أخْلَاق (٢)

من أصدق المقاييس التي تسبر بها طبائع النفوس الفكاهة والغناء.

فإنك لن تجد الفكاهة ولا الغناء في نفوس خلت كل الخلو من الخير والمحبة الإنسانية وصلاح الفطرة للعطف والمؤاخاة.

فالسليقة التي تعرف الفكاهة تعرف مواطن الضعف والتناقض من النفوس الإنسانية، أو تعرف — بعبارة أخرى — أسرار النفس وخفاياها وما تداريه وما تكشف عنه وما تقابل به الدنيا وما تحفظه في أعماق سريرتها، فكأنما تلك السليقة على اتصال أخوي حميم بجميع النفوس الآدمية، كاتصال الصديق بصديقه المطلع على دخائل قلبه وحقائق نياته، وكأنها على استعداد دائم لأن تضحك مع جميع النفوس ضحك السرور والمشاركة، وأن تضحك منها ضحك العطف والمداعبة، وتلك حالة نفسية لن تخلو من الخير والشعور الحسن من ناحية بني الإنسان.

أما السليقة التي تحسن الغناء أو تحب الإصغاء إليه فهي سليقة تحس وتعرف الوزن والنظام بشيء من الزكانة والإلهام، وهي — كتلك — سليقة تلتقي بالنفوس الأخرى في مجال العاطفة والذوق والشعور بالجمال.

وفي السجن لَمْ أَرَ إلا عددًا يسيرًا جدًّا يحسن الفكاهة، وإن كنت رأيت سجناء كثيرين هم موضوع فكاهة ومثار ضحك ودعابة، ولا أذكر أنني سمعت كلمات كثيرة تدل على فطنة للمواقف المضحكة والمساجلات النفسية اللطيفة، وإن كنت قد سمعت كثيرًا من النكات المحفوظة والفكاهات المكررة التي يفوهون بها كما تفوه الببغاء بما يلقى إليها من الأصوات.

ولم أسمع قط غناءً حسنًا من سجناء الجرائم العنيفة أو سجناء الجرائم الخسيسة، ولكنني سمعت الغناء الحسن من بعض الفتيان المحكوم عليهم بالحبس في قضايا تهريب المخدرات وتعاطيها، وهم في أغلب الأحايين مسخرون ينقادون لكبرائهم المسيطرين عليهم، لم تنغرس فيهم بعد نذالة الجريمة العامدة المدبرة التي تطلب الكسب من وراء الإضرار بالناس، وَمَنْ كان منهم يتعاطى المخدرات فهو ضعيف يعتدي على نفسه وليس بمجرم من أولئك الجناة الأشرار الذين يعتدون على غيرهم عدوان المكيدة أو عدوان الضراوة.

فإذا اتخذنا الفكاهة والغناء مقياسًا للخير والمحبة الإنسانية في نفوس السجناء فأهل الخير فيهم قليل، وهذا القليل الموجود يشف — في أغلبه وأعمه — عن معدن وضيع أو معدن مشوب، وإن لم يجز لنا أن نقول: إن الخير فيهم معدوم وإن صلاحهم ميئوس منه، ولا سيما حين يعالجون بما يناسبهم وحين يقترن حسن النية في علاجهم بالفكرة الرشيدة والعزم الصبور.

ويخطئ مَنْ يظن أن السجناء لا يغنون كما يغني الطلقاء والأبرياء كلما وجدوا فرصة للغناء، فإنهم ليهتفون ولا يقصرون في الهتاف ملء صدورهم كلما خلا لهم الجو تحت ستر من الليل، وربما كانوا أشد كلفًا بالشدو والهتاف من الطليق المرسل على أرسانه؛ لأن رفع الصوت وسيلة من وسائل الشعور عندهم بالحرية وإرسال النفس على السجية، فهو مطلوب لهذا الغرض ولو لم يكن فيه طرب أو سلوى، ولا حاجة بالإنسان إلى دخول السجن لعرفان هذه الحقيقة بل لاستماع هذه الحقيقة الصارخة من مسافة بعيدة! فإن العبور على مقربة من السجن بين العشاء والساعة التاسعة كاف لاستماع ما يسمعه السجناء في الداخل من الغناء والهتاف، وقلما تمر ليلة واحدة دون أن يدوي السجن بأناشيد أهل الصعيد ومواويل أبناء البلد على اختلاط لا تمييز فيه بين السامع والمسموع، ولكن أهل الصعيد وأبناء البلد كما يعلم القراء يغنون كأنهم يتكلمون، أو هم يغنون ويصيحون حين يعوزهم السمر والكلام وتكل ألسنتهم من السكوت، وليس هذا الذي نعنيه بالغناء المبين عن الطبائع والأخلاق، وإنما نعني به الأوزان الفنية التي تتجلى فيها الأذواق وخلجات العواطف وألوان الإحساس، وهذا الذي نقول: إنه قليل نادر بين المجرمين.

•••

وربما كان الأولى بي أن أتخذ مقياسًا آخر للخير في طبائع زملائنا السابقين يعنيني أكثر مما تعنيني هذه المقاييس التي تعم جميع الباحثين في هذه المشاهدات؛ لأنني اختبرت من معاملة زملائنا صنوفًا من البر والطيبة مختلفة المصادر والأسباب، فكنت أنا نفسي مقياسًا محسوسًا يُقَاس به ويقيس!

فمنهم — وهم القليل — مَنْ كان ينطوي على كرم مأثور، ويلوح لنا من بعض بوادره وتصرفاته أنه يقبل على نفسه حالة السجن ومضانكه وآلامه، ولا يقبل أن يعانيها رجل من ذوي الصناعة الفكرية، كأنه يحس في قرارة ضميره بفارق بين عمله وعملنا وسائقه إلى السجن وسائقنا، ولا يأنف أن يعترف بهذا الفارق ثم يرجح كفتنا على كفته عند الموازنة.

ومن هؤلاء مَنْ كان أساه لنا واهتمامه براحتنا والتسرية عنا يكلفانه المجازفة الجريئة والإقدام على العقوبة وتضييع حقه في الإعفاء من ربع المدة، وهو الحق الذي يناله كل مَنْ قضى مدة السجن بغير إخلال بقواعد النظام، ويزيد في فضلهم أنهم كانوا لا يطمعون منا في جزاء عاجل، ولا ينتظرون الجزاء بعد الإفراج عنهم وعنا، إذ كان موعدهم بمفارقة السجن بعد موعدنا بسنوات أو شهور طوال.

وقد كان بين هذا الفريق فتى يجيد الغناء بعض الإجادة، ويبث فيه شيئًا من الحنين السائغ والبواعث الشجية، وكان يخشى الحراس إذا غنى مساءً؛ لأنه معروف الصوت في السجن كله لا يختلط حيث كان بأحد غيره، فكنت أسمع بعض زملائه الذين يحضونه على الغناء يقولون له: إن «الأستاذ» — ويقصدونني أنا — هو الذي أوعز إلينا أن نقترح عليك كيت وكيت من الأدوار، فلا يتردد في الإجابة دون أن يعرفني أو أعرفه ودون أن يلقاني أو ألقاه.

ومنهم مَنْ لا يبلغ مبلغ هؤلاء في كرم الخليقة ولكنه يخدمنا ويبذل المعونة لنا عن غبطة منه بإنشاء العلاقة بينه وبين أناس يراهم أرجح منه منزلة وأكبر مِمَّنْ تجمعه بهم علاقة الزمالة، ويرضيه أن يستحق من هؤلاء الناس كلمة الثناء وعرفان الجميل والشعور بفائدته لهم في حالة من الحالات، وتلك ولا ريب نية خير لا غبار عليها؛ لأنها دليل على طبيعة لم تتجرد من التطلع إلى حسن الظن وطيب الأحدوثة.

ومنهم مَنْ كان باعثه للخدمة والمعونة إعجابه بالجرأة كما يفهمها، ونظره إلينا كما ينظر إلى أنداده الجسورين في معارك الفتوة ومقاحم الضرب والمصارعة، وهو باعث لم نكن نغتبط به وإن كنا لا ننسى حسن النية فيه!

وكلهم كانوا يضمرون لنا شعور المودة ويخلصون الرغبة في بذل المعونة الميسرة لهم كلما أتيحت لهم وسيلة من وسائلها.

•••

على أننا لم نخطئ في معظم السجناء عاطفة مصرية صميمة لاحظناها في جميع المصريين على تباعد الطبقات والأقاليم، ونعني بها «عاطفة العائلة» وما يتفرع عليها من رعاية الأرحام والأسنان.

رأيت مرة طفلًا صغيرًا من الأطفال الذين يودعونهم سجن مصر ريثما ينقلونهم إلى سجن الأحداث في الجيزة، وكان هذا الطفل مع أقرانه الصغار ينتظرون الترحيل في فناء السجن المعرض لأنظار الرؤساء والسجانين، فمر به سجين من العائدين في جريمة السرقة، فرفع له الطفل رأسه وناداه بلهجة المسكنة الطبيعية التي يستشعرها الصغير في غيبة أهله وقال له: (جوعان)!

فتمهل اللص العائد هنيهة ثم قال له: «وماذا أصنع لك يا بني؟!» وانصرف آسفًا فظننته لا يعود ولا يفكر بعد ذلك في الطفل المستغيث، ولكنه ما لبث أن عاد بعد دقائق ومعه رغيف سرقه من المخبز فقسمه نصفين وأعطى الطفل نصفه واستبقى لنفسه النصف الآخر، ولو نظروه وهو يسرق الخبز لَمَا نجا من الجلد الأليم أو من السجن على انفراد.

ورأيت رجلًا شيخًا نازلًا من درج المستشفى وهو لا يقوى على الحركة، ولا يجد الممرض الموكل به وبغيره مَنْ يقوى على حمله، وكان على مقربة منه يافع لم يتجاوز السادسة عشرة لا يدل مرآه على ضلاعة ولا على صحة سليمة، فشق عليه أن يبصر الشيخ المريض يتعثر في خطاه ويئن من وجعه، وتقدم إليه فحمله ومشى به على جهد شديد حتى أعياه حمله دون أن يكفله الممرض ذلك أو يخطر له أنه قادر على هذا العبء الفادح ليافع مثله.

وتلاحى شيخ فانٍ وفتًى عارم مشهور بالشر والعربدة في السجن وفي الحي الذي يعيش فيه، فسبه الشيخ سبًّا لا يطيقه مَنْ كان فتى في سنه، ولا يأمن مَنْ يسبه به أن يستهدف لضربة قاسية، فما صنع الفتى المسبوب إلا أن بدا عليه الدهش والتردد لحظة، ثم هز رأسه وقال لِمَنْ حوله: «انظروا إلى الرجل الشايب يعيب ولا يخجل! …» وقال للرجل الشايب: «لو غيرك قالها لقتلته! ولكن ماذا عسى أن أعمل لك وأنت أكبر من أبي؟»

وهذه على التحقيق ظاهرة اجتماعية ملحوظة في أخلاق الأمة المصرية بأسرها، سببها فيما أرى قدم العهد في هذه الأمة بحياة الأسرة والحياة الاجتماعية والبيتية على إجمالها، ولهذه الظاهرة في تكوين الأخلاق وتحويل العادات قرار عميق لا يغفل عنه المصلح الاجتماعي المشغول بأطوار هذه الأمة العريقة، ومن زمام هذا الخلق الأصيل ينبغي أن يتناول المصلح الاجتماعي أهم دواعي الإصلاح فِيمَنْ يحتاجون إليه من الضالين والزائغين، سواء كانوا من نزلاء السجون أو من الطلقاء الذين نجوا من العقاب ولم ينج الناس مِمَّا يجترحون عامدين وغير عامدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤