العراق بلاد ما بين النهرين «مسوبو تاميا»
نبذة تاريخية
حوالي ٤٠٠٠ق.م. كان الناس يعيشون جماعات في المدن يروحون ويغدون بين الجزيرة ومصر، وكان أولئك المستقرون يُسمَّون السومريين والأكاديين، وسُمِّيت بلادهم الناشئة سومر وأكاد، ولا نعلم من أين أتوا، ولكن المرجح أنهم وفدوا من منطقة جبلية متحضرة، ولم يجد هؤلاء في أرض الجزيرة الخصبة المنبسطة جبالًا، بل ألفوا السكان الأصليين لتلك السهول من الهمج؛ لذلك أقاموا عددًا من «الزجورات» أو البروج وفوق ذراها قامت معابدهم التي قدموا فوقها الضحايا لآلهتهم، ولقد استعبدوا أهل البلاد الأصليين. والجزيرة أو أرض ما بين النهرين «مسوبوتاميا» التي تعرف اليوم بالعراق من أخصب بقاع الدنيا، وكان نهر دجلة يسمى في اللغة السومرية أدكنا أو أدكلا، ومن هذه أخذ السامريون كلمة أدكلات أو دكلات التي حرَّفها العرب إلى دجلة، وكان يسمى الفرات بالسامرية «پوراتن» أو الماء الوفير، وأحيانًا يعرف باسم پورا أي ماء، ثم حرَّفتها اللغة السامية إلى پورات، والعرب إلى الفرات.
وتشمل العراق اليوم كالديا وبابل وأشور، فكالديا كانت القطعة المجانبة للخليج الفارسي، وكان الخليج يمتد شمالًا إلى أبعد مما يصل إليه اليوم، ثم طمرت رواسب النهرين جزأه الشمالي، وفي شمال غرب كالديا كانت بابل ومعناها «باب الله»، وإلى الشمال الغربي من بابل كانت أشور مقر عبادة الإله أشور. والأشوريون كانوا من الشعوب السامية، وكانوا مهرة في القتال والغارات إذ لم يخلفوا إلا آثارًا حربية فقط. أما البابليون والكلدانيون فمن أصل مختلط من الساميين وغيرهم، وهو الذي يسمى السومريين الذين اخترعوا الكتابة المسمارية وكان لهم شغف بالثقافة والعلوم المختلفة. ولم نكن نعرف شيئًا عن أشور وبابل منذ قرن مضى إلا ما رواه التوراة.
وفي سنة ١٨١٨ ظن القنصل البريطاني أن تلال كويونجيك تحتوي على آثار قيِّمة وفي ١٨٤٢ جاء الفرنسي «بوتا» فكشف مع لايارد الإنجليزي مدينة «سارجون» المسماة اليوم «خرسباد» ونينوى التي تسمى اليوم كويونجيك، وفي الوقت عينه بدأ «تيلر» يكشف أعلى ذرى «أور» لكنه اضطر أن يوقف العمل بسبب مقاومة البدو، وفي ١٩١٩ بدأ الدكتور هول يُتم هذا العمل ثم جاءت بعثة «وولي» فنجحت في كشف مقابر ملوك أور ومعبد إله القمر «نانار» ببرجه الضخم الذي يعلو مائة قدم وبهو العدل وبعض المخازن ومصنع النسيج والمطبخ ومجموعة أخرى من معابد صغيرة ولعل أهم مستكشفاته الألواح الطينية التي كتبت منذ خمسة آلاف سنة وخطها حفظة معبد أور، وهي تعد أقدم الوثائق التاريخية في العالم.
ولقد بنى نمرود بابل منذ ٢١٠٠ق.م. وشاد نينوس بطل ملوكهم مدينة أسماها باسمه وهي نينوى، وفي الوقت نفسه وُلِد إبراهيم أب الجنس الإسرائيلي في أور من الكلدانيين، وهي التي تسمى اليوم «مُقَيَّار»، وفي ٢٠٠٠ق.م. هجر وطنه وحل جنوب الشام حيث أكرم وفادته «ملك صادق»، وهو الملك السوري الذي ولي ملك جيبوس «القدس الآن». ولقد نما نفوذه ونفوذ شعبه الذين حاربوا أهل البلاد وأجلوهم وحلوا بلادهم حتى تفرق اليهود أنفسهم بالسيف، كما فعلوا بالسكان الأوائل وتفرقوا في أرجاء المعمورة، وبعد ذلك بقرن من الزمان ظهر حامورابي ملك بابل العظيم والمشرِّع المبدع، ولقد حارب جيرانه وضم أشور لملكه، ولقد كانت قوانينه قيِّمة تسترعي النظر، من بينها: العين بالعين والساق بالساق، وإذا تسبب أحد في فقء عين أحد الفقراء أو كسر ساقه فعليه أن يدفع «مينا» من الفضة، وإذا أجرى طبيب عملية جراحية بمشرطه البرنزي وتسبَّب عن ذلك موت المريض قُطعت يد هذا الطبيب، وإذا شاد بنَّاءٌ بيتًا فهوي البناء على ساكنيه وجب أن يُقتَل.
ومن ذلك نستنتج أن القوانين الموسوية قامت على أساس قانون حامورابي، خصوصًا فيما يتعلق بالقواعد الخلقية والاجتماعية وما ارتبط بالعدالة، وقد وُجِد العمود الذي خُطَّت عليه تلك القوانين مهشَّمًا في ثلاث قطع تراها اليوم في متحف اللوفر في باريس.
وبين ١٦٠٠، ٦٠٠ق.م. تحول مقر الحكم والنفوذ إلى الشمال، إذ ظهر الأشوريون من الساميين، ولم يسجل لهم التاريخ سوى الحرب والنضال؛ لذلك اتخذوا حضارة بابل أساسًا لهم، ولقد مدوا نفوذهم إلى سوريا ومصر والعرب وأرمينية وميديا وبابل، وسادت الغلبة حينًا والفوضى حينًا حتى كانت سنة ٧٠١ق.م. حين حاصر سنخريب القدس ودمَّر بابل نهائيًّا وزاد في تجميل نينوى وقد أعاد بناء بابل، ومما يذكر له أنه فتح طيبة عاصمة مصر، وتقدم له بالولاء من ملوك الأرض في نينوى اثنان وعشرون ملكًا، ثم أعقبه ابنه أشور بانيبال الذي كان إلى عظمته في الحروب محبًّا للعلم والأدب، أعاد إخضاع الثائرين ومن بينهم مصر وليديا، وغزا عيلام وفتح شوشان (سوسا اليوم)، وهدَّأ الأرض المجانبة للخليج الفارسي التي كانت مثار اضطراب له، وأوفد بعثة حربية إلى بلاد العرب، ومن أوامره لأهل الخليج الفارسي وقد كُتبت في ألواحه الطينية: «وصية الملك لأهل السواحل والبحار من بني خدمي. السلام عيلكم أرجو لكم الخير، إني أرقبكم بعيني مراقبة دقيقة، ولقد فصلتكم عن وجه الشر «نابوبل ذكرى»، وإني أرسل خادمي «بل ابني» مشرفًا عليكم، وإني أزوده بأوامري وقوتي، وسأكون معكم أرعى مصلحتكم وأضع خيركم نصب عيني».
وفي ٦٠٦ق.م. غزا الكلدانيون والميديون نينوى وأحرقوها ومحوا دولة أشور من الوجود، وأعاد الكلدانيون بابل التي ظلت إلى ٥٣٨ق.م.
ولقد بدأ بختنصر حكمه سنة ٦٠٠ق.م. ونهب معبد بيت القدس وساق كثيرًا من اليهود إلى بلاده وهزم نكو فرعون مصر في قرقميش، وإليه ينسب «حصن بابليون» في مصر القديمة، وهو الذي أقيمت عليه الكنيسة المعلقة، وفي ٥٨٨ق.م. أسر يهوذا ودمَّر القدس، ثم أخضع فينقيا وأعاد بناء بابل ورصف طريق مروره بالصخور، وكتب على كل حجر منها: «أنا بختنصر ملك بابل، وأنا الذي رصفت شارع بابل بحجر الجير لمرور حفل سيدنا الأعظم مردوك. يا سيدنا مردوك هبنا ملكًا أبديًّا!»
وفي ٥٣٩ق.م. حارب كورش الأكبر بابل موفدًا ولي عهده «بلشازار»، فأخذ بابل وأسس الإمبراطورية الفارسية، وقد كانت التوراة قد تنبأت بخراب بابل بكلمة نقشت على أحد الأحجار في قصر بابل الشهير، ولقد أذن كورش لليهود أن يعودوا إلى فلسطين، وكان خلفه قمبيز هو الذي فتح مصر، وفي إبان حكمه أعيد بناء معبد القدس، وكانت موقعة ماراتون الإغريقية الشهيرة، وفي عهد خلفه أجزرسيس دُمرت جيوش فارس وأسطولها في سلامس.
ولقد استخدم الفرس الكتابة البابلية المسمارية، وبفضل مخطوطاتهم التي كتبوها بثلاث لغات استطعنا فك رموز الألواح البابلية، ومنها عرفنا تاريخ بابل، وكان أول من قرأها الألماني فردرك جروتفد، وفي ٣٣١ق.م. جاء الإسكندر ودمر جيوش الفرس في أربيل، وفتح فارس كلها والأفغان إلى نهر السند، ومن هنا عاد بجيشه، وقد تململ عليه، عن طريق البحر، وفي بابل وافته الوفود تقدم خضوعها، وبسبب إسرافه في الخمر والمجون التي لم يألفها تدهورت صحته فمات سنة ٣٢٣ق.م. في سن لم تزد على ٣٣ سنة بعد أن فتح كل ما كان معروفًا من بلاد العالم إذ ذاك، ولما سئل عمن يُوصي به خلفًا له على ملكه أجاب قائلًا: «الملك يكون للأجدر به». ثم نقلت جثته إلى الإسكندرية حيث دفنت. وقد تنازع القوم فيمن يخلفه إلا أن سليوكوس أحد قواده حكم البلاد من سوريا شرقًا، وظلت أسرته ١٧٣ سنة، وسُمِّيت الأسرة السليوسية، وقد أقام سلوقية واتخذها عاصمته.
وفي ١٤٠ق.م. هزمهم الفرطانيون من الفرس وأقاموا عاصمتهم في طيشفون في مجانبة سلوقية، وأعقب الفرطانيين ملوك الساسانيين من الفرس سنة ٢٢٦ ميلادية، وفي ٢٢٧ هزم هرقل جيوش كسرى الثاني قرب نينوى، وفي ٦٤١ فتح الإسلام طيشفون وانمحت دولة فارس.
وفي ٧٦٢ أقام المنصور مدينته المستديرة بغداد، وكان يواصل العمل مائة ألف عامل، وقد كلفته تسعة ملايين من الجنيهات، وأسماها دار السلام وإن ساد فيها بعد اسم بغداد، وهو اسم زاهد كان يعيش هناك، وقد غطَّت عظمتها على نينوى وبابل وسلوقية وطيشفون، وبلغت أوجها إبان حكم الرشيد، وبعد ذلك أخذت في الخمول حتى غزاها السلجوقيون سنة ١٠٧١، وفي ١٢٥٨ دمَّرها هولاكو، وفي ١٣٩٣ تيمورلنك، وبعد ذلك وقعت بغداد فريسة الحروب الداخلية والثورات حتى فتحها الأتراك، وظلت تحت حكمهم حتى احتلها الإنجليز في الحرب العظمى.
بغداد اليوم
الموصل
مثوى أبي تمام الطائي، ومنها الطغرائي صاحب اللامية المشهورة وأبناء الأثير الثلاثة، وكانت عاصمة بني حمدان ثم عاصمة الدولة الزنكية؛ لذلك كنت أحسبها بلدة مشيدة جذَّابة، فإذا بها مجموعة من أبنية تحكي أبنية القرون الوسطى، كلها أقبية فطساء كالسجون، والبلدة قذرة مهدَّمة ليس فيها حي واحد يُمتَدح، فكأنها بلدة أثرية، وحتى نهر دجلة الذي تقع عليه تراه قذرًا منتنًا، وتطل عليه البيوت القديمة في غير نظام، وأسواقها أجحار صغيرة، وأنت أينما سرت اشمأزت نفسك من الروائح الكريهة التي تنبعث من كل مكان، وزاد الطين بلة جوها اللافح المحرق، فأنت لا تكاد تبصر من كثرة الدخان والتراب الذي يخيم في هوائها ويحرج الصدر، ولقد أذكرتني بهجير بلاد الهند. وعلى ضفاف دجلة يلقي القوم قماماتهم وأقذارهم، وترى جميع النساء يغسلن ثيابهن وبيد كلٍّ مطرقة لدق الثياب. والبلدة غاصة بالمقاهي الوطيئة، ترى الناس قعودًا بها كأنهم الذباب، والمساكن كأنها الجب، تنظر فترى أهلها نيامًا على الأرض داخل ذاك الظلام في خمولٍ منكر، وهناك معبر لدجلة بقنطرة تحملها الزوارق وتكملها قنطرة من حجارة إذا طما الماء مر خلال عيونها، وقد كان النهر إبان جزره، إذ لا يفيض بالماء إلا في الشتاء.
وأهل البلدة أخلاط من أجناس لا عد لها، من بينهم الأكراد بأرديتهم الفضفاضة يحملون أسلحتهم معهم دائمًا، واليزيديون في مظهرهم الوحشي بقمصانهم الحمراء الغريبة، والأشوريون من الجبال وسحنهم تدل على أنهم من قطاع الطرق، والكلدانيون في سراويلهم وقد وفدوا من القرى المسيحية، والبدو بوجوههم التي كادت تحرقها الشمس وكثير غير أولئك. والعراقيون قوم نحاف طوال القامات أنوفهم منقارية سامية كأنوف اليهود، ويلبسون اليوم فوق رءوسهم «الفيصلية» في ألوان مختلفة وشكل مضحك يُذكِّر المرء بعرف الديك، ولا أرى فيها وقاية من شمس أو مطر، أما المحافظون فيلبسون العقال، ونساؤهم أكثر رشاقة من التركيات، وأعجب شيء في هندامهن المعطف الخارجي «العبا»، فهو كالعباءة من الحرير الأسود يرسل من فوق الرأس فيرفرف في حرير مهفهف فضفاض وشكل أنيق.
والبلاد رخيصة، فالفندق الكبير لم يزد أجره على عشرة قروش، ووجبة الطعام الفاخرة كذلك، غير أن الطهي هناك دونه في تركيا بكثير، وأساس نقودهم «الفلس»، والدينار يساوي ألف فلس، وهو يعادل جنيهًا إنجليزيًّا، وأنت لا تكاد تسمع من القوم إلا حديث «الفلوس»، فكأني قد انتقلت من بلاد «البرغوث» إلى بلاد «الفلس»، وهم يعطون صنوف الطعام أسماء غريبة لا نفهمها، فالبطيخ مثلًا يسمونه «شمزى».
والموصل محرومة من السكة الحديدية مع أنها كانت في الزمن الغابر أكبر مركز تجاري وصناعي، وكانت تتوافر بها الغلال، وكانت تقع على الطريق التجاري الهام بين حلب وبغداد إلى الشرق، وفي زمن العباسيين كانت تُشتَهر بنسيج من القطن الناعم سمي «موسلين» أو «موصلي»، وهو لا يزال يحمل هذا الاسم في الدنيا، رغم أنها لا تصنع منه شيئًا اليوم، وحولها منطقة عظيمة الخصب وتجاورها منابع البترول، كل ذلك يجعل الزائر يدهش لعدم وصلها بسكة الحديد، وحول المدينة بقايا سور زرنا منه جزءًا بجانبه مدفن المؤرخ العربي «ابن الأثير»، ولم تكن الموصل منطقة صالحة للسكنى في الحرب الكبرى، إذ داهمتها التيفوس والطاعون الذي دفع بالسكان هناك أن يأكلوا اللحم الآدمي، وكان يباع خفية، وقد ضُبط بعضهم وشُنق في الميدان الرئيسي، ولعل أحسن ما يزار فيها المسجد الكبير الذي زاره ابن بطوطة في رحلته وكتب عنه.
اليزيديون عبدة الشيطان
وأعجب من رأيتهم في الموصل اليزيديون في أرديتهم الحمراء الغريبة، يرون أن الله روح عليا سامية حلت قدرته في ملك الطاوس (الشيطان) الذي يتصرف في العالم كيفما شاء، ويصيب الناس بالأمراض والأذى كما يسبغ عليهم نعمة الصحة والرخاء وشعار الشيطان لديهم طائر شبيه بالطاوس وهم لا يسمونه الشيطان، فتلك كلمة مزرية مهينة، بل يسمونه «أمير الظلام» أو «ملك الطاوس»، وهم يتوسلون إليه بالصدقات والقرابين، ولا يعلِّمون أولادهم قواعد للصلاة ولا التعبد، ويقولون: إن الصلاة في القلب، ويجب ألا تكون لها شعائر ظاهرة، ولم يأمرهم كتابهم المقدس بشيء من ذلك لكن عليهم أن يؤدوا كثيرًا من الواجبات لقساوستهم ومعابدهم، وهم يشركونهم فيما لا يقل عن ربع إيرادهم السنوي، وميلهم للتصدق عظيم أضحى مضرب الأمثال، ويقال: إن أمراءهم وهم في مقام القسس من سلالة يزيد؛ ومن ثَم جاءت تسميتهم باليزيديين، ولكل مجموعة من عائلاتهم قسيس أو أمير أمره مطاع وعطاياهم إياه واجبة، فإن قصَّر أحدهم في ذلك حلت عليه لعنة الأمير فأضحى من الخوارج، وتلك الضرائب يتقاضاها القسيس عند الميلاد والزواج والموت، وفي وقت الشدة والرخاء شكرًا لله. وقساوستهم طبقات، منهم طائفة يسمونها «كوشيك» يلبسون أردية سوداء، ولا يُختنون كباقي اليزيديين، وهم الذين يتولون الموتى بالغسل والدفن. فتفتح المقبرة ويقبل الناس وبيدهم القرابين وبعد قليل يتمتم «الكوتشيك» ويرغي ثم يغيب عن العالم وهو ملقًى على الأرض، ثم يفيق بعد أن يكون قد اتصل بالأرواح، وعندئذ يخبر الناس عن مآل روح الفقيد، وهل حلت مولودًا آدميًّا جديدًا — وذلك إن كانت العطايا كافية على ما أظن — أو حلت جسد كلب أو حمار أو حيوان خسيس، وفي جميع الحالات يقدم له الطعام لمدة سنة، وتهدى إليه كل ملابس الفقيد. وهم لا يعتقدون في جهنم. ويقص البسطاء منهم نبأ طفل كان اسمه «إبريق الشوطة» فأصيب بمجموعة من أمراض وعاهات، فأخذ يبكي بدموع جمعها في جرة مدة سبع سنين، ثم صبها على نيران الجحيم فأطفأها، فشكرته الآلهة على فعلته، ويرون أن الله خلق ٧٢ آدمًا ظلت ذرية كل منهم عشرة آلاف سنة، وبين كل واحد والآخر فترة مثلها لم يكن بها من الناس أحد، واليزيديون أبناء آدم الأخير لا عن طريق حواء، بل عن طريق حورية، التي زفها ملائكة الجن لآدم، وهم ليسوا أبناء حواء، فإن قالوا ابن حواء قصدوا غيرهم، وهم يقولون بأن جدهم نوح، وإن لغة الجنة هي اللغة الكردية التي يتكلمونها اليوم.
ومن عاداتهم أن تُقرَع الطبول عند زواج أي فرد منهم؛ لإشهاد الناس أن فلانًا قد تم زواجه من فلانة، وهم يبيحون تعدد الزوجات، لكنهم لا يبيحون الطلاق قط، ونساؤهم سافرات إلا في الأسبوع الأول من الزواج حين تظل الزوجة في عزلة تامة، والأمير يستطيع بسلطته أن يسلب أية فتاة شاء، ولا عيب على الفريقين في ذلك. والشيخ هو الذي يقود الزوجة إلى بيت زوجها ليلة الزفاف ولا تخطو عتبة الباب إلا بعد ذبح شاة تطأ دمها وهي داخلة، ولتوثيق صلة الزوجية يضرب الزوج جرة (قلة) بها مجموعة من أجراس في الحائط فوق رأسها، ثم يكسر رغيفًا ليعلمها كيف تكون شفيقة بالجائعين.
وغالب اليزيديين في مقاطعة الموصل، وعددهم بين ١٨، ٢٠ ألفًا، ومنهم بقية ضئيلة في الشام وأخرى في القوقاز، لكن ثلاثة أرباعهم في الموصل حول جبال «سنجار» وكعبتهم المقدسة «شيخ عدي» على مسيرة ٣٥ ميلًا من الموصل، يزورونها في عيدهم الأكبر في أكتوبر، والشيخ عدي قديس سوري نزل هذا المكان ونشر مذهبه في القرن العاشر وأخرج كتابه المقدس، وقد قبض عليه جنكيز خان وساقه إلى فارس حيث قُتل، ومن سلائله «شيخ عدي ابن المظفر» الذي دفن في هذا المكان ونبع تحته الماء المقدس الذي يخالونه متصلًا بزمزم، وقد وجدت تلك العقيدة في بلاد الأكراد منبتًا خصبًا؛ لأنها كانت تدين بالوثنية وعبادة الطبيعة من شمس وقمر وشجر وينابيع، لذلك لا تزال ترى لهذا أثرًا في مذهبهم، فهم يقدسون الشمس والقمر، ويقبِّلون الأرض جهة المشرق والمغرب. ولشدة خوفهم من الإسلام أخفوا أسرار كتبهم المقدسة، وكل من أفشى شيئًا أُعدم فورًا، لكن حدث أن أحدهم اعتنق النصرانية فأفشى سر تلك الكتب إلى القسيس آنسطاسي أحد زعماء المسيحية الذي دفع للرجل مبالغ طائلة كي ينسخ الصفحات نسخًا مضبوطًا ففعل وتُرجِمت، وهما كتابان: «كتاب جلوه» ومعناه الخلاص، والكتاب الأسود «مصحف راش». والآيات مخطوطة على الجلد وتحفظ في صندوق من فضة وعليه صورة طاوس، ومفاتيحه بيد الأمير ولا يقرؤه إلا القسس، أما أفراد الناس فممنوعون حتى من تعلم الكتابة لهذا الغرض.
وأكثف جموعهم حول «باعذزى» بقرب الكوش في كردستان، والمعبد الرئيسي فوق جبالهم التي شهرت بقطاع الطرق، وتطلى معابدهم وبيوتهم ومقابرهم باللون الأبيض؛ لأن الشيطان يحب ذلك اللون، وحول المعبد مجموعة من مبانٍ حقيرة أُعدَّت لإيواء الحجاج في موسم الحج. وتراب المكان مقدس عندهم يعجنون منه أقراصًا يكسرون واحدًا منها لتبريك الزوجية، وتوضع قطعة منها في فم الميت قبل الدفن، وباب المعبد مزركش بالنقوش، وهناك ترى أفعى ذات رأس أسود وهي شعار للشيطان، وقبيل زيارة المكان يجب تقبيلها ثم تخلع الأحذية قبل الدخول، ولا يجوز لمس عتبة المدخل لأنها مقدسة.
نينوى
أقلتني من الموصل «عُربانه» إلى نينوى في مواجهة الموصل من الضفة الأخرى لدجلة، وفي نحو ثلث ساعة بدت كومة كبيرة من الثرى والطين المتماسك في ارتفاعٍ كبير، تسلقتها فتجلت الموصل على بعد وراء النهر في مشهدٍ جميل بمآذنها العديدة، أما ذاك الطلل فلم أرَ به إلا سراديب ومغائر لم تنم عن شيء من العظمة البائدة، فلقد كان أهلها حربيين بواسل، وملكها قائدًا عظيمًا، ولم يكن لهم دراية قط بالزراعة والصناعة كليهما، ولا بأي نوع من أنواع العمل سوى الحرب، وكانت تزود نفسها بحاجياتها من الأسلاب، وحتى المهندسين الذين شادوها كانوا من أسرى الحرب، وكم نقل ملوكها من عشائر وشعوب أخرى، ولقد كان إلههم الأكبر «أشور»، شادوا له المعابد الهائلة وشنوا باسمه الغارات وأخذوا الغنائم وأخضعوا جميع جيرانهم لسلطانهم وأرغموهم على دفع الجزية، ومن بينهم آسيا الصغرى وقبرص وفلسطين وكردستان وحتى مصر نفسها، وكان نزلاؤها الأوائل من أهل بابل، ولا نعلم متى احتلوها باليقين، لكنها كانت قائمة سنة ٣٠٠٠ق.م. وكان حكامها الأُول أتباع ملوك بابل وأهلها أقرب شبهًا بالدم السامي من أهل بابل، فهم بنو عمومة الإسرائيليين، وكانت لغتهم أشبه بلغة آل يهوذا، ولقد خرَّبها الميديون سنة ٦٠٦ق.م. ومحوا آثارها حتى لم يكن يعرف موقعها أحد، ولما جاء العرب وأسسوا الموصل أبصروا بالتلال قبالتها فتخيَّلوها مقر الجن الذين رُصدوا لحراسة كنوزها القديمة حتى كشف الأوروبيون عن الكثير من آثارها، وبخاصة الألواح الحجرية التي نُقشت بالخط المسماري وتماثيل هائلة لثيران لها أجنحة الطير ووجوه الآدميين بلحًى مرسلة أيدت أن تلك لا شك أطلال لمدينة عظيمة. وكنت أرى آثار الاحتراق والتخريب بادية في بقاياها من أثر الغاصب. ولقد بلغت أوجها إبان حكم «سنخريب» أخريات القرن الثامن قبل الميلاد، ويظهر أن ذاك الملك أراد أن ينشئها من جديد فشاد لها الأسوار المنيعة التي تراوح علوها بين خمسين ومائة قدم، وعرضها وسع مرور أربع عربات متجاورات تتخللها أبواب من خشب الأرز، تزيِّنها مقابض النحاس، وكانت تجانبها السباع ذوات الأجنحة، يزن الواحد خمسين طنًّا، ويطل الباب الغربي على دجلة وكان يشق الأسوار والبلدة رافد لدجلة هو «خصار»، كانت تزين جوانبه القصور الملكية الفاخرة، وقد مررت في تجوالي بمكانها من هذا التل الذي يسمونه «كويونجيك»، هنا ذكرت «أشور بانبال» في قصره الفاخر وسط كنوزه القيمة وقد أحاط به الغزاة، فآثر أن يموت بنار العدو التي التهمت القصر وما فيه، وكم كان تشفي أنبياء بني إسرائيل ناهوم وسفانيا عظيمًا إذ شهدا تدمير مملكة أشور التي عاثت في الأرض قتلًا وسلبًا.
نزلت من ذاك التل الخرب صوب تل آخر يقع إلى جنوبه بقليل ويسمونه «النبي يونس»، وهو أيضًا من بقايا ضواحي نينوى، ولم يتعرض للتنقيب فيه أحد لأن رفات النبي يونس الذي ابتلعه الحوت تدفن فوقه في مسجد ذي مئذنة مشرقة دقيقة، وفي داخل الحجرة الوسطى رأيت قطعة من سمكة كبيرة من ذوات السيف يقول القوم عنها: إنها السمكة التي ابتلعت يونس عليه السلام، وقد استرعت نظري البسط الثمينة التي يُفرَش بها المسجد والضريح، وقد أهداها إليه سلاطين آل عثمان. ويقول البعض: إن ذاك المدفن لا يحوي عظام سيدنا يونس، بل عظام قديس مسيحي كان يقوم حولها دير قديم! وفي جوانب ذاك التل عثر بعض علماء الألمان على المكتبة الملكية لنينوى، وفي الألواح الطينية التي بحثت في مختلف العلوم، والتي نقلها ملوكهم وبخاصة «أشوربانيبال» من مختلف بلدان العالم ونقشها على الطين كُتَّاب أخصائيون بالخط المسماري، ومن أشهر ما تُرجم منها قصة الطوفان والبطل «جالجاميش».
إلى كركوك ومنابع البترول
قمت مسرعًا من الموصل تلك البلدة التي استقبلنا جوها اللافح أسوأ استقبال، ولم تترك البلدة في ذاكرتي فضيلة أذكرها بها اللهم إلا كرم أهلها، والعراقيون قوم كرام بحق، فقد جمعوا بين كرم الخصب الزراعي وكرم عرب البادية، حدث أني كنت أتناول الغداء في أحد مطاعم الموصل، وكان يجلس قبالتي عراقي، فجرَّتنا مناسبة شدة الحر إلى طرف من الحديث، وما كدت أستأذن بعد انتهاء الطعام حتى قال لي: تمهل حتى تتناول «الدندرمة». وكان قد طلبها لي ودفع ثمنها، وحاولت الاعتذار فأبى عليَّ ذلك. وقد كان يزاملني في السيارة إلى كركوك طائفة منهم كانوا كلما وقفنا نستريح في فندق على الطريق — وقد فعلنا ذلك مرات — ألزموني بشرب الشاي وأكل المرطبات على حسابهم، ولم أستطع دفع شيء قط. قمت إلى كركوك في سيارات للبريد منتظمة تقوم يوميًّا في الصباح مقابل أجر ثلاثين قرشًا، فاخترقنا دجلة ومررنا بمتنزه كبير أقامته البلدية ترويحًا للناس، وهو فسيح لكنه في غير تشذيب، ثم أوغلنا في أرض سوداء مبسوطة إلى الآفاق ليس بها شجرة، ويبدو عليها الخصب، على أنها لا تُزرَع إلا على أمطار الشتاء فقط. ثم عرجنا إلى يميننا على:
نمروذ
وهي إحدى مدن الأشوريين التي قامت قبل بناء نينوى كمقر للحكم، ولم نرَ فيها سوى تل من تراب يعلوه شبه برج شاهق متهدم، وكان نمروذ ملكًا من ملوك بابل، يروي القوم عنه أن سيدنا إبراهيم الخليل سيق إليه وأمره نمروذ أن يعبد النار فقال إبراهيم: لكن الماء أقوى إذ هو يطفئ النار. فقال: إذن فاعبد الماء. قال: ولكن السحاب هو الذي يرسله. قال: إذن فاعبد السحاب. قال: بل هي الريح التي تدفعه. قال: فاعبدها. قال: لكن الإنسان مسيطر عليها. فغضب نمروذ وأمر أن يعبد إبراهيم النار ويلقى فيها، فأُلقي فيها سبعة أيام خرج بعدها سالمًا، فأراد نمروذ أن يرى إله إبراهيم، فبنى برج بابل، لكنه لم يصل السماء، فأتى بنسرين يجران عربة ودفع بها إلى السماء، فسمع نمروذ صوتًا من السماء يقول: أين تذهب يا ملحد؟ فصوَّب سهمًا إلى مصدر الصوت ورماه فعاد إليه ملطخًا بالدم، فظن أنه طعن آلهة إبراهيم وقتلها.
ويقص الناس أن برج بابل أثار غضب الله، فأنزل عليه صاعقة من السماء، وكنت أسمع اسم نمروذ يطلقه العراقيون على كثير من أبنائهم.
وكانت بلدة نمروذ قائمة قبل أشور بانيبال بنحو أربعة قرون، وإلى جنوبها رأينا أطلال «أشور» أقدم بلدانهم أسموها باسم إله الحرب، ويخال البعض أن الأشوريين من سلائل الأراميين الذين حلوا شمال دجلة، وكانوا أهل حرب ألقوا الرعب في قلوب أهل العراق جميعًا، ولم يكن لهم غرض من غزواتهم الدائمة سوى النهب والسلب؛ لذلك لم يدم ملكهم طويلًا، وفيها عثر بعض الألمان على جرار تُدفن بها بعض موتاهم، وفي أنقاض سورها كُشف حجر كتبت عليه قصة «سميراميز» أو «سيدة القصر»، وكانت زوج أحد ملوكهم سنة ٨٢٠ق.م. ويسمي الناس هذا المكان جبل القمر.
جزنا في طريقنا عدة أخوار جافة، ثم عبرنا نهر الذات الأكبر عند قرية «جوير»، وهو أحد روافد دجلة، تياره سريع وماؤه صافي الزرق، وكانت القرى صغيرة بيوتها بالطين وسقوفها منحدرة لأن مطر الشتاء كثير عندهم، ثم عبرنا نهر الذاب الأصغر، ولم نعرج بينهما على أربل التي انتصر فيها الإسكندر على دارا الثالث سنة ٣٣١ق.م. وكانت على مقربة منا، وكان جل الناس من الأكراد والعرب والعراقيين يتكلمون التركية والعبرية والكردية، وبعد أن قطعنا نحو مائة وسبعين كيلومترًا في خمس ساعات دخلنا:
كركوك
فبدت على صغرها أجمل من الموصل وأعدل جوًّا بها قسم جديد لا بأس بتنسيقه، أما المقاهي والفنادق فأقبية تحكي تلك التي في الموصل، وكنت أعجب لعدم سماعي العربية إلا قليلًا، فالسواد الأعظم حتى من الأطفال يتحدثون بالتركية أولًا والكردية ثانيًا، فهاتان اللهجتان تكادان تكتسحان العربية، وغالب الناس مسلمون، ولكنهم في جهل عميق وسذاجة بادية وتعوز جسومهم النظافة وهندامهم التنسيق والتوحيد.
أقلتني «عُربانه» إلى بابا جرجر حيث توجد آبار البترول الشهيرة، فوصلتها في نصف ساعة، وهناك بدت ميادين البترول في سهول ممدودة إلى الآفاق يكاد ينز البترول الأسود من كل أرجائها، وقد حفرت الشركة — وهي إنجليزية فرنسية ألمانية — ٣٦ عينًا أقامت على كلٍّ شباك الحديد «والفناطيس» والساريات والمضخات، وكلها تتصل بأنابيب ترى ملقاة على الأرض وكأنها الشباك، تجمع البترول في المركز الرئيسي حيث يكرر تكريرًا جزئيًّا ويُدفَع بمضخات في أنابيب تمتد إلى ثغر بيروت. وفي كثير من الحفائر كنا نرى سيل البترول الأسود الناعم يتدفق ويسيل مختلطًا بالماء، وهذا يخول لمن أراد أن يملأ صفائحه منه وهو يستخدم في الرصف، وفي بعض البؤرات وبخاصة المسماة «بابا جرجر» — ومعناها أرض النار — يشتعل لهيب من مسارب وفوحات في الأرض، ويظل متقدًا صباح مساء، وأنت إذا حفرت بؤرة وأشعلت بها عودًا من ثقاب ظلت الأرض ملتهبة باستمرار، مما يُشعر بغنى الأرض المفرط في الزيت، وفي مناطق الآبار نفسها يحرم القانون إشعال النار أو التدخين. وقد وقفت وسط الفوهة الكبرى وكأنها كأس لبركان متأجج، وكانت ألسنة اللهيب مندلعة من حوله. وصخر الإقليم يبدو كالطفل المصفر تشوبه حمرة ونواتئ الصخر خليط من الجير والخرسان، وأينما حفرت ظهر نز الزيت والعيون المفتحة التي يخرج منها القار لا تدخل تحت حصر، وقد كان للأتراك نصيب فيه لكنهم باعوه للشركة الحالية، والشركة قد وضعت الطرق ومدتها هناك أميالًا، وأقامت المباني على الربى للسكنى ومكاتب الإدارة، ويدلك على مبلغ عظم إنتاج هذه المنطقة أن الشركة قد أنفقت مبلغ ١٥٨ مليون جنيه على أعمال التحسين والاستثمار.
إلى بغداد
قام بنا القطار إلى بغداد مسافة ٣٢٥كم في عشر ساعات وسط سهول نصف مهملة منظرها موحد ممل ليس به شجر وكانت القرى شبيهة بقرى صعيد مصر، وبعد نصف الطريق عبرنا رافدًا كبيرًا لدجلة اسمه (ديالا) بعده زادت المزارع والنخيل وكثرت القرى فحاكى المنظر بلادنا، إلا في ندرة القنوات وأخيرًا أقبلنا على بغداد من مورد متهدم مترب منفر، فكنا كأنا ندخل قرية صغيرة ووقفنا قليلًا على محطة (بغداد شرق)، ثم نزلنا في (بغداد غرب) فكانت مني خيبة أمل لأني كنت إخال بغداد رائعة المناظر طلية البنيان تليق بعاصمة دولة ناهضة ذات ماضٍ مجيد، نقلتني عربة واخترقنا الشارع الوحيد فيها وهو شارع الرشيد الذي يقطع البلدة من طرف إلى طرف وبه كثير من المتاجر ودور الملاهي والمقاهي، مبانيه قديمة وفي غير انسجام ولا تكاد الأبنية تعلو طابقين وتمتد على جانبيه الأعمدة على نحو ما نراه في شارع محمد علي بمصر وفي جانب منه وقف بي السائق أمام (نزل هلال)، وما كاد يستوي بي المجلس ويخيم الليل حتى كان الفناء الرئيسي للفندق وهو الذي تشرف عليه كل الحجرات مكانًا للغناء والموسيقى والرقص مما أذكرني برفه بغداد إبان عزها البائد وجال الفكر في ألف ليلة وما روي لنا من أعاجيب، نزلت فإذا المكان غاص بالمستمعين المترنحين الذين لعبت الخمر بعقولهم، ثم خرجت إلى الطريق فإذا سيول من الناس في لهو ومجون رغم أن هندامهم الشرقي العربي يتنافر مع كل أولئك، وفي الصباح تفقدت كثيرًا من نواحيها فلم يرقني بها شيء كثير سوى جسورها التي تعبر دجلة وتصل ما بين الرصافة في الشرق والكرخ في الغرب، وتلك الجسور تقام كلها على الزوارق فتراها تهتز صعودًا وهبوبًا مع مد الماء وجزره وأهمها جسر (مود) على اسم القائد الإنجليزي، وهو أحدث الجسور جميعًا يصل ما بين أزحم جهات المدينة ويؤدي في الجانب الغربي إلى قسم جديد به المتنزهات والمقاهي ودور الملاهي ويتوسطه طريق فسيح به تمثال للملك فيصل يمتطي جوادًا وهو في زي عربي بالعقال، وعند الأصيل يدهش المرء لسيل المارة الدافق فوق القنطرة وجماهيرهم المتلاصقة الأكتاف من نساء ورجال يروحون ويغدون في نشاط وحركة كأن البلدة في يوم عيد؛ هنا يعتقد المرء أن الشعب العراقي مرح ميال إلى الرفه والمجون بشكلٍ يفوق كل وصف، وقد استرعى نظري جمال السيدات ورشاقتهن يسير السافرات منهن — وغالبهن من اليهود — في هندام أنيق عليهن المعاطف المهفهفة تتدلى من فوق الرءوس وكأنهن يفاخرن بإزارهن هذا فهو لا يقل ثمنًا عن عشرة جنيهات وللأغنياء بأضعاف ذلك والمسلمات يسمونه (العبا) ويلبسه حتى صغار البنات وهو من حرير ينسج على اليد وبعضه تتخلله خيوط الذهب، ويلفت النظر في نساء العراق شعورهن المرسلة الغزيرة التي تزيدهم جمالًا، ويقولون: إن الحناء التي يغسلون بها الرأس عند الاستحمام هي سبب ذلك ولعل نقطة الضعف في جمال النساء طول الأنوف ودقتها، ويندر أن ترى بينهم القامات الطويلة والأجسام الممتلئة السمينة بين كلا الجنسين على أن منطقهم جميعًا منفر غير موسيقي.
وفي المدينة مجموعة من مساجد على الطراز الفارسي بمناراتها الدقيقة والقباب التي يكسوها القيشاني الأزرق، وقد بدأت زيارتي بمسجد الأعظمية: وفيه يدفن الإمام الأعظم أبو حنيفة شيخ المشرعين وكان مولده سنة ٨٠ ووفاته سنة ١٥٠ﻫ والضريح تحيطه شباك الفضة الثقيلة وفي أطرافها زينة في شبه حراب ذهبية، وقد كتب حولها بالفضة كثير من آي الذكر والحكم المأثورة والقبة يغشاها القيشاني من داخلها والنحاس الأصفر البراق من خارجها، وقد جدد طلاؤه بأمر صاحب الجلالة الملك السني فيصل الأول وفيه دفنت رفاته بعد زيارتي بأيام قليلة، ولم يكن بالمسجد منذ زيارتي أحد سوى خدامه، بعد ذلك عبرت النهر إلى الضفة الغربية صوب الكاظمية وهي بلدة عتيقة يقدسونها؛ لأن بها مدفن الإمام موسى الكاظم من قادة الشيعة والمسجد فاخر يأخذ بالألباب أقامه نادر شاه من ملوك فارس وزاد فيه سلاطين الفرس بعده وقد أمر أحدهم بعد زيارته للحرم أن تكسى مناراته بطبقة من ذهب خالص، ثم زاد فيه الترك بعد ذلك وفيه جانب أقامه سليم الأول والمدفن تعلوه قبتان وتحوطه أربع منارات، بريق الذهب الأصفر الذي يكسوها جميعًا يخطف الأبصار وحول القباب فناء مفتوح تحوطه البوائك التي يزينها القيشاني وتحتها غرف للطلاب والزهاد، وأنت ترى الأركان والزوايا والأقبية معقدة ترصع بقطع المرايا وتحوط الضريح شباك الفضة الثقيلة وما كدت أدخل الباب حتى أسرع إلي رهط النقباء المشعوذين بأرديتهم المميزة: طربوش عليه نصف عمامة خضراء وعباءة سوداء فتلسمني واحد منهم بالقوة وأخذ يصيح صيحات ويقرأ تعاويذ وعبارات توسل، وطاف بي وهو يأمرني أن أقول أدعية خاصة وراءه، ولما كنا أمام باب الضريح قال: اركع وقبل الأعتاب فأبيت وقلت: كفى فقد قرأت الفاتحة، أما سيل الناس في داخله فحدث عنه هذا يقبل وذاك يمسح وتلك تصيح وأخرى تبكي في مشهدٍ رهيب، هنا بدت لي ترهات البسطاء ومدى سيطرة الخرافات عليهم وأغلبية البلاد من الشيعة ومن السذج غير مثقفي العقول وكم من إناث يحضرن إلى الضريح ويلقين فيه من الحلي والجواهر، وقد حدث مرة أن ضحكت سيدة وهي داخلة فأعقب ذلك أن سقط إزارها واعتراها دوار خرت من أثره على يديها ولم تستطع الخروج إلا على أربع كأنها الكلبة المهينة، كذلك قيل: إن اللصوص إذا أحضروا إلى المقام وجب أن يعترفوا وإلا التصق بدنهم بالجدران فلم يستطيعوا الحراك!
ومما راقني في بغداد أسواقها الضيقة الملتوية يعلوها سقف منحدر تقوم تحته المتاجر وأغلبها في أيدي اليهود والأرمن وجماهير المارة متلاصقة مائجة طيلة اليوم والمقاهي (البلدية) في كل مكان نجلس فيسرع صاحبها بتقديم قطرات من القهوة السادة في (فنجال بيشة) تحية للقدوم، ولابد أن يقدمها صاحب المقهى بنفسه زيادة في الترحيب ويكرر ذلك بين آن وآخر، وبغداد كلها فيما عدا شارع الرشيد الوحيد أزقة نظيفة أرضية مرصوفة يتوسطها مجرى صغير لصرف المياه وتكاد الشرفات: (المشربيات) المتقابلة تتلاصق فتحجب الطريق من الشمس والنور والبيوت جلها في هندسة شرقية ذات فناء سماوي تطل عليه نواحي البيت الأخرى ويتوسطه حوض الماء وأبواب البيوت مثقلة بالحديد والنحاس كأنها أبواب القلاع في نظام شرقي بحت، هنا ذكرت المجتمع عهد أبي جعفر المنصور وهرون الرشيد فلقد بناها المنصور ووضع أول لبنة بيده سنة ١٤٠ﻫ بغضًا بأهل الكوفة وتجافيًا عن جوارهم، وكان ثلثها على الضفة اليمنى لدجلة ويسمى الكرخ والثلثان على اليسرى ويسمى الرصافة، وقد أطلت البحث عن أثر يرجع إلى ذاك العهد فلم أجد إلا حائطًا مطلًّا على دجلة على مقربة من الجسر القديم نقش عليه: بني في عهد أبي جعفر المنصور بالخط الكبير وكان معهدًا علميًّا يسمى المستنصرية، لكنه اتخذ اليوم مكانًا للجمرك رغم أنه جدير بالرعاية والحفظ؛ لأنه الوحيد من نوعه وهناك بقية للسور القديم والقلعة وحولها أقيمت دور الحكومة وقصر الملك يطل على ماء دجلة في تواضعٍ كبير، ومن المساجد القديمة تبقى مئذنة متهدمة، ذلك كل ما تخلف من عصر العظمة الأولى. وقفت أسائل نفسي عن الزوراء ودار السلام بلد المنصور والرشيد الذي أنفق عليها أبو جعفر فوق أربعة ملايين دينار، وطوقها بسورين وكانت أبواب السور الداخلي مزورة ومن هنا سُميت المدينة الزوراء، وفي عهد الرشيد أقام سراة القوم الجانب الشرقي قصورًا فاخرة وأسموه الرصافة وأصبح الحي الأرستقراطي الحديث، وقد بلغ سكان بغداد إذ ذاك مليونًا ونصفًا، وكان الترف آخذًا كل مأخذ فكان الرشيد ينفق على طعامه كل يوم عشرة آلاف درهم وعلى السماط ثلاثون صنفًا من الطعام تقدم في أواني الذهب والفضة، وقد أقام وليمة لزبيدة كلفها خمسة وخمسين مليون درهم وكان يقدم للناس أطباق الذهب تُملأ بالنقود الفضية وأطباق الفضة تُملأ ذهبًا وقد أثقل زبيدة بالحلي حتى أنها لم تستطع النهوض والسير خطوة، ولقد كانت زبيدة مسرفة من ذلك أنها صنعت بساطًا من الديباج جمع صورة كل حيوان وكل طائر: الأجسام بنسيج الذهب والعيون باليواقيت والجواهر، وقد كلفها مليون دينار وكان ثمن ثوبها الواحد خمسين ألف دينار، هنا ذكرت أيضًا البرامكة وما وصلوا من رفه وسلطان فقد كانوا أكثر ترفًا، مجالس الطرب في دورهم كل ليلة والراقصات من الغواني أمثال (فوز وفريدة ومنة) لا يغبن عن تلك المجالس، وقد كانت تعرض الغانيات من كافة جهات الدنيا للبيع في سوق النخاسين، وكان الدلال ينادي ويصف الجواري ويعدد في جمالهن ومحاسنهن فسلط الله عليهم زبيدة وقد أسلم الرشيد لها كل شيء حتى مالية البلاد فأخذت تنفق عن سعة وإسراف فأحصوا لها أنها أنفقت وحدها ثلاثين مليون دينار وبنت مسجدًا على دجلة باسمها وأنشأت عين زبيدة في الحجاز، وأوصلت ماءها إلى مكة وكلفتها مليون دينار وقد بلغت موارد بيت المال في عهدها خمسمائة مليون درهم من فضة وعشرة ملايين دينار ذهبًا، وهي أوفر ما حصل في دولة الإسلام جميعًا ولما مات أبو جعفر قال للمهدي في وصيته: إنه خلف له من الأموال ما إن كسر عليه الخراج عشر سنوات كفاه لأرزاق الجند ومصلحة البعوث وغيرها!
وقفت أتلمس من كل هذا بقية لكن يد الزمان قد أتت على كل أولئك لكثرة من أغار على بغداد وأعمل فيها حرقًا وتدميرًا، نخص هولاكو التتاري الذي اجتاحها في القرن الثالث عشر وأحرقها وسلب قصورها ورمى بذخائر مكتباتها في دجلة وهدم قناطرها التي ظلت من قبل آلاف السنين تنشر الخصب وتروي المساحات الشاسعة، فاستحالت تلك السهول اليوم إلى قفار مهملة أو منافع يربى بها البعوض والملاريا، وبعد هذا العهد قامت بغداد ثانية على الأنقاض الأولى وما كادت تظهر حتى فاجأها تيمور لنك الأعرج في القرن الرابع عشر وتركها أطلالًا وفي ١٥٢٤ دمرها للمرة الثالثة الشاه إسماعيل وكذلك فعل الشاه عباس في القرن الرابع عشر وفي سنة ١٦٣٨ أخذها مراد الرابع التركي من الفرس وبدأت تنشأ من جديد، إلى ذلك فكم قاست من هجمات فيض دجلة الذي طالما اجتاحها بأكملها، وفي سنة ١٨٦٠ جاء مدحت باشا حاكم بغداد فهدم سورها وباع أنقاضها الهائلة لينفق منه على مشروعاته الإصلاحية ولم يترك سوى ما بين (الباب الوسطاني وباب الطلسم) وكان السلطان مراد دخلها من باب الطلسم لأن الرواة قصوا أن منقذ بغداد سيدخلها منصورًا من هذا الباب.
خرجت يومًا إلى مقابر بغداد وزرت قبر زبيدة زوج هارون الرشيد ويمتاز عن باقي القبور حوله بأنه تحت مثمن تعلوه قبة في شكل مخروط مجزع يسترعي النظر وحولها مدافن أخرى ممدودة أهمها مدفن:
بهلول
سمير هارون الرشيد يؤمه كثير من الناس وبخاصة السيدات يوم الأربعاء، دخلته فإذا في فنائه عدة مبانٍ نموذجية صغيرة من القش والخرق وتسد منافذها بالحنا، منها واحد وضع داخله مهد طفل أقامته سيدة عقيم لا تلد رجاء أن يمن الله عليها بمولود، وآخر داخله سرير تنام عليه دميتان متجاورتان وضعته فتاة تطمح إلى الزواج فإذا ما أجيب السؤل ذهبت صاحبة البيت وهدمته وقدمت القرابين.
ومن الأضرحة المقدسة هناك مدفن منصور الحلاج يجاور مدفن الشيخ معروف الكرخي يقدسه المسلمون من الأفغان والفرس والهند، وهو فارسي كان ورعًا متدينًا زاهدًا، وكان يخلع على الناس رداءً من الصوف — ومن ثَم نشأت فئة الصوفية — وظهرت له كرامات فاتهمه السنيون بالزندقة وسجنوه ثم قتلوه ذبحًا على جسر دجلة ورموا بقاياه بعد حرقه في النهر، ويقول الناس: إن ماء النهر قد فاض وطفا الرماد المقدس فوقه وهو يقول: «أنا الحق»، فجاء شيعته وجمعوا ثراه ودفنوه، ويقدسه اليزيديون عبدة الشيطان ويقولون: إن رأسه لما رمي في النهر طفت الروح منها وصادف أن كانت أخته تملأ جرتها، فدخلت الروح فيها، ولما شربت منها حملت وبعد تسعة شهور وضعت طفلًا شبيهًا بأخيها، تناسخت روحه المقدسة في ذاك الطفل، ولهذا لا يستخدم اليزيديون الجرار قط. أما من قبور الخلفاء فلم أجد شيئًا، وقد قيل: إن بغداد لم يمت فيها خليفة قط.
إلى طاق كسرى
«إيوان كسرى» أقلتني إليه سيارة في ساعتين، فبعد أن خرجنا من بغداد قليلًا مررنا بناحية تسمى «هنيدي» مقر المعسكرات الإنجليزية، وبعد مسيرة أكثر من ساعة في أرض خصبة بدا قصر كسرى على بعد كالطود الشامخ، ولما جئناه كانت الحفائر حوله ممتدة إلى مسافات، وهو يقوم في حائط شاهق لا نوافذ فيه لكنه نقش في شبه أقبية سدت بالبناء بعضها فوق بعض، وإلى جانب الحائط قبو لا تكاد تدرك العين مداه، وقفت تحته وتخيلت كسرى إبان صولته يجلس في كمال أبهته في هذا الإيوان الذي أصبح قاعًا صفصفًا لا تجانبه إلا قرية صغيرة يزورها القوم؛ لأن فيها مدفن أحد الصحابة هو سليمان باج الفارسي تحت قبة صغيرة، وطاق كسرى أقيم بالآجر المصفر في متانة غالبت الزمن طويلًا، وقد انهدم أحد جانبيه إثر زلزال هائل، وما بقي منه مصدع الجوانب مائل الجدران، وقد لبثت أطوف بالمكان إلى الغروب حين بدا القصر شبحًا قاتمًا في ضوء الشفق الضئيل الذي أكسب المكان رهبة وأعاد إلى المخيلة ذكريات الماضي المجيد لتلك الناحية المنبوذة اليوم.
والمكان يسمونه طيشفون، وكان بلدة شادها الفرطانيون الذين لا نكاد نعرف عن تاريخهم شيئًا، ولقد كان مقرهم الجنوب الشرقي لبحر الخزر، ولما نالوا استقلالهم سنة ٢٥٠ق.م. اتسع ملكهم وظل ٤٠٠ سنة، وقاوموا الروم في آسيا، وكان ملوكهم يمضون الصيف في الشمال، وإذا ما أقبل الشتاء حلوا طيشفون شرق دجلة تجاه بلدة «سلوقية» التي بناها سليوكاس الإغريقي على الضفة الغربية، ولما كبرت طيشفون أصبحت عاصمة ملك الفرطانيين، وحاول الروم غزوها فأعياهم ذلك حتى جاء الإمبراطور «تراجان» فحمل سفنه من البحر إلى البر وسيَّرها على أسطوانات إلى دجلة، وعبره بها واحتل المدينة وبعد فترة اضطراب ظهر «أردشير» ملك فارس وغلب الفرطانيين وجعل طيشفون مقره، فأسس أسرة الساسانيين وأعاد إصلاح سلوقية وشاد حولها مجموعة من بلاد أطلق عليها العرب اسم المدائن، وفي سنة ٥٣١ ميلادية ظهر في الميدان أعظم الساسانيين «كسرى الأول أنو شروان»، وشاد القصر الأبيض ولما ظهر الإسلام وانتصر سعد في القادسية فتح البلدة وأخذ ذخائرها التي لا تقدر، وفي بهو القصر صلى سعد الجمعة بالناس لأول مرة في أملاك فارس، ولما ظهر للعرب أن موضع طيشفون ليس صحيًّا ولَّوا شطر الكوفة وبغداد والبصرة، وقد جملت بغداد بكثيرٍ من المواد التي نقلوها إليها من طيشفون وسلوقية حتى لم يبقَ فيها من أثر واضح إلا قصر كسرى الذي غالب معاول أبي جعفر المنصور الذي نقل من آجره الكثير رغم معارضة خالد بن برمك، وكان يريده أثرًا خالدًا فشك الخليفة أنه يتعصب للفرس قومه، ولما أعياه الهدم استشار خالدًا في إيقاف الهدم، فقال له: كنت أرى عدم الهدم، ولكن أما وقد بدأته فلا يصح إيقافه لئلا يقال: عجز سلطان العرب عن هدم مصنع من مصانع فارس، فندم المنصور وأوقف الهدم.
وكم ضم القصر من آيات البذخ والغنى لملوك فارس الأقدمين، وقعت كلها غنائم للعرب على يد سعد من أكداس الذهب والفضة والملابس الموشاة والأحجار الكريمة والأسلحة المرصعة إلى ذلك مقادير المسك والعنبر والكافور والأعطار، وجواد من ذهب خالص أسنانه رُكِّبت من زمرد ورقبته رصعت باليواقيت، وكان له سرج من فضة وداليات من ذهب، إلى جواره ناقة من فضة ومن ورائها رضيعها من ذهب. ومن بين ما حوت أسلحة كسرى درع كامل من ذهب تزينه اليواقيت، ولعل أجل مخلفاته بساط ذرعه سبعون ذراعًا في ستين، وكانت رسومه تمثل حديقة حيكت أرضها من ذهب وطرقها من فضة ومروجها من زمرد وجداولها من لآلئ وأشجارها وثمارها وزهورها كانت مزيجًا من الماس والأحجار الكريمة، وقد أرسل سعد إلى الخليفة بالأشياء الفنية القيِّمة وبخمس ما لقي من الغنائم ووزع أربعة أخماسها على جنوده الذين ناهزوا ستين ألفًا، فنال كلًّا منهم ما قيمته ثلاثمائة واثنا عشر (٣١٢) جنيهًا.
وقد كان القصر الأبيض زينة طيشفون وأجل ما خلفه فن العمارة الساساني، بناء شامخ قام مدخله على اثني عشر عمودًا من رخام، وكان ذرعه ١٥٠ قدمًا في العلو و١٨٠ عرضًا و٤٥٠ طولًا، ولقد كانت سعة البهو الكبير الأوسط ١١٥ في ٨٥ قدمًا، وكان يحمل قبوًا سقفه مجموعة من نجوم الذهب والكواكب السماوية تبدو فوق الأفق، هنا كان يجلس كسرى على عرش من ذهب يستمع للشكاوى ويقيم العدل، وقفت أستظل بذاك القبو الهائل وسرعان ما توالت ذكريات العظمة البائدة، فكنت أنظر فلا أرى لها أثرًا، وكان حفيف الريح في أوراق الغاب البري الذي أحاط بتلك الخرائب كأنه صوت ينعى أولئك الجبابرة، فسبحان مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء.
عدت في المساء وقبيل بغداد عبرنا نهر ديالة رافد دجلة، وقد دفعت سياراتنا رسم عبور القنطرة سبعة قروش ونصف (روبية) وتلك قاعدة متبعة في كل قناطر العراق.
إلى الحلة
قمت إليها في القطار وهي من مدن الكلدانيين وإن لم يبقَ لهم فيها أثر اليوم، وهي وسط إقليم خصيب يستفيد من سد الهندية أكبر وسائل الري في العراق كلها، وهو يروي ثلث مليون فدان، ويقول الناس: إن مياه الفرات أكثر خصبًا وأغزر فيضًا من دجلة، وهو أعذب شربًا وأصلح للصحة، ولقد أقام الإسكندر المقدوني أبنية ليسيطر على مياه شط الهندية إلى الغرب وشط الحلة إلى الشرق وهما شعبتان للفرات، وقد أعاد الإنجليز اليوم بناء سد الهندية لإمداد فرع الحلة الذي كادت تسده الرواسب، بينما فرع الهندية كان يتعمق حتى كاد يودي بالمياه سدًى. قمت في سيارة مسيرة ساعة إلى:
بابل
التي بناها الكلدان على الضفة اليمنى للفرات، فإذا بها تل من الطين حوله المزارع، وفي وسط ذلك التل رأيت بعض أطلال يقولون: إنها مقر الحدائق المعلقة وقصور بابل، وكانت بابل أول الملكيات العظيمة التي أقيمت في غرب آسيا، وهي ثانية ملكيات العالم بعد مصر، وكان يطلق عليها أرض شنار، وفيها ظهر نمروذ طاغية على الأرض، ومن بابل تقدم إلى أرض أشور وبنى نينوى ولبثت أشور ونينوى خاضعَين لبابل طويلًا، وفي القرن التاسع قبل الميلاد نال الأشوريون استقلالهم، وفي ٧٤٥ق.م. هزموا بابل وأخضعوها لملكهم، وبذلك أصبح العبد سيدًا، وظلت نينوى سيدة زهاء قرن حالف خلاله أهل بابل الميديين، وفي ٦٠٦ق.م. باغتوا نينوى وأمعنوا في تخريبها حتى أخفوها عن الأنظار، ولم يعد الناس يعرفون حتى موقعها.
وبسقوط نينوى بدأ العصر الثاني لبابل وهو عصر نبوبولصار الذي بنى الحدائق المعلقة ذائعة الصيت وإحدى عجائب الدنيا، وقد أقامها لاستمتاع زوجه الميدية بنت أحد أمرائهم الموالين، وقد ورد في إحدى الأقاصيص الإغريقية أن الحدائق المعلقة شادتها سمراميس ملكة أشور الخيالية التي تقول الخرافات: إنها بانية بابل وأشور وما كان فيهما من عظمة ورواء، فأراد نبوبولصار أن يشيد بلدة تفوق كل ما تقدمها، فسخَّر في بنائها مهندسي نينوى الذين ألزمهم بإقامتها قسرًا وهم له أسرى أرقاء، فأخرجوا بابل الثانية في رواء وجلال فاق كل ما تقدمها، وقد روى هيرودوت أبو التاريخ أنه في القرن الخامس ق.م. أقيمت بابل في مربع يشقه الفرات، وكان ذرعها ١٥ ميلًا مربعًا، يحوط كل أولئك سور علوه ٣٥٠ قدمًا وسمكه ٨٧ تتخلله مائة بوابة من نحاس، ولم تكن موطنًا لأخلاط الناس بل لمترفي القوم وملوكهم، وهي أفخر مدن العالم القديم جميعًا وأجل مبانيها.
الحدائق المعلقة
أقيمت أسسها من الصخر المنحوت رغم صعوبة الحصول على الصخر وسط أرض دجلة والفرات الطينية، ولم يُعلَم من أين جاءوا بتلك الأحجار، وكم كلفهم ذلك من جهد ومال، حقًّا إن الحدائق لم تكن تفوق في العظمة والأبهة قصر نبوبولصار ولا معبد «بل ماردوك» إله بابل وحاميها ذاك الذي أقيم من طبقات يتوجها هيكلان من ذهب، إلا أن الحدائق المعلقة كانت أكثر جمالًا ورقة، ولقد شغلت متسعًا ذرعه ربع ميل في الشمال الشرقي من البهو الرئيسي من القصر الملكي، وقد أقيمت في شبه مصاطب أو شرفات الواحدة فوق الأخرى من صخر ترفعه عدة بوائك وأقبية إلى علوٍ يناهز ٣٥٠ قدمًا، وكان يدعم البناء سور سمكه عشرون قدمًا، مُكِّن لمرور عربتين متجاورتين في كلٍّ أربعة جياد، وكان يكسو كل إفريز من هاتيك غشاء سميك من الطين تنبت فيه أعشاب الزهور وأشجار الثمار، وكانت تُروَى تلك الحدائق من مضخة هائلة ترفع الماء إلى الطبقة العليا ومنها يجري، فيروي تلك الحدائق؛ ولاتقاء خطر الرطوبة ونز الماء بُطِّنت الأقبية كلها بطبقة من الرصاص وكان يتخلل تلك الأقبية مقاصير للراحة بولغ في نقشها وزخرفتها، تؤمُّها الملكة وحاشيتها؛ تخلصًا من وهج الشمس ولفح الحر في سهول الجزيرة المحرقة صيفًا، ولقد رأيت ما تخلف منها في قبو طويل من الطوب والحجر تحته حجرات كانت أشبه بمثالج لحفظ الطعام من العطب والفساد، وعلى جانبيه بقايا لغرف عدة، وإلى جوارها بئر لها فتحات ثلاث، الوسطى مستديرة بجانبها اثنتان بيضاويتان، ويُظَن أن روافع الماء كانت تقام عليها.
وإلى شمال بابل رأينا القصر وقلعة نبوبولصار من الآجر بجانبها أسد بابل الذي يطأ تحته رجلًا، وهو في هندسة غريبة غير بابلية، لذلك ظُنَّ أنه من أسلاب الحرب من بلاد الحيثيين في الشمال، ويعزز ذلك صخر وُجد إلى جانبه وكُتب عليه بالحيثية، وإلى جنوبه مباشرة أطلال القصر الذي شاده «نبوبولصار» على أطلال قصر أحد أسلافه، وقد بدا لنا مجموعة أحجار من آجر، ولقد تعقب علماء الألمان تصميم القصر ووضحوا لنا هندسته، وفي ركنها الشمال الشرقي على مقربة من «باب أشتار» مجموعة من بوائك مخربة ظُنَّ أنها الحدائق المعلقة، وكان يؤدي طريق مرصوف بالحجر من باب أشتار إلى القصر الملكي من جانب وإلى معبد مردوك من الجانب الآخر. وقد رأينا بقايا جسر أو قنطرة من الطوب كان يقام على الفرات يوم كان يشق طريقه القديم إلى شرق طريقه الحالي، ولقد كان يحوط المدينة أسوار عدة، حتى إنها كانت في غاية المنعة، تشرف على أقصى شمالها قلعة بابل؛ مما يؤيد أن حصار بابل كان لا شك عملًا عظيمًا شاقًّا حتى إن الفرس لم يحتلوها إلا لما أن دخلوها عن الفرات، ويظهر أن نبوبولصار جددها من أقصاها لأقصاها لأن اسمه وآثاره تعمها جميعًا مع أنها كانت سابقة لزمانه بنحو ١٥٠٠ سنة، حين كانت عاصمة «حامورابي»، ولذلك صعب على الكاشفين أن يعثروا على أثر لتلك القرون الأولى التي تقدمت زمن نبوبولصار. وإلى جانب القصر كومة من أطلال أقامها الإسكندر وأحرق فوقها جثة صاحبه «هفستيون»، وهنا مات الإسكندر نفسه ومات فيها من قبل نبوبولصار ونبوكادرزر وبلشازار وكورش وكثير غيرهم.
وهنا جرت أكبر موقعة بين سعد بن أبي وقاص وجيوش الفرس سنة ١٦ﻫ حين فتح المدائن.
إلى الكوفة
قمنا في سيارة وأخذنا نسير وسط تلك السهول الموحدة المملة، ولم يكن يسترعي النظر فيحدث بعض التغيير في المنظر سوى التلال العدة التي كنا نراها في أطلال بقايا القدماء، ومن أهمها قلعة نمروذ، وتل أور عاصمة السومريين. بلاد يسأم السائح المقام بها اليوم لولا ما تثيره ذكريات ماضيها من عظمة. كنا نرتقي التل فإذا به أطلال لمدينة بائدة لا يكاد يرى فيها العابر العادي معنًى ساميًا ولا منظرًا جذَّابًا، لكن سرعان ما يمر بالخاطر حامورابي الذي خط قوانينه في ألواحه التي كنا نجد بعض بقاياها منثورة فوق تلك التلال من سنة ٢١٠٠ق.م. هنا يذكر المرء السومريين، وأنهم أول من أزاح الستار عن كثير من حقائق العلم والطب والفلك، وهم الذين بدءوا الكتابة واخترعوا المزولة وقسموا اليوم إلى اثني عشر قسمًا، وعنهم أخذ الإغريق.
ومن الأماكن التي مررنا بها في طريقنا إلى الكوفة: بلدة ذي الكفل التي قامت حول مدفن هذا النبي الذي يقدِّسه المسلمون واليهود، ويعتقد هؤلاء أنه من أنبيائهم وطالما حاولوا امتلاكه، يحجون إليه ويتوسلون العطايا في مواسم معينة ويكثر عددهم حوله، وكم سمعت الكثير يرددون القول بأن بلاد الجزيرة هي خير وطن لليهود؛ لأن إبراهيم الخليل عراقي، وجل اليهود عاشوا هناك طويلًا، ولا يزال عددهم اليوم هناك يفوق عددهم في فلسطين وبيدهم هناك معظم التجارة، وبخاصة الأغذية والصباغة والمنسوجات، ويهود العراق من سلائل أسرى اليهود الذين أحضرهم بختنصر إلى بابل بعد تدميره للقدس، وكثير من زعمائهم يدفن هناك، من بينهم عزرا ويونس وناهوم، وغالب الظن أن الطوفان بدأ في النهرين، وأن جنة عدن حول القرنة عند ملتقى النهرين على مقربة من البصرة. وفي ألواح بابل الطينية قصص كثير من الشركات المالية اليهودية التي بلغت الأوج عهد بختنصر، وكان منهم الجباة ويخال البعض أن الملكة «أستر» هي الإلهة «أشتار» البابلية، وهم الذين ابتدعوا النقود في العراق نقلًا عن «ليديا»، ورغم وجودهم وسط العرب أحب الشعوب للنقود بعد اليهود فإن فنونهم المالية فاقت فنون العرب؛ لأن العربي يحب جمع المال ويعمل له، لكنه يضيِّعه عاجلًا، أما اليهودي فيحرص عليه طيلة حياته، وهم في العراق شرقيون في كل شيء في الأزياء والعادات والخرافات، وحتى في الزواج، لا يخالط الفتى خطيبته ولا يراها إلا يوم الاتفاق على المهر، والفتيات يتزوجن مبكرات بين الثانية عشرة والسابعة عشرة وفي الزفاف يحضر «الربى» ومعه كأس يملؤها نبيذًا يباركه ثم يشرب منها الزوج نصفًا والزوجة الباقي، وفي المآتم يحتشد أقارب الفقيد في بيته ويصيحون عاليًا والجميع يشقون ثيابهم حزنًا ويلقون بالثرى على رءوسهم.
أخيرًا بدت الكوفة في قرية صغيرة وقفت بمسجدها الجامع حيث وقف الحجاج الثقفي يتوعَّد أهل العراق في خطبته المشهورة «يا أهل العراق … إلخ»، وكان طاغية مستبدًا مقره واسط التي تقع بين دجلة والفرات وسط الجزيرة وفي منتصف المسافة بين بغداد والبصرة، وهناك كان قصره وقد قتل نحو ١٢٠ ألف نفس، وكان في السجون عند وفاته نحو خمسين ألفًا، ولم يكن للناس حديثٌ عهدَه إلا من قُتل اليوم ومن قُطع أمس، ومن شدة ظلمه في جمع الخراج كان يتنحى الناس عن ولاية الخراج؛ لأنهم لا يمكنهم أن يجمعوا منه نصفه رأفة بالناس، ويظهر أنه كان يجد لذة في سفك الدماء، أرسله عبد الملك بن مروان ليثبِّت لبني أمية الملك في العراق، فقام على الظلم حتى انقرضت دولتهم في المشرق، وكان زياد بن أبيه في البصرة.
والمسجد محفوظ على شكله القديم يبدو كأنه القلعة بتكآته الأسطوانية الخارجية ومنارته الوطيئة، فناؤه فسيح تشرف عليه قبتان إحداهما لضريح مسلم بن عقيل، والثانية لهانئ بن عروة، وفي وسطه فتحة تحتها سرداب يعتقد القوم أن الطوفان نبع من تحتها، وإلى جانبها عمود من رخام يستخدم مزولة كانوا يعرفون به مواقيت الصلاة، وفي الركن الأيمن للصلاة مقصورة مغلقة في مكانها قتل سيدنا علي رضي الله عنه، وفي خارج المسجد من ورائه كانت تقوم قصور الإمارة والخلافة الأموية ولم يبقَ منها شيء اليوم «والحمد لله كما يقول الشيعة هناك»، فالكوفة في نظر الشيعة بلدة ملعونة، وهي أكثر بلاد العراق بل والعالم نحسًا ونكدًا، يرمى أهلها بالغدر والجبن وضعف النفس، ففيها قُتل علي وأهلها هم الذين أغروا الحسين أن يخرج في عائلته وفي وسط الصحراء تخلَّوا عنه في جبن وخسة وقُتل أمام أعينهم، وهنا أيضًا غدروا بزيد حفيد علي، فهم الذين حضوه على مقاتلة الخليفة الأموي، ولما همَّ بذلك تخلَّوا عنه فقُتل مع الفئة القليلة التي ناصرته.
إلى النجف
معقل الشيعة: أقلنا إليها ترام من الكوفة يسير على قضبان تجره الجياد في ثلث ساعة، وأبصرنا على بعد في مجاورة الفرات: الحيرة حيث حارب ملكها النعمان بن المنذر جيوش كسرى، وحيث كانت قصة عنترة العبسي بن الأمير شداد العربي والأم الزنجية، وقد نال إعجاب عبلة من الأميرات بنات عمومته، وذلك بفضل ما أوتي من شجاعة فائقة.
وكانت بلدة الحيرة أسبق من الكوفة شأنًا، بنى فيها المناذرة بعد تنصرهم القصور والكنائس، ولما فتحها خالد تحول عزها إلى الكوفة، والمناذرة عمال فارس على العراق كما كان بنو غسان عمال الروم على العرب، وفيها بنى النعمان بن المنذر قصر «الخورنق والسدير».
بدت النجف وضاءة وسط البادية في رواء وبريق يراه المشاة من الحجاج محط آمالهم وموضع عقيدتهم وفخارهم — وكثير منهم يقوم من بغداد على الأقدام وكم أجهد منهم الإعياء والجوع فماتوا في الطريق — ويقول القوم: إن قباب الحرم تُرى من أربعين ميلًا إذا صفا اليوم وراق هواؤه لأنه يقوم على ربوة وسط صحراء ممهدة لا حزون فيها، وكيف لا يراها الأتقياء محط آمالهم وهي مقر أول خليفة للنبي ﷺ، وفي زعم بعضهم هي مقر من كان أحق بالرسالة من النبي نفسه! وللقوم قصة يروونها عن نشأة النجف، هي أنه لما قُتل علي في الكوفة حُملت جثته على جمل أُطلق في الصحراء فأخذ يسير على غير هدًى حتى وصل ربوة تطل على بحر النجف على مسيرة ساعة من الكوفة، فبرك الجمل وهنا دفن القوم الجثة الطاهرة وأخفوها خشية أن يعلمها أعداؤهم، ومضت السنون حتى جاء هارون الرشيد لصيد الغزال وتعقب فريسته وكاد يرديها لولا أن ارتقت تلك الربوة، وهناك وقف الغزال متحديًا في غير حراك ولا خوف، فنزل الرشيد وشحذ قوسه فخانته ذراعاه ولم يستطع الحركة ثلاث مرات متواليات، فذعر الرشيد وأبصر برجل كهل فسأله عن المكان فقال: إن أنا بحت بالسر نالني الضر يا أمير المؤمنين. فأقسم الخليفة أنه لن يصيبه بأذى، فقال الرجل: ها هنا مقر الإمام علي، عرفه الغزال مأمنًا ولا يجرؤ أحد أن يصيبه بسوء وهو فوق العظام الطاهرة. فنقب الرشيد الأرض حتى رأى عظام علي تحت لوحة من رخام فتركها، وأقسم ألا يبوح بسر تلك البقعة حتى أقام عليها المسجد، ثم أخذت مباني النجف تحوطه إلى أن بلغت شكلها الحالي.
اخترقت سوق النجف المسقف فأدى بي إلى باب المسجد الذي بهر أنظارنا بزخرفه وطلائه، هندسته فارسية ومآذنه وقبابه تكسى بالذهب الخالص في بريق خاطف، جزت الباب إلى الفناء السماوي المربع تطل عليه الحجرات المتجاورة، ثم دخلت باب الضريح وأنى لقلمي الكليل أن يصف إبداعه من نقوش وتطعيم بالذهب والفضة وزخرف بالبلور والزجاج والقيشاني فاق فيه جميع المساجد الأخرى، نظرت فإذا أصوات البكاء وولولة النادمين وتقبيل المتبركين واستلقاء المنتحبين على الأرض تثير الشجن وتهز القلب، أصوات تشعر بمأساة قتل الإمام مجسمة فلا يتمالك المرء نفسه من البكاء، وطائفة النقباء من الأشراف يقرءون أورادًا بعضها من الكتب والبعض من الذاكرة، ويقودون الزوار ويتكالبون على مصاحبتهم مقابل أجر يتقاضونه جبرًا.
وبعد أن أديت الزيارة خرجت أطوف حول الحرم، وإذا بالمقابر تمتد إلى الآفاق من قباب فاخرة إلى أضرحة بسيطة لإيواء آلاف الجثث التي كنت أراها تنقل على السيارات أو الأكتاف من الآفاق الإسلامية، وبخاصة العراق وفارس، ويقول العلماء هناك: إن المدافن عشرة آلاف لا تزيد ولا تنقص لأن سيدنا عليًّا يرسل ما زاد من الجثث بعيدًا، فلا يعرف أحد مقرها، والمقابر تُباع بأثمانٍ هي من الموارد الرئيسية للحرم، وتختلف قيمتها حسب قدسية الموقع، فهناك مدفن عام (في وادي السلام) ثمن الدفن به نحو أربعين قرشًا، وفي المدافن الخاصة نحو جنيهين، أما في الحرم وما يلاصقه من أراضٍ فلا تقل القيمة عن ستين جنيهًا، هذا فوق ما يستفيده أهل النجف من مستلزمات الدفن، وكم من جثث كانت تحملها السيارات وافدة من كل فج وبعد الغسل يطاف بها حول الحرم، وبعد الصلاة عليها تُدفَن وتظل كذلك حتى يتراءى لسيدنا علي أن يكشف عن مكنونها فتختفي، ويدفن في مكانها غيرها!
وفي النجف فئتان من الأهلين متباغضتان: حزب السجورت وهم الفقراء، وحزب الشمورت وهم الأغنياء، والكلمتان من أصل تركي، ولقد أثارهما الأتراك يوم أن كان حكمهم السني مبغَّضًا لدى الشيعة هناك، فلجئوا إلى سياسة الأحزاب والتفريق بينهم كما يفعل المحتلون اليوم لكن في مكر سيئ ودهاء كبير، ولكل فئة أشياع من العشائر في الخارج، وكثيرًا ما يقتتلون تحت إمرة مجتهديهم، وتعد النجف مصدر جميع الثورات والاضطرابات التي تحدث في العراق، ومنها ثورة سنة ١٩٢٠ الشهيرة ضد الإنجليز، ويلي المجتهدين في النفوذ طبقة «الكلدار» وبيدهم ثروة الحرم، وهي لا تقدر، وكلها من فيض إحسان الزائرين حتى قيل: إن الصندوق لما فُتح عقب زيارة نصر الدين شاه كان وزن الذهب والفضة سبعة أطنان، إلى ذلك مصباح نُحت في زمردة واحدة، وماثله «شمعدان» للشمع من ذهب ترصعها اليواقيت وبساط تزينه اللآلئ، وقد أمر أن تكسى القباب والمآذن من ظاهرها بالذهب الخالص؛ لذلك ليس بعجيب أن نرى البلدة كالحصن حولها سور عتيد وخندق عميق كأنها من بلدان القرون الوسطى، كذلك فإنك ترى نصف البلدة تحت الأرض في سراديب بعضها تحت بعض في طبقات قد تفوق الخمس، نزلت بعضها فبدت كالتيه لا يُعلم لها أول ولا آخر، وهم يختبئون فيها من وهج الصيف، ويدبرون فيها ثوراتهم ويكتمون أسرارهم، وقد رأيت حول البلدة مجموعة من تلال تراكمت من الثرى الذي استُخرج من تلك السراديب، ومن فوقها بدا «بحر النجف» في مشهدٍ جميل وسط وادٍ سحيق تزينه المزارع ويصله الماء عن شعبة من الفرات، ومن ورائه تمتد بادية العرب إلى الآفاق وهي موضع فزع للنجفيين إذ منها يتوقعون غارات الوهابيين من غلاة السنيين، وكنا نشاهد قُطُرًا من حمير تثقلها قرب الماء تسير صعدًا فوق تلك التلال لإمداد النجف بالماء من ذاك البحر، وقد خُيِّل إليَّ أن أهل النجف كلهم من العلماء يسيرون وحول طرابيشهم العمامة الخضراء، ويعيشون عالة على أموال الصدقات والحجاج، وفي البلدة من المدارس الدينية أكثر من ثلاثين تئوي فوق ستة آلاف طالب، زرت إحداها، وهي في داخلها تحكي المسجد، ويقرأ الطلبة على مشايخهم، ثم بعد ذلك يأوون إلى سراديبهم ولكل مكانه الخاص، نزلت درجًا بعيد العمق أدى بنا إلى سراديب ومفارق لطرق كلما سلكنا سبيلنا في إحداها مررنا بغرفٍ بها مناور ضيقة ويجلس فيها طالب أو اثنان وسط ظلمة موحشة وسكون رهيب ينكبان على التحصيل والدرس، وهذه السراديب من أخص مميزات النجف توجد في المساجد والمدارس والبيوت يختزنون فيها متاعهم كي لا تفسده الحرارة، وقد دعاني أحد كرامهم إلى بيته ونزلنا بعض سراديبه، وكان هجير اليوم لافحًا فشعرت ببرودة ورطوبة نقلتنا إلى المنطقة الباردة تمامًا في دقيقتين، وهناك قدم إليِّ بعض البطيخ ويسمونه «الرجى»، والبطيخ عندهم يطلق على الشمام فكان مثلجًا منعشًا شهيًّا.
الشيعة
لما مات النبي ﷺ في غير خلف من الذكور قام أبو بكر وأوقف المرتدين وحمل لواء الإسلام إلى الجزيرة، ولما عاد عمر بن الخطاب واصل دعاية الإسلام بفضل قائديه خالد ومعاوية، فحنق عليه قوم واعتقدوا أن الخلافة يجب أن تكون في سلالة الرسول، لكن كظموا غيظهم حتى مات عمر، ثم جاء عثمان وقُتل عاجلًا، وقام علي زوج فاطمة بنت النبي ﷺ وأب أحفاد رسول الله، وكان الخوارج هم الذين حرضوا على قتل عثمان وأيَّدوا عليًّا، لكنهم خرجوا عليه هو أيضًا لما رضي بمهادنة خصومه (ومن ثَم سُموا الخوارج)، ودبروا مؤامرة لقتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص في وقت واحد، فقُتل علي بيد عبد الرحمن بن ملجم وهو ينادي للصلاة، إذ جرحه جرحًا بليغًا في رأسه مات بعده بيومين، وقد مثَّل الناس بابن ملجم فعذَّبوه وقطعوا أطرافه. بايع الناس الحسن بن علي، وكان معاوية قد بويع في الشام، فزحف لقتال الحسن وتأهب الحسن للقتال في العراق، لكن ثار عليه جنوده وانفضوا من حوله، فهادن معاوية وتنازل له عن الخلافة وفرَّ وقُتل، ثم بايع الجميع معاوية إلا الخوارج والشيعة (شيعة آل البيت أو آل علي)، وقد اجتمعوا حول الحسين بن علي في مكة، فقتله جنود معاوية في كربلاء هو وأفراد أسرته وأتباعه جميعًا، إلا ابن واحد للحسين أمكنه الهرب، ولقد جعل معاوية الخلافة وراثية في أولاده، وعيَّن ابنه يزيد خلفًا له، لكن ظل الخوارج يناوئون بني أمية ومن بعدهم العباسيين، وفي رأيهم أن الإمامة والخلافة لا يُشتَرط أن تكون في قريش، ويجب توافر الكفاية والعدل، فإن حاد الخليفة عن الصواب وجب عزله، فهم أبغض الفئات الإسلامية للحكم الوراثي، ويعدون نصراء الحكم الديمقراطي، كذلك قام الشيعة يناهضون بني أمية، لكن لما قويت الدولة الأموية واتسع نفوذها اختفى الشيعة وظلوا يعملون سرًّا حتى بدأ اضمحلال دولة بني أمية، فظهروا ثانية، وعاونوا العباسيين في خراسان تحت أبي مسلم الخراساني، على أن العباسيين لما تملكوا أخذوا يطاردون الشيعة.
وأخذت طوائف الشيعة تتشعب وعاونها الفرس سرًّا على ذلك؛ لأن فارس رأت فيهم خير هادم للإسلام ولملك بني العباس، أولئكم الذين قضوا على استقلال فارس وحاولوا القضاء على قوميتها. ومن فرق الشيعة من يقول بأن الصحابة كلهم كفروا بعد موت النبي إذ جحدوا إمامة علي، وأن عليًّا نفسه كفر لتنازله لأبي بكر، لكنه عاد له إيمانه لما تولى الإمامة، وهذه فرقة «الإمامية»، ومن الشيعة قسم أوجب النبوة بعد النبي، فقالوا بأن الشبه بين محمد وعلي كان قريبًا لدرجة أن جبريل أخطأ، وتلك فئة «الغالية أو الغلاة»، ومنهم من قال بأن جبريل تعمد ذلك، فهو إذن ملعون كافر.
ومن الشيعة طائفة «الاثني عشرية» الذين يقدسون الأئمة الاثني عشر، وهم: علي فالحسن فالحسين فابنه زين العابدين فابنه محمد الباقر فابنه جعفر الصادق فابنه موسى الكاظم فابنه علي الرضا فابنه أبو جعفر محمد فابنه علي فابنه محمد الحسن العسكري فابنه محمد المهدي الذي اختفى في مغارة سامرا، وسيخرج آخر الزمان ليهدي الناس ويطهر العالم من الرجس والجور، ومنهم الإسماعيلية والباطنية الذين مر الكلام عليهم في الشام، ثم القرامطة الذين تقوَّوا حول الخليج الفارسي ويعرف عنهم الإباحة في النساء، وقد أحلوا أنفسهم من كل عبادة، واستحلوا النهب والرذائل وتركوا الصلاة والصوم، وكانوا ممن يعملون على هدم الإسلام، وفي مصر قام الحاكم بأمر الله بعد المعز ينشر مذهب الشيعة ويدرسها في «دار الحكمة»، وكان أساسها أن الشرائع خاضعة للعقل والعلم، وأن الأنبياء هم رجال عاديون وغاية ما في الأمر أنهم فلاسفة، وقد ألهه الدروز وقالوا بأنه رُفع إلى السماء وسيعود لتطهير الأرض، كما أسلفنا، ويرى جميع الشيعة أن الإمامة ليست مصلحة عامة تناط باختيار الناس، بل هي ركن من أركان الدين.
زواج المتعة
ولقد استرعى نظري في النجف كثير من الأطفال الذين يلبسون في آذانهم حلقات خاصة، هي علامة أنهم من ذرية زواج المتعة المنتشر بين الشيعة جميعًا، وبخاصة في بلاد فارس، ففي موسم الحج إذا ما حل زائر فندقًا لاقاه وسيط يعرض عليه أمر المتعة مقابل أجر معين، فإن قبل أحضر له الرجل جمعًا من الفتيات لينتقي منهن، وعندئذٍ يقصد معها إلى عالم لقراءة صيغة عقد الزواج وتحديد مدته، وهي تختلف بين ساعات وشهور وسنوات، وللفتاة أن تتزوج مرات في الليلة الواحدة، والعادة أن يدفع الزوج نحو خمسة عشر قرشًا للساعة، وخمسة وسبعين قرشًا لليوم، ونحو أربعة جنيهات للشهر، ولا عيب على الجميع في ذاك العمل؛ لأنه مشروع، ولا يلحق الذرية أي عارٍ مطلقًا، وعند انتهاء مدة الزواج يفترق الزوجان، ولا تنتظر المرأة أن تعتد، بل تتزوج بعد ذلك بيوم واحد، فإن ظهر حمل فللوالد أن يدَّعي الطفل له ويأخذه من أمه إذا بلغ السابعة. ويرى أهل السنة في ذاك الزواج وزرًا كبيرًا، إذ حرَّمه النبي ﷺ، وكان مباحًا في الجاهلية وفي الحروب في الإسلام، ويخال البعض أن منشأ تلك العادة بابل يوم أن كان الفتيات يستأجرن للحجَّاج في معابد «أشتر ومردوك»، ولا تزال لها بقية في «عاهرات الآلهة» بين الهندوس، وقد أشرنا إليها آنفًا «في جولة في ربوع آسيا».
ويكاد يسود الشيعة في جنوب العراق بين بغداد والبصرة، وإن كان أغلب الملاك والوجهاء والموظفين والبدو من السنيين، أما الفلاحون المستقرون الذين تجري في عروقهم بقية من دماء زرَّاع بابل القديمة فكلهم من الشيعة البسطاء الذين يبتغون فتاوى المجتهدين، وهم الذين أوتوا حق تفسير القرآن وفق ما قرره الأئمة، ولعل تعصبهم الشديد راجع إلى خضوعهم طوال السنين الغابرة لسلطان الأجنبي من غير دينهم، فهم أبدًا ضد كل حكومة، ويرون كل السلطان والنفوذ في طائفة مجتهديهم ليس غير، وجل أولئك المجتهدين يرجعون إلى أصل فارسي ويطمحون إلى ضم العراق لحظيرة فارس يومًا ما، وحينذاك تتولاهم حكومة شيعية، وقد بلغ بهم شكهم في الغير أنهم يُحتِّمون غسل كل شيء دخل بيتهم ثلاث مرات خشية أن يكون قد لمسه غير شيعي، وهم يغيِّرون ملابسهم قبل الصلاة، وقد حدث أني لما قمت من خراسان عائدًا إلى العراق كان يرافقني شيخان شيعيان من العراق، وكان معي بعض الحلوى والفطير قدَّمها إليَّ صديق مسيحي، فدعوتهما أن يأكلا منه شيئًا فابتعدا لأنه من يد كافر!
إلى كربلاء
قمت من النجف مبكرًا إلى كربلاء فوصلناها بالسيارة في ثلاث ساعات، فكانت تحكي النجف تمامًا في أزقتها الملتوية، تطل عليها شرفات متقاربة متقابلة تكاد تظل الطريق، وهي ثانية معاقل الشيعة، فإن قلنا: إن النجف هي الرأس المفكر للشيعة، فكربلاء قلب الشيعة النابض، فهي أكثر قدسية لديهم من النجف. هنا يبكي القوم نساءً ورجالًا وأطفالًا موت الحسين الذي تثير ذكرى فاجعته لديهم حماسة فائقة أشبه بحماسة أهل بابل وبكائهم على موت «تموز». هنا زرت مدفن الحسين تحت قبة من ذهب يسمونها «الحضرة الكبيرة»، يؤمُّها خلق كثير، وبخاصة في محرم شهر الحج، وهناك مسجد آخر يُدفَن فيه العباس، وكان أخ الحسين من أبيه، وكان يعرف القوم عن الحسين رقته وتسامحه، وعن العباس دقته وقسوته في الحق؛ لذلك قد يحنث الواحد هناك في يمين الحسين، لكنه لا يحنث قط إن أقسم بالعباس، وقد أبصرنا بصورة لرأس رجل في سقف مسجد العباس قالوا لنا: إنه حنث في يمينه بالعباس، فطار رأسه إلى هناك ويعتقدون أن من يأتي ذلك يطير رأسه هكذا!
عدت إلى بغداد وزرت المتحف العام وهو على صغره يحوي مجموعة قيمة من مخلَّفات بابل وأشور، وبخاصة من العهد السومري منذ سنة ٣٠٠٠ق.م. وفيه من صياغة المعادن والحلي من ذهب ونحاس وحديد شيء كثير، ومجموعة من أحجار كريمة حُفرت حفرًا دقيقًا جديرًا بكل إعجاب، وقد استرعى نظري خاصة غطاء للرأس من نحاس يحكي التمثال بشعره الجعد، وآخر لسيدة تلبس الحلي الفاخر من ذهب، وثالث بقيثارة من رأس عجل من ذهب مصمت وعند الرأس والذنب تقوم شعبتان منعرجتان تُشد عليهما الأوتار، ويطعم كله بالخشب والعظم والصدف، والمتحف منسق خير تنسيق.
إلى البصرة
مدينة السندباد: أرجأت زيارتي لها إلى آخر الرحلة بعد عودتي من بلاد فارس خشية حرها اللافح، فدخلتها وافدًا من الخليج الفارسي، فأخذت باخرتنا تشق عباب مياه شط العرب الذي كانت تنأى ضفافه لعظيم اتساعه، وكانت غابات النخيل تسد الآفاق سدًّا، تتخلل تلك الغابات مسايل للمياه لا تدخل تحت حصر وهي بعض شعاب شط العرب اللانهائية، وقد أقيمت عند مصابها مراسٍ صغيرة أقيمت حولها مساطح البلح يجهز في صناديق خشبية للتصدير، وغالب البلح من نوع أصفر اللون مكوَّر الشكل نواه صغير للغاية وطعمه لذيذ سائغ شهي، وهو أخضر فإن زاد نضجه أضحى رطبًا غزير العسل بحيث يفوق بلح الواحات عندنا، ولا عجب فالبصرة من أغنى بلاد الدنيا بالتمر الذي يُصدَّر منه بما لا يقل عن مليون جنيه في كل عام، ويجري القول على لسانهم: إن النخلة يجب أن تغمر جذورها في الماء ورأسها في النار والهجير، وتلك الظروف متوفرة في البصرة بنقائعها الممدودة وحر صيفها المحرق، ومن البلح يتخذون بعض الكحول والخمر، ظلت الباخرة تسير طويلًا وأرصفة الميناء ممدودة على الجانبين وبخاصة الجانب الغربي، وكانت حركة البواخر إنجليزية وغير إنجليزية صاخبة أشعرتني بأهمية ذاك الثغر الذي خلته من قبل أقل شأنًا والأرصفة كلها زُوِّدت بأحدث وسائل النقل من روافع تجانبها سكة الحديد، وتتجه عناية الإنجليز إلى هذا الثغر اليوم، وسيتخذون منه قاعدة تجارية وحربية هو وثغر حيفا الذي رأيت العمل قائمًا فيه وبهمة نادرة؛ وذلك تثبيتًا لمركزهم وتأمينًا لطرقهم إلى مستعمراتهم في الشرق.
حللت الثغر ونقلت المتاع إلى الجمرك، وهناك وقف رجاله يتيهون على الناس عُجْبًا بما أُوتوا من سلطة، فلم يبدءوا التفتيش إلا دفعة واحدة، فضاع من وقتنا ساعات رغم تكرير الرجاء لهم أن يعجلوا بذلك، ثم أقلتني سيارة إلى البصرة، فإذا هي بعيدة عن الميناء بنحو عشرة كيلومترات، وتلك المسافة تخطها أيدي المهندسين اليوم في طرق مرصوفة ومبانٍ حديثة، ويظهر أنها ستكون غدًا حي طبقة الأجانب والإنجليز والأغنياء. دخلنا البلدة وإذا بها أزقة ضيقة قذرة لا نظام فيها، ولبثت أعاين النزل تلو الآخر فلم يرقني بها شيء قط لشدة إهمالها وفساد هوائها، وبعدها انتقلت إلى حي «أشار» الحديث وحللنا نزل «بيكادلي»، وهو أفخم أنزالها رغم أنه بسيط البنيان والأثاث لا يعادل أصغر نزل عندنا ولم يقبل أجر الليلة الواحدة أقل من ثلاثين قرشًا للنوم، وهو يقوم على ميدان جديد لا تزال تشق الطرق منه إلى جهات متفرقة مهملة. والبصرة أشبه ببلاد المراكز الصغيرة في مصر ليس بها ما يروق الزائر سوى غابات النخيل الكثيفة التي تحوطها وشعاب شط العرب التي تلاقيك أنى سرت بلياتها المدهشة، على أن غالبها قذر مهمل، وإن قامت البيوت مطلة على الماء في هندسة عتيقة، ولكل بيت زورقه «ويسمونه البلم»، وحتى جانب الشط الرئيسي لا تقوم عليه سوى الأكواخ الحقيرة رغم اتساعه العظيم ومنظره الطبيعي البهيج، وبخاصة إذا ركبت متنه في «بلم»، وهو زورقهم النحيل الأنيق في أطراف معقوفة تطلى باللون الأبيض، وهو أجمل مظاهر البصرة مطيتهم الرئيسية يشقون به أرجاء البلدة؛ لأن المجاري المائية تكاد تجانب الطرق جميعًا، أما المقاهي «البلدية» على نظام نظيراتها في بغداد، فهي تغص أبدًا بكسالى القوم ليلًا ونهارًا وجلهم من لابسي العقال، وفي كل مقهى «حاكي» يردد الأنغام المصرية والعراقية.
قمت بسكة الحديد إلى حي الزبير الذي مات فيه ذاك الصحابي الكريم، وهو مكان البصرة القديمة، ويقع إلى غرب بصرة الحالية، أنشئ يوم بعث عمر بن الخطاب عتبة بن غزوان سنة ١٥ﻫ وأمره أن ينزل مكانًا قريبًا من الماء والمرعى والمحتطب، فتخير هذا وشاد فيه البلدة والمسجد الجامع الذي قوَّاه فيما بعد أبو موسى الأشعري، ثم جاء علي وأقام مسجده، وكان أكبر مساجد الإسلام طرًّا بمآذنه السبع، وكان فيه مصحف شريف عليه قطرات من دم ظُنَّ أنه المصحف الذي كان يقرأ فيه عثمان حين قُتل، على أني لم أجد للمسجد من بقية تدل حتى على مكانه. وقد اختط العرب البصرة نكاية في الفرس لتحويل التجارة من سواحلهم إليها، وكان عددها إذ ذاك نصف مليون نفس؛ بدليل أن أبا جعفر لما فرق نصف مليون درهم على أهلها لم يصب الفرد منهم سوى درهمين، ولقد لاحظت على أهلها ضعف البنية وشحوب اللون لرداءة جوِّهم كثير النقائع والعفونات شديد التقلب في الهواء، حتى كان العرب يسمون البصرة «بالرعناء»، وفي طريقي إلى الزبير مررت ببقايا برج متهدم يسمونه «برج سندباد»، وأشار القوم إلى مكان قالوا: إنه كان منزل واصل بن عطاء الذي اعتزل مجلس الحسن البصري؛ ولذلك سُمِّي أشياعه بالمعتزلة، خصوصًا وأنهم اعتزلوا جانبًا فلم يكونوا مع علي ولا مع خصومه. وفي البصرة كانت واقعة الجمل سنة ٣٦ﻫ، وفيها اجتمع إخوان الصفا أصحاب الرسائل المشهورة، ومنها بشار بن برد وسيبويه والحريري والأصمعي والجاحظ وكثير من أهل الفضل والأدب.
إلى القرنة جنة عدن
طالما حنت نفسي أن أرى جنة عدن (التي وعد الله المتقين)، فقمت إليها في زورق سار بنا صعدًا في شط العرب ومناقعه اللانهائية حتى رسا بنا عند ملتقى النهرين دجلة والفرات عند بلدة اسمها القرنة، وإذا بها قرية هي أبعد من البصرة حقارة وأمعن قذارة، ويظهر أنها كانت فيما مضى مجموعة من جنات خصبها وافر وزرعها عميم وقطوفها دانية تجري من تحتها شعاب النهرين، أما اليوم فلم أرَ سوى نقائع إلى مد البصر يؤمُّها البعوض، وأهلها مائيون بالمعنى الصادق، تقوم قراهم وسط المياه في بيوت من غاب ويسمونها «بيوت القصب»، ويتصلون بالزوارق، والناس عوامون مرحون لا يكادون يلبسون شيئًا حتى في الشتاء، وقلما ترى بينهم مريضًا بالعين أو الساق، على أني سمعت عنهم انحلالًا كبيرًا؛ وتلك نتيجة لازمة لشدة تجاورهم وقلة وسائل الترف والسرور لديهم، غالب أرضهم اليوم تُزرَع أرزًا، وهي ملك الحكومة تؤجرها مساحات كبيرة لا تقل عن خمس سنين، وغذاؤهم الأرز والسمك وبعض أوراق الغاب، وكلهم كلف بالوشم حتى على الخصر وفي داخل الجسد، وأظرف ما في مساكنهم أنها سهلة النقل، فقلما يستقر البيت في مكان واحد ويتخيرون من أعشاب الماء الطافية دواءً لأمراضهم هم وماشيتهم، وقد لاقيت رجلًا من الصابئة الذين يقطنون حول دجلة إلى شمال القرنة حول عمارة، ولما كانت الحرب الكبرى وتَهدَّد إقليمهم هذا نزحوا إلى بغداد، وقد ساعدتهم الحكومة على ذلك، وانتحوا ناحية من السور القديم يقومون فيه بأشغال النحاس الدقيقة، وقد زرت بعض متاجرهم عند عودتي إلى بغداد.
والصابئة
ولا يبقى من هذا المذهب إلا بقية آخذة في النقص، وعددهم بضعة آلاف، غالبهم يقطن حول عمارة على دجلة شمال القرنة، وكذلك في بلدة الناصرية، وسوق الشيوخ على الفرات وعملهم الرئيسي بناء الزوارق الصغيرة ويظهر أن لهم صلة بالكلدانيين وبالشعوب التي تقدمتهم يؤيد ذلك أنهم يعتقدون في التنجيم ويشتركون معهم في كثير من العقائد والأسماء، لكن دينهم يشجع طهارة القلب والإيمان الوثيق في الآخرة.
قمت عائدًا إلى البصرة، ومنها أقلني قطار بغداد مسافة ٥٥٠ كيلومترًا قطعناها في يوم كامل، فلبثنا نسير وسط سهول رملية لم يتخللها شجر ولا عشب، ولبثنا الليل كله وسط تلك الرمال التي كان هباؤها يتطاير فيدرك كل شيء، وفي الصباح كنا في «أور» الكلدانية التي وُلد فيها سيدنا إبراهيم، وعندها شعبة للسكة تؤدي شرقًا إلى الناصرية، ومن هنا بدأت المزارع تتزايد في بقع متناثرة وكانت القرى نادرة صغيرة في بيوت من الطين، وكلما تقدمنا زاد خصب الأرض وكثر عدد القرى، وفي نحو نصف الطريق وقفنا ببلدة السماوة، وتمتد إلى غربها بادية السماوة المشهورة، وعندها عبرنا الفرات إلى الديوانية فالحلة، وعند الغروب دخلنا بغداد.
قمت باكورة الصباح (الاثنين ٢٥ سبتمبر) عائدًا إلى الشام مودِّعًا بلاد العراق، تلك التي كانت مهد الإنسان الأول، والتي فاخرت بمدنياتها القديمة وبأنها مقر جنة عدن ومدفن كثير من الأئمة الأطهار وموطن هارون الرشيد والسندباد البحري، على أن تلك الظروف الطبيعية الجميلة التي جعلت الجزيرة مهد الإنسان الأول هي التي كانت عوامل هدمها، إذ أطمعت فيها مَن حولها، فغزاها جنود أشور وميديا والإغريق والفرس والروم ثم الساسانيون من الفرس وهم بناة إيوان كسرى، ثم المسلمون، وأخيرًا الإنجليز. قمت وذكريات ذلك الماضي خالدة مجيدة يراها الزائر ماثلة في خياله فحسب، ويزيدها إمعانًا في الخيال ما رأيته من اعتقاد القوم إلى اليوم في السحر والسحرة، مما أذكرني بسحر بابل وهاروت وماروت، ولا يزال كثير من الناس يسمي العراق ببلاد السحر؛ لأن خرافاتهم لا حد لها رغم أن الإسلام محا منها الكثير، من ذلك: اعتقادهم في الحسد وأثر العين الخبيثة فبعض الناس حساد بفطرتهم تؤثر عيونهم في الغير أثرًا سيئًا، ولو كان ذلك خارجًا عن إرادة أولئك الحساد، والويل لمن عرف عنه ذلك، وكم من مرة طلق الزوج زوجته لاعتقاده أنها حاسدة، وهم يتقون العين بلبس اللون الأزرق وتعليق الخرز الأزرق في بيوتهم وزوارقهم وسياراتهم — ويظهر أن تلك العادة أثرت حتى على بعض بلاد أوروبا — لذلك كنت أرى لون القيشاني بالمساجد جميعًا في لون أزرق، وحتى السيدات يحكن في طرف إزارهن بقعة زرقاء. كذلك كنت أرى كثيرًا من أبواب البيوت قد دق عليها حذاء قديم وأنت تسمع دائمًا عبارة «ما شاء الله» يقولها الناس جميعًا. ويتركون عيون الأطفال قذرة وأرديتهم مهلهلة مخافة العين، وقد تطوف الأم على سبع فتيات عذارى في بيوتهن، وتعطي كل واحدة قطعة من رصاص تضعها في فمها وتبصقها بين ثوبها وجسدها حتى تسقط على الأرض، ثم تأخذها الأم وتصهرها في روث البقر، ويوضع ذلك على رأس الطفل، وكثيرًا ما كنت أرى الطفل يرسل شعره ويلبس لباس الفتيات خشية أن يحسده الناس؛ لأن الفتيان مفضَّلون على الفتيات.
وكثيرًا ما يلجأ الزوج إلى «فتاح الفال»، فيكتب له ورقة يضعها على رأسه ثم يقرأ تعاويذ ويأمره أن يذيبها في الماء ويشرب بعضه ويحاول أن تشرب زوجته الباقي، ثم يعطيه بخورًا يحرقه عند الغروب، وبعد ذلك تحبه زوجته، ورأيت رجلًا يغسل يده من دجلة، ثم رمى فيه بيضة وعقَّب وراءها بحجر، وذلك لكي يُحبَّب فيه من يريد. ولشفاء السعال الديكي الذي يسمونه هناك «حميرة أو خنزيرة» يذهب الرجل إلى بائع أحذية ويفاجئه قائلًا: «يا كلب سوي لي كلب خاطر الكلب ابن الكلب»، فيسلخ له قطعة جلد يحملها الطفل المصاب فيشفى! وبعضهم يسقي الطفل ماء ولغ فيه كلب أو خنزير.
ويجب أن تحبو المرأة العقيم تحت جمل واقف لينفك عقمها، والمسيحية تركع تحت نعش في الكنيسة، وكل النساء من مختلف الديانات يعلقن خِرَقًا حول مدفع قديم يسمونه «أبا خزامة» رأيته عند القلعة القديمة في بغداد، وقد رأيت سيدة تضع رأس طفلها في فوهة المدفع ليعيش طويلًا. وروى لي البعض أن سيدة من الأغنياء مرض طفلها فلبست خرقًا مقطعة وخرجت بها وهي عارية الأقدام تستجدي من سبعة بيوت بقولها «من بركتكم»، وابتاعت بما تجمَّع لديها قطعة ذهب وكتبت عليها «يعيش»، ثم لبسها طفلها. وقد تستجدي من سبعة أطفال باسم محمد، ثم يصهر ما جمع ويعلق في رقبة الغلام ليعيش طويلًا.
وإذا خشيت فتاة ألا تتزوج أدت فريضة الحج إلى الكاظم أربعين يومًا، تخرج كل يوم مبكرة عارية القدم ولا تكلم أحدًا، وإذا وصلت الضريح قرعت بابه ونبَّهت الإمام أنها حضرت إليه، وبذلك تضمن زوجًا سريعًا، كذلك يهتم فتيات العراق بأخذ نصيب من الحلوى التي توزع في الأفراح ويأكلن منه؛ لأن ذلك يعجل بزواجهن. والشيعة يعدون الأيام الأولى من محرم شؤمًا لأن الحسين قُتل فيها، وكذلك أيام صفر لأن النبي مات فيه، ويوم السبت والخميس أسعد الأيام، وإذا القمر خسف في رمضان وجب إزعاج الحوت الذي يقترب من القمر في زعمهم، وقد يبتلعه لذلك يعمدون إلى الطبول والصفائح يقرعونها إرهابًا له. وفي تقليم الأظافر يجب البدء بالخنصر ثم الوسطى ثم الإبهام ثم البنصر وأخيرًا السبابة هذا في اليد اليمنى، أما في اليسرى فيُبدَأ بالإبهام فالوسطى فالخنصر فالبنصر فالسبابة، وكثيرًا ما يلجئون إلى سيد من سلالة الرسول — حتى اليهود والمسيحيين — لطرد الجن من الأطفال وأكل قلوب الصبية الصغار شفاء لبعض الأمراض؛ لذلك يحاول الكثير اختطاف الصبية وقتلهم لهذا الغرض، ويعتقدون أن الجن قد يحب فتاة آدمية قد يناديها فتقوم وراءه ليلًا إلى سراديب الدار، ثم تعود، والجن في زعمهم لا يتعرض لمن يحمل طفلة صغيرة بأذًى قط؛ لذلك لا تجرؤ امرأة أن تمر في مكان مظلم موحش إلا وهي تحمل طفلة، والبيوت لا تُسكَن إلا إذا شاع عنها الخير، وقد يبقى البيت الجديد طويلًا دون أن يستأجره أحد خشية أن يكون مجلبة للنحس، وكثيرًا ما يسمون الأطفال «مش عاوز» أو «وحش» أو «حصبة» خوفًا عليهم. وإذا سقط إناء ولم ينكسر وجب كسره وإلا كان شؤمًا، وإذا طارت بومة فوق النائم صاح قائلًا: «ملح وسكين»، وإلا حل النكد لا محالة، ومن أمثال تلك الخرافات شيء لا يحصى، ويُخيَّل إليَّ أن كثيرًا من خرافاتنا وصلت إلينا عن طريق الجزيرة وبابل، وما فيها من تخمين وأوهام وسحر.