الموت على قاع النهر

انطلقت السيارة تتلوَّى في الشوارع حتى وصلَت إلى الكورنيش … كان «تختخ» يُمسك بحافة الزجاج الخلفية … ويجلس فوق شنطة السيارة المرتفعة في وضعٍ غير مريح … وفي كل مرة كانت السيارة تنحرف كان يحسُّ أنه سيسقط وتدقُّ عظامه … فكان يُمسك بحرف الزجاج بأظافره حتى أحسَّ أنها فقدَت قدرتها على المقاومة … كما فقد إحساسه بها … وشيئًا فشيئًا بدأ يُحس بالضعف يسري إلى ذراعه كلِّها … وبأنه سوف يسقط إلى الشارع … والسيارة منطلقةٌ بسرعة خيالية في طريق الكورنيش متَّجهة جنوبًا إلى ناحية حلوان … وفجأةً وقع ما لم يكن في الحسبان …

انطلق صوتُ انفجار ضخم … كان صوت انفجار إطار السيارة الأمامي … وانحرفت السيارة بشدةٍ ناحية النيل … ثم حطَّمت السورَ الحديدي وسقطت في النيل … وطار «تختخ» في الهواء … ثم وجد نفسَه يغوص عميقًا في مياه النيل الباردة …

ظل «تختخ» يغوص دون أن يستطيعَ المقاومة … كانت ذراعه اليمنى مخدرةً تمامًا إثر المجهودِ الكبير الذي بذَلَه وهو متعلقٌ بها في حافة الزجاج الخلفي … والآن وهو يحتاج إليها ليُواجهَ هذه الأزمةَ المفاجئة … وجد نفسه عاجزًا عن استخدامها تمامًا …

ومضى يغوص حتى وصل إلى قاع النيل … وأحسَّ أن الظلام يهبط على ذهنه … وأنه سوف ينتهي غريقًا في قاع النيل …

بذلَ أقصى ما بوُسعه حتى يظلَّ متيقظًا … ووضع قدمَيه في قاع النهر ثم ضغط بكلِّ قوته وأخذ يصعد تدريجيًّا … كان الهواء في رئتَيه قد تلاشى … وبدأت المياه تتسرَّب إلى صدره … ولكن في اللحظة المناسبة جدًّا وصل إلى سطح النيل … واندفع الهواء النقي إلى رئتيه بقوة أحسَّ معها أنهما ستنفجران … ولكن الحياة عادت إلى جسده … ومسح عينيه بيده ونظر إلى حيث كانت الحادثة … لم يكن هناك أثرٌ للسيارة … وكل ما بقي من أثر الحادث الفتحة التي حدثت في السور الحديدي … وبِضعة أشخاص تجمَّعوا على صوت الانفجار والصدمة … وأخذ «تختخ» يُحرك ذراعيه سابحًا في اتجاه الشاطئ … محاولًا قدر الإمكان أن يبتعد عن مكان الحادث حتى لا يراه أحد … ولكن أحد الأشخاص صاح وهو يشير إليه: هذا هو أحد الركاب … إنه ما زال حيًّا …

واندفع بعض الواقفين في اتجاه النيل … ولكن ذراع «تختخ» المخدرة كانت قد بدأت تتحرك … فلم يحتَجْ إلى أي معونة ليصل إلى الشاطئ …

جلس على الشاطئ … وقد التفَّ حوله بعضُ الأشخاص … وأخذ يستمع إلى أحاديثهم، كانوا جميعًا يسألونه ماذا حدث؟ هل أنت بخير؟ هل كان معك شخص آخر؟ هل … هل … هل؟ … وتذكر الشبحَ الذي — بالتأكيد — لم يكن سوى «ميراكل» وقال: كان هناك شخص آخر في السيارة … كان يجلس إلى عجَلة القيادة …

قال أحد الواقفين: يجب إبلاغ الشرطة … والشرطة النهرية … لن يستطيع انتشالَ السيارة سوى الشرطة النهرية. ورجال الضفادع البشرية.

قال أحدهم: ليس هناك تليفون قريب … لا بد أن يذهب أحدٌ لإحضار الشاويش «علي»؛ إنه المسئول عن هذه المنطقة!

كان رأس «تختخ» يدور ويدور … وهو ينظر إلى المياه السوداء التي ابتلعَت السيارة، ويسألُ نفسه: هل هرب «ميراكل» … أم هوى إلى قاع النهر مع السيارة؟ إن أشياء كثيرة متوقفةٌ على ما حدث في الدقائق السابقة عندما هوى إلى قاع النهر وصعد منه …

وفجأة سمع الجميع صوتَ سيارة تتوقف … ثم قال أحدهم: سيارة شرطة النجدة … وظهر بعضُ أمناء الشرطة … وأخذوا يسألون الموجودين عمَّا حدث … وأشاروا جميعًا إلى «تختخ» وجاءه أحدُ أمناء الشرطة وسأله: هل أنت بخير؟!

قال «تختخ»: نعم …

أمين الشرطة: ماذا حدث؟

تختخ: السيارة … هوَت إلى قاع النهر!

الأمين: هل هناك أشخاصٌ آخرون كانوا فيها؟

تختخ: نعم … شخصٌ واحد …

الأمين: ألم ترَه يخرج؟

تختخ: لا … لقد وقعتُ في الماء … وبقيتُ دقيقةً أو أكثر في القاع، ولا أدري إن كان قد خرج أم لا …

الأمين: ومَن أنت؟

تردَّد «تختخ» لحظات ثم قال: توفيق خليل.

الأمين: ومن الذي كان معك في السيارة؟

تختخ: شخصٌ لا أعرفه!

بدَت علاماتُ الشك على وجه الأمين وقال: لا أفهم!

تختخ: أريدك أن تتَّصل بالمفتش «سامي»!

بدا الاحترامُ على وجه الأمين وهو يقول: مفتش البحث الجنائي؟

تختخ: نعم …

الأمين: هل تعرفه؟

تختخ: نعم … وغرقُ هذه السيارة يهمُّه جدًّا … فهو مُتعلق بقضيةٍ يعمل فيها المفتش.

الأمين: أرجو ألا تتحركَ من مكانك …

تختخ: سأبقى حتى يحضر المفتش «سامي» …

جلس «تختخ» على حافة المياه … كان يشعر كأنه عائدٌ من العالم الآخر … فقد مرَّت الأحداث سريعًا بطريقةٍ غير معقولة … الصوت في الحديقة … الضربة على الرأس … الجريُ في الشوارع الفارغة … القفزُ على السيارة المسرعة … إطار السيارة الذي انفجر … الطيران في الهواء ثم السقوط في الماء … على قابِ قوسَين من الموت على قاع النهر … كل ذلك ثم الخروج من الماء … والناس والأسئلة … شيء لا يكاد يُصدَّق … ومضت فترةٌ لا يدري كم كانت، ثم فجأةً سمع صوت الشاويش «علي» وسرعان ما كان الشاويش بلحمه وعظمه يقف أمام «تختخ»، وينظر إليه في دهشة شديدة ويقول: أنت … أنت هنا؟

السؤال التقليدي الذي يُطلقه الشاويش كلما وجد واحدًا من المغامرين الخمسة في مكانِ لغز أو مغامرة … ونظر إليه «تختخ»، كان يحسُّ أنه مُتعب جدًّا … وملابسه ملتصقة بجسمه ورياح الليل الباردة تلسعه … وردَّ بصوت خافت: نعم يا شاويش … كما ترى … أنا هنا …

الشاويش: وما هذا الذي أراه … منذ أيام في مغامرة العميل السرِّي رأيتُك ليلًا عاريًا، والآن أراك مبتلًّا كأنك خارجٌ من النهر …

تختخ: إنني خارجٌ من النهر فعلًا يا شاويش؟

الشاويش: هل كنتَ في هذه السيارة؟

تختخ: الصحيح أنني كنتُ فوق هذه السيارة …

بدا عدمُ الفهم على وجه الشاويش وقال: على كل حالٍ سوف تأتي معي للإبلاغ عما حدث وكتابة محضر بأقوالك.

تختخ: لقد طلبتُ من سيارة «الدورية» أن يتَّصلوا بالمفتش «سامي»!

بدا الترددُ على وجه الشاويش عندما سمع اسم المفتش … كان يخشى أن يكون «تختخ» يقوم بعمليَّة خداع كعادة المغامرين … وفي نفس الوقت من الممكن أن يحضر المفتش فعلًا … وقد حسم الموقف صوتُ سيارة تقف على مقربة من الحادث … وسمع الشاويش و«تختخ» معًا صوت المفتش وهو يسأل: أين الولدُ الذي كان بالسيارة؟

وشاهدا المفتشَ وهو يتخطى الكورنيش، وينزل إلى شاطئ النهر حيث كان «تختخ» جالسًا منكمشًا من البرد … وأسرع المفتش إلى «تختخ» صائحًا: ماذا جرى «توفيق»؟

تختخ: كما ترى يا سيدي المفتش …

المفتش: إنك ستمرض بهذا الشكل … هيا بنا سأوصلك إلى المنزل بسيارتي … وسنتحدث في السيارة …

سار «تختخ» بجوار المفتش … كان عدد السابلة قد زاد … ووصل مع المفتش عددٌ من الضباط … واخترق «تختخ» الزحام بجوار المفتش … ودخل السيارة … وانكمش في جانبٍ منها … وألقى المفتشُ إلى السائق بتعليماته … ثم نظر إلى «تختخ» الذي أخذ يحكي ما جرى من أول الليل … والشاويش يستمع بانتباه … حتى إذا انتهى «تختخ» من حكايته سأله المفتش: هل كان الشبح هو «ميراكل»؟!

رد «تختخ»: إنني لم أرَ وجهه مطلقًا … ولكن الشبح و«ميراكل» لهما نفس الحجم ونفس أسلوب الحركة والجري!

المفتش: ولكن لماذا يخطف «ميراكل» الكلب … ما دام لم يُساومك عليه؟

تختخ: إن هذا يقودنا إلى سؤالٍ آخر … ماذا كان يعمل «ميراكل» في الحديقة؟ …

المفتش: إما أنه كان ينوي الانتقامَ منك … أو أنه كان يبحث عن شيء …

تختخ: هذا ما فكَّرتُ فيه بالضبط … إنني أستبعد فكرة الانتقام … إنني أتصور أنه جاء يبحث عن شيءٍ سقط منه ليلةَ أن كان بجوار الحديقة وهاجمه «زنجر»، لقد سقط منه ليلتها جهازُ الإرسال والاستقبال الذي يُشبه القلم … كما أن أسنان «زنجر» انتزعت منه قطعةً من قماشِ بذلته وبها قطعة الورق التي وجدنا فيها الإعلان … هذا الإعلان الذي كان الواسطةَ ليصل إلى المحطة المتنقلة …

المفتش: إذن هناك شيءٌ آخر سقط منه ولم يتبيَّنه إلا أخيرًا … ولهذا قام بتخدير «زنجر» وإبعاده عن المكان؛ حتى يتسنَّى له التفتيشُ في المكان دون خوفٍ من «زنجر».

تختخ: بالضبط يا سيادة المفتش … إنَّ في الحديقة شيئًا هامًّا جدًّا … يجب أن نصل إليه قبل أن يصل إليه «ميراكل» …

اقتربت السيارةُ من منزل «تختخ» وعندما توقفَت قال المفتش: أرجو أن تمرَّ غدًا على الشاويش ليستكملَ المحضر، وسنرى إذا كان «ميراكل» قد غرق مع السيارة أم لا …

تختخ: بالطبع يا سيدي … وسوف يقوم المغامرون الخمسة غدًا بالبحث عن الشيء الذي يبحثُ عنه «ميراكل»؛ لعلنا نستطيع عن طريقه أن نعرف مزيدًا من المعلومات عنه … في نفس الوقت الذي ستبحثون عنه تحت الماء …

وتبادلَ «تختخ» والمفتشُ التحيات … وأسرع «تختخ» ليتسلق الشجرةَ إلى غرفته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤