مغامرة سوق الخُضار

جلس «تختخ» ساهمًا لا يكاد يُصدق أذنيه … لقد تطورت الأمور بسرعة حقًّا … ورغم كل شيء فثمَّة شيءٌ طيب في هذه الأحداث … إن «زنجر» ما زال حيًّا … ولا يدري «تختخ» كيف انقضَت الساعتان … ولكن في التاسعة تمامًا عاد «ميراكل» يتصل … وكان «تختخ» قد اتصل تليفونيًّا بالمغامرين وادَّعى أنه مشغول … وأنه لا يستطيع أن يقابلهم هذا المساء … وقد كان مشغولًا حقًّا ولكن ليس للأسباب التي تصوَّرها المغامرون …

وهكذا عندما اتصل «ميراكل» كان «تختخ» مستعدًّا … قال «ميراكل» في لهجةٍ حاسمة لا تقبلُ النقاش: الساعة الآن التاسعة … في الحادية عشرة تمامًا سنتجه إلى كورنيش النيل … اتجه جنوبًا ناحيةَ حلوان … ليست هناك نقطة معينة سأقابلك عندها … ستأتي سيارة في أية لحظة وتسمع النفير يدقُّ ثلاث مرات … ثم مرة واحدة … لا تلتفت خلفك … ستقف السيارة بجوارك تمامًا … ستمتدُّ يدٌ إليك بورقةٍ فيها العنوان الذي ستجد فيه «زنجر» … وفي نفس الوقت ستُسلِّم أنت العُملة الإيطالية التي وجدتَها.

توقف «ميراكل» عن الحديث … وكاد يضع السماعة ولكن «تختخ» قال بلهجة قاطعة: انتظر لحظةً …

ولم يضَع «ميراكل» السماعة فمضى «تختخ» يقول: من أين أتأكدُ أن «زنجر» لا يزال حيًّا؟

تردد «ميراكل» لحظات ثم قال: كلمة الشرف!

تختخ: لا أظنُّ أن الجواسيس يتعاملون بكلمة الشرف … وسوف أسُلمك شيئًا يهمك جدًّا … وربما يتوقف عليه مصيرك … مقابل كلمة لا أضمنها.

ميراكل: ماذا تريد إذن؟

تختخ: أريد أن أتأكد أولًا أن «زنجر» حي!

ميراكل: إنني أستطيع أن أصفَ لك المكان … ولكن كيف سأضمن أنك عندما تعثر على «زنجر» سوف تعطيني قطعةَ العُملة؟

تختخ: يبدو أن هناك أزمةَ ثقةٍ بيننا … والحل أن تعمل بالمَثَل البلدي «سلِّمني وأسلِّمك» … أي أعطِني «زنجر» أعطيك قطعة العُملة في نفس الوقت دون الحاجة إلى تبادل الأحاديث غير المُجدية …

ميراكل: لا بأس … إذن هل تعرف السوق القديم الموازيَ لشريط المترو؟

تختخ: نعم … سوف الخُضار …

ميراكل: بالضبط … ستجدُني هناك في ملابس ابن البلد، على باب السوق من ناحية الشريط …

تختخ: الساعة؟

ميراكل: منتصفَ الليل تمامًا … وحسَب اتفاقنا أنت لم تقُل لأحد …

تختخ: لم يحدث …

وضع «ميراكل» السماعة دون كلمةٍ واحدة … وكان أمام «تختخ» ثلاث ساعات كاملة … لم يُضِع منها دقيقة واحدة … فقد أخرج مجموعةً من الأقلام والأوراق … وأخذ يعمل باستغراق شديد … كان ينظر بين لحظة وأخرى في ساعته حتى إذا أصبحَت الساعة الحادية عشرة والنصف كان قد انتهى من عملِه واستعدَّ لمقابلة «ميراكل» … واختار أن يذهب على دراجته … وفي الوقت المناسب … كان يجوسُ خلال السوق القديم … فقد رأى أن عليه أن يدرس المكان جيدًا … قد يحتاج إلى الهرب في أية لحظة … ومن الأفضل أن يعرف طريقه …

في منتصف الليل تمامًا كان «تختخ» يقف عند مدخل السوق حسَب اتفاقه مع «ميراكل» … وعندما كان عقربا الساعة يتعانقان عند رقم ١٢ ظهر «ميراكل» كان يلبس فعلًا ملابس ابن البلد … وقد لَبِسها في غاية الإتقان … الجلابية السوداء الطويلة ذات الأكمام الواسعة … والطاقية … والبُلغة الصفراء … وعصًا طويلة في يده، ودُهش «تختخ»؛ لأن «ميراكل» كان في سَيره يُمثل ابنَ البلد … لقد كان تنكُّره كاملًا … كان «تختخ» يقف عند بوابة السوق الحجرية وأخذ «ميراكل» يتقدَّم منه … وتبادلا النظرات … وأحسَّ «تختخ» بتوتر خفيف … ولكن وجهه لم يعكس مشاعرَه … أشار «ميراكل» بعَصاهُ ﻟ «تختخ» … وفهم «تختخ» أنه يطلب منه أن يسير أمامه … ولكن «تختخ» هزَّ رأسه … فهو لا يمكن أن يأمنَ على نفسه في هذه الساعة من الليل وقد خلا السوقُ من الباعة ومن الزبائن … ولم يبقَ إلا بعضُ المتشردين الذين ينامون في مثلِ هذه الأماكن … وبعض القطط والكلاب الضالَّة … والأقفاص الفارغة التي أُلقيت في حواري السوق الضيقة … لقد كان مكانًا مناسبًا جدًّا لارتكاب جريمةِ قتل … ولم يكن «تختخ» يُحب أن يكون الضحيةَ … وهكذا أشار ﻟ «ميراكل» بإصبعَيه متجاورَين … وفهم «ميراكل» أنه يقصد أنهما سيسيران متجاورَين …

وفعلًا مشَيا معًا صامتَين دون أن يتبادلا كلمة واحدة … وظلا يسيران في حواري السوق المظلِمة وحولهما تلالٌ من الأقفاص الفارغة … وبقايا الخَضروات والفواكه، حتى وصلا إلى حارة مغلقةٍ فدخَلاها … ووجد «تختخ» بابًا من الصفيح أمامه كان هو البابَ الوحيد في الحارة … وتقدم «ميراكل» ودق الباب بعصاه عدةَ دقَّات منتظمة، وعلى الفور فتح الباب … وظهر على عتبته ولدٌ متشرِّد … وسمع «تختخ» في هذه اللحظة صوتَ أنين خفيف … وكاد قلبه يقفز من صدره … كان صوتَ أنين «زنجر» …

وتخلى «تختخ» عن حذره لأول مرة واندفع مجتازًا الباب … وحاول المتشرد أن يقف في طريقه … ولكن «تختخ» دفعه جانبًا … وجرى إلى داخل العشة القذرة … وفي نهايتها وجد «زنجر» رابضًا على الأرض وقد اتَّسخ شعره وبدا عليه الإعياءُ الشديد، وكان مربوطًا من رقبته بحبلٍ سميك إلى وتدٍ مدقوق في الأرض …

كانت لحظةً من العواطف المشبوبة عند لقاء «تختخ» و«زنجر»؛ فقد وقف الكلب الأسود بقدرِ ما استطاعَت قُواه المنهارة … واندفع إليه «تختخ» وضمَّه إلى صدره وأخذ يُقبِّله في حنانٍ وشوق ومحبة …

نظر «تختخ» خلفه ورأى «ميراكل» واقفًا ينظرُ إليه وقد مدَّ يده إليه … كان يحسُّ بقدرٍ من الغيظ والضيق يكفي لإحراقِ «ميراكل» … فقد كان الكلب المسكين يكاد يموتُ إعياءً أو جوعًا … فلم تكن أمامه إلا بعضُ قِطع الخبز الجاف … وكمية من الماء العطن …

قال «تختخ»: أريد أن أخرج من هذا المكان.

ميراكل: لن تخرجَ من هنا إلا بعد أن تُسلِّم قطعةَ النقود.

تختخ: إنني لا أثقُ بك!

ميراكل: ولا أنا …

تختخ: وما العمل؟!

ميراكل: إنك الآن وقطعة النقود وكلبك العزيز بين يدَي … ومن الأفضل أن تُنفذ ما أقوله لك حتى لا تُعرِّض نفسك للمخاطر …

كان «تختخ» قد فكَّ وثاق «زنجر» وأخذ ذهنُه يعمل بسرعة … إنه إذا سلَّم قطعةَ النقود الآن ﻟ «ميراكل» فسوف يَخسر الورقة الوحيدة التي يلعب بها … ولا يُصبح أمامه إلا التسليم … وفي هذه اللحظة سمع صوت المترو يمر … وعرَف أن العشة الصفيح قريبةٌ جدًّا من خط المترو … فقد كانت تهتزُّ بشدةٍ كأنها ستقع … وكانت نظرته إلى العشة تؤكد أنها يمكن أن تقعَ فعلًا في أية لحظة … فهل يمكن الاستفادةُ من هذا؟

ولكن «تختخ» لم يستمرَّ في تفكيره طويلًا … فقد مد «ميراكل» عصاه إليه وقال: والآن لقد وفيتُ بما وعدتُ … هاتِ قطعة النقود!

لم يكن هناك بُدٌّ من تنفيذ الاتفاق الذي اتفقا عليه … سواءٌ رضي «تختخ» بذلك أو لم يرضَ … وهكذا مد يده في جيبه وأخرج قطعةَ النقود … ومد يده بها إلى «ميراكل» الذي انقضَّ عليها كالملهوف، وأخذ ينظر إليها بدقة شديدة … ولكن الضوء الخافت الذي كان يُضيء العشة لم يكن كافيًا ليرى ما يُريد رؤيته … وكان «تختخ» متأكدًا أنه يريد أن يعرف إذا كانوا قد عرَفوا سِرَّ القطعة أم لا … وهل فتَحوا مِسمار البريمة الموجودَ في عين التمثال … ووضع «ميراكل» عصاه جانبًا … واقترب من المصباح الذي يُضيء المكان … ورفع قطعة النقود يتأمَّلها … وكان هذا كافيًا بالنسبة ﻟ «تختخ» فقد قام بثلاث حركاتٍ سريعة … أولًا مد يده بسرعة البرق وخطف العصا … ثانيًا ضرَب المصباح بالعصا فسادَ الظلام … ثالثًا قفز من باب العشة وانطلق جاريًا في الظلام وخلفه «زنجر» … وبرغم أن «زنجر» كان مُتعبًا لا تكاد أقدامه تتحمَّله إلا أنه كان يجري كالقذيفة … وخلفهما انطلق الولدُ المتشرد … ثم «ميراكل» … كانت المطاردة تتم في حذر شديد … كان «تختخ» حريصًا ألا يَسمع المطاردان صوتَ قدمَيه … وقد كان مستعدًّا لهذا؛ فلبس كعادته حذاءً خفيفًا من الكاوتشوك … وهكذا كان يجري دون أن يُسمع له صوت … وخلفه «زنجر» يقوم بنفس الدور … فقد كان يعلم أن صاحبَه السمين لا يريد أن يسمع أحدٌ صوتَ قدميه …

أخيرًا وصل «تختخ» إلى كومةٍ من الأقفاص القديمة …

ووقف خلفها يلهث، ولدهشته الشديدة وجد الولد المتشرِّد قد وصل أعقابه … مباشرةً … وأخذ يلفُّ حول كومة الأقفاص … وقد كان في إمكان «تختخ» إطلاقُ «زنجر» عليه … لولا أن «زنجر» لم يكن قادرًا على الصراع بعد هذا الحبس الطويل … وهكذا انتظر «تختخ» حتى ظهر وجهُ الولد والتقتْ عيناهما وطوَّح «تختخ» بقدمه في ضربة شديدة أصابت بطن الولد، فأطلق صيحة عالية ثم سقط على الأرض …

وعلى صوت الصيحة ظهر «ميراكل» وبلا تردد استجمع «تختخ» كل قوته ودفع بكومة الأقفاص فسقطَت كلُّها على رأس «ميراكل» فوقع على الأرض … ودُفن تحت كومة الأقفاص …

انطلق «تختخ» جاريًا وخلفه «زنجر» … وبرغم أنه الآن كان شِبه مطمئنٍّ إلا أنه عطَّل مطارِدَيه الاثنين فترةً طويلة ولم يطمئنَّ إلا عندما وصل إلى دراجته … ووضع «زنجر» في السلة الخليفة ثم انطلق مسرعًا …

لم يتَّجه «تختخ» إلى منزله رأسًا … بل ذهب إلى منزل الشاويش «علي»، كانت الساعة قد تجاوزَت الواحدة عندما وقف «تختخ» أمام منزل الشاويش … تردد قليلًا ثم مد يده فوق الجرس … وانتظَر لحظاتٍ دون أن يسمع ردًّا … فدق الباب بشدة حتى سمع صوت الشاويش من الداخل وهو يصيح: مَن … من هناك؟

لم يردَّ «تختخ» حتى فتح الشاويش الباب وظهر وجهُه الغاضب وهو في جلابية النوم وأخذ يتلفتُ حوله حتى وقع نظره على وجه «تختخ» فصاح به: ماذا تريد في هذه الساعة؟

تختخ: هل أنت نائم؟

الشاويش: ما لك أنت أنائمٌ أنا أم لا؟ ما دخلك أنت في نومي ويقظتي؟

تختخ: ولكن يا حضرة الشاويش … أليس مِن واجبك أن تحرس الأستاذ «صالح إبراهيم» …

الشاويش: هل تُعلمني واجبي؟

تختخ: لا يا شاويش، العفو … ولكني أرجوك أن تذهب فورًا إلى منزل الأستاذ «صالح إبراهيم» وتحرسه جيدًا … إذا كان في منزله فلا تتركه يخرج … وإذا كان خارجَ بيته فانتظِرْه حتى يعودَ ولا تتركْه يخرج …

ولم ينتظر «تختخ» ردًّا من الشاويش … بل انطلق على دراجته إلى منزله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤