الدائرة الخضراء
تناول «تختخ» القطعة المعدنية من «لوزة»، ووضع العدسة المكبرة على عينيه … ثم نظر إلى حيث أشارت «لوزة»، كان على وجه القطعة المعدنية صورةُ فارس محفورة … وعندما دقَّق «تختخ» النظرَ في عين الفارس لاحظ على الفور، كما لاحظت «لوزة»، أن العين تُشبه رأس مسمار بريمة … فهي مستديرةٌ يشقها من الوسط مَجرًى رفيع … وسرعان ما أخرج «تختخ» مجموعة من المفكات الرفيعة … وأخرج أصغرَ مفك فيها ووضَعه في عين التمثال وأخذ يُديره في حرص شديد … وانحنت كل رءوس المغامرين على القطعة المعدنية تُراقب أصابع «تختخ» وهي تُدير المفكَّ وقال «تختخ»: إنه يدور …
نوسة: إن عينَي «لوزة» كعينَي الصقر … لقد رأتْ عين الفارس وأدركتْ أنها ليست إلا مفتاحًا لشيء تحتها …
دار المفكُّ ثلاث دورات … ثم رفعه «تختخ» وفي رأسه تعلَّقَت قطعةٌ صغيرة لا تكاد تُرى من المعدن … وضعها «تختخ» جانبًا … ثم أمسك بقطعة النقود وأدار سطحها، فدار معه … وسرعان ما انفكَّت إلى قطعتين مستديرتين … كلٌّ منهما تُمثل وجهًا من وجوه العملة … وفي قاع إحدى القطعتين كانت هناك قطعةٌ مستديرة من الورق خضراء اللون …
وصاح «محب»: الدائرة الخضراء …
وارتفعت صيحات الدهشة من المغامرين جميعًا … الدائرة الخضراء التي تحدَّث عنها الرجلان المقبوضُ عليهما … فماذا تعني الدائرة الخضراء؟
انحنى «تختخ» بالعدسة المكبرة على الدائرة يتأملها … وأخذ يُذيع ما عليها من بيانات كأنه يُذيع مباراةً في كرة القدم: الدائرة عليها مجموعةٌ من الرسومات، وأوضحُ ما فيها رسمٌ لمدينة القاهرة وضواحيها … هناك نقاط على أماكن لا أعرف مدى أهميتها … هناك بعض الأرقام بالشفرة والحروف … تركيبها غريب …
رفع «تختخ» رأسه وقال: لا بد من إبلاغ المفتش فورًا بعثورنا على هذه الدائرة، إن المعلومات المكتوبةَ عليها بالشفرة ستكشفُ عن معلوماتٍ هامة. قد تؤدي إلى سرعة الكشف عن حقيقةِ عصابة الدائرة الخضراء … وقد لا تكون هذه العصابة قاصرةً على مَن نعرف من الجواسيس … أقصد الجواسيسَ الخمسة … «ميراكل» والاثنين اللذين قُبض عليهما، والاثنين الهاربَين حتى الآن …
كان هناك وصلةٌ للتليفون في صالة المنزل … فخرج «تختخ» مُسرعًا … واتصل بالمفتش … كانت الساعة الواحدةَ والنصف … وكان أمله ضعيفًا في وجود المفتش في هذه الساعة بمكتبه، وقد صدَق حَدْسُه … فلم يكن المفتش موجودًا … وكان الضابط الذي رد يعرف «تختخ» …
سأل «تختخ» الضابط: هل تعرف أين ذهب؟
الضابط: نعم … لقد جاءت مكالمة تليفونية من الإسكندرية … فأسرع المفتش بالسفر إلى هناك … وقد ترك لك رسالةً يقول لك فيها إنهم على وشك القبض على الرجلَين الهاربَين … وإنهم لم يعثروا على شيء في السيارة يكشف عن شخصية الرجل الهارب …
تختخ: أشكرك يا سيدي … أرجو إذا اتصل المفتش أن تُخبره أنني أريده لأمر هام جدًّا … وأنني في المنزل أو عند «عاطف» …
الضابط: ستصلُه الرسالة بمجرد اتصاله …
أغلق «تختخ» السماعة وعاد إلى المغامرين … وكان «محب» يضع العدسة المكبرة على عينه ويتأمَّل الدائرةَ ثم قال: إنني …
ولكن قبل أن يتحدث كان صوت جرس التليفون يرتفع في الصالة … وأسرع «تختخ» يرد … وكان المتحدثُ هو «صالح إبراهيم» … وكان يتحدث بصوتٍ واهن قائلًا: من أنت؟
رد «تختخ»: أنا توفيق …
صالح: أين المفتش؟
تختخ: إنه في الإسكندرية … لماذا؟
صالح: إنني متعبٌ جدًّا … وأكاد أسقط من الإعياء …
دقَّ قلب «تختخ» سريعًا … فثمة أخبار هامة ستأتي فورًا … وقال: هل حدث شيء؟ …
صالح: نعم … أمس ليلًا هاجمني «ميراكل» وكاد يقتلني!
تختخ: ولماذا لم تتحدث من قبل؟
صالح: لقد شدَّ وثاقي … وكمَّم فمي … وظللت فترةً طويلة من الليل وأنا أحاول فكَّ وثاقي أو فتح فمي لأطلب نجدةً، ولكنني لم أستطع …
تختخ: وماذا تفعل الآن …؟
صالح: استطعتُ منذ ساعة تقريبًا أن أفُكَّ الوثاق والكمامة … واتصلت بطبيبٍ صديق لي، فحضرَ وأجرى لي الإسعافات اللازمة … ونظرًا لأني كنتُ مضطربَ الأعصاب ولم أنم طول الليل؛ فقد أعطاني مهدئًا … وطلب مني الإخلاد إلى الراحة فترةً طويلة.
تختخ: هل تحب أن نأتيَ لك؟
صالح: ليس الآن … فسوف أنام …
تختخ: سأسألك بضعَ أسئلةٍ بسيطة …
صالح: تفضَّل …
تختخ: متى جاءك «ميراكل»؟
صالح: أمسِ حوالي الساعة الثانية صباحًا …
تختخ: بعد سقوط سيارته في النهر …
صالح: هل سقطَت سيارته؟
تختخ: نعم … نفس السيارة التي قام بسرقة بطاقتك وهو فيها …
صالح: وهل مات؟
تختخ: لا … لم يعثروا عليه … وهو إما أن يكون قد قفز قبل أن تسقط في النهر … أو سقط بها … وفتح الباب ولكنْ جرَفَه التيار …
صالح: وهل وجدتُم شيئًا في السيارة يمكن أن يؤديَ إلى معرفة شخصيته؟
تختخ: لا … ولكن لماذا زارك «ميراكل»؟
صالح: ادَّعى أن شيئًا سقط منه عند باب منزلي … وطلبه مني … وقد حاولت إقناعه بأنني لم أرَ هذا الشيء … ولكنه أصرَّ على أنني أخذتُه … وقد ضربني وأصابني بعدة إصابات … ويبدو أن هذا الشيء الذي سقط منه مُهم جدًّا … ولعلَّه سقط عندكم عند زيارته الأولى لكم؟
تختخ: لقد وجدنا الشيء الذي يبحث عنه … إنه عُملة معدنية!
صالح: وكيف عرَفتم أنه نفس الشيء؟
تختخ: لسنا متأكِّدين … إنها مجرد استنتاجات …
صالح: إذن حافِظوا عليه جيدًا … وأخطِروا المفتش «سامي»؛ فإنني أريد حراسةً على منزلي؛ لأن هذا المجنون «ميراكل» قد يقتلني …
تختخ: لا تخشَ شيئًا … سوف نُخطر الشاويش «علي»؛ فهو مُكلف بحراستك …
صالح: إلى اللقاء إذن …
تختخ: إلى اللقاء وحافظ على نفسك …
عاد «تختخ» إلى المغامرين وروى لهم ما دار في المحادثة التليفونية بينه وبين «صالح» … وقال «محب»: أقترح أن نقوم ﺑ «دورية» حراسة حول منزل «صالح».
تختخ: لنتَّصلْ في المساء … فقد أشرَفَت الساعة على الثانية … وأنا جائع جدًّا، وقد حان موعد الغداء …
عاطف: إن بطنك تُعطلنا عن العمل يا «تختخ» …
تختخ: دع بطني في حالها … وعلى كل حال أنا لا أستطيع أن أُفكر وبطني فارغة.
نوسة: إلى اللقاء إذن في المساء …
تختخ: سنتصل تليفونيًّا أولًا … إذا كان ثمة ما يدعو لأن نلتقي …
لوزة: إنك غامضٌ قليلًا يا «توفيق» …
تختخ: إنه الجوع يا صديقي العزيز …
ورحَل المغامرون الأربعةُ … وسار معهم «تختخ» حتى الباب … وقبل أن تُغادر «لوزة» باب الحديقة قالت: لقد نسينا «زنجر» …
اكتسى وجهُ «تختخ» بالحزن … لقد صرَفتْه الأحداث الأخيرة عن التفكير في صديقه العزيز … وقال ﻟ «لوزة»: معكِ حق «يا لوزة» … لقد ثبت أننا أصدقاءُ لا نستحقُّ الوفاء «زنجر» … ولكن على كل حال … إن كل ما نفعله قد يؤدي إلى العثور عليه …
لوزة: المهم أن نعثرَ عليه حيًّا …
وأسرعت «لوزة» تلحق ببقية المغامرين … بينما أسرع «تختخ» إلى المطبخ … كان والده ووالدتُه يتناولان غَداءهما في الخارج … وفي إمكانه أن يأكل في أي وقت … وأخذ يصيح مُطالبًا «حُسنية» بالانتهاء من إعداد الطعام … ثم جلس واضعًا رأسَه بين كفَّيه واستغرق في تفكيرٍ عميق … كان رأسُه مسرحًا لعشَرات التصورات والخيالات … وكانت صورة «زنجر» تعترض أفكاره … وبلَغ من استغراقه من التفكير أنه لم يسمع صوتَ أطباق الطعام وهي توضَع أمامه … ولم يتنبه إلا على صوت «حسنية» وهي تقول له: الأكل!
أسرع يلتهمُ الطعام دون أن يُحسَّ له طعمًا … فقد كانت أفكاره ما زالت مسيطرةً عليه … ولم يكَد يُحس ببعض الشِّبَع حتى أسرع يغسل يديه … ويصعد إلى غرفته … وأحسَّ من فرط التركيز أنه مُصابٌ بصداع أليم … فاستلقى على سريرة … وسرعان ما استغرق في النوم …
استيقظ «تختخ» في المساء ولم يكن يتصور أن في إمكانه أن ينام كلَّ هذه المدة، وكان يُحس بجسمه ثقيلًا لا يكاد يستطيع رفْعَه … فمشى متعثرًا إلى الحمام … وأخذ دُشًّا باردًا مُنعشًا ردَّ إليه بعض نشاطه …
عندما جاءته «حسنية» بكوب الشاي الذي يُحب تناوله بعد يقظة المساء … دق جرس التليفون … وتوقع أن يكون أحدَ المغامرين الخمسة … ولكن المتحدث كان آخِرَ شخص يتوقع أن يتصل به … كان «ميراكل» …
قال «ميراكل» بصوتٍ قويِّ النبرات: إن كلبك الأسود عندي … سأُبادلك به مقابلَ قطعة النقود التي عثرتُم عليها اليوم … لا تُبلغ أحدًا من أصدقائك … ولا المفتش … وإلا …
وصمتَ «ميراكل» قليلًا ثم قال: سأتصلُ بك مرةً أخرى بعد ساعتين؛ لتُحدد المكانَ والزمان … ووضع «ميراكل» السماعة دون كلمة واحدة زيادة …