد أننا لن ننتظر طويلًا … فسوف يتصل «ميراكل» هذا المساء … ولا تنسَوا أنه يعرف رقم تليفوني … وسيتصل بي أنا، وسنعرف ماذا يريد.

ولكن استنتاج «تختخ» لم يكن صحيحًا … فقد جاء المساء ومرت الساعات حتى أصبحت الساعة العاشرة ليلًا دون أن يتصل «ميراكل» ودون أن يعود «زنجر»، وكان «تختخ» يجلس بجوار التليفون طول الوقت في انتظار اتصال «ميراكل»، ولكن الجاسوس الداهية لم يتصل … ولاحظَت والدة «تختخ» أنه يجلس بجوار التليفون ولا يتحرك، فقالت له: ماذا جرى يا «توفيق»؟ يبدو أنك في انتظار مكالمة هامة!

تختخ: نعم … نعم … في انتظار مكالمة هامة!

الوالدة: مغامرةٌ أخرى؟!

تختخ: تقريبًا!

الوالدة: إننا لم نرَ «زنجر» منذ أمس … أين هو؟

تختخ: إن المكالمة خاصةٌ به!

ابتسمَت الوالدة وقالت: هل هو الذي سيتصل؟

أحنى «تختخ» رأسه واسترسل في خواطره … بينما تركتْه والدتُه وصعدتْ إلى الطابق الثاني … وفي العاشرة والنصف ليلًا خرج «تختخ» إلى الحديقة … ونظر إلى الكشك الخشبي الصغير الذي ينام فيه «زنجر» … ولكن الكلب الأسود الذكي لم يكن له أي أثر … وأحس «تختخ» بقلبه يسقط بين جنبَيه … فهذه أولُ مرة يتغيَّب فيها «زنجر» كل هذه المدة … فماذا جرى؟

انتظر «تختخ» حتى منتصف الليل دون جدوى … وأحس بأنه سينفجر سخطًا وغضبًا فقام وصعد إلى غرفته … فقد أدرك أن «ميراكل» لن يتصل هذه الليلة … ولا بد أنه يريد أن يمتحن صبره … وكاد يأوي إلى فِراشه عندما خُيِّل إليه في الصمت أنه يسمع صوتًا ما في الحديقة وخفق قلبه … هل عاد «زنجر»؟

وقف مكانه وأصغى السمع … نعم لم يكن هناك شكٌّ أن شيئًا يتحرك في الحديقة … أطفأ النور … وعلى أطراف أصابعه اتجه إلى النافذة … ونظر فيها إلى الحديقة في البداية لم يرَ شيئًا مطلقًا … ولكن عندما اعتادت عيناه الظلام استطاع أن يتبين شيئًا يتحرك في ظل الأشجار العالية … شيء ما … وتوترتْ أعصاب «تختخ» ما هذا الشيء؟ … أخذ يفكر سريعًا … كان ما زال بملابسه … وفي إمكانه أن ينزل بسرعة سلالمَ الفيلا … ثم يفتح الباب ويصل إلى الحديقة … كان هذا الإجراء يستغرق ثلاثَ دقائق تقريبًا … وهي مدةٌ كافية لكي يختفيَ هذا الشيء المجهول … والحل الأفضل أن ينزلَ على الشجرة التي تقف تحت نافذته والتي طالما نزل وصعد عليها في كثير من المغامرات … ودون ترددٍ اجتاز حافةَ النافذة … وجلس لحظاتٍ قليلةً على الحافة يرقب الحديقة … ولكن كل شيء كان هادئًا، فهل اختفى المتحرك المجهول … أم توقف عن الحركة … مهما كان الموقف فإنه سينزل … نزل «تختخ» على الأغصان بسرعة … فقد كان يحفظ كل غصن في الشجرة العجوز التي طالما استخدمها في مغامراته … وعند الغصن الأخير الذي سيقفز منه إلى الأرض توقف قليلًا ينظر حوله … ولكن كل شيء كان هادئًا … ولا أثر لحركة في الحديقة فهل خدعته عيناه؟ هل كان ما رآه مجردَ ظلالٍ للأشجار وهي تهتز مع نسيم الليل الهادئ؟ … على كل حال لم يعد أمامه إلا خطوة واحدة إلى الأرض … فلينزل وليرَ بنفسه … وهبط إلى الأرض، ولم تكد قدمه تلمس الأرض حتى رأى بطرْف عينه شيئًا يَهْوي في اتجاه رأسه … وفي لمح البصر أبعدَ رأسه يمينًا … ونزلت الضربةُ على كتفه … كانت ضربةً موجعة لو نزلَت على رأسه لأفقدَته حياته، أو على الأقل أفقدتْه الرُّشد بضعَ ساعات. ولكنها عندما نزلَت على كتفه أسقطتْه أرضًا … واستطاع وهو يسقط على الأرض أن يرى الشبحَ الذي ضربه وهو يرفع يدَه مرةً أخرى لِيَهويَ عليه بضربةٍ ثانية. وتدحرج «تختخ» على الأرض وابتعَد عن الضربة … ثم شدَّ نفسه وقام … وشاهد الشبح وهو يُسرع بالجري … ووقف «تختخ» واندفعَ جاريًا خلفه رغم الآلام المُبرحة التي كان يُحسُّها في كتفه وذراعه …

قفز الشبح سورَ الحديقة ببراعة ورشاقة … ولم يكن في إمكان «تختخ» أن يفعل نفس الشيء فأسرعَ إلى الباب وفتحه … ولدهشته وجد الشبح قد سقط على الأرض في الناحية الأخرى للسور … وكانت بعضُ الأغصان قد علِقَت بقدمه أثناء القفز … وقبل أن يُحاول «تختخ» الاتجاهَ إليه … كان الشبح قد أخرج مسدسًا وأخذ يُطلق رصاصًا صامتًا في اتجاه «تختخ» الذي اختفى بجوار السور …

مرَّت لحظاتٌ متوترة … ثم سمع «تختخ» أقدامَ الشبح وهو يجري على أرض الشارع فخرج من مكمَنِه وطار خلفه …

كان الشبح يسبق «تختخ» بمسافة كبيرة … وكان أسرعَ جريًا، ولكنه كان يعرج من أثر وقوعِه من فوق السور … لهذا كان في إمكان «تختخ» أن يلحق به … وهكذا انطلق يجري … وأخذت المسافة تضيقُ تدريجيًّا … ثم انحرف الشبح في أحد الشوارع المتفرقة من شارع «تختخ» وعندما وصل «تختخ» إلى الشارع، وانحرف خلف الشبح، وجد الشارع خاليًا وتوقف مكانه … كان من الممكن أن يضربه الشبحُ الآن بإحدى رصاصاته الصامتة … فهو لا يعرف أين يختفي … ولا من أين يمكن أن تأتيَ الرصاصة …

مشي «تختخ» محاذرًا بجوار أسوار الفيلات الكبيرة في الشارع … حتى وصل إلى حارة متفرعةٍ من الشارع، وفوجئ بسيارة أمامه وقد دار محركها واستعدَّت للسير وتذكر السيارةَ التي شاهدها لأول مرة في مغامرة «العميل السري» … ولم يشكَّ في أنها نفس السيارة … فلم يتردد وقفز على شنطة السيارة الخلفية وتعلق بها، في حين انطلقت السيارة مُسرعة في شوارع المعادي الخالية الساكنة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤