الشحاذ

١

سحائب ناصعة البياض تسبح في محيط أزرق، تظلل خضرة تغطي سطح الأرض في استواء وامتداد، وأبقار ترعى تعكس أعينُها طمأنينة راسخة، ولا علامة تدل على وطن من الأوطان، وفي أسفل طفل يمتطي جوادًا خشبيًّا، ويتطلع إلى الأفق عارضًا جانب وجهه الأيسر، وفي عينيه شبه بسمة غامضة. لمن اللوحة الكبيرة يا تُرَى؟ ولم يكن بحجرة الانتظار أحد سواه. وعما قريب يأزف ميعاد الطبيب الذي ارتبط به منذ عشرة أيام. وفوق المنضدة في وسط الحجرة جرائد ومجلات مبعثرة، وتدلت من الحافة صورة المرأة المتهمة بسرقة الأطفال. رجع يتسلَّى بلوحة المرعى؛ الطفل، والأبقار، والأفق، رغم أنها صورة زينة رخيصة القيمة، ولا وزن إلا لإطارها المذهب المزخرف بتهاويل بارزة. وأحب الطفلُ اللاعبَ المستطلع، والأبقارَ المطمئنة، ولكن ازدادت شكواه من ثِقَل جفونه، وتكاسُل دقات قلبه. وها هو الطفل ينظر إلى الأفق، وها هو الأفق ينطبق على الأرض. دائمًا ينطبق على الأرض من أي موقف ترصده، فيا له من سجن لا نهائي! وما شأن هذا الجواد الخشبي؟ ولِمَ تمتلئ الأبقار بالطمأنينة؟ ولَفَتَ سمعه في الخارج حركة أقدام ثابتة، ثم ظهر التمرجي عند الباب قائلًا: تفضل.

تُرَى، هل يتذكره رغم مرور ربع قرن من الزمان؟ ها هي حجرة استقبال الطبيب الخطير، وها هو يقف وسط حجرته باسمًا، بقامته المتوسطة النحيلة، والوجه الغامق السُّمْرة، والعينين البرَّاقتين، والشَّعر القصير المفلفل. لم يكَدْ يتغير عما كان في حوش المدرسة. وما زالت زاويةُ فمه تنحرف في سخرية مذكِّرةً بمرَحه المطبوع الذي كان يُضاهي تفوقه الحاسم.

– أهلًا عمر، تغيرت حقًّا، ولكن إلى أحسَن.

– حسبتُك لن تذكرني!

(وتصافحا بحرارة.)

– ولكنك عملاق بكل معنى الكلمة. كنت طويلًا جدًّا، وبالامتلاء صرت عملاقًا.

وكان يرفع رأسه إليه وهو يحادثه، فابتسم عمر في سرور وردد: حسبتك لن تذكرني!

– أنا لا أنسى أحدًا، فكيف أنساك أنت؟!

تحية كريمة من طبيب خطير. وكثيرون يسمعون عن الطبيب الناجح، ولكن هل يعرف المحامي الفذ إلا أصحاب القضايا؟

وضحك الطبيب وهو يتفحصه، وقال: لكنك سمنت جدًّا، كأنك مدير شركة من العهد الخالي، ولا ينقصك إلا السيجار.

ضحكت أسارير الوجه الأسمر المستطيل الممتلئ، وفي شيء من الارتباك ثبَّت نظَّارَته فوق عينيه، وهو يرفع حاجبَيْه الكثيفين.

– إني سعيد بلقياك يا دكتور.

– وأنا كذلك، وإن تكن مناسبة رؤيتي ليست بالسارَّة عادة.

وتقهقر إلى مكتبه المختفي تحت أطلال من الكتب، والأوراق، والأدوات المكتبية النفيسة، ثم جلس وهو يشير إليه بالجلوس: فلنؤجل حديث الذكريات، حتى نطمئن عليك.

وفتح دفترًا، وأمسك بالقلم: الاسم: عمر الحمزاوي، محامٍ، والسن؟

وضحك الطبيب عاليًا، وهو يقول مستدركًا: لا تخَفْ، الحال من بعضه.

– ٤٥ عامًا.

– على أيام المدرسة كان الشهر يُعْتَبَر فارقًا في العمر له خطورته، أما الآن؛ فيا قلبي لا تحزن. هل من أمراض خاصة في الأسرة؟

– كلا، إلا إذا اعتبرت الضغط بعد الستين مرضًا خاصًّا.

وشبك الطبيب ذراعيه، وقال بجدية: هاتِ ما عندك.

مسح عمر على شعره الغزير الأسود الذي لا تُرى شعيراتُ سوالفه البيضاء إلا بحدِّ البصر، وقال: لا أعتقد أني مريض بالمعنى المألوف.

فازداد اهتمام الطبيب، وهو يُنعم فيه النظر باستمرار: أعني أني لا أشكو عرضًا من الأعراض المرضية المألوفة.

– نعم.

– ولكني أشعر بخمود غريب.

– أهذا كل ما هنالك؟

– أظن هذا.

– لعله من الإجهاد المستمر.

– ربما، ولكني غير مقتنع تمامًا.

– طبعًا؛ وإلا ما شرفتني.

– الحق أنه نتيجة لذلك الخمود؛ ماتت رغبتي في العمل بحالٍ لا تُصَدَّق.

– استمر.

– ليس تعبًا بالمعنى المألوف، يخيل إليَّ أني ما زلت قادرًا على العمل، ولكني لا أرغب فيه، لم تعُدْ لي رغبة فيه على الإطلاق، تركتُه للمحاسب المساعد في مكتبي، وكل القضايا تُؤجَّل عندي منذ شهر.

– ألم تفكر في القيام بإجازة؟

فواصل حديثه، وكأنه لم يسمعه: وكثيرًا ما أضيق بالدنيا، بالناس، بالأسرة نفسها؛ فاقتنعت بأن الحال أخطر من أن أسكت عنها.

– إذن فالمسألة ليست …

– المسألة خطيرة مائة في المائة، لا أريد أن أفكر، أو أن أشعر، أو أن أتحرك. كل شيء يتمزق ويموت، فخطر لي على سبيل الأمل أنني سأجد لذلك سببًا عضويًّا.

قال الطبيب باسمًا: ما أجمل أن تُحَلَّ مشاكلنا الخطيرة بحَبَّة بعد الأكل، أو مِلعقة قبل النوم!

مضَى به إلى حجرة الكشف، وأُخِذَتْ عينة من البول، ثم خلع عمر ملابسه، ورقد على السرير الطبي. وتتابعت الأوامر؛ فأبرز لسانه، وفتح بشَدِّ الجَفْنين عينَيْه، ونقَّرَتِ الأصابع الرشيقة على مواضع في الصدر والظهر، وضغطَتْ بشدة على أماكن في البطن، واستعمَلَتِ السماعة ومقياس الضغط. وتنفس بعمق، وسعل، وهتف: «آه!» من الحلق مرة، ومن الأعماق مرة أخرى. وجعل يختلس النظرات إلى وجهه، ولكنه لم يقرَأْ شيئًا. وفرغ الرجل من كشفه فسبَقه إلى مكتبه، وما لبث أن لحق به. واطَّلع الطبيب على نتيجة التحليل، ثم فرك يديه، وابتسم ابتسامة عريضة، وقال: عزيزي المحامي الكبير، لا شيء ألبتة.

تحرك جناحا أنفه الطويل الحاد، وازداد وجهه توردًا: ألبتة؟

– ألبتة!

ولكنه سرعان ما قال بحذر: أخشى أن يكون الأمر أخطر مما تتصور!

فقال الدكتور ضاحكًا: ليست قضية أهولها لمضاعفة الأجر.

فضحك عمر، وهو يرمقه بأمل. فأكد الآخر قائلًا: حسن، إذن فاعلم أنه لا شيء.

فتساءل عمر في قلق: هل يُقْضَى عليَّ بأن أُسْجَن في عيادات الطب النفسي؟

– لا نفسي، ولا دياولو.

– حقًّا؟

– أجل، إنه مرض برجوازي إن جاز لي أن أستعير اصطلاحًا حديثًا مما يُستعمل في جرائدنا، ليس بك من مرض.

ثم بتمهل: ولكني أرى في الأعماق مقدمات لأكثر من مرض، والحق أنك جئت في الوقت المناسب، متى ألح عليك الخمود؟

– منذ شهرين، وربما أكثر قليلًا، ولكن الشهر الأخير كان محزنًا حقًّا.

– دعني أصف لك حياتك كما أستنبطها من الكشف، أنت رجل ناجح ثري، نسيت المشي أو كدت، تأكل فاخر الطعام، وتشرب الخمور الجيدة، وترهق نفسك بالعمل لحد الإرهاق، ودماغك دائمًا مشغول بقضايا الناس وأملاكك، وأخذ القلق يساورك على مستقبل عملك، ومصير أموالك.

ضحك عمر بفتور، وقال: صورة صادقة في جملتها، ولكني لم أعد أهتم بشيء.

– حسن، لا شيء بك، ولكن العدو رابض على الحدود.

– كإسرائيل؟

– وعند الإهمال سيدهمنا الخطر الحقيقي.

– دخلنا في الجد!

– اعتدِل في الطعام … قلل من الشراب … التزم برياضة منتظمة كالمشي … فلن تلقى ما تخشاه.

وانتظر وهو يفكر، ولكن الدكتور لم يحرك ساكنًا، فسأله: ألن تكتب لي دواء؟

– كلا، لستَ قرويًّا لأقنعك بأهميتي بدواء لا يضر ولا يفيد، الدواء الحقيقي بيدك أنت وحدك.

– وهل أعود كما كنت؟

– وأحسن، أنا رغم إرهاقي بالعمل ما بين الكلية، والمستشفى، والعيادة، أمشي كل يوم نصف ساعة على الأقل، وأتَّبع نظامًا مناسبًا في الغذاء.

– لم أشعر يومًا أني تقدمت في السن.

– الكِبَر مرض، ولن تشعر به ما دمت تدفعه بحسن السلوك، هنالك شبان فوق الستين، المهم أن نفهم حياتنا.

– أن نفهم حياتنا؟!

– أنا لا أتفلسف طبعًا.

– ولكنك تداويني بنوع من الفلسفة، ألم يخطر لك يومًا أن تتساءل عن معنى حياتك؟

فضحك الدكتور عاليًا، ثم قال: لا وقتَ عندي لذلك، وما دمت أؤدي خدمة كل ساعة لإنسان هو في حاجة ماسَّة إليها، فما يكون معنى السؤال؟

ثم بجدية ودود: قم في إجازة.

– إجازتي متقطعة عادة، كأنها ويك إند يستمر طيلة شهور الصيف.

– لا، خذ إجازة طويلة بالمعنى، ومارس نظام معيشتك الجديدة، وسوف تبدأ بعد ذلك متجددًا.

– هذا ممكن.

– توكل على الله، ليس بك إلا نذير من الطبيعة، فاستمع إليه، وعليك أن تنقص وزنك عشرين كيلو، ولكن على مهل، ودون عنف.

ضرب على ركبتيه، وانحنى انحناءة خفيفة تؤذن بالتأهب للقيام، ولكن الدكتور بادره: مهلًا، أنت آخر زوار اليوم؛ فلنجلس قليلًا معًا.

اعتدل في جلسته باسمًا: دكتور حامد صبري، إني أعرف ما تريد، تريد طيَّ ربع قرن من الزمان، وأن تضحك من أعماق قلبك مرة أخرى.

– ما أجمل أيام زمان!

– الحقيقة، يا دكتور، ما أجمل كل زمان باستثناء «الآن»!

– صدقت، التذكر شيء، والمعاناة شيء آخر.

– ثم يتبدد كل شيء بلا معنى.

– لكننا نحب الحياة. هذا هو المعنى.

– شدَّ ما كرِهْتُها في الأيام الأخيرة.

– وها أنت تبحث عن الحب المفقود! خبِّرني، أما زلت تذكر أيام السياسة، والإضراب، والمدينة الفاضلة؟

– طبعًا، وقد ولت جميعًا، ولم يبقَ إلا سوء السمعة.

– ومع ذلك؛ فقد تحقق حلم كبير، أعني الدولة الاشتراكية.

– نعم.

الدكتور وهو يبتسم: وكنت تظهر لنا بأكثر من وجه، الاشتراكي المتطرف، المحامي الكبير. ولكن وجهًا منك رسخ في ذاكرتك أقوى من أي سواه، هو عمر الشاعر.

ابتسم ابتسامة عصبية ليداري امتعاضًا مباغتًا، وتمتم: يا لسوء الحظ!

– هجرت الشعر؟

– طبعًا.

– ولكنك طبعت ديوانًا فيما أذكر.

فخفض عينيه؛ حتى لا يقرأ فيهما توتره وضيقه، وقال: عبث طفولة لا أكثر ولا أقل.

– بعض زملائي من الأطباء الشعراء يضحون بالطب في سبيل الشِّعر.

ذكرى غبراء كالطقس المنحوس، فمتى يسكت عنها؟

وواصل الدكتور: وأذكر من أقراننا القدامى مصطفى المنياوي، ماذا كنا نطلق عليه؟

– الأصلع الصغير! ما زلنا أصدقاء لا نكاد نفترق، وهو اليوم صحفي نَابِه، ومؤلف إذاعي تلفزيوني.

– زوجتي مغرمة به جدًّا، وقد كان متحمسًا مثلك، ولكن رأس الحماس كان عثمان خليل بلا جدال.

تجهم وجه عمر. لطمته الذكرى بقبضة من حديد، ثم غمغم: إنه في السجن.

– نعم، عُمْر طويل في السجن، أظنه كان زميلك في كلية الحقوق؟

– تخرجنا في عام واحد، أنا ومصطفى وعثمان. الحق أني لا أحب الماضي.

فقال بنبرة ختامية: فلتحب المستقبل.

ثم وهو ينظر في ساعته: من الآن فصاعدًا أنت أنت الطبيب.

في حجرة الانتظار رفع عينيه مرة أخيرة إلى الصورة. لم يزَل الطفل ممتطيًا جواده الخشبي متطلعًا إلى الأفق. وهذه البسمة الغامضة في عينيه أهي للأفق؟ وما زال الأفق منطبقًا على الأرض، فماذا يرى الشعاع الذي يجري ملايين السنين الضوئية؟ وثمة أسئلةٌ بلا جواب، فأين طبيبها؟

وفي الخارج أمام العمارة بميدان سليمان باشا، ركب الكاديلاك السوداء، فتحركت به كباخرة عروس النيل.

٢

الوجوه تتطلع إليك مستفسرة، حتى قَبْل أن تردَّ تحيتك. حنان رقيق مخلص، ولكن ما أفظع الضجر! الحموضة التي تُفسد العواطف الباقية. ولاحت من ورائهم الشرفة الكبيرة المطلة على النيل من الدور الرابع. وتَبَدَّى عنق زوجك من طاقة فستانها الأبيض غليظًا متينَ الأساس، واكتظت وجنتاها بالدهن، وقفت كتمثال ضخم مليء بالثقة والمبادئ، وضاقت عيناها الخضراوان تحت ضغط اللحم المطوق لهما. أما ابتسامتها؛ فما زالت تحتفظ ببراءة رائقة، ومحبة صافية.

– قلبي يُحدثني بأن كل شيء طيب.

إلى جانبها وقف مصطفى المنياوي في بدلته الشركسكين، رافعًا نحوك وجهه البيضاوي الشاحب، وعينيه الذابلتين، وصلعته التاريخية، وقد بدا ضئيلًا في نحافته إلى جانب الزوجة المحكمة البناء.

– حَدِّثْنا عن زميل المدرسة، ماذا قال؟ وهل عرفَك؟

واعتمدت بثينة بكوعها على كتف تمثال برُنزي لامرأة باسطة الذراعين في هيئة مرحبة، وتطلعت إلى أبيها في تشوُّف بعينيها الخضراوين، وهي تكرر صورة أمها عندما كانت في الرابعة عشرة، بقامتها الرشيقة، ولكن يبدو أنها لن تتعملق مع الأيام، ولن تسمح للدهن بأن يغطي على صفائها. تساءلت بنظرة كما تتفاهم معك كثيرًا دون كلام، أما جميلة — أختها الصغيرة — فعكفت على دبَّتها بين مقعدين كبيرين، ولم تهتم بالقادم.

وجلسوا جميعًا، ثم قال بهدوء: لا شيء.

هتفت زينب بنبرة جامدة: الحمد لله، طالما قلت إنك بحاجة إلى الراحة.

فأحنقه انتصارها بلا سبب، وخاطب مصطفى، مشيرًا إلى زوجته، قائلًا: هي المسئولة أولًا وأخيرًا.

ولما فرغ من تلخيص رأي الدكتور، عاد يؤكد رأيه: هي، هي المسئولة.

فقال مصطفى بحبور: يا له من علاج هو باللعب أشبَهُ!

ثم مستدركًا في أسف: لكن الطعام والشراب! … اللعنة على الزمن.

لِمَ تلعن وأنت لم تُصَبْ بسوء؟ ماذا يفعل المقبل على رحلة غامضة؟ الحائر بين الحب والضجر، الذي لم يحدِّث نفسه بعد بطريقة شافية! وقال لمصطفى: الدكتور حامد سأل عن الأصلع الصغير.

ثم بعد أن سكتت عاصفة الضحك: وهنيئًا لك إعجاب زوجته!

ابتسم مصطفى في سرور صبياني لمعت به أسنانه الناصعة البياض: أصبحت بفضل الإذاعة والتلفزيون كالوباء، ولا بد أن أصيب ضعيفي المناعة.

وذُكِرَ الآخر في السجن، حتى حساسية الضمير يدركها الضجر، يوم احترقت بلهيب الخطر. لكنه لم يعترف، رغم الأهوال لم يعترف، وذاب في الظلمات كأن لم يكُنْ، وأنت تمرض في التَّرَف. وتنهض الزوجة رمزًا للمطبخ والبنك. فسل نفسك: ألا يضجر النيل تحتنا؟

– بابا، هل نستعد للسفر؟

– سنمرح كثيرًا، وسوف أُعلِّم أختك السباحة كما علمتك فيما مضى.

– حتى البراميل!

ها هي أمك تحاكي البرميل، والأفق يحاكي السجن، والحرية استكنَّت وراء الأفق، ولم يبقَ من أمل إلا الضمير المعذب. وقال مصطفى: زوجي تفضِّل رأس البر للأسف، ومثلي لن يظفر بإجازة شهر كامل إلا إذا أصيب بسرطان ممتاز.

وتساءلت جميلة رافعة رأسها عن الدبة: متى نسافر يا بابا؟

ولاح له مصطفى كنُصُب تذكاري للحب والزواج. كان المشير، والمعين، والشاهد، وكل يوم يؤكد صداقته له وللأسرة. ولم يدرِ شيئًا بعد عن المياه التي تجرف قاع النهر.

– وذَكَّرَني الدكتور بأيام الشِّعر.

فضحك مصطفى قائلًا: الظاهر أنه لم يسمع عن روائعي الدرامية الحالية؟

– وددت لو أحكي له قصتك مع الفن.

– تُرَى، هل يؤمن النطاسي الكبير بالفن؟

– زوجته مغرمة بك، ألا تقنع بذلك؟

– إذن فهي مغرمة باللب والفشار.

وكانت زينب تراقب السفرجي من خلال الديكور المقوس، وما لبثت أن قالت: هلموا إلى العشاء.

وأعلن عمر أنه سيكتفي بشريحة من صدر الدجاج، وفاكهة، وكأس واحدة من الويسكي. فتساءل مصطفى: والبطارخ على سبيل المثال، هل ألتهمها وحدي؟

وراح مصطفى يتحدث عن إفطار مستر تشرشل الذي نوهت به إحدى الصحف في أثناء زيارته لقبرص. وقد تردد قليلًا عند بدء الطعام، ثم ما لبث أن أكل وشرب بلا حساب. ولم تستطع زينب كذلك أن تقاوم الإغراء، وشربت زجاجة من البيرة، وواظبت بثينة على اعتدالها التي تعتده أمها نوعًا من الاعوجاج. وقال مصطفى: الطعام أجدر من الجنس بتفسير السلوك البشري.

فنسي عمر نفسه، وقال بمرَحٍ لأول مرة: يخيل إليَّ أنك مصاب بعقدة الدجاج.

وعقب العشاء لم يجتمع شملهم أكثر من نصف ساعة، نامت بعدها جميلة، ومضت الأم وبثينة إلى زيارة في نفس العمارة، فخلا عمر إلى مصطفى في الشرفة الكبيرة، حيث استقرت بينهما زجاجة ويسكي، ووعاء ثلج فوق منضدة زجاجية السطح. ولم تنِدَّ عن الأشجار حركة واحدة، وانتشرت حول المصابيح غلالة ترابية. وبدا النيل من ثغرات أعالي الشجر ساكنًا، هامدًا، شاحبًا، معدوم المرح والمعنى، وشرب مصطفى وحده، وتمتم باستياء: يدٌ واحدة لا تصفق.

فأشعل عمر سيجارة وهو يقول: ما أفظع الجو! لم أعد أحب شيئًا حبًّا خالصًا.

فقال مصطفى ضاحكًا: أذكر أنك كرهتني يومًا ما.

فقال دون توقف عند قوله: أخشى أن يتكرر موقفي تجاه العمل إلى ما لا نهاية.

– عليك بالرجيم والرياضة. ولن يهون عليك أن تخون بثينة، وتقع في اليأس.

– سوف أشرب كأسًا أخرى.

– لا بأس، ولكن كُنْ أكثر حزمًا في الإسكندرية.

– تقول إنني كرهتك يومًا ما، أنت كاذب كأكثر أهل صناعتك.

– كنت تضيق بي على عهد إيماني الشديد بالفن.

– كنت وقتذاك أُعاني نزعَه من نفسي.

– أجل، كنت تقاتل حبَّه الكامن فيك، وتهجره بقسوة، وكنت أنا في ذلك الوقت وجهًا من وجوهه جديرًا بإثارة الشجون.

– ولكني لم أكرَهْك، وجدتك فقط ضميرًا معذِّبًا.

– وقد احترمت أزمتك بعقل متسامح، وصممت على الاحتفاظ بك وبالفن معًا.

ثم وهو يضحك: ولعلي أرحتك كثيرًا عندما قررت نَبْذَ الفن بقوة مذهلة، وها أنا أبيع اللب والفشار عن طريق الصحف، والإذاعة، والتلفزيون، على حين تنهض أنت قمة من قمم المحاماة في ميدان الأزهار.

ذكريات معادة، كالقيظ والغبار، دورات محكمة الإغلاق. والطفل الباسم يتوهم أنه يمتطي جوادًا حقيقيًّا.

– ضجر، يضجر، اضْجَر، فهو ضَجِر، وهي ضَجِرة، والجمع ضَجِرون، وضَجِرات.

– الرجيم والرياضة!

– يا لك من مضحك!

– هي رسالتي في الحياة، التسلية، والجمع تسليات. قديمًا كان للفن معنًى حتى أزعجه العلم من الطريق؛ فأفقده كل معنى.

– أما أنا فقد نبذته دون تأثر بالعلم.

– إذن لماذا نبذته؟

ماكر كالقيظ، وهذا الليل لا شخصية له، وضجيج الطريق ولا طرب. الماكر يسأل وهو يعلم.

– دعني أسألك أنت عن السبب؟

– قلت وقتذاك إنك تريد أن تعيش، وأن تنجح.

– إذن لماذا طرحت السؤال؟

ها هي نظرة اعتراف تُقْلِق في عينيه الذابلتين من رمد قديم.

– أنت نفسك لم تنبذه بسبب العلم وحده!

– زدني علمًا.

– عجزت عن أن تحتفظ له بمكانة محترمة على مستوى العلم.

فضحك مصطفى بصفاء مغسول بالويسكي، وقال: لا تخلو حركة هروبية من فشل، ولكن صدقني أن العلم لم يُبقِ شيئًا للفن، ستجد في العلم لذة الشِّعر، ونشوة الدين، وطموح الفلسفة. صدقني أنه لم يبقَ للفن إلا التسلية، وسينتهي يومًا بأن يصير حِلية نسائية مما يُستعمل في شهر العسل.

– ما أجمل أن أسمع ذلك، انتقامًا من الفن لا حبًّا في العلم.

– اقرأ أي كتاب في الفلك، أو في الطبيعة، أو في أي علم من العلوم، وتذكَّر ما تشاء من المسرحيات، أو دواوين الشِّعر، ثم اختبِرْ بدقةٍ إحساسَ الخجل الذي سيجتاحك.

– ما أشبه هذا الشعور بما ينتابني عندما أفكر في القضايا والقانون.

– هذا الشعور المخجل لا يعانيه إلا الفنان المنبوذ من الزمن.

فتثاءب عمر، ثم قال: اللعنة، إني أشم في الجو شيئًا خطيرًا، ويرعبني إحساس حركي داخلي بأن بناء قائمًا سيتهدم.

ملأ مصطفى كأسًا جديدة، وقال: لن نترك بناء كي يتهدم.

فمال نحوه مقطبًا، وسأله: ماذا تظن بي؟

– الإجهاد، والتكرار، والزمن.

– وهل في الرجيم والرياضة الكفاية؟

– كل الكفاية، اعتَقِدْ ذلك من كل قلبك.

٣

من الآن فصاعدًا أنت الطبيب؛ فأنت حر، والفعل الصادر عن الحرية نوع من الخلق. حتى ولو يكن مقاومة مستمرة لشهوات البطن. ولنقل: إن الإنسان لم يُخْلَق ليكتظ بالأطعمة، وبتَحرُّر المعدة تتحرر الروح كذلك وتُحَلِّق. لذلك ترقُّ السحب، وترنِّمُ عواصف أغسطس الصاخبة. ولكن ما أشد الزحام، والرطوبة، ورائحة العرق! وأجهدك المشي، وناءت به قدماك، كأنما تتعلمه لأول مرة. والأعين ترمق العملاق وهو يوسع الخُطى حتى ينال منه التعب؛ فيجلس على أول أريكة تصادفه على طريق الكورنيش. وعيناك ترمقان الناس بعد عمَى ربع قرن. هكذا شهد الشاطئ مولد آدم وحواء، ولكن لا يدري أحد من سيخرج من الجنة. وقديمًا قطع الشاب الطويل النحيل ابن الموظف الصغير القاهرة طولًا وعرضًا على قدميه دون تذمر. وسلسلة طويلة من آبائه وأجداده تهرَّأت أقدامهم من معاندة الأرض، ثم تساقطوا من الإعياء، وقريبًا سيخرج الماضي من السجن؛ فيتضاعف عذاب الوجود.

– عثمان، لماذا تنظر إليَّ هكذا؟

– ألا تريد أن تلعب الكرة؟

– أنا لا أحب الرياضة.

– لا شيء غير الشِّعر؟!

وأين المهرب من نظرتك الثاقبة؟ وما الجدوى من مجادلتك؟ وأنت تعلم أن الشعر هو حياتي، وأن تزاوج شطرين يُنجِبُ نغمة ترقص لها أجنحة السماوات.

– أليس كذلك يا مصطفى؟

وهتف المراهق الأصلع: هذا الوجود من حولنا ليس إلا تكوينًا فنيًّا.

ويومًا هتف عثمان في حال من التجلي: عثرت على الحل السحري لجميع المشاكل.

واندفعنا برعشة حماسية إلى أعماق المدينة الفاضلة، واختلت أوزان الشِّعر بتفجيرات مزلزلة. واتفقنا على ألا قيمة ألبتة لأرواحنا، واقترحنا جاذبية جديدة غير جاذبية نيوتن، يدور حولها الأحياء والأموات في توازن خيالي لا أن يتطاير البعض، ويتهاوى الآخرون. وعندما اعترضتنا دورةٌ فلكية معاكسة انتقلنا من خلال الحزن والفشل إلى المقاعد الوثيرة، وارتقى العملاق بسرعة فائقة من الفورد إلى الباكار حتى استقر أخيرًا في الكاديلاك، ثم أوشك أن يغرق في مستنقع من المواد الدهنية.

وها هي الشماسي تترامى ملتصقةَ الشراريب، فتكوِّن قُبَّة هائلة دانية مختلطة الألوان، تستلقي تحتها الأبدان شبه العارية. وتنتشر في الجو رائحة آدمية عميقة الأثر في الحواس مذابة في رائحة البحر المتحدية تحت شمس تخلَّت عن بطشها. ووقفت بثينة بقدِّها الممشوق، مبللة الجسد، محمرة الذراعين والساقين، مدسوسة الشَّعر في غطاء أزرق من النايلون، مُفْترَّة الثغر لفرحة الشاطئ. وأنت شبه عارٍ، مغطى الصدر بدغل من الشَّعر الكثيف الأسود، وقد استكنَّت بين ساقيك جميلة وهي تبني هرمًا من الرمال. واضطجعت زينب على مقعد جلدي طويل، وراحت تطرِّز أفواف وردة على رقعة كانفاه، متباهية بتضخم صحي، فلم تعدم نظراتٍ مراهقة بلهاء تحوم حول صدرها الناهض.

عزيزي مصطفى، قرأت تعليقاتك الفنية الأسبوعية. بديعة، ولاذعة، وموحية. تقول إنك بائع لب وفشار؟ مهلًا، لكنك من أصل كريم، وصاحب قلم تمرَّس طويلًا بالنقد الجدي والمسرحي، فحتى تسلياتك لها نكهة خاصة. أشكرك على سؤالك عنا، ولكن خطابك جاء موجزًا لدرجة مزعجة، ولعلك اعتبرته تكملة شكلية لمقالاتك، ولكني في مسيس الحاجة إلى ثرثرة لا نهائية. زينب عال، وهي تقرئك السلام، وتذكرك بالدواء الذي رجَتْك أن تحصل عليه من الخارج بواسطة أي من زملائك الرُّحَّل. متاعب مصرانها هيِّنة في رأيي، ولكنها مغرمة بالدواء كما تعلم. بثينة سعيدة، وكم أود أن أتسلل إلى عَقْلها، ولكنَّ أسعدَنا بغير جدال هِي جميلة التي لا تفهم شيئًا بعدُ. ولو أنك رأيتني لدهشت للتقدم الذي أحرزته؛ فقد نقصت ثمانية كيلو، ومشيت آلاف الكيلومترات، وضحيت بأطنان من اللحوم، والبطارخ، والزبد، والبيض. وعرفت الاشتياق إلى الطعام بعد شبع طويل لدرجة الموت. ولأنك بعيد؛ فإنني لا أجد من أحادثه كما أحب، ولذلك كثيرًا ما أُحدِّث نفسي. كلام زينب أعقل مما يجب. لماذا يثيرني الكلام العاقل في هذه الأيام؟ الشخص الوحيد الذي أعجبني حديثه رجل مجنون، يرفع يده بالتحية على طريقة الزعماء طُوال الطريق، ويُلقي خطبًا عجيبة. وقد التقيت به فيما وراء شاطئ جليم بكيلو على الأقل، فبادرني: ألم أقل لك؟

فأجبته باهتمام: فعلًا.

– ولكن ما الفائدة؟ … ستمتلئ المدينة غدًا بسَمَك موسى، ولن تجد موضعًا لقدم.

– على البلدية أن …

لكنه قاطعني بحدة: لن تفعل البلدية شيئًا، سوف ترحب به تشجيعًا للسياحة، وسوف يتكاثر بصورة مذهلة حتى يضطر السكان الأصليون للهجرة؛ فيمتلئ الطريق الزراعي بطوابير المهاجرين. ورغم ذلك كله سيواصل ثمن السمك صعوده.

وتمنيت أن أتسلل إلى رأسه أيضًا. لغته لا تقل غرابة عن لغة العلماء الأفذاذ أصحاب المعادلات، وما أضيعنا نحن العقلاء بين الاثنين! نحن الذين نعيش في السماجة المجسمة، لا نعرف لذة الجنون، ولا أعاجيب المعادلات. رغم ذلك فأنا رب أسرة سعيدة. تعالَ وشاهدني وأنا أناجي بثينة على حين تهاجمنا جميلة بالرمال. وبيتنا في جليم مريح جدًّا، وحنيني إلى الويسكي يشتد بصورة ملحوظة. وأمس ونحن في الكابينة مساء ترامى إلينا صوت جارنا، وهو يتحدث قائلًا: العمارات ستؤمم.

اصْفَرَّ وجه زينب، وحدجتني بنظرة استغاثة، فقلت لها: لدينا من المال الشيء الكثير.

فتساءلت: وهل تنجو الأموال؟

– لقد تحصنَّا ضد القدر بتأمينات شتى.

فراحت تتساءل في قلق: ومن أدرانا أ…

فقاطعتُها: بالله خبريني، كيف سمِنتِ إِذَنْ لهذا الحد؟

فهتفت بي: كنت في شبابك مثلهم لا تتكلم إلا عن الاشتراكية، وهي ما زالت في دمك.

ثم كررت عليَّ أن أذكرك بالدواء. مصطفى، أنا لا يهمني شيء، لا يهمني شيء صدِّقْني. لا أدري ماذا حصل لي، لن يهمني شيء، المهم عندي أن نلتقي لنستأنف هذرنا، ومناقشاتنا الجميلة التي لا معنى لها. وقد رمت لي الصدفة بحديثٍ غرامي في الظلام دون أن يَفطن لوجودي أصحاب الشأن، قال الرجل: عزيزتي نحن منحدرون إلى خطر مؤكد.

فقالت المرأة: هذا يعني أنك لا تحبني.

– لكنك تعلمين تمامًا أنني أحبك.

– إذا تكلمت بعقل؛ فهذا يعني أنك لم تعُد تحبني.

– ألا ترين أنني مسئول، وأنني جاوزت الشباب؟

– قل إنك لم تعد تحبُّني.

– سوف نهلك معًا، ونخرب بيتنا.

– ألا تكف عن المواعظ؟

– لك زوجك وبناتك، ولي زوجتي وأبنائي.

– ألم أقل إنك لم تعد تحبني؟!

– ولكنني أحبك.

– إذن، فلا تذكرني بغير الحب.

وابتعدت وأنا أتخيل الدراما الممتعة الفاضحة، وأضحك لجرأة المرأة وتهافت الرجل. ولكنهما ذكَّراني بصديق قديم اسمه الحب. يا إلهي ما أطول العمر الذي مضَى دون حب! وماذا بقي لنا منه عدا ذكريات محنَّطة؟ كم أتمنى أن أتسلل إلى قلب عاشق! وأنا كما تعلم لم أحب في حياتي سوى زينب، ولكن كان ذلك منذ عشرين عامًا. وما أذكره من ذلك التاريخ حركات ومواقف، لا مشاعر وانفعالات. وأذكر أنني قلت لك يومًا: عيناها تصعقانني. وأذكر أنك لم تتخلَّ عني أبدًا، وأن حالتي كانت جنونية، ولكن ذكرى الجنون غير الجنون نفسه. كنت محموم الفكر، بركانيَّ القلب، ساهر الليل. ورفعني العذاب إلى الشِّعر، وسحَّت من عيني دموع، وتوثقت أسبابي بالسماء. ولكن كل أولئك ذكريات محنطة، وها أنا اليوم أكافح للتملص من المواد الدهنية، ولا أرى في زينب العزيزة إلا تمثالًا لوحدة الأسرة، والبناء، والعمل. وثِقْ من أنه لا يهمني شيء؛ فليأخذوا العمارات الثلاث، والأموال السائلة. ولن أزعم أنني أستهين بذلك بتأثير من المبادئ التي أوشكت يومًا أن تقذف بنا جميعًا إلى السجن مع عثمان، فأيام الجهاد نفسها لم تعُد إلا ذكريات محنطة، ولكنني لا أدري ماذا حلَّ بي؟ أو ماذا غيرني؟ فأبشر يا عزيزي بأنني أتقدم نحو شفاء جسماني واضح، ولكني أقترب في الوقت نفسه من جنون طريف، والعقبى لك.

– لا تنسَ أن تكتب له عن الدواء.

– فعلتُ يا عزيزتي.

ما ألطفك يا بثينة! براعم صدرك تشهد للدنيا بحسن الذوق. ولعلي من جيل محافظ نوعًا، فماذا أعدَّت أمك؟ من المحزن أنك لم تعرفي من الدنيا شيئًا، وأنني صنتك كالكنار؛ فلم تتجاوزي سيارة المدرسة. وهذه النظرة الحالمة ماذا وراءها؟ ألم تضنِّي عليَّ بحلم رغم الصراحة التي تبارك أحاديثنا؟! وكيف تؤثر فيك رائحة الأبدان العارية والغزل المتطاير بين الأمواج؟ يا إلهي، ادفع المجتمع إلى مجاراة أفكارها وفِعالها حتى لا تتعرض لسوء. وقال لها، وهي تمد ساقيها العاريتين تحت مقعده المغروس في الرمل: لم نهنَأْ ببعضنا هكذا من قبل.

– الحق عليك.

– لم أبقَ في المكتب طيلة العمر إلا من أجلكم.

فانطرحت على كوعيها معرضة بطنها وصدرها للشمس المتألقة في سماء صافية، على حين تهادت فوق منحنى الخليج سحابة بيضاء وحيدة. وقالت الأم، دون أن ترفع رأسها عن الكانفاه: قولي له إن صحته اليوم أهم من أي شيء.

– حتى من تأميم العمارات؟

فأجابت متحدية مقطبة: حتى من تأميم العمارات.

فقال بنبرة تقريرية مستسلمة: ما أجمل أن نتكيَّف مع مجتمعنا!

ولم تنبس بكلمة. ومرت أمام المجلس حسناء معجبة بنفسها؛ فخطف منها نظرة أشاعت في حواسه بهجة ياسمينية.

– عندما أعود إلى حالتي الطبيعية، سأحاول أن أفهم الحياة فهمًا جديدًا يقرنها بالسعادة الحقيقية.

– لنسأل الله أن يحفظنا من كل سوء.

– الله يحب أن نسأله الخير للناس جميعًا.

واسترَقَ إليها نظرة ماكرة، ثم قال ضاحكًا: ولكن كيف يستجيب الله للدعاء في هذه الحال؟

وأدركت ما يعنيه، ولكنها لم تعلق بكلمة واحدة، وتناسى الموضوع كله، واستسلم لأفكاره. خفَّ الوزن، ودبَّ النشاط، ولكن ما أفظع القلق! الذباب، والعمل، والزوجة. ويومًا ستجد بثينة ما يشغلها عنك، ومثلها جميلة التي تشيِّد الأهرام من الرمال. خبرني بالله، ماذا تريد؟ ولماذا يخيم الصمت رغم الضجيج؟ ولمَ يتنبأ شيء في صدرك بمخاوفَ هوائية؟ وفي كل لحظة تشعر بأن صلة تتمزق محدثة صوتًا مزعجًا، وأن قائمًا يتزعزع، وأن أسنانك توشك أن تتساقط. وسوف تفقد الوزن في النهاية، وتسبح في الفضاء. اشدُد قبضتك على الأشياء، وانظر إليها طويلًا؛ فعمَّا قليل ستختفي ألوانها، ولن يكترث لك أحد. وها هي الأمواج تطيح بأهرام جميلة المشيدة من الرمال، والهواء يُطيِّر الصحف التي لا حقيقة ثابتة فيها إلا صفحة الوفيات. ويقول لك الرجل: «هذه هي قضيتي أعهد بها إلى سيد المحامين.» يا للسخرية! … لم يبقَ لنا، يا حضرات المستشارين، إلا أن نعمل معًا في السيرك القومي.

– لماذا تسرح يا عزيزي؟

– لا شيء.

– هل أنت بخير تمامًا؟

– أظن ذلك.

– ولكن خبرتي الطويلة بك تقول إنك في حاجة إلى عناية.

– يجب أن نحترم الخبرة.

– هل أحدثك عن رأي الطباخة؟

– وهل للطباخة رأي؟

– قالت إن الرجال السعداء الناجحين عُرضة للعين.

– وهل تصدقين ذلك؟

– كلا طبعًا، ولكن الحيرة تحملنا أحيانًا على تجربة أي شيء.

– إذن، فما عليك إلا تتفقي مع شيخة زار!

– ألا ترى أن السخرية لم تكن من شيمتك؟

فقال باسمًا: قليل من السخرية يفيد ولا يضر.

– لن أُثقِل عليك يا عزيزي.

وهم عائدون تأخرت به قليلًا عن البنتين، وقالت: إليك خبرًا سارًّا.

تطلع إليها في يأس خفي: اكتشفت في بثينة شيئًا لم يكن في الحسبان!

– غير ما اكتشفت في العام الماضي؟

– بلى، إنها يا عمر شاعرة!

رفع حاجبيه الكثيفين في دهش: نعم … لاحظت انهماكها في الكتابة، وأنها تمزق ما تكتب، ثم تعيد كتابته، وأخيرًا اعترفت لي بأنها تكتب شِعرًا، فضحكتُ وقلت لها: …

وترددَتْ، فسألها: ماذا قلتِ لها؟

– قلتُ لها إنكَ بدأت كذلك شاعرًا.

فتساءل مقطبًا: ألم تخبريها كيف انتهيت؟

– لكن أن تكون بنت في سنها شاعرة شيء جميل.

– فعلًا.

– يجب أن تقرأ شِعرها، وأن تزودها بنصائحك.

– لو لنصائحي قيمة؛ لأجْدَت معي!

– ولكنك سعيد بالخبر؟

– جدًّا.

٤

ولكن الاضطراب غطَّى على السعادة المؤقتة. وهذا إحساس عاصف كأنه نوع من الذعر. وثمة جيشان يرعى الصدر لم يقربه منذ عشرين عامًا. وناداها إلى الشرفة المطلة على البحر، فجاءت في بلوزة مزركشة، وبنطلون بني يضيق تدريجيًّا حتى يلتصق بالساقين فوق الرسغين. أجلسها قبالته وهو يقول: رأيت أن أدعوك لتشهدي معي الغروب.

همت بالاعتذار فيما بدا له، وكان يعلم أن ذاك وقت خروجها مع أمها وأختها لنزهة الأصيل على الكورنيش، ولكنه قال: ستلحقين بهما سريعًا، ألا يحب الشعراء الغروب؟

ولاحظ تورُّدَ وجنتيها بشغف، وهو يبتسم: لكن … لكني لست بشاعرة.

– ولكنك تكتبين شِعرًا!

– ومن أدراني أنه شِعر؟

– سوف أحكم بعد الاطلاع.

– كلا.

نطقت بها في إشفاق وحياء، فقال: لا سرَّ بيننا، وأنا فخور بك.

– ما هو إلا كلام ركيك.

– سأحب شِعرك حتى ركيكه.

أسبلت جفنيها في استسلام حتى تلاقت رموشها الطويلة المقوسة إلى أعلى، وإذا به يسألها في اهتمام من الأعماق: خبريني يا بثينة، كيف اتجهت نحو الشِّعر؟

– لا أدري.

– أنت متفوقة في العلوم، ولكن كيف اتجهت نحو الشِّعر؟

وهي تتذكر مقطبة: المختارات المدرسية … أحببتها جدًّا يا بابا.

– ولكن ما أكثر مَن يحبونها!

– كانت تسحرني بدرجة أقوى فيما أعتقد.

– ألم تقرئي غير ذلك من الشِّعر؟

– بلى، قرأته في دواوين.

– دواوين؟!

فضحكت قائلة: استعرتها من مكتبتك.

– حقًّا؟!

– وعرفت أنك شاعر أيضًا.

وخزه ألم، فدفعه بتظاهر بالمزيد من المرح، وقال: لا … لا … لست شاعرًا … كانت لعبة من لعب الطفولة.

– مؤكد أنك كنت شاعرًا. على أي حال وجدتني مدفوعة إلى الشعر دفعًا.

أنت تتحدث عن المسرح ولكني شاعر، وأنا مُلقى في دوامة لا نجاة منها إلا بالشعر، فهو غاية وجودي، وإلا بالله خبرني ماذا نصنع بالحب الذي يكتنفنا كالهواء، والأسرار التي تلفحنا كالنار، والكون الذي يرهقنا بلا رحمة؟ فلا تكُنْ مكابرًا يا صديقي.

– زيديني شرحًا.

قالت، وهي تسترد شجاعتها المألوفة: كأنني أبحث عن أنغام في الهواء!

– قول جميل يا بثينة، وهو كذلك ما دام لا يفسد علينا الحياة.

– ماذا تقصد يا بابا؟

– أعني دراستك، ومستقبلك، ولكن آن لي أن أطلع على شِعرك.

أتته بكراسة مغلفة بورق مفضض. وباحترام، وحب، وإشفاق، ولهفة راح يقرأ. وتخلل قراءته عام ١٩٣٥ مداعبًا ومعترضًا. عهد الحرمان، والأمل، والأسرار، والاضطراب المطوق للعباد، وأحلام المدينة الفاضلة. ثم صوت عثمان، وهو يرتعش هاتفًا: عثرتُ على الحل السحري لجميع المشاكل.

ولكن البنت عاشقة، وربي إنها لعاشقة، البرعمة التي لم تتفتح بعد. من هو ذو الجمال، الذي السحاب أنفاسه، والشمس مرآته، الذي تتمايل الأغصان شوقًا إليه؟ لماذا نضطرب إذا كرر الأبناء سيرتنا؟ وما رأي أبي إذا سمعني أحدِّث حفيدته في الحب؟

– هذا شِعر حقًّا!

تألق الفرح أخضر في عينيها، وصاحت: حقًّا؟

– شِعر جميل.

– أنت تشجعني يا بابا ليس إلا.

– بل أقول الحق.

ونظر في عينيها، ثم سأل باسمًا: ولكن من هو؟

فانطفأت شعلة الحماس في عينيها، وتساءلت في شيء من الخيبة: من …؟

– من المقصود بالترانيم؟

ثم بنبرة ثقة: لم يعرف السر مكانًا بيننا.

فقالت بإلغاز لم يخلُ من فتور: ليس أحدًا من الناس!

– تُرَى ألم أعد الصديق الأب؟

– بلى، ولكنه ليس أحدًا من الناس.

– يهمني أن أعرفه بعد إذنك.

– ولكني أقول: إنه ليس أحدًا من الناس.

– أهو من الملائكة؟

– ولا من الملائكة.

– ماذا هو إذن … حلم …؟ رمز؟

في حيرة واضحة: لعله … هو غاية كل شيء.

مسح الرطوبة عن جبينه وساعديه، وصمم بإرادة هائلة على أن ينتزع من نفسه أية نية عبث، أو سخرية، أو استهانة. وقال بجدية: إذن فأنت تعشقين سر هذا الوجود؟

أجابت في توتر حلَّ محل شجاعتها التلقائية: هذا جائز جدًّا يا بابا.

ما أحمَقَنا عندما نظن أنفسنا أغرب من الآخرين!

– كيف حصل ذلك؟

– لا أدري … من الصعب أن أوضح، ولكني وجدت في ديوانك بدء الطريق.

وضحك ضحكة عضلية خالصة، وقال: مؤامرة عائلية! أمك كانت تعرف من زمن، وأطلعتك على ذلك الشيء الذي تسمينه ديوانًا.

– لكنه شِعر رائع … وكم أنه مُلهِم!

وضحك ضحكة عالية لفتت إليه عازف البيانولا الذي كان يرسل على الكورنيش أنغامه المتشنجة.

– أخيرًا وجدت معجبة! ولكنه لم يكن شِعرًا، كان أوهامًا محرقة. ومن حسن الحظ أني تركته في الوقت المناسب.

– أما أنا فوجدت فيه ما أهيم به.

– إذن فأنت خالقة حتى في قراءتك!

– أنت تقول هذا!

– وهذا هو حبيبك؟

– كما أنه حبيبك.

كان. لا حبيب الآن، القلب لم يعُد يفرز إلا الضياع. وبين النجوم يترامى الفراغ والظلام، وملايين السنين الضوئية.

– ما رأيك يا أبي؟

– لمثلك ينبغي أن أقول: افعلي ما تشائين.

فتساءلت في مرح: ومتى تعود إلى الشِّعر؟

– ادعي الله أن أعود إلى مكتبي أولًا.

– إني أعجب كيف هان عليك أن تهجره؟

فقال وهو يداري ابتسامة حياء: كان لهوًا ليس إلا.

– والديوان يا بابا؟

– توهمت يومًا أنني سأستمر.

– ولكني أسألك عما أوقفك.

تداخلت شفتاه في سخرية، ولكن سرعان ما ارتفع إلى حال من الجدية الصادقة، ودفعته رغبة صريحة إلى الاعتراف؛ فقال: لم يسمع لغنائي أحد.

أضر بك الصمت. وقال مصطفى محرضًا: المثابرة والصبر!

وقال عثمان: اقذف بشِعرك في المعركة تظفر بآلاف المستمعين.

وأرهقك الصمت، وألح عليك الحرمان، وفتح الحب ذراعيه، وأثبت الشِّعر أنه لا قدرة له على الامتلاك. ويومًا قال مصطفى بارتياح: أخيرًا قبلت فرقة الطليعة مسرحيتي.

واشتد إرهاق الصمت، وقرر شمشون أن يهدم المعبد، وسرعان ما استغرقه النوم.

وسألت بثينة: هل من الضروري، يا بابا أن يستمع لغنائنا أحد؟

فداعب خصلة من شَعرها الأسود، وقال: ما معنى أن ندعو سر الوجود من الصمت إلى الصمت؟

ثم برقة وعطف: ألا تودين أن يسمع لغنائك الناس؟

– طبعًا، ولكني سأستمر على أي حال.

– جميل، أنت أفضل من أبيك، هذا كل ما هنالك.

– ولكنك تستطيع أن تعود إلى الشعر إذا أردت.

– الموهبة ماتت إلى الأبد.

– لا أصدق، إنك في نظري دائمًا شاعر.

ما للشعر وهذا الطول والعرض، والتفكير الدائب في القضايا، وبناء العمارات، والطعام الدسم لحد المرض؟!

وحتى مصطفى انحطَّ يومًا على المقعد الطويل مقوس الظهر، كأنما أوغل في الكِبَر، وقال: ما أضيع الجهد!

وقلت له بانزعاج: ولكن الطليعة ترحب بمسرحياتك، وهي فن جيد حقًّا.

فلوح بيده بازدراء، وقال: عليَّ أن أعيد النظر في حياتي كما فعلت أنت.

– طالما نُصحت بالمثابرة والصبر.

فبصق ضحكة خشنة، وقال: لا فائدة من تجاهل الجماهير.

– أتريد أن تبدأ من جديد محاميًا؟

– مات القانون قبل الفن، الحق أن مفهوم الفن قد تغير، ونحن لا ندري. عهد الفن قد مضى وانقضى، وفن عصرنا هو التسلية والتهريج، هذا هو الفن الممكن في زمن العلم، ويجب أن تتخلى للعلم عن جميع الميادين عدا السيرك.

– الحقيقة أننا نتحطم واحدًا بعد آخر.

– بل قل إننا بلغنا سن الرشد، انظر إلى نجاحك في الحياة على سبيل المثال، وفي رأيي أن الترفيه غاية جليلة لمتعبي القرن العشرين، وما نظن أنه الفن الحقيقي ليس إلا الضوء القادم من نجم مات منذ ملايين السنين؛ فعلينا أن نبلغ سن الرشد، وأن نولي المهرجين ما يستحقون من احترام.

– يُخيَّل إلي أن التفلسف قد قضى على الفن.

– بل قضى العلم على الفلسفة والفن، فإلى مسرات التسلية بلا تحفظ، ببراءة الأطفال وذكاء الرجال، إلى القصص الخفيفة، والضحكات المجلجلة، والصور الغريبة، ولنتنازل نهائيًّا عن غرور الكبرياء وعرش العلماء، ولنقنع بالاسم المحبوب، والمال الوفير.

سرني ذلك رغم الحزن والأسف، مارست بتألم حقيقي العواطف المتضاربة، وفكرت بذهول فيمن ازدرده السجن. الأصلع المحبوب يهبك بلسم العزاء لفشلك، وتفوقًا غير متوقع. من غدٍ سوف يطمح إلى القوة التي امتلكها، ولكن بوسيلة أتفه. كما انقلب المتطلع إلى سر الوجود إلى محامٍ ثري غارق في المواد الدهنية.

– إن يكن العلم كما تتصور؛ فما نحن إلا طفيليون على هامش الحياة.

– نحن رجال ناجحون ذوو سر دفين من الحزن المكبوت، وليس من الحكمة أن ننكأ الجروح.

– لكننا ننتمي في الواقع إلى عصر قديم بالٍ.

– بالله لا تنكأ الجروح.

– العلماء أقوياء بالحقيقة، ونحن قوتنا مستمدة من المال الذي يفقد شرعيته يومًا بعد يوم.

– لذلك أقول لك: إن الموت يمثل أملًا حقيقيًّا في حياة الإنسان.

ونظر إلى عينيها الخضراوين برقة، وقال: بثينة، هل أطمع أن تعديني بألا تُفرِّطي في دراستك العلمية؟

– أظن ذلك، ولو أن الشعر سيظل أجمل ما في حياتي.

– ليكن، لن أجادلك في ذلك، ويمكن أن تكوني شاعرة وفي ذات الوقت مهندسة مثلًا.

– يبدو أنك مشغول بمستقبلي.

– طبعًا، لا أحب أن تنتبهي يومًا، فتجدي نفسك في العصر الحجري على حين يعيش من حولك في عصر العلم.

– لكن الشعر …

فقاطعها: لن أجادلك يا عزيزتي، صديقي مصطفى يجد في العلم دينًا، وشعرًا، وفلسفة، لكني لن أجادلك، أنا سعيد بك وفخور.

ها هي الشمس تتهاوى للمغيب، قرص أحمر كبير امتصَّ المجهول قوته وحيويته الباطشة؛ فرنت إليه الأعين كما ترنو إلى الماء. وتدفقت حوله كثبان السحب وضاءة الحوافي، موردة الأديم في مهرجان من الألوان.

أتريد أن تعرف سري حقًّا يا مصطفى؟ اسمع عندما أمضني الفشل جريت نحو القوة التي آمنا من قبل بأنها شر يجب أن يزول، ولكنك تعرف سري يا مصطفى.

٥

في ضوء الشمس الغاربة تبدت أنيقة وقورًا، رغم اكتناز جسمها الطويل، المفصح عن شبع مثير، ورفاهية محنقة. ما كان أرقَّ جمالها! وما زالت على قدر من الجمال بالرغم من ضخامتها غير العادية وانتفاخ وجنتيها. ونظرتُها الخضراء الجادة لم تفقد كل سحرها ولكنها غريبة، غرابة مستحدثة لم ترَها عينك من قبل. امرأة رجل آخر، رجل الأمس الذي لم يعرف التعب أو الفتور، الذي نسي نفسه. ولكن ما علاقتها بهذا الرجل؟ المريض بلا مرض، المتجنب للدسم والشراب، الذي يتنسم في الهواء المشبع بالرطوبة نذر مخاوف لا حدود لها. والأختان سابقتان، جميلة تمشي على سور الكورنيش الحجري قابضة على يد بثينة التي سايرتها على الأرض، في الطريق ما بين جليم وسيدي بشر الذي يخف به الزحام درجة ما. وأعين كثيرة تطلعت إلى بثينة، وشفاه تمتمت بكلمات لم يميزها، ولكنه يعرفها على أي حال؛ فابتسم من الداخل فحسب. وما هو إلا عامان أو ثلاثة ثم تصير جدًّا، وتمضي الحياة، ولكن إلى أين؟ والتفت إلى الشمس الغاربة في سماء صافية باهتة لم يعلق بها من الشفق إلا قشرة سطحية استدارت عند الأفق. قال: كان الأقدمون يتساءلون أين تذهب الشمس، ولم نعد نتساءل.

فتطلعت زينب إلى الشمس ثواني، ثم قالت: بديع أن نتخلص من سؤال.

الإجابة العاقلة تخنقك وكأنها تستفزك، التصرفات العاقلة تغضبك بلا سبب. ما أجمل أن يثور البحر حتى يطارد المتسكعين على الشاطئ! وأن يرتكب السائرون على الكورنيش حماقات لا يمكن تخيلها، وأن يطير الكازينو الكبير فوق السحب، وأن تتحطم الصور المألوفة إلى الأبد؛ فيخفق القلب في الدماغ، وتراقص الزواحف العصافير.

ومضت البنتان إلى سينما سان استفانو، ثم واصل كلاهما المشي متقاربين. وإذا بها تتأبط ذراعه، وتهمس متسائلة: عمر … ماذا عندك؟

ألقى نظرة باسمة على ما حوله، وقال: ما أكثر الغرام!

– هو كذلك دائمًا، ولكن ماذا عندك؟

فقال ممعنًا في التجاهل: بثينة لا تعرف أشياء كثيرة، فكرت في ذلك وأنا …

فقاطعته نافدة الصبر: إني أعرف ما عليَّ، والبنت معدنها نفيس، ولكنك تهرب.

ما أشد استجابة نفسك ﻟ «تهرب»، كأنها مفتاح سحري يلقى إليك في جُب.

– أهرب؟

– أنت فاهم ما أعنيه فاعترف.

– بأي جريمة؟

– بأنك لم تعد أنت.

ما أحوج الرطوبة اللزجة إلى عاصفة هوجاء!

– حقًّا؟

– جسمك وحده الذي يعيش بيننا، وأحيانًا أحزن لحد الموت.

– ولكنني أتداوى بعزيمة صادقة كما لا بد تشهدين.

– الحق أني أتساءل عن السبب وراء ذلك كله، أطوارك جعلتني أتساءل من جديد.

– لكننا شخَّصنا الحال بما فيه الكفاية.

– أجل، ولكن ألا يضايقك شيء بالذات؟

– أبدًا.

– يجب أن أصدقك.

– لكنك لا تصدقين تمامًا فيما يبدو.

– ظننت أن أمرًا ضايقك، في المكتب، في المحكمة، عند أحد من الناس، وأنت حساس وبارع في الحزن المكتوم.

– أنا لم أقصد الطبيب إلا لأنني لم أعثر على سبب محسوس.

– لم تُحدثني كيف بدأت الحال.

– طالما حدثتك عن ذلك.

– عن النتائج فقط، ولكن كيف بدأ الحال على وجه التدقيق؟

وها هي رغبة مستهترة في الاعتراف تدفعك.

– من الصعب أن أحدد تاريخًا، أو أن أقرر كيف بدأ التغير، لكنني أذكر أنني كنت مجتمعًا بأحد المتنازعين على أرض سليمان باشا، وقال الرجل: أنا ممتن يا إكسلانس، أنت محيط بتفاصيل الموضوع بدرجة مذهلة حقيقة باسمك الكبير، وإن أملي في كسب القضية لعظيم. فقلت له: وأنا كذلك. فضحك بسرور بيِّن، وإذا بي أشعر بغيظ لا تفسير له، وقلت له: تصور أن تكسب القضية اليوم وتمتلك الأرض، ثم تستولى عليها الحكومة غدًا. فهز رأسه في استهانة، وقال: المهم أن نكسب القضية، ألسنا نعيش حياتنا ونحن نعلم أن الله سيأخذها؟ فسلمت بوجاهة منطقه، ولكن ذهل رأسي بدوار مفاجئ، واختفى كل شيء.

رمته بنظرة داهشة، وسألته: أكان هذا هو السبب؟

– أبدًا … لا أعرف سببًا على التحديد، ولكني كنت أعاني تغيرًا خفيًّا مستمرًّا. من هنا جاء تأثري الذي لا معنى له بكلام الرجل الذي تردده الملايين كل ساعة، دون أن يحدث أي أثر لأي إنسان.

– طبعًا، أنت لا تفكر في الموت إلا كما يفكر العقلاء.

تُرَى كيف يفكر العقلاء في الموت؟!

– هذا مسَلَّم به من حسن الحظ.

وهي تحدجه مستطلعة: وهل كرهت العمل بعد ذلك؟

– لا … لا أستطيع أن أقطع برأي في ذلك، ربما قبله وربما بعده.

– الحق أني حزينة بدرجة لا أحب أن أحدثك عنها.

– ولكن هل يهمك العمل لهذا الحد؟

– أنت من يهمني، أنت وحدك.

وتؤجل قضية فأخرى فثالثة، ويمضي النهار وأنت مستمر في مقعدك ممدود الساقين تحت المكتب، تدخن بلا انقطاع، وتنظر إلى السقف ببلاهة.

– تعبت من المشي.

– لكنك تمشين أضعاف ذلك.

فقالت وهي تخفض البصر: آن لي أن أعترف لك بدوري، الراجح أنني حُبلى.

فاهتز باطنه بموجة قاسية أكدت تلهفه على مفتاح الهرب السحري، وتمتم: لكن …

فقالت بهدوء: يا عزيزي، أمر الله فوق كل تدبير.

ثم وهي تشد على ذراعه: وأنت لم تنعم بعدُ بولي العهد.

واستدارا راجعَيْن، ونظرة دلال تمرح في عينيها، ومرحت النظرة طويلًا حتى دق ناقوس الإنذار. وقال لنفسه إنه بشيء من الشراب سيطرد الفتور، ويمثل دور الحب كما يمثل الزوجية والصحة.

واستيقظ مبكرًا بعد نوم ساعات معدودات، وطرق أذنيه صخب الأمواج العاصف في سكون الصباح المعتم. وزينب مستغرقة في النوم، مكتظَّة بالنوم والشبع، تنفرج شفتاها عن شخير خفيف متواصل، مشعثة الشَّعر. وأنت متضايق كأنما كُتب عليك أن تناطح نفسك، وهذا يعني أنني لم أعُد أحبك. بعد الحب القديم، والعشرة الطويلة، والذكريات المليئة بالوفاء لم أعُد أحبك، لم تبقَ ذرة حب واحدة. ليكن عرضًا يزول بزوال المرض، ولكني الآن لا أحبك، وهو أشقى ما ألاقي من مُرِّ التجارب. وها أنت تسمع شخيرها فلا تعطف، ولا يبتسم القلب. وتنظر إليها، وتسأل ماذا جاء بها؟ أو ماذا جاء بك؟ ومن ذا قضى بهذه السخرة اللعينة؟

– مصطفى … ها هي الفتاة.

– الخارجة من الكنيسة؟

– هي، هي … انظر إلى فستانها الأسود حدادًا على عمها … أي ملاحة؟!

– ولكن الدين!

– لم أعد أكترث لهذه العوائق.

وقلت لها: يسعدني أنك تنازلت بقبول معرفتي. في حديقة العائلات قَدَّم عمر الحمزاوي المحامي نفسه، فتمتمت بصوت لا يكاد يُسْمَع: «كاميليا فؤاد.» يا عزيزتي حبنا أقوى من كل شيء، وسوف نتغلب على أي عائق، فقالت وهي تتنهد: لا أدري.

ويومًا ضحك مصطفى في جو عاصف، وقال: إني أعرفك منذ عهد آدم، بحاثة عن المتاعب، زوبعة في بيتك، وزوبعة أعنف في بيتها، وأنا حائر بينكما.

ثم ما أجمل موقفه وهو يرفع كأسه صائحًا: مبارك عليكما، أصبح الماضي في خبر كان، ولكن تضحيتك لا تُقاس بتضحيتها، وللعقائد طغيان حتى على الذين نبذوها. صحتك يا زينب، صحتك يا عمر.

وانتحى بك جانبًا، وراح يقول وهو سكران تمامًا: لا تنسَ الأيام الأليمة، لا تنسَ الحب أبدًا، تذكَّر أنه لم يعد لها أهل في هذه الدنيا، مقطوعة من شجرة، ولا أحد لها سواك.

تزوجت قلبًا نابضًا لا حدود لحيويته، وشخصية فاتنة حقًّا، تلميذة مثالية للراهبات، مهذبة بكل معنى الكلمة، مدبرة حكيمة كأنما خُلقت للتدبير والحكمة، وقوة دافعة للعمل لا تعرف التواني، ونظرة ثاقبة في استثمار المال. ارتفعت في عهدها من غمار العدم إلى التفوق الفريد والثروة الطائلة، ووجدت في حرارة حبِّها عزاءً عن الفشل، والشعر، والجهاد الضائع، رمز الجنس، والمال، والشبع، والنجاح، فماذا جرى؟

تقلبت في الفراش على وجهها؛ فانحسر طرف القميص عن نصفها التحتاني العاري، فانزلق من الفراش متجهًا نحو الشرفة، ودخل ثم أغلق الباب وراءه. طوقه هواء عاصف، ورأى الأمواج وهي تركض بجنون نحو الشاطئ، فتلطم بزبدها الفائر أرجل الكباين، تحت قبة باهتة انتشرت قطعان السحب في جنباتها، وغام جو الصباح الباكر باللون الرمادي المشع منها. ولم تدب قدم بعد فوق الأرض، ولم تنفتح نفسك لشيء، ولم ينعشك الهواء. وحتى متى تنتظر الشفاء؟ أين مصطفى لأسأله عن معنى هذه المتناقضات؟ عنده من الأفكار مدَّخر كثير، رغم أنه لم يعد يبيع اليوم إلا اللب والفشار. لماذا يجيء دور زينب بعد العمل؟ وها هي موجة تعلو علوًّا غير عادي، ثم تنكسر عن أطنان من الزبد، ثم تنداح في تدهور مسلمة الروح. يا إلهي إنهما شيء واحد، زينب والعمل، والداء الذي زهدني في العمل هو الذي يزهدني في زينب. هي القوة الكامنة وراء العمل، هي رمزه، هي المال والنجاح، والثراء، وأخيرًا المرض. ولأني أتقزز من كل أولئك؛ فأنا أتقزز من نفسي، أو لأني أتقزز من نفسي؛ فأنا أتقزز من كل أولئك. ولكن من لزينب غيري؟ الليلة الماضية كان الحب تجربة مريرة. ضَمُر ونضَب فلم يبقَ منه سوى ارتفاع في الحرارة، وسرعة في النبض، وزيادة في ضغط الدم، وتقلص في المعدة، تتلاحق في وحدة رهيبة؛ وحدة الموجة التي يمتصها رمل الشاطئ، فلا يتقهقر منها إلى البحر شيء. هي تترنم بأهازيج الغرام وأنا أبكم، هي تطارد وأنا شارد اللب، هي تحب وأنا كاره، هي حبلى وأنا عقيم، هي حساسة حذرة وأنا بليد. وقالت: أنت لا تتكلم كعادتك. فقلت: بل لا يُسْمَع لي صوت. وقلت: تصور أن تكسب القضية اليوم؛ فتمتلك الأرض ثم تستولي عليها الحكومة غدًا. فقال: ألسنا نعيش حياتنا، ونحن نعلم أن الله سيأخذها؟ ورغم الجفاء والجفاف فإن الموجة تعلو لحد الجنون، ثم تتكسر عن الزبد، ثم تسلم الروح. ويزدردك قبر النوم بلا راحة، ويظل عقلك يتابع هواجسه، حتى الطبيب تفكر في زيارته مرة أخرى، مسلِّمًا بأنك تغيرت أكثر مما كنت تتصور. فيا ترى ماذا أريد؟ أجل، ماذا أريد؟ الفقه لا يهم، والحكم لصالح موكلي لا يهم، وإضافة مئات جديدة لحسابي لا يهم، ونعمة البيت السعيد لا تهم، وقراءة عناوين الصحف لا يهم، فما رأيك في رحلة في الفضاء؟ في ركوب الضوء شكرًا لسرعته الثابتة. الشيء الوحيد الثابت في هذا الكون الذي لا يعرف الثبات، المتغير بلا توقف، المتحرك في جنون.

وها هو قد وصل أول مكتشفين للفضاء، بياع الجراثيم، وبياع الأنباء الكاذبة.

٦

في آخر أغسطس رجعت الأسرة إلى القاهرة. وامتعض عمر لمرأى ميدان الأزهار، وهو في سبيله إلى عمله، وقال إنه لم يتغير عما تركه، وإنه ما زال معبرًا كالحًا للذاهبين إلى أعمالهم. واستُقبل استقبالًا حارًّا، وبخاصة من مساعده الأستاذ محمود فهمي، وسرعان ما حُملت إليه ملفات القضايا المؤجلة، والتي تحت البحث. ولم يخلُ سبتمبر من أيام لزجة، ولكن جرت به نسائم لطيفة، وظللت بواكيرَ صباحه طلائعُ سحب بيضاء. وعانقه مصطفى المنياوي طويلًا وتبادلا القبلات، ووقفا طوال الاستقبال وجهًا لوجه. عمر بقامته المديدة، ومصطفى رافع وجهه نحوه، وصلعته مائلة إلى الوراء تلمع تحت ضوء المصباح الفضي. وقال وهو يجلس على المقعد الجلدي الكبير أمام المكتب: أراك في رشاقة الغزال، برافو.

وتناول سيجارة من العلبة الخشبية المطعمة بالصَّدَف التي تعزف أنغامها عند فتحها، ثم أشعلها وهو يقول: فكرت مرات أن أزورك في الإسكندرية، ولكن واجب الزوجية كان يناديني إلى رأس البر، فضلًا عن أنني شُغِلت طيلة الوقت بإعداد مسلسلة جديدة للراديو.

ونظر إلى ملفات القضايا، ثم إلى عينَيْ صاحبه مستجديًا كلمة مشجعة؛ فابتسم عمر ابتسامة غامضة، فألحق النظرة بالاستجداء حتى قال عمر: عملت صباح اليوم ساعات متواصلة.

فتنهد مصطفى في ارتياح غير أن الآخر تمتم: ولكن …

فتساءل مصطفى في قلق: ولكن!

– بالصراحة لم أسترد للعمل أية رغبة.

وساد صمت متشائم، ونفث الدخان من فم متوتر، ثم تساءل: أكان ينبغي أن تأخذ مزيدًا من الراحة؟

– دعنا من المغالطة، فالأمر أخطر من ذلك.

ثم وهو يشعل بدوره سيجارة على صدى أنغام جديدة: الأمر أخطر من ذلك، وليس العمل وحده الذي أصبحت أكره، ولكن الداء يلتهم أشياء أخرى أعز علينا من العمل، زوجتي على سبيل المثال.

– زينب!

فقال فيما يشبه الحياء: لا أدري كيف أتكلم، ولكن للأسف لم أعُد أطيقها، البيت نفسه لم يعد بالمأوى المحبوب.

– أتقول ذلك عن مكان يضم بثينة وجميلة؟

– من حسن الحظ أنهما ليستا في حاجة إليَّ.

– تجهم وجه مصطفى، ورمشت عيناه المستديرتان الذابلتان، وتجلت في نظرته المستطلعة رغبة ملحة حزينة في حل اللغز.

– لكن مثلك لن يعجزه معرفة السر.

قال وهو يبتسم ابتسامة مريرة: لعله الكون — بدورانه الدائم على وتيرة واحدة — هو المسئول الأول عن ذلك.

– اعترف بأنك تبالغ فيما يتعلق بزينب على الأقل.

– هي الحقيقة السوداء.

فسأله بإشفاق: تتوقع عواقب عملية لذلك الموقف؟

– إني أعيش في مقام السؤال، ولكن بلا جواب.

– على الأقل؛ فإنك لا بد مقتنع بأن ما بك هو حال من أحوال النفس.

– سمه كيف شئت، ولكن ما هو؟ ماذا أريد؟ ماذا عليَّ أن أعمل؟

– أنت أرشد من أن تبقى في مقام السؤال، سائل رغباتك الدفينة، راجع أحلامك، ها هي أشياء تود الفرار منها، ولكن إلى أين؟

– أجل، إلى أين؟

– عليك أن تجيب بلا تردد.

– خبرني أنت عما يدفعك إلى العمل والزوجة؟

بدا السؤال مضحكًا على نحو ما فضحك، ولكن قتامة الجو لم تسمح للمرح بالبقاء أكثر من ثوانٍ.

– إني أرتبط بزوجتي بحكم الواقع والعادة، أما عملي فهو مصدر رزقي، ولي جمهور أسعد به كثيرًا، مئات الرسائل التي أتلقاها أسبوعيًّا تسعدني حقًّا، والحق أن تجاوب الناس معك قيمة ثمينة، ولو يكن مصدره بيع اللب والفشار!

– وأنا ليس لي جمهور، وواقع، وعادة؟

تردد مصطفى مليًّا، ثم قال: الحقيقة أن عملك جاوز بك أبعد غايات النجاح، وأن زوجك تعبدك، فلم تعد أمامك غاية تتطلع إليها.

عمر وهو يبتسم ساخرًا: هل أسأل الله فشلًا في العمل، وخيانة في الزوجية؟

– لو استجاب لك؛ لمنحك حب الحياة من جديد.

وخلا كلاهما إلى نفسه في صمت مشحون بالتوتر، منذر بمأساة وشيكة الوقوع، وقال عمر: يعزيني أحيانًا أنني أكره نفسي بنفس القوة.

ثم وهو يطفئ عقب السيجارة في النافضة بقوة حانقة: والحق أن عملي وزينب ونفسي، كل أولئك شيء واحد هو ما أود التخلص منه.

فسأله وهو يحدجه بنظرة مريبة: هل هناك حلم يراودك؟

تردد بعض الوقت، ثم قال بنبرة اعترافية: حدث أن كتبت بثينة شعرًا.

– بثينة؟!

– قرأته ودار بيننا حديث؛ فانبعث في نفسي أشواق غامضة إلى الكتب القديمة التي هجرتها منذ عشرين سنة.

– أوه … كم خطر ذلك ببالي!

– صبرك! … حقًّا لقد دبت الحركة في الركود الأبدي، ورحت أبحث عن نغمة ضائعة، وتساءلت: تُرَى هل يمكن أن أبدأ من جديد؟ … ولكنها كانت مجرد حركة طارئة، ثم ما لبثت أن تجمدت.

– لكنك تراجعت بسرعة.

– بل عاودت القراءة، وسطرت كلمات، ولكن ذلك كله لم يكُنْ شيئًا، وذات ليلة وأنا في السينما رأيت وجهًا جميلًا فدبَّت الحركة مرة أخرى.

– أهي الحركة ما تنشد؟

– حركة … أو نشوة … أحيت الكائن دفعة واحدة … وآمنت ساعتها بأن الحركة أو النشوة هي مطلبي، لا العمل، ولا الأسرة، ولا الثراء … هي هذه النشوة العجيبة الغامضة … كأنها النصر الدائم وسط الهزائم المتلاحقة … وهي التي سحقت الشك، والخمول، والمرارة …

وجه مصطفى إليه نظرة ثابتة، وهو قابض على ذقنه بيده، وتساءل: ترى أترغب في أن تودع الحب الوداع الأخير؟

فقال مقطبًا: أتظنه عرضًا من أعراض السن الحرجة؟ ولكن ذلك يُعالج ببساطة ويمر بسلام عندما يندفع زوج وقور على غير توقع إلى الملاهي الليلية، أو يتزوج من امرأة جديدة. وقد تراني يومًا راكضًا وراء امرأة، ولكن سيظل ما يدفعني شيئًا أخطر من أعراض السن الحرجة.

ولم يتمالك مصطفى من أن يضحك ضحكة عالية، ثم يسأل: تُرَى أهي نشوة عجيبة حقًّا، أم أنها تبرير فلسفي لجريمة الزنا؟

– لا تتهكم بي، فأنت نفسك كنت يومًا فريسة لأزمة خطيرة.

ابتسمت أسارير وجهه، ولاحت في عينيه نظرة منداحة في متاهات التذكر، وقال: أجل كنت شارعًا في كتابة مسرحية جديدة، وإذا بالفن يتفتت بين يدي نشارة وترابًا، ولكني سرعان ما استبدلت به فنًّا آخر دان له ملايين المواطنين بالسعادة.

– أما أنا فأخطأت الطريق، استبدلت بالفن الزائل عملًا ينافسه في البلى، فالمحاماة كالفن من أعمال العصور البائدة، وأنا لا أحسن ما أحسنت من فن جديد، وفاتني مثلك أن أتعلم العلم، فكيف السبيل إلى نشوة الخلق المفقودة؟ … الحياة قصيرة، وأنا لا أنسى الدوار الذي أصابني عندما قال لي الرجل: ألسنا نعيش حياتنا، ونحن نعلم أن الله سيأخذها؟

– هل تزعجك فكرة الموت؟

– كلا، ولكنها تحتم علي أن أذوق كنه الحياة.

– كما وجدتها في السينما؟

لم يعلم بجولاتك في ميادين الإسكندرية وطرقاتها، وتشوُّفَك الظامئ إلى الوجوه الواعدة بالنشوة المستعصية، وتسكعك تحت أشجار الشلالات المترنحة باستغاثات العواطف المشبوبة، العملاق المجنون الذي ينقِّب عن عقله الضائع تحت الأعشاب الندية.

وألمح إلى تلك المغامرات بشيء من الإسهاب، ولكن في إطار من حديث وقور يناسب العجائب الغامضة.

– لم أكن في تلك الليالي العجيبة حيوانًا تحركه شهوة، ولكنني كنت معذبًا … ويائسًا.

٧

كلما رأيتك كثيرًا ازددت شهوة.
وكلما ازدادت شهوتي زاد لهيبي.

– يا لها من أغنية متفجرة! … من المغنية؟

– مارجريت … نجمة «باريس الجديدة».

ونسمت نسمة خريفية في الحديقة الهلالية التصميم التي تنبسط وسطها حلبة الرقص، وترامت الأنغام من فوق مسرح أحمر الجدران، والسقف يشع النور المكتوم من باطن جوانبه الملتهبة.

– إنجليزية التكوين؟

– هذا ما يدعيه صاحب الملهى، ولكن حذارِ؛ فمفهوم إنجليزية في الملاهي الليلية يمكن أن تدخله أجناس شتى.

ثمة خطوط رشيقة في صفحة الوجه، ونظرة في العينين الملونتين، وخفة في الحركة، لعل من تضامنها جميعًا تنبثق النشوة المستعصية المنشودة.

– يا بختك؛ فأنت خبير بهذه الجنات المحرمة.

– هي ضمن عملي بصفتي المشرف على القسم الفني بالمجلة.

– برافو، قلت إن اسمها مارجريت؟

فأجاب وهو يضحك: أو عشرون جنيهًا في الليلة بخلاف مصاريف الفتح.

وحملت إليه نسمة الخريف اللطيفة تحية من عالم مجهول لا يسكنه عقل واحد، وتقوم أركانه الأربعة وراء الظلام المحدق بأشجار السرو.

– توقع من جانبي أي عجيبة.

– ولكن لا تشرب أكثر من كأس.

– المهم أن أدعوها إلى المائدة.

ومضى مصطفى يبحث عن النادل، وسطعت الجو نفحة زنبقة. وفي فترات الصمت بين الغناء تجلت وشوشه الأغصان، وتوثَّب لطرق باب الهوس، ورأى أنماطًا غريبة من البشر، فقال لنفسه كالمعتذر: هذا ما فعل بنا المرض.

وجاءت مارجريت تخطر في ثوب سهرة مختلط الألوان لدرجة الغموض، وحيت باسمة عن أسنان نضيدة بارزة، وعلى بعد متر وقف النادل شبه منحنٍ كظلها، فأمر عمر قائلًا: شامبانيا.

شربتها أول مرة ليلة زفافك. من أرخص الأنواع، كانت هدية مشتركة من مصطفى وعثمان معًا، ما عسى أن يفعل المسجونون لو تفشى بينهم مرضك الغريب؟

ورحب مصطفى بالمرأة ترحيبَ رجل لا يجهلها ولا تجهله، وقال لها: مس مارجريت، أعجب كلانا بصوتك، وصديقي معجب بشخصك، والظاهر أنه كلما رآك ازداد …

وغمز بعينه ضاحكًا، ثم قال: صديقي محامٍ كبير، أرجو ألا تحتاجي إليه بصفته المهنية.

فضحك ثغرها ضحكة خالية من الصوت، وقالت: إني أحتاج دائمًا لمن يدافع عني، أليس ذلك تعريفًا لا بأس به للمرأة؟

فقال عمر مستعينًا بلباقة خاصة لم تُسْتَعْمَل من سنين طويلة: باستثناء من لهن جمالك أو صوتك.

وقال مصطفى وعيناه الذابلتان ترمشان في خبث: دعيني أعرفك أنه بدأ شاعرًا، وإن لم يصل إلى مستوى «ازدادت شهوتي».

تساءلت مارجريت في حذر وهي تتفحص عمر: شاعرًا؟ … لكنه يبدو رصينًا بكل معنى الكلمة.

فقال عمر: لذلك سرعان ما هجرت الشعر.

– وهو يبحث عن الجمال علاجًا لداء طريف ألمَّ به في الأيام الأخيرة.

وانطلقت طقة السدادة، وهام في الكئوس الحباب.

– أيعني هذا أنني نوع من الدواء؟

فبادرها مصطفى باسمًا: أجل، لمَ لا؟ من النوع الذي يؤخذ قبل النوم.

– لا تتعجل، الشفاء لا يجيء بالسرعة التي تتصورها.

ودعت الموسيقى إلى الرقص، فمضى بها إلى المرقص. وعندما أحاط خاصرتها بذراعه، وهام في وجدانه شذاها حلا الليل ورقت الرطوبة، وازدهرت مجامع الأشجار المتلألئة بالأحمر والأبيض من المصابيح.

– ليكن تعارف سعيد.

– أنت ظريف بقدر ما أنت طويل.

– لكنك لست قصيرة.

– ولكني أخشى عينيك الحادتين.

– ليستا كذلك إلا لأنهما يشتعلان سرورًا، ولكني كدت أنسى الرقص، ويقينًا إني لا أحسنه.

– ألا ترى أنك أطول من أن تحسن الرقص؟!

– عندما دعاني صديقي إلى باريس الجديدة قال لي: ستجد نمطًا تحبه.

– حقًّا؟

ما أجمل الكذب في الخريف! وصفق لهما مصطفى، وهما يعودان إلى مجلسهما. وأشرق وجه عمر بفرحة ساذجة. واسترد في لحظة معبقة بسحر الليل شباب الزمن الخالي، ولمست الخاتم في يسراه متمتمة: متزوج؟! … أنتم أيها المتزوجون لا تتركون للعزاب فرصة.

فقال مصطفى ضاحكًا: إنكما تتقدمان بسرعة مذهلة، أراهن على أنكما ستخرجان الليلة معًا.

– خسرت الرهان!

– لماذا يا عزيزتي مارجريت؟ … صاحبنا محامٍ لا يعرف التأجيل.

– إذن فعليه أن يعرفه.

– اللعنة على التقاليد الجامدة.

ولكن عمر قال برقة: على أي حال سيارتي تحت أمرك لتوصلك إلى أي مكان.

واستقلت معه السيارة ليوصلها، وهو من البهجة في نهاية: إلى أين؟

– بنسيون أثينا.

– ولكن هل رأيت الهرم بعد منتصف الليل؟

– لكنها ليلة مظلمة لا قمر فيها.

فوجه السيارة نحو الهرم وهو يقول: المدينة حرمتنا من جمال الظلام.

– لكن …

فقال مطمئنًا: أنا محامٍ، لا رياضي، ولا قاطع طريق.

والقلب لم يخرج من كهفه منذ مغاني الحدائق، وقهوة العائلات. ووجه زينب القديم لا يكاد يتذكره، وحتى صورة الزفاف لم يُلقِ عليها نظرة حقيقية منذ عشرة أعوام. وأنت يا مارجريت كل شيء ولا شيء. إني أطرق بكل رجاء باب المدينة المسحورة، وها هو شعور الهارب يتملكني.

– في هذا الخلاء حول الهرم، وقعت حوادث تاريخية.

فأبعدت ذراعه عن عنقها قائلة: لا تفكر من فضلك في زيادة الحوادث.

وضغط على راحتها ممتنًّا رغم كل شيء، فقالت: الأفضل ألا تقف، ألا ترى أن الهواء شديد؟

– لكننا في حجرة محكمة.

ما أكثف الظلمة حولنا! تكاثفي حتى ينسانا العالم، وليختفِ كل شيء عن العين الضجرة. آن للقلب وحده أن يرى، أن يرى النشوة كنجم متوهج. وها هي تدب في الأعماق كضياء الفجر؛ فلعل نفسك أعرضت عن كل شيء ظمَأً للحب، حبًّا في الحب، توقًا لنشوة الخلق الأولى اللائذة بسر أسرار الحياة، التي خرجت من صراع مليون مليون سنة بنبتة باهرة مذهلة.

– فلنبقَ حتى الصباح.

– لا تحلم، وصلني من فضلك.

– ألم تسمعي عن مغامرات الليل في الهرم؟

– حدثني عنها غدًا.

ومال نحوها، فتبادلا قبلة، وهمَّ بالإعراب عن رغبة أشد، ولكنها قالت برجاء: قلت غدًا.

ولثم خدها بخفة إعلانًا عن تراجعه، وتحركت السيارة فوق الرمال.

– لا تزعل من فضلك.

– عليَّ أن أذعن للقوانين الأبدية.

– الأبدية؟

– أعني قوانين الأنوثة.

– الحق أني متعبة.

– وأنا كذلك، ولكني سأعد مكانًا مناسبًا.

– انتظر حتى نلتقي.

– من الخير أن أبني العش.

– انتظر قليلًا.

– شيء يحدثني بأننا لن نفترق.

فقالت وهي تنظر إلى الطريق: نعم.

وعندما رجع إلى كورنيش النيل بجاردن سيتي كان الفجر وشيك الطلوع. وتذكر وهو في المصعد زجر الأب في الأيام الخالية. ولما أضاء نور الحجرة رأى زينب جالسة فوق كرسي التسريحة تتطلع إليه بعين كسيرة من الضوء والحزن، قال بهدوء: كان يجب أن تكوني نائمة.

فقالت باسطة راحتيها في يأس: هذه ثالث ليلة.

ببرود وهو ينزع ملابسه: شيء لا بد منه.

تساءلت في شيء من الحدة: أهو البيت ما يضايقك؟

– كلا، ولكن الضيق واقع.

– وكيف تمضي الليل كله؟

– ليس في مكان محدد، سينما، قهوة، أتجول بالسيارة.

– وأنا هنا فريسة للأفكار.

– بل يجب أن تنامي ملء جفنيك.

– وسوف أمرض في النهاية.

– اعملي بنصيحتي.

وهي تنفخ: أنت تعاملني ببرود قاتل.

لا مراء في ذلك؛ رجلك القديم انسلخ من جلده. ها هو يركض لاهثًا وراء نداء غامض، مخلفًا وراءه حفنة من تراب. مسرات الأمس وحتى المدينة الفاضلة … حفنة من تراب. وحتى فتاة النَّضَارة الواعدة عندما دقت أجراس الكنيسة، ونظرت في عينيها الخضراوين بافتتان، وقلت: الحب يهزأ بالمخاوف.

فتمتمت وهي تتعلق بك: ولكن أهلي …

– أنا أهلك، أنا كل شيء، وستقوم القيامة قبل أن يتخلى عنك حبي.

واليوم تتعلق حياتك بأغنية داعرة.

– نامي يا زينب؛ رحمة بنفسك وبي.

•••

ولكن امرأة أخرى التي وقفت فوق المسرح الأحمر، وغنت:

كلما رأيتك كثيرًا ازددت شهوة
وكلما ازدادت شهوتي زاد لهيبي

ومال نحو مصطفى متسائلًا: أين مارجريت؟

فغاب مصطفى دقائق، ثم عاد وهو يقول: مفاجأة غير سارة.

– وهي؟

– سافرت.

– أين؟

– خارج القطر.

– وهل يقع ذلك فجأة؟

لَوَّحَ بيده في استهانة، وقال: لنبحث عن غيرها.

٨

تلك الدفعة الغادرة إلى الوراء فَجَّرَتْ رد فعل مضاد بقوة مضاعفة. وها أنت في سباق حاد مع الجنون. وغايتك الأخيرة أن تنطق غصون الشجر، وقد سأله مصطفى: أأنت واثق من أن ذلك هو الطريق إلى الشفاء؟

– ذلك راجح، وليس لدي الآن سواه.

وأوقفت السيارة أمام ملهى «كابري»، وقال وهما يمضيان نحوه: جربت كما تعلم أشياء وأشياء بلا جدوى، وواتتني نبضة هامة أمام مارجريت، ومارجريت وإن تكن كذبة عابرة، ولكن النبضة كانت حقيقية.

وجلسا تحت تكعيبة جانبية خافتة الضوء يلوح الجالسون تحتها كأطياف، وقال مصطفى: أما مدير هذا الملهى؛ فهو صديقك.

وأشار إلى طرف المسرح البعيد حيث يقف رجل من النمط الكروي، بدين مع ميل إلى القِصَر، برميلي التكوين، ذو وجه أبيض مليء، ينتهي أسفله بلغد غليظ منتفخ كأنه قربة، وفي عينيه نظرة نائمة تحت جفنين ثقيلين، وفي جانب فيه انحراف شبه دائم يشي بالمرح. رأى الرجل مصطفى؛ فانتقل إلى مجلسه بسرعة لا تناسب ثقله، وعرفه عمر. الزبون القديم الذي كسب له قضيتين، وصافحهما الرجل بحرارة، وجلس وهو يقول: عمر بك … خطوة عزيزة.

وأمر بالويسكي، واستطرد مخاطبًا عمر: لم أحلم بأن تشرفني أبدًا، وإن يكن العاملون هم أجدر الناس بالمرح.

وقال مصطفى بلهجة حاسمة: دعنا من الرسميات يا مسيو يازبك.

نظر إليه بحذر، فقال مصطفى باسمًا: هو ما تظن، آن لك أن ترد الجميل لمحاميك.

– عمر بك؟

– خطر لي أن أسألك عن المرأة التي تراها لائقة به.

ابتسم الرجل ابتسامة عريضة، وقال: تناسبه في ظني فتاة مثقفة، بنت ناس، جميلة …

– أقصد للحب لا للزواج.

– هو حر يا سيدي.

– وهل لديك شيء من المثقفات الفاتنات …؟

فلوح بيد صغيرة ناعمة، وهو يقول بفخار: كابري … كابري.

وأسهب، وهو يرمق عمر بنظرة لم يختفِ منها الشك نهائيًّا: كانت طالبة بمعهد التمثيل، لم تُوفَّق في السينما، ولكنها تعبد الرقص، تألقت في كابري.

– وردة!

– دون غيرها.

وقال مصطفى كالمعتذر: لم أرشحها بسبب طولها الذي يصدني عادة عن المرأة.

وأشار يازبك إلى المسرح بثقة، والموسيقى تعزف رقصة شرقية. وهدرت عاصفة من التصفيق تستقبل راقصة باهرة حقًّا، تأخذ البصر بقامة مديدة قُدَّت على مثال راقص مثير، وعينين واسعتين جدًّا تسيلان جاذبية ناعسة، وقد أضفى جبينها العالي على وجهها جلالًا رفعها إلى طبقة أخرى، وتمتم مصطفى: هائلة!

فقال يازبك ساخرًا: أنت مُطَعَّم ضد الخطيئة الساحرة.

– عندي اكتفاء ذاتي، وهو عبث شائع بين الأزواج الصالحين.

وابتسم عمر، وهو يتذكر قول مصطفى مرة: إنه لا يمكن أن يخون زوجته؛ لأنه لم يوفق في الحب إلا معها. ثم غاب عن أصوات المتحاورين وهو يتابع حركات الجسم الفارع، وخفته التي تتحدى طوله وجلاله، وسرعان ما عشق ابتسامتها كما عشق شجرة السرو. وانتبه على يد يازبك الممدودة ليصافحه مستأذنًا في الانصراف. ولما ذهب تلقى من مصطفى نظرة جادة، وسمعه يقول محذرًا: من النادر أن يظفر إنسان بنشوة الحب في هذه الملاهي.

فتمتم عمر ساخرًا: من جدَّ وصل.

– أتعلم أنني كلما لقيت زينب هذه الأيام أوجعني ضميري؟

فقال باستهانة: ثمة آلام أعنف من ترف الضمير.

وأشار مصطفى إلى المتاعب التي تجيء من وراء العشق.

فقال عمر: كلما رأيت أنثى خُيِّلَ إليَّ أنني أرى الحياة على قدمين.

وأقبلت وردة في حركة نشيطة، بلا تلكؤ أو افتعال، وهي تحدجه بنظرة ثابتة من عينيها الواسعتين الرماديتين، وتنشر في الهواء شذا خصلة من الياسمين مرشوقة في أسورتها، وصافحته وهي تقول بسرور: أخيرًا وجدت رجلًا لا أنظر إليه من فوق.

وجلست بين الرجلين، ونفضت يدها؛ فتساقط الياسمين فوق غطاء المائدة الأحمر. وجاءت الشمبانيا وجرى الحباب. وتبدت وردة رزينة، ولكن نمَّت نظرتها الرمادية عن ميل مؤجل للمرح. وبادلت مصطفى ابتسامة ألفة ليست بنت ساعتها. واستمعت إلى الثناء المنتظر عن رقصها وجمالها، ولكنها جعلت تنظر طيلة الوقت إلى عمر باحترام. وتفحَّصَها هو بعناية وهو يسأل الغيب عن الأمل المنشود وراء العينين الرماديتين. أنا لم أحضر لأنني أحب، ولكنني حضرت لأحب. والبشرة صافية، والشذا طيب، والعين تحرِّك رموشَها الطويلة لتنفث تعاويذها.

– إذن فأنت المحامي الكبير؟

– هذا لا يهم إلا إذا كان لديك مشاكل.

– مشاكلي لا تُحَل بالقضايا، ويا للأسف!

– وما وجه الأسف؟

– كان يمكن أن تُحَل على يديك.

فقال مصطفى ضاحكًا: إنه جدير بالثقة في المحكمة وخارجها.

ورمق بحب استطلاع عُنقَها الطويل المطوق بعقد لؤلؤي بسيط، وأعلى صدرها المنبسط في رحابة، ونضارة الجنس التي تنضح بها شفتاها الممتلئتان الملونتان والنظرة السائلة من عينيها، فنبض وجدانه بشوق غريب غير محدود، وتلهف غامض كالذي يساوره في آخر الليل، وود أن يخاطب الأعماق، وأن تخاطبه الأعماق بلا وسائط، وأن يجد إن خانته النشوة المنشودة بديلًا في لذعة الجنس السحرية. الذروة المتفجرة التي تمتص رحيق الحياة وأحلامها في رشفة واحدة زائلة. وقلق من التلهف، والترقب، ودغدغة المغامرة، ومن سورة الشراب بلا حيطة، ومن شذا الياسمين المضغوط تحت قاعدة الكأس، ومن نظرة وردة الموحية بالقبول، ومن نجم يومض من خلال ثغرة في التكعيبة، وقال لها عندما آذنت السهرة بانتهاء: نذهب؟

وودعهما مصطفى وذهب، وتأثرت وردة لمنظر الكاديلاك التي وقفت كفِيلَّا أنيقة.

– أين مسكنك؟

– غير ممكن، أليس لك بيت؟

– فيه زوجة وابنتان.

– إذن وصلني لمسكني كما يفعل الخياليون.

انطلق إلى صحراء الهرم بسرعة جنونية، واستكن في الخلاء كليلة مارجريت، وتربيع القمر يتهاوى إلى المغيب. وضمها إليه بذراعه، وتناول قبلة رشيقة كافتتاحية، ثم تبادلا قبلة طويلة تحدوها حرقة صراع في مستوى القمر، وهمست في تنهدة: هذا حسن.

فضمها إليه بشغف تمادى في خلوة الصحراء، وأصابعه تتخلل شعرها المضيء بشعاع القمر. وهمس بصوت غريب لاهث: عندما يطلع الفجر.

وألصق خده بخدها، وراحا ينظران إلى القمر الناعس في مستوى البصر، ويتابعان شعاعه الواني المنطرح فوق الرمال. سوف يسحب ذيوله قبل أن يُرْوَى القلب الظامئ. ولا من قوة تستطيع أن تستديم اللحظة الإلهية، اللحظة التي وهبت الكون يومًا سرًّا جديدًا، وها أنت تقف على أعتابها مستجديًا، وتبسط يدك في ضراعة للظلمة والأفق، والغيابات التي يهبط إليها القمر. لعل قبسًا يشتعل في صدرك كما ينبثق الفجر، وتتوارى مخاوف الإفلاس والعدم.

– أأنت خيالي؟

– بعيد عن ذلك لحد المرض.

وهي تضحك: ولست من الذين يضربون النساء؟

– ولا الرجال.

– هذا حسن.

وهو يضمها إليه أكثر: ولكني شرعت يومًا في القتل.

– بسبب امرأة؟

– كلا.

– لا تتحدث هكذا أمام القمر.

– وأخيرًا قررت أن أقتل نفسي.

– بين يدي؟

– بين يديك.

– وأمام القمر؟

– ها هو القمر يختفي.

عندما رجع إلى مسكنه، وأضاء المصباح فتحت زينب عينين جامدتين. حياها بلا مبالاة؛ فقالت بنبرة متوترة: الصبح طلع.

فأجاب ببرود: فليطلع.

وجلست في الفراش منتفخة الجفنين، ملتاعة، يائسة.

– لم أسمع منك هذه اللهجة منذ تزوجتك.

وارتدى بيجامته في صمت؛ فهتفت: لم أسمع أبدًا.

فتمتم واجمًا: هكذا المرض.

– وكيف لي باحتمال الحياة؟

– نهاري منغَّص، فلا تنغصي ليلي.

– البنتان يسألان.

– آه … فلنواجه الأزمة بشيء من الحكمة.

وهي تدفن وجهها في الجدار: لو كان لي مكان …

أطفأ المصباح، واستلقى مُغمَض العينين. لن تلبث أولى حركات الصباح أن تُسْمَع، ودموع ولا شك تسفح إلى جانبي، على حين ترقد الخيانة مدفونة كحشرة. وما هي إلا لحظات حتى يموت الوجود. مقطوعة من شجرة، لم يعد لها أحد سواك. يا للعجب من أين لك هذا التصميم كله؟! ونشوة الليلة مجنونة كالبرق، فكيف تملأ فراغ الحياة؟!

ويوم الجمعة سعى إلى بثينة في الشرفة وهي تسقي أصص الورد. طالعها بابتسامة مرتبكة؛ فوثبت نحوه مرحبة، وأولته خدها ليلثمه. ورغم إشراقها لمح في نظرتها المتهربة عتابًا كالعبير الواني.

– أوحشتني جدًّا.

فعض باطن شفته، وقال: آسف جدًّا، ولكنني مصمم على الشفاء، وبحاجة إلى سماحة تفهمني.

وعادت إلى أصص الورد، فسألها: هل أنت بخير؟

– نعم.

ثم بعد تردد قالت: ماما ليست كذلك.

– لها حق، ولكن سيتغير كل شيء بالسماحة الواجبة.

فأشارت إلى ياسمينة لا تكاد تُرَى، وقالت بفرح: أول ياسمينة، صغيرة جدًّا ولكن رائحتها قوية، هل أقطفها لك؟

٩

ما أغرب الذهاب كل يوم إلى المكتب! مكان غريب لا معنى له، فمتى توجد الشجاعة الكافية لإغلاقه؟ وقال له الوكيل: كل يوم اعتذار عن قضية، ألم تسمع عما تعانيه المهنة؟ وكدت أصبح بلا نشاط.

وغيره يتحمل عبء العمل في الواقع، وهو بالكاد يوجه أو يراجع. وتحدق فيه من الجدران أعين قاتمة، والهواء راكد عفن. وفي الخارج استغرقه إحساس خلَّاق لتجهيز الشقة الجديدة بميدان سليمان باشا، وقال لوردة: إني سعيد بتجهيز عشنا، فإن الهرم لن يصلح للشتاء.

فتساءلت وهي ترقص بكتفيها مع أنغام الجاز تحت تكعيبة كابري: وهل يدوم اهتمامك بي حتى الشتاء؟

فرفع كأس الشمبانيا قائلًا: في صحة اهتمام دائم.

ولمح على البعد يازبك في وقفة مراقبة فخيمة، فتبادلا ابتسامة، ثم وضع راحته على يد وردة وهو يقول: إني مدين له حقًّا.

– هو خفيف، وطيب بالقياس إلى أمثاله، ولكنه جشع كالمنتظر.

– ولكنني زبون شمبانيا.

فقطبت بلطف قرن بين حاجبيها، وقالت: من الإسراف أن تجيء كل ليلة.

فتورد وجهه بهجة، وتمتم: يا لها من تحية بيضاء!

وهي تحاصره بعينيها: ألم يشهد بذلك الهرم؟

– بلى يا عزيزتي، وهو من ناحيتي ليس اهتمامًا كما قلت ولكنه …

فأسكتته بضغطة على يده، وقالت: لا تسمِّه، دعه يسمي نفسه فهذا أجمل.

– أنت ظريفة لحد الجنون.

– ولا ثقة لي في الكلام؛ إذ إنني في الأصل ممثلة.

– وسيدة بكل معنى الكلمة.

– شكرًا، ولكن الفن سيئ السمعة عند الكثيرين، ولذلك انفصلت عن أهلي، ومن حسن الحظ أنه لا أب لي ولا أخ.

فتفكر لحظة، ثم قال: التمثيل بلا شك أفضل من الرقص في كابري.

– لم أحبه كما يجب، وقيل لي إنني بلا موهبة، وعشقت الرقص طوال الوقت، فكانت كابري، وكان ما لا بد منه.

فقال بحرارة: ولكن لك قلب من ذهب.

– لم أسمع ذلك من قبل.

وكلف أكثر من رجل بالقيام بعمل في تجهيز الشقة الجديدة. الأثاث، والديكورات، والبار، والتحف. وفي أقصر مدة ممكنة تكونت على أجمل صورة: حجرات للنوم، والسفرة، والمدخل، وحجرة شرقية تحيي في الخيال أحلام ألف ليلة. وأنفق بلا حساب، وكأنه يتخلص من ورم مالي أليم. وراح يتابع عيني مصطفى المنياوي، وهما تجولان في الأركان ذاهلتين، وعندما سددهما نحوه قال: خير من اللوم أن تحدثني عن معنى الحياة.

– الحياة!

– سأدق الجدار الأصم في كل موضع، حتى يرن صوت أجوف يشي بالكنز المدفون.

فهز مصطفى منكبيه في تسليم قائلًا: من الجنون ما هو جميل.

– لم أعرف للحياة طعمًا كما عرفتها في الأيام الأخيرة، ولذلك لا أبالي شيئًا.

قال مصطفى مبتسمًا: يازبك قلق متشائم مما يقطع بإخلاص الفتاة.

– هي إما بسيطة مخلصة، وإما أنها أعظم ممثلة.

– لكنها ممثلة فاشلة.

وبهرها المنظر عند دخولها الشقة لأول مرة، وهتفت بإعجاب: ذوقك شمبانيولي حقًّا، ولكنك مسرف.

وهو يُقَبِّلها قبلات متقطعة: أليس هو عشنا؟

– ولكنني لا أريد أن أرهقك، ويجب أن تفهمني على حقيقتي.

– لولا فهمي حقيقتك ما فعلت شيئًا.

فضحكت بدلال، وقالت: أنت المسئول وحدك عن فهمك.

– والهرم؟

– عندما نصرخ للسعة نار؛ فلا يعني هذا أن الصراخ من طبيعتنا.

فاضطجع على ديوان وهو يقول: أخبرني مصطفى أن يازبك قلق.

– رفضت أن أخرج مع أحد، وَلْيعض الأرض.

– فليعض إلى ما شاء الله.

– سوف أقصر عملي في كابري على الرقص.

– خبريني؛ أأنت مستصفاة من ماء الورد؟

فمضت وهي تقول: الجو حار اليوم، سآخذ دشًّا في الحمام الجديد.

وبَدَّلَ ثيابه، وشعر بأن الجلباب كان أليق بالحجرة الشرقية من البيجاما، وقَلَّب عينيه في المكان الأنيق بارتياح وسعادة، وقال إن السعادة وحدها كفيلة بشفائه، ولو تساهل في الرجيم والشراب. وتملكته روح دعابة، فتساءل بصوت مرتفع جدًّا: ماذا يفعل ماء الدش؟

فجاء صوتها من وراء الباب: غاية في سوء الأدب.

وفتح باب الحمام؛ فمرقت منه متلفعة ببشكير، وهرعت إلى حجرة النوم، ثم ردت الباب وراءها، وأغمض جفنيه على رضًى. فليكرر هذا العش نشوات الهرم، وليكن ما بين يديه ما ينشده. ما داس قلوبًا صديقة في سبيله، وما علمه الاستهتار والقسوة، وألا يزول على غير انتظار كما زالت مارجريت. وزميلك المحامي الكبير قال لك في مكتبك: تتراءى هذه الأيام أنيقًا أكثر مما ينبغي لمحامٍ قدير ناجح.

فقلت ضاحكًا: وأقل مما ينبغي لمحامٍ سعيد.

ونظر إليه بريبة جديرة برجل ماجن عِشِّيق، ولكنه سرعان ما غيرا الحديث راجعًا إلى حديث السياسة المفضل عنده، فسأله: ماذا يفعل الناس في هذه الأيام؟

فأجبت دون مبالاة بالسياسة: إنهم يبحثون بجنون عن النشوة.

ولم يفهم. إنه زير نساء ولست كذلك، لست ماجنًا، ولا عابثًا. ولكن من ذا يفرق بين قاتل وعابد، أو يصدق أنك تقيم للعربدة معبدًا؟

وفتحت باب الحجرة نصف فتحة، ثم أبرزت رأسها قائلة: ربما طال وقت الزينة، وأنا في حاجة ماسة إلى قُبلة؟

فهفا إليها، وأخذ خديها بين راحتيه حتى برزت شفتاها مضمومتين؛ فقبلهما قبلة طويلة، وهو يشم بتلذذ رائحة الصابون الزكية وشذا البشرة الآدمية، وهمس: هل أدخل؟

فدفعته ضاحكة وهي تقول: لا تكن بدائيًّا.

عاد إلى ضجعته فوق الديوان، ورأى أمامه الدولاب الملون الجامع للراديو والتلفزيون بين جناحيه، فقام وأدارهما معًا في فرحة طفولية، فتلاقت في أذنيه في ضجة متداخلة مناقشة عن جرائم الأحداث مع ما يطلبه المستمعون، ثم أسكتهما دون أن يتخلص من عبثه الطفولي، فمضى إلى الباب المغلق ونقر عليه فجاءه الصوت: هه!

– أحبك.

– من كل قلبي.

– ما أعز أمنية في حياتك؟

– الحب.

فتمادى في عبثه البريء متسائلًا: هل فكرت يومًا عن معنى الحياة؟

– لا معنى لها إلا الحب.

– وهل فرغت من زينتك؟

– لم يبقَ إلا القليل.

فاستطال تماديه وهو يسأل: عزيزتي ألا يقلقك أن نعبث والعالم من حولنا يجد؟

وهي تضحك عاليًا: ألا ترى أننا نجد، والعالم من حولنا يعبث؟

– من أين لك هذه البلاغة؟

– عما قليل ستعرف سرها.

عندما يطوى الليل ستائره، ويدركنا الفجر بلا رحمة؛ فلا مفرَّ من الرجوع إلى الحجرة الكئيبة، حيث لا نغمة ولا نشوة. ستطاردك عينان حزينتان وجدار صخري، ثم ترن أوتار الحكمة الكالحة باعثة كلمات تقريع جامدة خشنة كغبار الخماسين. ليكن ردك حازمًا قاصمًا كنفورك: لا تزعجيني.

ولتصم أذنيك عن أي كلام.

– قلت: لا تزعجيني، هكذا أكون، اليوم وغدًا وكل يوم.

– انزلي على حكم الأمر الواقع، وأبعدي البنت عن مجال نزاعنا.

– لا جدوى من العناد، وسوف أفعل ما يحلو لي.

– ولا تتراجع إذا تساءلت عن علة تغيرك؟

– ظني كما تشائين، الملل كرَّه إليَّ الاعتذار.

وفتح الباب وخرجت وردة كأبهى ما يكون.

– كيف تراني يا عزيز القلب؟

رنا إليها طويلًا في انبهار، ثم غمغم: دعيني أكوِّن جملة لم يسبق ذكرها على لسان.

١٠

جلست قبالته في الشرفة، جلسة يوم العطلة، فقال لنفسه بعدم ارتياح: حقًّا لم أرها منذ أسبوع كامل! وألقت الشمس على حجرها وساقيها فيضًا من شعاعها الذي يبرق لألاء فوق سطح النيل. ومن عجب أنه لم يعد يذكر كثيرًا عن طفولتها، وهل كانت عفريتة كجميلة؟ ولكنها اليوم فتاة جميلة، ذكية، مجتهدة، وشاعرة، ومثال للأناقة. وأما فكرة أنها تكرر صورة قديمة لأمها؛ فلتطردها عن ذهنك.

– أنت جادة أكثر مما ينبغي لشاعرة.

وصاحت جميلة، وهي تقف على عتبة الشرفة متحدية: شاعرة!

هددها بأصبع، ثم عاد إلى بثينة التي توجس وراء مظهرها الجاد زعلًا أو احتجاجًا.

– وأنت أنحف مما يجوز، كما أن أختك أسمن مما يجوز، ماذا تأكلين؟ وماذا تأكل؟

وصاحت جميلة: تأكل!

وجاءت أم محمد فحملتها رغم المقاومة وذهبت. وقالت بثينة: ماما مريضة.

– ماما بخير، حدثيني عن نفسك.

– لا شيء هام، ولكن ماما ليست بخير.

لن تكف عنك المطاردة في هذا البيت. وأنتِ ألا يشغلك حقًّا إلا الشعر، والرياضة، والكيمياء؟ وهل الله وحده هو معشوقك؟

– ألا يعجبك الحديث عن ماما؟

فقال مقطبًا: لم تعد تفهمني في مرضي.

والتقت عيناهما لحظات فحول بصره إلى النيل منهزمًا.

– ولكن الدكتور يا بابا.

فقاطعها برقة لتخفي ضيقًا: الحق أنني الطبيب، ولا أحد سواي.

– معذرة؛ فقد عودتني على الصراحة معك.

– بلا شك.

– وإذا بصوت رفيع حاد يصرخ: شك!

فقبض على ذراع الصغيرة، حتى جاءت أم محمد فذهبت بها.

– هل أصبحنا نسبب لك الكدر؟

– لا سمح الله، ولكن الإنسان يهاجر إذا ضاق بنفسه.

– إنها تبكي كثيرًا، وهذا مؤلم جدًّا.

– عليك أن تقنعيها بخطئها.

فقالت وهي تعبث بإسورة ساعتها الذهبية: لكن معاملتك لها تغيرت، وقلت لها بخشونة إنك ستفعل ما يحلو لك.

– أقالت ذلك أيضًا؟

– أنا الوحيدة التي يمكن أن تشكو لها.

انقبض قلبه، وتمتم: لكنه الغضب كما تعلمين.

– هي على أي حال مستعدة لأن تخفف عنك ضيقك بما في وسعها.

– ليس في وسعها شيء.

وترددت لحظات، ثم قالت: ألا تقدر أنها ربما تظن …؟

– أليس من الأفضل أن تطلعيني على آخر أشعارك؟

– لا جديد.

– لكن معشوقك لا يكف عن الإلهام.

– ربما تظن أن … كما تعلم؟

– أهي تصارحك حتى بالمخاوف السخيفة؟

– إني حزينة حقًّا.

فقال وهو يشعل سيجارة: أوهام سخيفة.

فقالت بلهفة: إني أصدقك، أنت مثال أبدي للصدق. أهي مجرد أوهام؟

ها أنت محاصر في ركن صلد.

– أمك أزعجتك أكثر مما يجوز.

– قل إنها أوهام.

فرمقها بعتاب، ولكنها تجنَّبَتْه ناظرةً إلى النيل وهي تسأل: ليس هناك امرأة؟!

وإذا بالصوت الرفيع يعلو: امرأة!

رفعها هذه المرة إلى حجره كأنما ليحتمي بها، وراح يداعبها بشيء من العنف الأبوي الذي يناسب شقاوتها، ولكن بثينة قالت بلهفة: أريد جوابًا يا بابا.

– ماذا تظنين بوالدك؟

– إني أصدقك فتكلم … وحياتي عندك تكلم.

ولكنها تجنبته ناظرة إلى النيل وهي تسأل: ليس هناك امرأة؟

وفي يأس شديد قال: لا شيء.

تهلل وجهها فاربدَّ قلبه، والتمعت عيناها بفرحة ظافرة، فتجهمت الدنيا. وتجلى الخريف في الجو، وانتشر في أعالي الشجر اصفرار باهت، وعكست قوافل من سحب بيضاء نصاعتها فوق الماء الرصاصي. وتضمن الفراغ الخابي أنغامًا صامتة من الرقة والحزن، وأسئلة مضنية عسيرة الجواب. وتضخمت كذبته حتى أنذرته بالعدم.

ومن شدة ضيقه زار مصطفى بمكتبه بالمجلة، وتجدد النقاش بلا نتيجة، وقال له مصطفى: لقد جاريتك وساعدتك على أمل أن يتبين لك عبث المحاولة، ولكنك غرقت.

فهتف متنهدًا: ألا تعلم أني أعيش الفن الذي تلهفت يومًا على خلقه؟

وأكمل مصطفى صفحة بين يديه، ثم بعث بها إلى المطبعة، وقال: كثيرًا ما خُيِّل إليَّ أنك تعاني أزمة حادة لفن مكبوت. فرفض ذلك بهزة من رأسه، وقال: لا، ليس الفن، ربما هو ما نلجأ بسببه أحيانًا إلى الفن.

فتمهل مصطفى قليلًا، ثم قال: لعله لو كنا من العلماء الذين ينفقون عشرين عامًا من العمر في البحث عن معادلة؛ لما عرفت التعاسة إلى نفوسنا سبيلًا.

فقال وهو يهز رأسه أسفًا: لعل سر شقائي أنني أبحث عن معادلة بلا تأهيل علمي.

مصطفى وهو يضحك: ولأنه لا يوجد وحي في عصرنا، فلم يبقَ لأمثالك إلا التسول.

التسول! في الليل والنهار. في القراءة المجدبة والشعر العقيم. في الصلوات الوثنية، في باحات الملاهي الليلية. في تحريك القلب الأصم بأشواك المغامرات الجهنمية.

وتحدث مصطفى عن زينب، فقال: إنها تعاني مرارة الهجر ومتاعب الحمل معًا. أجل كم أنها متوعكة، ولكن ما لقلبه قد تحجر. وهو مستعد أن يجود لها بكل غالٍ تحت شرط أن تحرره من استغلال حب ميت.

– أجل … هناك امرأة ما دمتِ تصرين على أن تعرفي.

والكراهية نبتَتْ في مستنقع آسِن مكتظٍّ بالحِكَم التقليدية والتدبير المنزلي، ولا عزاء فيما بلغناه من ثراء ونجاح؛ فالعفن قد دفن كل شيء. وحُبست الروح في برطمان قذِر، كأنها جنين مُجهَض. واختنق القلب بالبلادة والرواسب الدسِمة. وذبلت أزهار الحياة فجفَّت وتهاوت على الأرض، ثم انتهت إلى مستقرها الأخير في مستودعات الزبالة.

– ابكي ما شاء لك البكاء، ولكن عليك أن تسلمي بالأمر الواقع.

فقد قتل الضجر كل شيء، وانهارت قوائم الوجود بفعل بضعة أسئلة. وقلت له: تصور أن تكسب القضية اليوم وتمتلك الأرض، ثم تستولي عليها الحكومة غدًا. فقال لي: ألسنا نعيش حياتنا، ونحن نعلم أن الله سيأخذها؟

وكان في مكتبه يراجع مذكرة في فتور عندما دخل الساعي ليستأذن للمسيو يازبك، ودخل الرجل يتقدمه كرشه فسلم وانحنى، ثم جلس وهو يقول: مررت بميدان الأزهار، فقلت أزور وأحيِّي.

فقال عمر بسخرية باسمة: قل إنك جئت من أقصى الأرض من أجل وردة.

– عزيزي الأفوكاتو العظيم، أنت تعلم أن حديقتي ملأى بالورود.

– حسن، وإذن لا تتكلم عن وردة كلمة واحدة.

فابتسم ابتسامة عريضة وقال: من الحمق أن أتصور أنه يمكن أن أغلبك، ولنتقدم في أقصر طريق بين نقطتين.

– أفندم؟

ثقلت جفونه، وقال جادًّا: وردة لم تعد تقوم بواجباتها.

– أعليها واجب غير الرقص؟

– سيدي، أنت لم تشرف كابري تلك الليلة لترقص أو لتشاهد الرقص.

– وإذن؟

– قلت أشكو إلى الرجل الكبير.

فقطب عمر ولم ينبس، فقال الرجل: الشغل شغل يا عزيزي الكبير، وأنا أحب …

فقاطعه ببرود: افعل ما تراه في صالحك يا مسيو يازبك.

– إني أتحاشى إغضابك.

– لكني أنتحل لك العذر مقدمًا.

فأحنى الرجل رأسه ممتنًّا، وقال: وأعدك منذ الآن أن أعيدها إلى العمل إذا استغنيتَ عنها مستقبلًا.

– لن يجيء هذا اليوم يا مسيو يازبك.

– أصدق تمنيات السعادة يا شيري.

وهَمَّ بالقيام، ولكنه استمهله بدافع عبثي مما يلم به دون تمهيد، وسأله: خبرني يا مسيو يازبك، ماذا تعني لك الحياة؟

رفع الرجل حاجبيه الخفيفين دهشةً، ولما قرأ الجد في وجه صاحبه قال: الحياة هي الحياة.

– أأنت سعيد؟

– الحمد لله، أحيانًا يُصاب الموسم بالركود، أو يصيب الملهى غرام مفاجئ كغرام وردة، ولكن القافلة تسير.

– لكنك تعيش حياتك، ثم يأخذها الله؟

– هذا مفهوم طبعًا، ولكن بيتي جميل، والمدام عال، ولي ابن وحيد يتعلم الكيمياء في سويسرا، وسيعيش هناك.

وهو يبتسم: هل تؤمن بالله؟

فأجاب الرجل بدهشة: طبعًا، يا له من تحقيق طريف!

– إذن فقل لي: ما هو الله؟

ضحك الرجل عاليًا، وأزالت الأسئلة الغريبة الكُلفة، فسأل برجاء: هل يطول غرامك بوردة؟

– طبعًا.

– ألا يمكن …

فقاطعه قائلًا: أعدك إذا أخبرتني ما هو الله أن أتركها لك في الحال.

نهض الرجل، وانحنى مرة أخرى، وقال وهو ينصرف: ستجدني دائمًا في خدمتك.

١١

قَبَّلَها بشغف وامتنان وهو يقول: إنها لتضحية جسيمة أن تهجري عملك.

فقالت وعيناها الواسعتان تلمعان بأنداء دموع: من أجلك.

وعبقت الحجرة الشرقية بأنفاس الحب. وقال إنه ما كان يظن أنه سيحبها بكل هذه القوة.

وأخرجت من جيب الروب علبة كحلية، وأهدتها إليه في حياء، هدية أزرار ذهبية للقميص.

ندت عنه آهة فرح، كأنه سيستعمل الذهب لأول مرة.

– حبيبتي.

– الزرار كما ترى مكون من قلبين.

– ذلك أن قلبك من ذهب كما قلت لك.

وراحت ترجل شعره الأسود الغزير بأصابعها، ثم سألته: لم أتيت اليوم بملابسك وبِدَلك؟

فتجهم وجهه، وقال بنبرة زايلها تطريب الغرام وحنانه: هجرت بيتي نهائيًّا.

فهتفت بدهشة: لا!

– هو الحل الوحيد.

– قلت لك إنني لا أحب أن أسبب لك المتاعب.

– لندَعْ هذا الحديث جانبًا.

تكهرب جو الحجرة في سكون الفجر … رمته بنظرة يائسة وغاضبة من عينين دمعت أسفلهما لطختان زرقاوان. ما أبشع شراسة الغضب في وجه ظل أليفًا طيلة عشرين عامًا!

– ألم أنصحك بأن تروضي نفسك على قبول الواقع؟

– بل قل إنك تلطخ كرامتك مع امرأة ساقطة.

– سيوقظ صوتك النائمين.

– انظر إلى الأحمر في منديلك، ما أقذر هذا!

وأعماه الغضب فصاح: فليكن، وماذا بعد؟

– بنتك في سن الزواج.

– إني أدفع عن نفسي الموت.

– ألا تخجل؟ إني خجلة من أجلك.

فصاح بغضب أشد: قبول الموت أدعى للخجل.

وسقط رأسها مع دموعها، وهي تقول بصوت مختنق: عشرون عامًا دون أن أعرف قذارتك.

فقال بجنون: إذن فلتكن النهاية.

– سأهيم على وجهي.

– بل تبقين، فهذا هو بيتك، وسأذهب أنا.

وارتميت على مقعد بحجرة الجلوس مُغمَض العينين من الألم. ورفعت رأسك على حس، فإذا بثينة واقفة أمامك، ناعسة العينين من أثر النوم، شاحبة الوجه. ترامقا في صمت في جو مشحون بالعتاب، والشعور بالإثم، وتذكرت الكذبة السوداء. وعصَرَك خزيٌ لم تشعر به من قبل.

– آسف يا بثينة على إزعاجك.

وضح في ضمة شفتيها الكبرياء الجريح.

– لا فائدة من الكلام.

ناءت بالأرض التي تحملها فوق عاتقها، ولم تنبس.

– ستظل أمك في البيت محاطة بكل رعاية.

ودعا الله في سره ألا تبكي، وتمتم: إنه بلاء، ولكني أدفع عن نفسي ما هو أشد.

ونظرت في عينيه بنظرة حزينة جدًّا، وقالت: ولكنك قلت لي: لا.

وهو يتنهد محترقًا: كان الصدق غير لائق.

– لماذا؟

فقال برجاء: فلنبقَ على ما بيننا من حب.

وذهبت، ليس من الممكن أن تتلقى نظراتها مرة أخرى قبل أن تصفح.

وقالت وردة: سوف تندم على قرارك.

– كلا، لم أعد أطيق الحياة الكاذبة.

وفكرت في قلق، ثم تساءلت: كم أخشى أن أفشل في إسعادك!

– لكنني سعيد بالفعل.

وأسلم نفسه للسعادة، ولم يسمح لأي فكرة معادية بأن تكدر صفاءه، وتوقع من بادئ الأمر معارضة من ناحية مصطفى، ولكنه شكمه بلا تردد، وقال له: إني سعيد فهل تكره ذلك؟ حتى شيء من الشعر يتحرك في أعماقي.

وحتى العمل انفتحت له نفسه بعض الشيء، وإن ظل على تحفظه في قبول القضايا. وفي أويقات الراحة بين العمل كان يجدد نشاطه بمحادثتها عن طريق التليفون، ثم يهرع إلى عُشه ليجده في صورة باهرة، وتطالعه صاحبته بوجه يتألق بالسعادة. وكانا يفضلان الحياة في الحجرة الشرقية. وفي بعض الأحيان ينطلقان إلى أطراف القاهرة، إلى ملتقيات العشاق، أو يقومان برحلات ليلية إلى الفيوم، أو استراحة الطريق الصحراوي. ولما علمت بماضيه الشعري الذي بشر ببعث جديد عملت على إيقاظه بمحفوظاتها المترعة. وكانت تحفظ تمثيليات شوقي منذ عهد دراستها بالمعهد، كما حفظت الكثير من أشعار الغزل. وقال لها بإعجاب: ما أجمل حبك للشعر!

فحثته على تجديد شبابه الشعري، ولكنه قال بحذر: الشعر جميل، ولكن أجمل منه أن نعيشه!

وقالت له يومًا: أنت لم تسألني عن ماضيَّ!

فقال وهو يقبلها: عندما تحل بنا بركة النشوة يملؤنا اليقين، فلا نسأل عن شيء.

ولكنها كانت راغبة في الحديث عن ماضيها؛ فقالت: كان أبي مدرس لغة إنجليزية، من المدرسين الذين لا ينساهم تلاميذهم. ولو كان على قيد الحياة يوم أعلنت رغبتي في دخول معهد التمثيل لشجعني وباركني، ولكن أمي سيدة متدينة جدًّا، وضيقة العقل جدًّا، فدخلت المعهد على رغمها، ولما قررت أن أحترف الرقص ثارت عليَّ، وثار معها أخوالي وعم عجوز، وانتهى النزاع بالقطيعة، فهجرت أهلي.

– وكيف عشت وحدك؟

– قاسمتُ زميلة من ممثلات المسرح بيتها.

وراح يداعب يدها البضة بإعجاب، ثم سألها: أكنت تحبين الرقص من أول الأمر؟

– كنت أحبه، ولكني حلمت بأن أكون ممثلة، وبذلت جهدي ولكني فشلت؛ فقنعت بهوايتي الأولى.

وتجهم وجهه وهو يسأل: وهل استبد بك يازبك؟

– الحق أنه ألطف من غيره، ولم أكن أجهل ما يعنيه العمل في ملهًى ليلي.

ثم بحرارة صادقة: ولكنك حبي الأول والأخير.

فضمها إليه ضمة امتنان، وسأل: ولماذا لم ترجعي إلى أمك عقب فشلك في التمثيل؟

– كان قد فات الأوان، ولي كبريائي، وقد زاد من حدته الفشل.

الفشل! اللعنة التي تدفن ولا تموت. ما أفظع ألا يستمع لغنائك أحد، ويموت حبك لسر الوجود، ويمسى الوجود بلا سر، وتبعث الحسرات يومًا لتخرب كل شيء!

وشهد مكتبه زيارات خطيرة من خاله وأخته الوحيدة، وضرعا إليه ألا يتزوج من «الراقصة». وقال له خاله حسين كرم المستشار: استمرار هذه العلاقة، سيحول دون اختيارك مستشارًا يومًا ما.

فقال له بشيء من الجفاء: ما فكرت في ذلك ولا أردته.

دافع عن سعادته بكل قواه، وبقوة اليأس الذي خنقه. وتبدى كطفل بريء دائم المرح، حتى قال له مصطفى ضاحكًا: خبرنا الآن عن معنى الحياة.

فضحك عمر عاليًا، ثم قال: هذا السؤال لا يلح علينا إلا حينما يفرغ قلبنا.

– الرنين الأجوف لا يصدر عن إناء ممتلئ؛ ولذلك فالنشوة هي اليقين. ولذلك فإن أملي الأخير أن يجود الحب بنشوة دائمة.

وقال مصطفى: أحيانًا أرثي لك، وأحيانًا أغبطك.

فلمعت عيناه في انتصار، فاستطرد مصطفى: إني أنطلق في حياتي المزدحمة كالصاروخ، ولكني ربما تذكرت في يوم من أيام الخماسين أني أطوي جوانحي على فشل قديم، وربما اعترضني سؤال شيطاني عن معنى وجودي، ولكني سرعان ما أدفنه في الأعماق كذكرى مخزية.

وسفعت رياح شتوية نوافذ المكتب، وانقلب الأصيل ليلًا، فاستطرد الذي يتحدى البرد بصلعته: لماذا نسأل؟ الحكاية أن العقيدة كانت تعطينا معنى متكاملًا، وأننا نحاول أن نملأ الفراغ تحقيقًا لقانون طبيعي. وأمس ثرت على لحظة ضعف ألمَّت بي، وقلت إن تعليقاتي الفنية لها معنى، وبرنامج الماضي والحاضر بالراديو له معنى، وتمثيلياتي في التلفزيون لها معنى، ولا يحق لي أن أسأل بعد ذلك.

– يا لك من فارس!

وتمادى في تعداد انتصاراته قائلًا: وأمس ثبت لي أنني قادر على حب زوجتي لدرجة لا تُصَدَّق، حتى إنني اقترحت على رئيس التحرير أن أسجل الليلة في «خبَر الأسبوع الفني». أما ابني عمر الذي سميته للأسف باسمك فمراهق شكس، واهتمامه بالكرة يماثل اهتمامنا القديم بقلب العالم رأسًا على عقب.

قلب العالم رأسًا على عقب انتهى في السجن، وسوف يخرج يومًا ما، بعد بضعة أعوام، وسوف تتلاقى الأعين في دهشة مزعجة، فليكترث بذلك غيري.

وقال مصطفى بلهجة أكثر جدية:

اقترح عليَّ رئيس التحرير أن ألقي محاضرات عن التوعية الاشتراكية على موظفي وعمال الدار.

– بأي صفة؟

– بصفتي اشتراكيًّا عتيقًا.

– وقبلت طبعًا؟

– طبعًا، ولكني أتساءل: ما دامت الدولة تحتضن المبادئ التقدمية وتطبقها، أليس من الحكمة أن نهتم بأعمالنا الخاصة؟

– كأن تبيع اللب والفشار، وتتساءل عن معنى الوجود!

– أو أعشق لأبلغ اليقين.

– أو تسقط مريضًا بلا علة.

وراحا يدخنان في صمت، وإذا بعمر يسأله: كيف حالهم؟

ابتسم مصطفى، وقال: زينب عال، استردَّت رصانتها، ولكنها مرهقة بالحمل، وثمة خبر يجب أن تعلمه.

تجلى اهتمام في عينيه، فقال الآخر: إنها تفكر في أن تبحث عن عمل بعد الولادة.

لوح بيده ممتعضًا، فاستطرد مصطفى: مترجمة مثلًا؟ أخشى أن تصمم يومًا على هجر البيت.

– لكنه بيتها!

فحدجه بنظرة ساخرة، وقال: بثينة مستغرقة في دروسها، وجميلة توشك أن تنساك.

فغض بصره في ارتباك، فعاد مصطفى يقول: أنا أقوم بالواجب، ولا أتوانى عن نقدك مُرَّ النقد.

فقال عمر ضاحكًا: منافق عتيق!

– أما زوجتي؛ فلا تكف عن شن الحرب عليك.

– طبعًا … طبعًا.

– وكثيرًا ما أدافع عنك عندما نكون منفردين، وأُرْجع سلوكك إلى «مرض نفسي خطير»، ثم أؤكد لها في نفس الوقت أنه مرض غير معدٍ.

١٢

ليس كمثل وردة في حبها أحد؛ هي مغرمة برجلها لحد الجنون، مغرمة بعشها لحد العبادة، وهي متفرغة لحبها، تقوم بجميع واجباتها بلا معين. وكان عمر ينظر إلى الجدران، والأثاث، واللوحات، ويشم الورد في الأصيص، ويستمع إلى أنغام الحجرة الشرقية، ثم يقول إنه آدم في الجنة. وهي لا تطالبه بشيء، وربما دفعها دفعًا لابتياع ما يلزمها من ثياب وحوائج. وزاد وزنها فعالجته بالمشي، وبشيء من الرجيم، وحرصت ما استطاعت على ألا يفرط في طعام أو شراب. وشعر تمامًا بأنها تذوب في شخصه، وتتفانى في حبه، وتتعلق به كأمل أخير. وفي ليالي الشتاء الطويلة انطويا على نفسيهما، وطال بهما السهر في الحجرة الشرقية، يغرقان في أحاديث لا نهاية لها، عن الماضي، والحاضر، والمستقبل، والواقع والخيال، والحقيقة والحلم، تتخللها القبلات والملاطفات. ولولا الشُّرفة المغلقة المطلة على الميدان ما روعتهما بين حين وآخر عواصف الشتاء أو انهلال المطر. واستنفدت ليالي الشتاء الأحاديث، وشملها الصمت أوقاتًا، ولكنه صمت مضمر للرضى، والارتياح، والطمأنينة المتبادلة. وطافت به مرة خيالات فابتسم، ومرة وجم. وتخيل تصادم سيارتين عند مفترق الطريق، وتطاير رجل وقور في العمر فجزع. وهمس الصوت الحنون: أين أنت؟

فأجاب في شبه حياء: لا شيء.

فطوقت عنقه بذراعها، وقالت: أراهن أنه شيء هام.

هز رأسه نفيًا، فسكتت برهة، ثم بفطنة قالت: لا أدري لمَ لا تزورك بثينة وجميلة في مكتبك؟

وكان يفكر في العنكبوت الذي يبني بيتًا غاية في الغرابة ليصطاد ذبابة، ولكنه قال: بثينة لا تريد.

– هل بُلِّغَتْ رغبتك؟

– حملها إليها مصطفى.

– لم تحدثني عن ذلك؟

– ليس للأمر أهمية.

– بل يهمني كل ما يخصك.

ومنعًا للخيالات الغريبة لعب التلفزيون دوره، فجعلا ينتقلان بين القنوات الثلاث. وسأل مصطفى عنهما بالتليفون مرة فدعته إلى العش. ووجدت فيه رجلًا يؤلف دون عناء، فأغرته بتكرار الزيارة. وسأله مصطفى عن الشعر ومدى ما بلغه من خياله، فأجابت وردة: إنه يكتب شعرًا.

ولكن عمر احتج قائلًا بازدراء: ما هو إلا إجهاض، وقد مزقته.

فقال مصطفى مواسيًا: السعادة أهم من الشعر.

وأوشك أن يسأله: «ولكن ما هي السعادة؟» ولكنه أشفق من العينين الرماديتين اللتين ترمقانه باهتمام. وبفضل التلفزيون والراديو ومصطفى تخففا من الحديث المُعاد. وقال لنفسه: «يا إلهي!» وتخيل أنه استحوذ على قوة سحرية، وراح يستعملها في تسلية الناس، كأن يخفي في غمضة عين دار الأوبرا حتى يتجمع الناس ذاهلين، ثم يعيدها في غمضة عين حتى يتصايح الناس من الذهول. ما أحوج الناس إلى جرعات مماثلة من السحر! وقال لنفسه مرة أخرى: «يا إلهي!» وحدجها بنظرة ناعمة، فسألته: لماذا لا تدعو أصدقاءك للسمر واللهو؟

فقال بهدوء: لا صديق لي إلا مصطفى.

وشعر بأنها تداري إنكارًا موضحًا: لا أعتبر الزملاء والمعارف من الأصدقاء.

فعملت من ناحيتها على أن يكثرا من الخروج، وأن يمضيا السهرات ما بين السينما والمسرح، بل والملاهي الليلية. وقالت: هذا أفضل من البقاء وحدنا في البيت.

فوافق برأسه، ولكنها رنت إليه بعتاب قائلة: أول مرة يخفق ذكاؤك في مجاملتي.

فقال بعد فوات الفرصة: قصدت الثناء على مشروعاتك اللطيفة.

– أما أنا فلا أملُّ معاشرتك وحدك إلى الأبد.

– ولا أنا صدقيني.

وسخط على غفلته. وقال لنفسه للمرة الثالثة: «يا إلهي!» أما مصطفى فلم يخفِ عنه إعجابه بسعادته. وقال له يومًا وهو يجالسه في مكتبه: حدثني عن حبك؛ فإنه سيحملني في النهاية على اعتناق آراء جديدة في الحياة.

وقرأ في عينيه نظرة ناقدة لا تخلو من خبث، فسأله: هل هنت على بثينة لهذا الحد؟

– أنت تعلم أنها مثالية وذات كبرياء، ولكنها في الأعماق تعبدك.

– ألم أوحشها الغادرة؟

– ستراك يومًا، ولكن بالله حدثني عن حبك.

فقال مقطبًا في تحدٍّ: كأقوى ما يكون.

– تصريح سياسي؟

– أنت منافق، ولا حق لك في الاطلاع على أسرار القلوب.

ضحك مصطفى طويلًا، وقال: دعني أصفه لك كما أتخيله، الكلام اللذيذ نضب، المداعبات اختُصِرَت، والشراب يكثر بلا حيطة.

– مت بغيظك.

يا للرعب! وردة محبة صادقة، وجميلة. يا إلهي! ما العمل لحماية النشوة من النعاس؟ أو لبعث الشعر الذي مات؟ يا أصيل الشتاء المعتم.

وسهرا ليلة في ملهى باريس الجديدة، ودون أي توقع ظهرت فوق المسرح مارجريت، تلقى ضربة من الماضي بلا حذر، ولكنه ضبط أعصابه بقوة، وغنت:

كلما رأيتك كثيرًا ازددتُ شهوة
وكلما ازدادت شهوتي زاد لهيبي

وهمست وردة: يا لها من حكمة!

ولكن نظرة واحدة تتبادل بينك وبين مارجريت خليقة بأن تقرأ وردة فيها كتابًا، وأعلن عن رغبته في الذهاب فذهبا، وتسكَّعا بالسيارة في ليل بارد وطرقات مقفرة. لا داعي للانفعال ولا معنى له. لكن عودتها المباغتة شجعت الملل المتردد على الاستفحال، وستقف على حافَة الهاوية مرة أخرى، وعند اليأس تنطلق القوى المدمرة.

ومن مكتبه قال لوردة بالتليفون إنه مدعو لحفل تكريم زميل اختير مستشارًا، وذهب إلى باريس الجديدة. ومضت مارجريت تغني وهو ينتظر. ماذا جاء بي؟ وبهذه السرعة؟ وعمَّ أبحث؟ هل انتهت وردة حقًّا؟

وجاءت مارجريت مرفوعة الرأس، وجاءت الشمبانيا. وقالت مشرقة الوجه: كان من المؤسف أن أسافر فجأة.

– فجأة؟

– تلقيت برقية من الخارج.

وتفحصها بحب استطلاع، وهو يعجب للقوة التي تدفعه نحوها، ودعاها للذهاب معه، فقالت: ليس الليلة.

فضبط أعصابه متسائلًا: متى؟

– ليكن غدًا.

وعاد إلى عشه حوالي الواحدة، فوجد وردة جالسة بالحجرة الشرقية، فقبَّلها ثم سألها كما كان يسأل زينب: ما زلت مستيقظة؟

فقالت بعتاب: طبعًا!

ورنت إليه طويلًا، ثم قالت: أرجو ألا تكون أفرطت في الطعام أو الشراب.

ولما استلقى في البيجاما على الديوان، زحفت نحوه حتى ألصقت شفتيها بشفتيه. ولم يكن راغبًا في شيء ألبتة، ولكنه قال لنفسه: «لتكن ليلة شرعية.» ولم يدرِ كيف يعتذر في الليلة التالية، وحدثته بالتليفون، فلم يُشِر إلى غيابه المنتظر. ومضى إلى باريس الجديدة وهو يهنئ نفسه على استهانته، ورأى الضوء الأحمر يلون مارجريت بلون الجنيات الساحرات. وهزه منظر عنقها النحيل ودسامة صوتها. وغشى دخان السجائر الفوانيس الأسبانية المدلاة من سقف مزخرف برسوم العرايا. وتساءل: من أين تتسلل النشوة إلى هذا المكان المغلق المعبق برائحة الخمر والسجائر؟ وراء عمود ضخم مضيء من الداخل رأى متعانقين في ذهول الأموات. ولكن كيف اقتلعت وردة من نفسه كأنها زهرة صناعية؟ ولماذا يلح الموت على تذكرينا بنفسه بين كل عمل وآخر؟ ومن ذا يستطيع أن يؤكد أن هؤلاء السكارى موجودون؟

ولما انطلقت بهما السيارة نحو الهرم، قالت: الليل بارد.

فشغل جهاز التدفئة، فقالت: لِمَ لا تذهب إلى بيتك؟

– لا بيت لي.

وأوقف السيارة في محيط من الظلام تحت غطاء كثيف من السحب، وقال بسرور: لا، نجم واحد.

وضمها إلى صدره بعنف يكاد ألا يُحْتَمل، ومن دوامة أنفاس مختلطة همست: الظلام مخيف.

فأسكتها بقُبلة، وقال: لا وقت للخوف.

مسها بديع، ولكن هذا لا شيء. المهم أن تلامس سرَّ أسرار الحياة. واندفعت الكلمات المتقطعة في أنات كلغة السكوت في الليل، وغنى الانسجام أغنية تبشر بحياة أفضل، وصهرت حرارة الأنفاس قلوبًا أضناها البرد. وغابت الأعين حتى عن ظلمة الليل، وتنهد فؤاد في ظفر وارتياح، وتنهد من ثقل الارتياح. يا إلهي! وتنهد في فتور وغم، ونظر إلى الظلام البهيم، وساءل نفسه: أين النشوة الحقيقية؟ وأين مارجريت؟ فإن الظلام لم يُبقِ منها على شيء. وعاد إلى عشه متجهم الباطن. وقفت قبالته جامدة القسمات، حيَّاها وهو يبتسم، ولبثا واقفين برهة مرهقة، وارتمى على الديوان قائلًا: آسف!

فقاطعته: لا داعي لاختلاق المعاذير.

وذهبت في الحجرة وجاءت، ثم جلست على مقعد قريب، وقالت: لاحظت جيدًا أنك كنت بحاجة إلى تغيير.

– ليس الأمر بهذه البساطة.

فقالت بعصبية لم تفلح في مقاومتها: التحقيق مهمة لا تسر، ولا داعي لعذاب لا موجب له، إني أسألك سؤالًا واضحًا: هل فشلنا؟

فقال بصدق وخمول معًا: لا مثيل لك، إني أومن بذلك.

وهي تنظر بعيدًا: كنت مع امرأة؟

تردد قليلًا، وقال: إن أردت الحقيقة؛ فإنني لم أبرأ بعدُ من المرض.

فقالت بحدة لأول مرة: لكنه مرض لا يجد علاجًا إلا عند امرأة.

ثم بهدوء قالت: ليس عندي لك إلا الحب، فإن زهدت فيه انتهى كل شيء.

وراقبت صمته بيأس، ثم استطردت: وتقلب الأهواء في الشباب داء له علاج، أما في العقلاء أمثالك فلا علاج له.

وأجال بصره في الحجرة يائسًا، وقال: هل أنا مجنون؟

– العجيب أن شخصيتك لا توحي بأي نزق.

– لكني متهم بالجنون لسلوكي.

هتفت بحدة: إن كنت تقصد معاشرتك لي، فارجع إلى زوجتك.

– لا زوجة لي.

– إذن فلأذهب أنا، مشكلتي أبسط من مشكلة زوجتك، لأنني لن أعدم عملًا أو مسكنًا.

وخَزَه قولها وأوشك أن يصرخ في وجهها: «اذهبي.» ولكنه مد ساقيه وأغمض عينيه.

– كنت مع امرأة؟

فقال باستهانة وضجر: أنت تعرفين.

– من؟

– امرأة.

– ولكن من تكون؟

– لا يهم.

عرفتها قبل أن تعرفني؟

– مقابلة عابرة.

– تحبها؟

– كلا.

– لمَ ذهبت معها إذن؟

– هه …

– لعلها رغبة طارئة؟

– يعني!

– وهل ترضخ لأي رغبة؟

– ليس في جميع الأحوال.

– متى؟

باستهانة وضجر: عند الإحساس بالمرض.

– هل أنت مولع بالنساء؟

– كلا.

– ألم تكن تحبني؟

– بلى.

– ولكنك لم تعد تحبني.

– أحبك، ولكن عاودني المرض.

فقالت بحدة: لاحظت تغيرك منذ أيام.

– منذ عاودني المرض.

فهتفت بحنق: المرض … المرض!

ثم وهي تنظر نحوه بسحنة منقلبة: هل ستقابلها مرة أخرى؟

– لا أدري.

– أيسرك أن تعذبني؟

فنفخ قائلًا: قليلًا من الراحة من فضلك!

وذهب بمارجريت إلى استراحة الطريق الصحراوي في ليلة شتاء باردة، ولكنها صافية السماء مرصعة بالنجوم. وعند العودة قالت برقة: أليس الأفضل أن يكون لنا مأوى؟

فأجاب بغموض: كلا.

وقد اقتنع بأنه لا جدوى من الاستمرار، ولكنها استاءت من إجابته، وقالت ببرود: أنا لا أرتاح لمغامرات الطرق.

فأوصلها إلى الفندق دون أن ينبس بكلمة.

١٣

نشوة الحب لا تدوم، ونشوة الجنس أقصر من أن يكون لها أثر. وماذا يفعل الجائع النهم إذا لم يجد الغذاء؟ والعاصفة الهوجاء تجتاحك لتقتلعك، والاستقرار مات ولا سبيل إلى بعثه. وثمة راقصة سمراء بباريس الجديدة أعجبته رشاقة قدها ومرح نظرتها؛ فذهب إلى الملهى دون مبالاة بالآخرين. وحيته مارجريت من فوق المسرح بابتسامة، فابتسم لها، ثم دعا السمراء إلى مجالسته. قد تظن مارجريت أنه يمارس معها ألعوبة غليظة من ألاعيب الغرام، ولكنه فَقَدَ في العاصفة روح الدعابة، وأغرى السمراء بالنقود لتذهب معه ففعلت. ليس أفضل ولكن خُيِّلَ إليه أن قلبه اهتز مرة وهي تضحك. على هذا القلب أن يهتز أو أن يموت. لا الشعر، ولا الخمر، ولا الحب، فأي نداء تلبي تلك النشوة المستعصية!

وكل ليلة يذهب بامرأة. من هذا الملهى أو ذاك، أو حتى من الطريق. وعندما ذهب إلى كابري، ودعا راقصة تُدعى منى، هرع إليه يازبك مرحبًا مستبشرًا، فحنق على فرحته التي اعتدَّها نعيًا لجهاده الخائب.

– إكسلانس … هل …

فعبس في وجهه بجفاء أجفله، ومضى بمنى. وهو يضمها في حضنه أرعشته رغبة غريبة في قتلها. وتخيل أنه يشق صدرها بسكين، فيعثر في داخله عما يبحث عنه. القتل هو الوجه الخلفي للخلق، وهو تكملة الدورة الملغزة التي لا تتكلم، وهمست منى: مالك؟

فقال وهو يصحو منزعجًا: لا شيء، إنه الظلام.

– ولكن لا أحد حولنا.

وساق السيارة بسرعة جنونية حتى قبضت على ساعده، ثم هددته بالصراخ. وهو يُغيِّر ملابسه قال لنفسه لا بد من شيء. الشيء، أو الجنون، أو الموت. وجلست وردة في الفراش، وهي تقول: أنا ذاهبة.

فقال برقة: إني مسئول عنك.

– لا أريد شيئًا.

وعادت تقول بعد صمت: من المحزن أني أحببتك بصدق.

فقال بملل: ولكنك لا تصبرين عليَّ.

فقالت بلهجة قاطعة: نفد الصبر.

وعافتها نفسه، فلم يعقب.

وعاد في الليلة التالية فلم يجد لها أثرًا. ابتسم في ارتياح، واستلقى ببدلته على الديوان مستمتعًا بالشقة الصامتة الخالية. وكل ليلة ساق إليها امرأة جديدة.

وقال له مصطفى وهو يضحك: أهلًا بأكبر زير نساء في القارة الإفريقية.

ابتسم في فتور، فاستطرد الرجل: سرك يذيع يومًا بعد يوم، حدثني عنك أكثر من زميل من زملائي، وترامت أخبارك إلى بعض زملائك بالنادي، وهم يتساءلون ماذا قلبه؟ وكيف جدد شبابه؟

قال بنفور: الحق أني أكره النساء.

– هذا واضح!

ثم بلهجة جدية: أفرغ ما في نفسك من اضطرابات؛ كي تستقر بعد ذلك بصفة نهائية.

وجاء الربيع، فسره أن تنطلق السهرات من القاعات المغلقة إلى الحدائق، وعانى الضجر والأحلام المرهقة. وفي أوقات تسلَّى بقراءة الشعر؛ فهفت نفسه إلى أشعار الهند وفارس. وحملته مغامراته الليلية إلى كابري مرة أخرى، وجلس تحت التكعيبة يشرب كأسًا، ويتلقى نفحات الربيع من وراء السرو. وعزفت أنغام راقصة، فإذا بوردة فوق المسرح، لم يدهش لذلك ألبتة، فلم ينزعج ولم يبتسم. كان ذلك في الخريف. وتواصلت الفرحة بالنشوة بالحب ثم كان الجفاء. الدورات المفرغة فمتى يحطمها القلب المحزون؟ متى يخترق الفضاء لغير رجعة؟! وها هي تلمحه ثم تواصل رقصها. وها هو يازبك يسترق النظرات في قلق مضحك. أما هو فخلا من القرارات عزمه، ورأى عقب الاستعراضات وردة غير بعيدة، فدعاها إلى مائدته. وجاءت باسمة الثغر كأن ما كان لم يكن. وطلب الشراب الذي اشتهر به في الملاهي الليلية، وقال لها بصدق: الحق أني آسف يا وردة.

فقالت وهي تبتسم ابتسامة غامضة: لا يجب أن تأسف على ما فات.

ثم بنبرة ساحرة: وتجربة الحب ثمينة، ولو بالعذاب.

فقال وهو يعض شفته: لست طبيعيًّا.

فقالت بصوت مهموس: إذن لندعُ لك بالسلامة.

وتلاقت عندهما نظرات النساء اللاتي مضى بهن ليلة بعد أخرى، فابتسمت وردة وتمتم هو: بلا رغبة.

فتساءلت برفع حاجبيها، فقال: عرفتهن بلا استثناء، ولكن بلا رغبة.

– ولماذا إذن؟

– لأن اللحظة الإلهية لا تجود بنفسها أكثر من ثانية واحدة.

فقالت بامتعاض: ما كان أقساك! إنكم لا تؤمنون بالحب إلا إذا كفرنا به.

– ربما، ولكن مشكلتي غير ذلك.

وحمل إليه النسيم من الحقول الغارقة في الظلام شذًا مسكرًا من زهر البرتقال، فتَّح له عوالم خفية من المسرات، فطرب طربًا استخفه، وأخرجه من قيود الاتزان، فسألها بشغف: خبريني يا وردة، لماذا تعيشين؟

فهزت منكبيها وأتت على كأسها. ولكنه كرر سؤاله بجدية لا لبس فيها، فقالت: وهل لهذا السؤال من معنى؟

– لا بأس أن نسأله أحيانًا.

– إني أعيش، هذا كل ما هنالك.

– بل إني أنتظر جوابًا أفضل.

فكرت قليلًا، ثم قالت: لنقل إني أحب الرقص، والإعجاب، وأتطلع إلى الحب الحقيقي.

– هذا يعني أن الحياة عندك هي الحب.

– ليكن.

– ألم تحبي مرة ثم كرهت الحب؟

فقالت بامتعاض: غيري فعل.

– وأنت؟

– كلا.

– كم مرة أحببت؟

– قلت لك يومًا …

ولكنه قاطعها: لندع جانبًا ما قلته يومًا، صارحيني الآن بكل شيء.

– ها هو طبعك الوحشي يغلبك.

– ألا تريدين أن تتكلمي؟

– قلت ما عندي.

فتنهد آسفًا، ثم سألها محمومًا: والله، ما موقفك منه؟

حدجته بنظرة ارتياب حادة، فقال بتوسل: أجيبيني من فضلك يا وردة.

– أومن به.

– بيقين؟

– طبعًا.

– من أين جاء اليقين؟

– إنه موجود وكفى.

– أتفكرين فيه كثيرًا؟

ضحكت كالمرغمة، وقالت: عند كل حاجة أو شدة.

– وفيما عدا ذلك؟

فقالت بحدة: ألا ترى أنك تحب تعذيب الآخرين؟

ولبث في الملهى حتى الثالثة صباحًا، ثم انطلق بسيارته — وحده — إلى الطريق الصحراوي. وقال إن خروجه وحده هذه الليلة يعتبر تطورًا ذا شأن. ثم أوقف السيارة في جانب من الطريق المقفر، وغادرها إلى ظلمة شاملة، ظلمة غريبة كثيفة بلا ضوء إنساني واحد. لا يذكر أنه رأى منظرًا مثل هذا من قبل؛ فقد اختفت الأرض والفراغ، ووقف هو مفقودًا تمامًا في السواد، ورفع رأسه قبل أن تألف عيناه الظلام، فرأى في القبة الهائلة آلاف النجوم عناقيد، وأشكالًا، ووحدانًا. وهَبَّ الهواء جافًّا لطيفًا منعشًا موحدًا بين أجزاء الكون. وبعدد رمال الصحراء التي أخفاها الظلام انكتمت همسات أجيال، وأجيال من الآلام، والآمال، والأسئلة الضائعة. وقال شيء إنه لا ألم بلا سبب، وإن اللحظة الفاتنة الخاطفة يمكن أن تمتد في مكان ما إلى الأبد. وقد يتغير كل شيء إذا نطق الصمت، وها أنا أضرع إلى الصمت أن ينطق، وإلى حبة الرمل أن تطلق قواها الكامنة، وأن تحررني من قضبان عجزي المرهق. وما يمنعني من الصراخ إلا انعدام ما يرجع الصدى. وأسند جسمه إلى السيارة ونظر نحو الأفق. وأطال وأمعن النظر. وثمة تغير جذب البصر، رق الظلام، وانبثت فيه شفافية. وتكوَّن خط في بطء شديد، ومضى ينضح بلون وضيء عجيب كسرِّ أو عبير. ثم توكد فانبعثت دفقات من البهجة والضياء والنعسان. وفجأة رقص القلب بفرحة ثملة، واجتاح السرور مخاوفه وأحزانه، وشد البصر إلى أفراح الضياء يكاد ينتزع من محاجره. وارتفع رأسه بقوة تبشر بأنه لن ينثني. وشملته سعادة غامرة جنونية آسرة، وطرب رقصت له الكائنات في أربعة أركان المعمورة. وكل جارحة رنمت، وكل حاسة سكرت، واندفعت الشكوك والمخاوف والمتاعب. وأظله يقين عجيب ذو ثقل يقطر منه السلام والطمأنينة، وملأته ثقة لا عهد له بها، وعدته بتحقيق أي شيء يريد. ولكنه ارتفع فوق أي رغبة وترامت الدنيا تحت قدميه حفنةً من تراب. لا شيء! لا أسأل صحة، ولا سلامًا، ولا أمانًا، ولا جاهًا، ولا عمرًا. ولتأتِ النهاية في هذه اللحظة؛ فهي أمنية الأماني.

ولبث يلهث ويتقلب في النشوة، ويتعلق بجنون بالأفق، وتنفس تنفسًا عميقًا كأنما ليسترد شيئًا من قوته عقب شوط من الركض المذهل، وشَعَرَ بدبيب آتٍ من بعيد، من أعماق نفسه. دبيب إفاقة ينذر بالهبوط إلى الأرض. عبثًا حاول دفعه أو تجنبه، أو تأخيره. راسخ كالقدر، خفيف كالثعلب، ساخر كالموت. تنهد من الأعماق واستقبل موجات من الحزن، وأفاق والضياء يضحك.

رجع إلى مجلسه بالسيارة، ودفعها بلا حماس، ونظر إلى الطريق بفتور كأنما يخاطب شخصًا أمامه: هذه هي النشوة.

وقال بعد صمت: اليقين بلا جدال ولا منطق.

ثم بصوت مسموع أكثر: أنفاس المجهول وهمسات السر.

وتساءل وهو يزيد من سرعة السيارة: ألا يستحق أن يُنْبَذ كل شيء من أجله؟

١٤

استيقظ في عشه الخالي على رنين جرس التليفون فتناول السماعة، وجاءه صوت مصطفى: أين كنت طوال الليل؟

ولما لَمْ يجب قال: زينب في مستشفى الولادة.

ومرت لحظات قبل أن يفقه المعنى، ثم تذكر أنه زوج وأب، وأن مزيدًا من الأبوة ينتظره.

وفي بهو الاستقبال بالمستشفى وجد مصطفى، وبثينة، وعليات زوجة مصطفى؛ وهي امرأة رزينة قوية الشخصية في الأربعين من العمر، ممتلئة مع ميل إلى القصر، مستديرة الوجه والقسمات. ولما جاء دور بثينة في المصافحات مدَّت له يدها، وهي تغض البصر لتخفي وجومها.

وقال مصطفى: هي في حجرة الولادة، وكل شيء طبيعي.

وهَمَّ بالذهاب إلى الحجرة؛ فقالت عليات بحذر: كنت بالداخل، وها أنا ذاهبة إليها.

– ألا أدخل أيضًا؟

فقال مصطفى: يحسن تجنب الانفعالات الطارئة.

ولم يطل بهم الانتظار، فقد رجعت عليات متهللة الوجه وهي تقول لعمر: مبارك عليك ولي العهد، وزينب في طريقها محمولة إلى حجرتها.

نظر إلى بثينة بشوق، ثم جلس إلى جانبها واضعًا راحته فوق يدها دون كلام، فتركتها بعض الوقت حياء، ثم سحبتها برقة. وقال مصطفى وهو يتابع الحركات الخفية: من حسن الحظ أن المستشفيات من الأماكن التي تُنسَى فيها الخصومات.

فسأله وما زال يشعر بخيبة أمل لانسحاب اليد: متى جاءت إلى هنا؟

– حوالي منتصف الليل.

والمناقشة دائرة مع وردة في إعياء تنعشه الشمبانيا.

– ولم تذهبي إلى المدرسة؟

– طبعًا، جاءت مع مامتها.

– شكرًا لك يا عليات، وشكرًا لك.

فقالت عليات، وهي تغادرهم إلى حجرة زينب: عفوًا! ثم قال مصطفى: وقد تعبت جدًّا عند الفجر.

آه! الفجر في الصحراء والنشوة الخيالية الخالدة. ولكن أين؟ واستأذن مصطفى في الذهاب لينام، فلبث هو وبثينة وحدهما ينتظران، وانتبه بحساسية إلى حرج موقفه، وقال بعطف: لم تنامي يا بثينة؟

فهزت رأسها بالإيجاب، وهي تنظر إلى سجادة البهو السحابية اللون.

– ألا ترغبين في محادثتي؟

فخجلت من المقاطعة الصريحة، وتساءلت: ماذا أقول؟

– أي شيء، ومهما يكن من أمر فأنا أبوك وصديقك، وما بيننا من علاقة لا يمكن أن ينفصم …

(ولاذت بالصمت في تأثر شديد.)

ألا توافقينني على ذلك؟

(فهزت رأسها بالإيجاب، ورسمت شفتاها لفظ الموافقة.)

أنت زعلانة، وهذا طبيعي، ومهما يكن من الأمر فهو لا يمسك مباشرة، ومقاطعتك لي غير مقبولة، وقد دعوتك مرارًا لزيارتي؛ فلماذا لم تحضري؟

– لم أستطع.

– هل منعك أحد؟

– كلا، ولكنني كنت حزينة جدًّا.

– أكان حزنك أكبر من حبنا؟

فقالت بمرارة: لم تزرنا مرة واحدة.

– لم يكن ذلك بالممكن، ولكني دعوتك مرارًا فكان عليك أن تأتي، وقد نغص امتناعك راحتي، ولم تكن في حاجة إلى مزيد.

فقطبت لتكتسب صلابة تطرد بها حنان الدمع، وقالت: منعني حزني.

– يا للأسف، لا أحب لك السلبية، وكنت في حاجة إليك في غربتي.

وابتسم ليخفف من توتر الجو، ثم قال: حسبنا عتابًا، لا وقت الآن لذلك.

وربت على منكبيها، وسألها مغيرًا المجرى: ما أخبار الشِّعر؟

فابتسمت ابتسامة خفيفة لأول مرة، فقال بحرارة: لعلنا لم نكن في يوم من الأيام أقرب ما يكون لبعضنا مما نحن اليوم.

– ماذا تعني؟

– يخيل إليَّ أننا حول منبع واحد.

حولت إليه عينيها الخضراوين مستزيدة، فقال: رجعت إلى الشِّعر أقرؤه وأحاوله.

– حقًّا؟

– مجرد محاولات فاشلة.

– لمة؟

– لا أدري، ربما لأن الغبار أكثف من أن يُزَال بنفضة واحدة، أو لأن أزمتي أقوى من الشِّعر.

– أزمة؟

– أعني مرضي.

فابتسمت وهي تنظر إلى الأرض، فسألها بإنكار: ألا تصدقينني؟

– أصدقك دائمًا.

فحزه قولها، وقال: يجب أن تصدقيني رغم الكذبة الوحيدة في حياتنا، كانت كذبة ضرورة ولن تتكرر، أما مرضي فهو حقيقي.

– ألم تعرف بعد ما هو؟

فكَّر قليلًا، ثم قال: عذاب يُعالج بالصبر الطويل.

فتساءلت في إشفاق: بعيدًا عنا؟

فقال بهدوء ويقين: أنا أعيش وحيدًا.

فرمقته بنظرة استغراب، فقال: وحيدًا، صدقيني.

– ولكن …

– الآن وحيدًا.

– فتساءلت بلهفة أرضت عواطفه: ولِمَ لَمْ تعد يا بابا؟

فلثم خدها المورد، وقال: لعله من الخير أن أبقى كذلك.

– كلا.

وأمسكت بيده وكررت: كلا.

وجاءت عليات لتدعوه إلى الحجرة فذهب. رأى زينب مغطاة بملاءة بيضاء إلا الوجه.

وتبدى الوجه شديد الشحوب، ممصوص الحيوية، نصف مغمض العينين. شَعَرَ بعطف واحترام ورثاء. وقال: ها هي تخلق على حين يعجز هو عن الخلق، وتمتم بشيء من الارتباك: حمدًا لله على سلامتك.

فردت بشبه ابتسامة، فقال: مبارك عليك ولي العهد.

وجلس محاصرًا بالحرج حتى خفف عنه دخول عليات وبثينة. وأحسنت عليات ملء الجو بالنوادر والمُلح؛ فمر الوقت دون إرهاق. وجاءوا بالمولود في فراشه، وكشفوا عن وجهه. رأى كتلة لحمية متموجة حمراء، ممطوطة القسمات، ليس من اليسير أن يُتَصَور أن سيكون لها شكل فضلًا عن شكل مقبول. ولكنه تذكر تجارب مماثلة سابقة تنحني إحداها فوق فراش الوليد لترمقه بدهشة وحنان من عينيها الخضراوين. ولم يجد نحوه شعورًا مميزًا، غير أنه أدرك أنه سيحبه كما ينبغي وقنع منه بنظرة حياد متسائلة. لو لم تكن عاجزًا عن التعبير كأبيك لسألتك عن مشاعرك، وعن ذكرياتك عن العالم الذي جئت منه لتوك.

وسألت عليات: هل اخترتم له اسمًا؟

فأجابت بثينة: سمير.

إذن فليحمِه اسمه من الضجر. وقالت عليات بلهجة ذات مغزًى: لتكن نشأته في أحضان والديه.

ورغم انسيابه في أسرار الخلق لم يساوره أدنى أمل في التغير، ولا خرج من غربته الأبدية. ولم يملأ الوليد الثغرة التي تفصل بينه وبين زينب، وراح يتساءل: حتى متى يبقى في مجلسه محطًّا للنظرات والتساؤل؟

وأزف وقت الغداء، فاستأذن في الانصراف وذهب. ولحقت به بثينة خارج الحجرة، وقد استردت شجاعتها الطبيعية الصريحة معه، قالت: بابا … لن تبقى وحيدًا.

وكان يعلم أنه لم يعد بحاجة إلى شقته الخالية، وأنه يحلم بوحدة جديدة، فتساءل مستسلمًا: ماذا تريدين؟

– أن تعود.

فلثم خدها وهو يقول: على شرط ألا تضيقوا بي.

وتأبطت ذراعه، وأوصلته حتى الباب الخارجي بوجه مشرق.

١٥

العود إلى البيت دون تغير، لا كراهية لزينب ولا حب لها. واختفاء الكراهية دليل على اختفاء زينب نفسها. ودليل انتصار نهائي على دنياها، وانتصار الغربة الزاحفة. وقال لها: علينا أن نتقبل محنتنا بشجاعة.

وتبدت شجاعة حقًّا، حتى حُجرته هجرَتْها. وقال لها بتأثر: أنت مثال للكمال.

وانقطع عن مغامرات الليل الخائبة. ووهبته بثينة وجميلة وسمير مسرات لا تُنْكَر. والنيل يجري تحت الشُّرفة بلا توقف، وهو يسأل بلهفة: متى تعود رحمة الفجر في الصحراء؟ واعتكف في حجرته طول الليل يقرأ ويتأمل حتى يجيء الفجر، فيمضي إلى الشرفة، وينظر إلى الأفق، ثم يتساءل: أين الرحمة؟ أين؟ وها هي ترانيم فارس والهند والعرب المليئة بالأسرار، ولكن أين السعادة أين؟ ولِمَ تشعر بالكآبة وأنت بين هذه الجدران الرحيمة؟ وما هذا الشعور المقلق الذي يهمس لك بأنك ضيف غريب موشك على الرحيل، وإلى أين؟ وقال مصطفى: الحمد لله على أن عاد كل شيء إلى أصله.

فقال بازدراء: لم يعد شيء إلى أصله.

فتجنب المناقشة في إشفاق، فقال عمر بتحدٍّ: لم أعد إلى البيت، لم أعد إلى العمل.

– ولكن يا عزيزي …

– ولا يعرف أحد ماذا تقول الساعة التالية.

وفيما كان بمكتبه عصرًا؛ إذ فتح الباب ودخل رجل ربعة متين البنيان، شاحب اللون، كبير الوجه، حليق الرأس، قوي الفكين والأنف، يشع من عينيه العسليتين نور حاد. نظر إليه عمر منكرًا لأول وهلة، ثم انتتر واقفًا وهو يهتف بصوت متهدج: عثمان خليل!

وتعانقا طويلًا، وعمر في غاية من الانفعال، ثم جلسا على المقعدين المتقابلين أمام المكتب، ولسانه لا يتوقف عن كلمات الترحيب والتهنئة والتبريك. والآخر يبتسم وكأنه لا يجد ما يقوله. وحل صمت قصير كرد فعل فراحا يتبادلان النظر، وتموجت المخيلة بالذكريات، وتحركت في الأعماق مشاعر غريبة منذرة بكل ظن. وارتفع مدٌّ حاملًا دفعات من القلق والتوجس. وطالما طافت به لحظة اللقاء المرتقبة، وطالما عمل لها ألف حساب، ولكنها حلت رغم ذلك بغتة كمفاجأة غير ممكنة التوقع. ولم يقدر الزمن، ونسِي كل شيء في العهد الأخير، ومع ذلك فإن المدة لم تنقضِ بالتمام، ولم يستنتج إلا الساعة أن ثلاثة أرباعها قد انقضى. وها هو يلقاه وهو أبعد ما يكون عن الاستعداد النفسي لذلك. رجل خارج من السجن إلى الدنيا، ورجل يتحفز للخروج من الدنيا إلى عالم مجهول.

– يا له من عمر طويل!

ابتسم عثمان، فقال عمر: لم تغب عنا فيه ساعة واحدة. وها هو وجهك مصمم على الحياة كعادتك.

فقال بصوت حلقي دسم: وأنت لم تكد تتغير في الصورة، ولكن صحتك ليست كما يجب.

سُرَّ للملاحظة الأخيرة، وقال: بلى، مرضت، وعانيت أزمات غريبة، ولكن من فضلك لا تجعل مني موضوعًا للحديث، أريد أن تتحدث وأن أسمع.

ودخل فرَّاش بالكوكا والقهوة، ثم قال عثمان: مضت أعوام وأعوام، اليوم بسنة في قرفه، والسنة بيوم في تفاهتها، ولكن لا تنتظر أن أتحدث عن حياة السجن.

– مفهوم … آسف … ولكن متى خرجت؟

– منذ أسبوعين.

– وكيف لم تحضر إلا اليوم؟

– سافرت من فوري إلى القرية، وكنت مريضًا بالأنفلونزا، ولما شفيت رجعت إلى القاهرة.

لا فائدة من الهرب إلى الأحاديث الجانبية، وإحساسك بالذنب يزداد حدة.

– كم عذبنا أننا لم نستطع زيارتك!

فقال عثمان بوجه لا ينبئ عن شيء: كان سيُقبض على أي زائر من غير الأهل.

– وكم وددنا لو كان في الإمكان أن نطمئن عليك.

– الحق أننا عوملنا معاملة سيئة جدًّا أول الأمر، ولكنها تغيرت بطبيعة الحال بعد قيام الثورة.

فتقلص وجه عمر إعرابًا عن أسَفه، فاستطرد الآخر: ولكن ثبت لي أنه إذا قُذف بنا إلى الجحيم، فإننا حتمًا سنعتاده ونألف الزبانية.

وأذعن عمر لإحساسه بالذنب، فاعترف قائلًا: العدل كان يقضي بأن نذهب معك إلى السجن.

فقال بسخرية: القانون هو الذي أدخلني السجن، لا العدل.

فتمتم عمر بخشوع: على أي حال فنحن مدينون لك بحريتنا، وربما بحياتنا.

– أليس ذلك ما كنت تفعله لو أُلقي القبض عليك أنت، وكنت أنا من الهاربين؟

فلم ينبس عمر بكلمة حياءً وارتباكًا، واستطرد عثمان بمرارة: وها أنا في الدنيا من جديد، وفي منتصف الحلقة الخامسة.

فقال عمر معزيًا: ما زلتَ شابًّا، وأمامك حياة طويلة وعريضة.

– وورائي تجربة أمرُّ من اليأس.

فقال عمر بحزن: قد عشناها خارج الأسوار، ولكن يخيل إليَّ أننا لم نفعل شيئًا ذا بال.

فهتف محتجًّا: لا تقل ذلك، لا تفقدني البقية الباقية من العزاء.

تحركت مخاوفه مرة أخرى، وشعر بأنه جثة منسية فوق سطح الأرض، وقال: مارسنا عملًا، وتزوجنا وأنجبنا، ولكن يخيل إليَّ أنه ليس لي ما أحصده إلا الهَباء، ولكن معذرة لا يحق لي أن أتكلم عن نفسي.

– ولكننا نصفان متكاملان.

الماضي المنقضي، والحساب العسير. وقال بفخار في بدروم بيت مصطفى المنياوي: خليتنا قبضة من حديد لا يمكن أن تنكسر، ونحن نعمل للإنسانية جمعاء لا للوطن وحده. نحن نبشر بدولة الإنسان، نحن نخلق بالثورة والعلم عالم الغد المسحور.

ولما أصابته القرعة قال: أنا سعيد، مصطفى عصبي وأنت عريس، وغدًا تلقى قنبلة على خنزير من المولعين بمص الدماء.

– كان التدبير محكمًا، ولولا رصاصة طائشة أصابت ساقك لما قبضوا عليك.

– أجل، وماذا فعلت أنت ومصطفى؟

– سهرنا حتى الصبح والحزن يقتلنا.

فضحك ضحكة قصيرة، وسأل: ألم تخافا أن أعترف؟

– فكر مصطفى في الهرب، ودعاني إلى ذلك، وفكرنا في الاختفاء، وذقنا أيامًا تعيسة، ولكنك كنت فوق مستوى الإنسان، وكنا وما زلنا لا شيء.

ويعتاد الإنسان الجحيم كما يعتاد التضحية بالغير. ومهما يكن من قذارة الفأر؛ فإن منظره في المصيدة يثير الرثاء.

وأشار عثمان إلى المساعدات التي تلقاها والداه — قبل وفاتهما — من عمر، ولكن عمر أبى أن يسمع بقية الإشارة. وعند ذلك قال عثمان: لا أريد أن آسف على ما فات؛ فقد اخترت مصيري بوعي كامل، والآن آن لك أن تحدثني عن أخبار الدنيا؟

فقال عمر بدهاء، وهو يرنو إلى النجاة من بعيد: ليكن المستقبل أهم ما يهمنا.

– المستقبل؟ … أجل … سأنفض الغبار عن الليسانس.

– وإليك مكتبي تحت أمرك.

– عظيم، ولا اعتراض لأحد في الجهات الرسمية على أن أعمل.

– إذن فلتبدأ من اليوم.

– شكرًا … شكرًا … ولكن حدثني عن أخبار الدنيا!

لا يريد أن يتزحزح، يا للغرابة! كأنك لم ترتبط به يومًا ما. وكأنك لم ترغب قط في هذا اللقاء، لا شيء مشترك بينكما إلا تاريخ ميت، ولا يوحى إليك إلا بمشاعر الذنب، والخوف، وازدراء النفس. ولم يدرِ بعد بأن كتب الغيب حلت محل الاشتراكية في مكتبك. وها هو يعترضك كقدر، وأنت تهرب من الأهل والدنيا.

وضاق عثمان بصمته، فسأله مستدرجًا: حدثني عن أصحابنا.

– أوه … تفرقوا، لا أعرف منهم اليوم إلا مصطفى المنياوي.

– وماذا فعلتم؟

ما أبغض حسابك العسير!

– الحق أن السنوات التي تلت القبض عليكم اتسمت بالعنف والإرهاب، فلم يكن بد من أن نركن إلى الصمت، ثم انشغل كلٌّ بعمله، وتقدَّم بنا العمر على نحوٍ ما، ثم قامت الثورة، وانهار العالم القديم.

قبض عثمان على ذقنه العريضة بيده، وعكست عيناه المشعتان نظرة باردة؛ لعله ينعى الأعوام الضائعة. ما أبغض هذا الموقف الذي أرَّق نومه مرات ككابوس! وقال عثمان: طالما ساءلت نفسي لماذا؟ أجل، لماذا؟ وبدت لي الحياة خدعة سمجة، وعجبت للأقدام التي انهالت على رأسي، أقدام أناس تعساء من صميم الشعب الذي سُجنت من أجله. وتساءلت لماذا؟ هل تعني الحياة أن نستوصي بالجبن والعماء؟ ولكن ليس كذلك النمل ولا بقية الحشرات، ولا أطيل عليك فقد استرددت إيماني.

يا لسوء الحظ!

– استرددت إيماني فوق الصخور وتحت أشعة الشمس، وأكدت لنفسي بأن العمر لم يضع هدرًا، وأن ملايين الضحايا المجهولين منذ عهد القرد قد رفعوا الإنسان إلى مرتبة سامية.

أحنى عمر رأسه إعرابًا عن الموافقة والاحترام، واستطرد عثمان بنبرة لم تخلُ من حنَق: من الحمق التعرض بماضٍ مسلول ما دام المستقبل ينهض راسخًا بصورة أقوى ملايين المرات من جبن الجبناء.

فقبض على أداة نجاة وسط العاصفة الهوجاء قائلًا: على أي حال فقد تقوض العالم القديم المرذول، وقامت ثورة حقيقية فتحقق حلم من أحلامك.

انظر إلى وجهه كيف يتجهم، وتتجمع فيه عاصفة مربدَّة! وها أنت تتجرع هزيمة في ميدان لم يعد يهمك في شيء. ألا يعلم بأنني لم يعد يهمني شيء؟!

وقال عثمان بأسف: لو لم تسارعوا إلى الجحور، لما فقدتم الميدان.

– لم تكن لدينا قوة ولا أتباع في الشعب يعتد بهم، ولو وقعت المعجزة على أيدينا لهبت قارات للقضاء علينا.

– المؤسف أن المرضى لا يفكرون إلا في المرض.

– وهل ترى من العقل أن يتجاهلوه؟

– ليس العقل ولكنه الجنون، ألم تدرك بعد كم أن العالم مدين للجنون؟!

فقال ملاطفًا: على أي حال قد قامت الثورة، وهي تشق طريقها بعقلية اشتراكية حقيقية.

فحدجه بنظرة متفحصة طويلة حتى قرأ فيها معانيَ لم تسره، فقال: وهي إن لم تمس رءوس أموال أمثالي من الناس، فقد فرضت ضريبة عادلة.

ثم بنبرة عصبية: صدقني إنني لست عبدًا لشيء، فليذهب كل شيء إلى الجحيم.

فابتسم عثمان، وسأله: صارحني يا عزيزي؛ أما زلت مؤمنًا كما كنت؟

فتفكر عمر مليًّا فوق حافة الهاوية، ثم قال: كذلك كنت حتى قُبيل قيام الثورة، فلما أن قامت الثورة اطمأن بالي، ثم أخذت أفقد الاهتمام بالسياسة وأولي وجهي وجهة أخرى.

قطب متسائلًا: وجهة أخرى؟

قال بحذر: يحلو لمصطفى أحيانًا بأن يصفها بأنها حنين جارف إلى الماضي الفني.

فتساءل بامتعاض: وهل من تعارض بين الفن والمبدأ؟

فقال وهو يزداد ضيقًا وحرجًا: ليس الأمر بهذه البساطة.

فقال بوجوم: لا أفهم سوى أنك لم تعد أنت.

كما قالت زينب ووردة من قبل … قال: أعترف بأنني لم أعد أستحق أن أكون موضع تفكيرك.

ثم بلهجة فيها شيء من المرح: المهم الآن هو أن تبدأ حياتك الجديدة لتعوض ما فات.

فقال بلهجة ثقيلة: أخشى ألا أجد حقًّا ما يعوضني عما فات.

– هاك مكتبي تحت أمرك، وجميع ما يلزمك للبدء.

– إني عاجز عن الشكر.

– بل هو دون ما تستحق، وسوف أظل ما حييت مدينًا لك بالحياة.

ثم بلهجة تحررت كثيرًا من الخوف والحرج: لا شك أنك في شوق لرؤية زينب والأسرة ومصطفى، فلنتعشَّ الليلة في البيت.

١٦

وليمة العشاء حفلت بالأطعمة، والأشربة، والذكريات. واغرورقت عينا زينب وهي ترحب به، وشدت على يده طويلًا، على حين عانقه مصطفى المنياوي عناقًا حارًّا. أما عليات فكان يراها لأول مرة. وجلست بثينة إلى جانبه على المائدة، وأعلن بدهشة أنها صورة من شباب أمها. ولما قدمت فواتح الشهية، قال: لن أبالغ في صنف لأذوق جميع الأصناف.

والتفت نحو بثينة، قائلًا: قالوا لك إني صديق قديم، وهذا بعض الحقيقة لا الحقيقة كلها، أنا صديق قديم خارج من السجن.

واعتبرتها بثينة نكتة فابتسمت، فقال: صدقيني؛ فأنا صديق قديم، وسجين قديم.

وعند ذاك قالت زينب: إذن يجب أن تعلم أنك بطل سياسي، لا مجرد سجين.

ورمقته بثينة باهتمام مشوب بدهشة، فقال: بطل أو مجرم، هي من أسماء الأضداد.

وقال لها عمر: عثمان صديق قديم، وهو زميلي في المكتب الآن، وله قصة طويلة سأقصها عليك فيما بعد، ولكنك تعرفين شيئًا ولا شك عن المسجونين السياسيين.

فسألت بثينة عثمان: أسجنك الملك؟

فقال، والسفرجي يضع في طبقه شريحة من الديك وكمية من البازلاء: بل المجتمع كله.

– وماذا فعلت؟

لم يُجِب، فقال مصطفى ضاحكًا: كان اشتراكيًّا قبل الأوان.

فاتسعت العينان الخضراوان، ولكن زينب قالت لعثمان بلباقة لتحويل المجرى: بثينة شاعرة.

فنظر إلى عمر باسمًا، وقال: الشِّعر وراثي في هذه الأسرة!

فقال له مصطفى محذرًا: لكن شعرها ترنيمات موجهة للذات الإلهية.

وهَمَّ بتفجير سخرية، ولكنه أمسك في اللحظة المناسبة، وقال بأدب: أرجو أن يسعدني الحظ بالاستماع إلى بعض هذه الترنيمات.

ونجح عمر في إخفاء ضيقه، وتناول حمامة محشوة، وقال لنفسه إنها لو أحسنت الطير لما أُكِلَت. ولاحظ مجاملات المائدة المتبادلة بين بثينة وعثمان بارتياح. وإذا بالفتاة تسأل جارها: وكيف صبرت على حياة السجن؟

– صبرت لأنه لم يكن من الصبر بُدٌّ، وعُرفت بحسن السير والسلوك، والظاهر أننا لا نسيء السلوك إلا في المجتمع.

وضحك ثم استطرد: الواقع أن السجن لا يخلو من مزية؛ فالسجناء يمارسون حياة لا طبقية فيها مما نحب أن يتحقق في الحياة.

– لكنني لم أفهم شيئًا.

– سوف تفهمين كلامي إذا أمكن أن أفهم شِعْرك.

– هل قرأت شِعر بابا؟

– طبعًا.

– وهل أعجبك؟

وقال عمر محتجًّا: كيف بالله تأكلان، وأنتما لا تكفان عن الحديث؟!

ولكن عثمان أحب محادثتها، وقد سألها: هل ستدرسين الآداب في الجامعة …؟

– العلوم.

– برافو، ولكن كيف وأنت شاعرة؟

ثم وهو يغمز بعينه: وكان يهوى اللعب بالقنابل.

فقالت زينب بفخار: إنها متفوقة في العلوم.

وقالت بثينة: وبابا متحمس لدراسة العلم.

فرمق عثمان عمر بنظرة حائرة، ثم قال لبثينة: سوف تدركين يومًا أنه الأمل المنشود.

– ولكني لن أتخلى عن الشِّعر.

– وما البأس في تلك الحال؟

– وكم عامًا قضيت في السجن؟

– حوالي العشرين.

فرمته بنظرة ذاهلة، فضحك قائلًا: ومع ذلك فقد عرفت رجلًا في السجن لا يرغب في مغادرته، وكلما قاربت مدته الانتهاء ارتكب جريمة خفيفة ليجددوا له المدة.

– تصرف غير معقول!

فقال بلهجة جادة: ما أكثر التصرفات غير المعقولة!

وقال عمر معاتبًا: ألا تريدين له أن يأكل؟

وقدمت لهم القهوة في حجرة الاستقبال، ولم ينقطع الحديث بين عثمان وبثينة. وحوالي العاشرة اقترح مصطفى أن يجلس ثلاثتهم بالشرفة، وانتقل النساء إلى حجرة الجلوس. وأراد عثمان أن يعرف ماذا صنع مصطفى بحياته، فقصَّ عليه هذا قصته بصراحة واستهانة، وجرأة غير متوقعة. ولم يقنع بذلك، ولكن قال: ها قد وقفت على أحوالنا، فماذا يدور في رأسك الكبير؟

وكان عثمان قد عاد — بعد اختفاء بثينة — إلى الفتور والتجهم، فقال: عليَّ أن أبدأ حياتي أولًا كمحامٍ.

– إنما أسأل عما يدور برأسك!

– وعليَّ أن أدرس ما حولي.

– من حقك هذا، غير أن موقفنا القديم لم يعد ضرورة حتمية.

فقال بغلظة متحدية: ولكنه ضرورة حتمية!

– أعني أن الدولة الآن اشتراكية مخلصة، وفي هذا الكفاية.

وظل عمر صامتًا ينظر نحو النيل الذي يجري عاكسًا أضواء المصابيح تحت هلال مرشوق في الأفق. وقال عثمان بمرارة: إذا كنت قد تغيرت فلا يعني هذا أن الحقيقة يجب أن تتغير.

– لم تتغير، ولكننا تطورنا.

– إلى الوراء.

– الوطن تطور إلى الأمام بلا شك.

– ربما، ولكنكما تطورتما إلى الوراء.

وظل عمر ينظر إلى الهلال، أما مصطفى فسأله بمرح: ألم يقنعك ما ضحيت به من عُمْر؟

فقال بحنق: الحقيقة لا تقنع.

– يا عزيزي لست المسئول الوحيد عنها.

– الإنسان إما أن يكون الإنسانية جمعاء، وإما أن يكون لا شيء.

فقال مصطفى ضاحكًا: إنني لم أستطع أن أكون مصطفى فحسب، فكيف يمكن أن أكون الإنسانية جمعاء؟

– يا لفداحة الفشل! … لا أصدق ما حل بكما من تدهور!

لم يستطع مصطفى أن يتجاوب معه في جديته، ولكنه أشار إلى عمر، وقال: دعك من عمر؛ فهو يعاني أزمة حادة … لقد كره العمل، والنجاح، والأسرة …

نظر عثمان إلى عمر متسائلًا، ولكنه لم يحول وجهه عن النيل، فقال مصطفى: كأنما يبحث عن نفسه.

فقطب عثمان كالمنزعج، وقال: أليس هو الذي أضاعها؟

ثم خاطب نفسه متأوهًا: هل انتهى الحال إلى التأملات الفلسفية؟

فقال مصطفى، وكان يغالب الاستسلام للمرح طوال الوقت: طالما اعتقدت أنه يريد أن يبعث جانبه الفني المكبوت، وحاول ذلك وما زال، ولكنه يحلم أحيانًا بنشوة غريبة.

– زدني فهمًا.

فتحول عمر نحوهما قائلًا: أرح نفسك، واعتبره مرضًا.

فحدجه بنظرة ثاقبة، وتمتم: لعله مرض حقًّا؛ إذ إنك ضيعت جانبك الصحيح المعافى.

فقال مصطفى: أو أنه يبحث عن معنى لوجوده.

– عندما نعِي مسئوليتنا حيال الملايين؛ فإننا لا نجد معنى للبحث عن معنى ذواتنا.

فتساءل عمر مضجرًا: تُرَى هل تموت الأسئلة إذا قامت دولة الملايين؟

– ولكنها لم تقم بعد!

ونقل عينيه بينهما، ثم قال: والعلماء يبحثون عن سر الحياة والموت بالعلم لا بالمرض.

– وإذا لم أكن من العلماء؟

– فلا أقل من ألا تثير في وجوه العاملين غبار النواح والولولة.

فقال مصطفى: إنك تقذف بألفاظ مدببة، على حين يعاني صديقنا ألمًا حقيقيًّا.

– أنا آسف، وأخشى أن أظل آسفًا إلى الأبد.

وتساءل عمر: ولكن ألا يسعفنا القلب، إن فاتنا أن نكون من العلماء؟

– القلب مضخة تعمل بواسطة الشرايين والأوردة، ومن الخرافة أن نتصوره وسيلة إلى الحقيقة، والحق أني أقترب من فهمك، فأنت تتطلع إلى نشوة، وربما إلى ما يُسمى بالحقيقة المطلقة، ولكنك لا تملك وسيلة ناجحة للبحث، فتلوذ بالقلب كصخرة نجاة أخيرة، ولكنه مجرد صخرة، وسوف تتقهقر بك إلى ما وراء التاريخ، وبذلك يضيع عمرك هدرًا، حتى عمري الذي ضاع وراء الأسوار لم يضع هدرًا، ولكن عمرك أنت سيضيع هدرًا، ولن تبلغ أي حقيقة جديرة بهذا الاسم إلا بالعقل، والعلم، والعمل.

لم يشهد الفجر في الصحراء. لم يشعر بالنشوة التي تحقق اليقين بلا حاجة إلى دليل. لم تطرح الدنيا تحت قدميه حفنة من تراب.

وقال مصطفى: إني مؤمن بالعلم والعقل، ولكن بين يدي الآن قصيدة كتبها عمر في الفترة الأخيرة قبل أن ينبذ الشِّعر نهائيًّا، وهي تقطع بثورته على العقل.

فقال عثمان وهو يتمالك أعصابه: يسرني أن أسمعها.

هَمَّ عمر بالاعتراض، ولكن مصطفى بسط ورقة استخرجها من جيبه، وراح يقرأ:

لأنني لم ألعب في الهواء،
ولا سكنت في خط الاستواء،
لم يستهوني شيء إلا الأرق،
وشجرة لا تنثني للعاصفة،
وبناء لا تطرف له عين.

وساد صمت ثقيل، ثم قال عثمان: لم أفهم شيئًا!

وقال عمر: وأنا لم أقل شِعرًا، كنت أهلوس تحت تأثير حال مَرَضية.

فقال مصطفى: ولكن الفن الحديث عمومًا يتنفس في هذه الثورة.

فقال عثمان بازدراء: إنها أنين نظام يحتضر.

فقال مصطفى: ربما كان هذا حقًّا على المستوى الحضاري، ولكنني أقول كفنان قديم إنها أزمة فنية أيضًا، أزمة فنان يبحث عن شكل جديد بعد أن أعياه المضمون.

– ولِمَ أعياه المضمون؟

– لأنه كلما عثر على موضوع وجده مبتذلًا من كثرة الاستعمال.

– ولكن الفنان يضفي من نفسه على موضوعه، فيصير جديدًا في هذه الحدود على الأقل.

– لم يعد هذا مقنعًا في عصر الثورات الجذرية، عصر العلم، وقد تبوأ العلم العرش، فوجد الفنان نفسه ضمن الحاشية المنبوذة الجاهلة، وكم ود أن يقتحم الحقائق الكبرى، ولكن أعياه العجز والجهل. وحز في نفسه فقدان عرشه فانقلب «غاضبًا» أو «عدوًّا للرواية» أو «لا معقولًا». ولما استحوذ العلماء على الإعجاب بمعادلاتهم غير المفهومة نزع الفنانون المنهارون إلى سرقة الإعجاب باستحداث آثار شاذة مبهمة غريبة، وأنت إن لم تستطع أن تستلفت أنظار الناس بالتفكير العميق الطويل، فقد تستطيعه بأن تجري في ميدان الأوبرا عاريًا.

ولأول مرة يضحك عثمان عاليًا، واستطرد مصطفى: ولذلك اخترت أبسط الطرق وأصدقها، وهو أن أكون مسليًا.

وقال عمر لنفسه: لماذا أتعب نفسي في مناقشة أمور لا تهمني؟

١٧

خرس الفجر. على ضفاف النيل، أو في الشرفة، أو في الصحراء خرس الفجر. وليس من شاهد على أنه تكلم ذات مرة إلا ذاكرة محطمة، وإدامة النظر والتطلع إلى أعلى واحتراق القلب لا تجدي شيئًا. والجوانح تنطوي على لوعة مشتعلة، صراخها يصك السماوات بلا أمل، وسخريات الشِّعر، وشَعْر مارجريت الذهبي، وعينا وردة الرماديتان، وطيف زينب الخارج من الكنيسة، أشباح شاحبة تهيم في رأس أجوف. وضحكات مصطفى تنعى أي أمل. أما صخب عثمان؛ فنُذُر نبي يبشر بالعدم. وخاطبت المقاعد، والجدران، والنجوم، والظلام، وخاصمت الخلاء، وغازلت شيئًا لم يوجد بعد، حتى أراحني أمل قاتم، فوعدني بالخراب الشامل. وقد هان كل شيء، وتهتكت القوانين التي تحكم الكائنات، وتعذر التنبؤ بطلوع الشمس. كيف أقبل بعد ذلك أن أنظر في ملف قضية، أو أن أناقش مشكلة تتعلق بميزانية البيت! وقد قلت لحجرتي المغلقة: أي خطأ كانت تلك الهدنة التي أرجعتني إلى البيت؟

وقلت للقِطَّة وهي تتمسح بساقي: سمعًا وطاعة، سأرحل عن المأوى المكتظ بالعواطف المتطفلة المعوقة.

ولم يبقَ من تسليات إلا أن أرقص فوق قمة الهرم، أو أقفز من فوق أعلى جسر إلى قاع النيل، أو أقتحم الهلتون عاريًا، ويقينًا أن روما لم يحرقها نيرون، ولكن ضرمتها الأشواق اليائسة. كذلك تزلزل الأرض، وتتفجر البراكين.

وقالت وردة في التليفون: تُرَى هل نسيت صوتي؟

فقال بفتور: أهلًا وردة.

– ألا تزورنا ولو في السنة مرة؟

– كلا، ولكني تحت أمرك إن كنت في حاجة إلى شيء.

– أنا أحدثك بلغة القلب.

فقال ممتعضًا: القلب! … إنه مضخة.

وفي لحظة ألَم حادٍّ، لعن العلم المستعصي على أمثاله من البشر. وكان يتخفف من ألمه بالاستسلام لجنون السرعة، وهو يندفع بسيارته في أطراف القاهرة. وتعددت رحلاته بلا هدف إلى الفيوم، أو القناطر، أو طنطا، أو الإسكندرية. ويندفع بجنون حتى يثير الفزع والسخط. وكثيرًا ما يغادر القاهرة صباحًا، ثم يرجع إليها صباح اليوم التالي دون نوم. وقد يدخل دكان بقال ليسكر، أو يجلس في التريانون لينام، أو يشيع جنازة لا يعرفها ولا تعرفه، أو يغلبه النوم عقب الفجر؛ فينام في السيارة، أو على شاطئ النيل حتى الصباح. وذهب مرة إلى مكتبه. وجد عثمان منهمكًا في العمل بطاقة مذهلة، وسأله الرجل: أين كنت في الأيام الماضية؟

فرمقه باستهانة، وقال: في أماكن لا حصر لها.

– أنت مرهق بلا ريب، تُرَى: ماذا يدور في رأسك؟

وكان الألم قد حرره من الحرج والحياء والخوف، حتى خوفه من عثمان قد اندثر، فقال: أفكر في تفجير الذرة، فإن تعذر ذلك ففي القتل، فإن تعذر ذلك ففي الانتحار!

فضحك عثمان، ثم قال معترضًا: ولكن مكتبك …

– لقد عاشرتني مدة تكفي لأن تفهم.

– حدِّثني عما تنوي أن تفعله.

فقال بتصميم: آن الأوان لأن أفعل ما لم أفعله في حياتي، وهو ألا أفعل شيئًا.

– لا شك أنك تمزح.

– لم أكن جادًّا كما أكون اليوم.

فتراجع عثمان أمام تجهمه الصارم، وقال برقة: ألا تفكر في استشارة طبيبك؟

– لا أستشير أحدًا فيما يجهله.

وزحف صمت مرهق حتى خرقه عمر متسائلًا: وأنت هل تقصر جهودك على المحاماة؟

– أجل، ولكني لا أكف عن التفكير.

– هل تنقلب مرة أخرى خطرًا يهدد الأمن؟

فقال باسمًا: هذا شرف لا أستطيع أن أدَّعيه بعد.

الحق أن ما يكتنفه من طنين يمنعه من حسن الاستماع إلى الصمت. لا بد من الذهاب. وهو بحال من التوتر يسهل معها الجهر بأي سر؛ لذلك قال لزينب إنه سيوكلها عن نفسه في التصرف فيما يملك، وإنه سيختفي عن مكتبه للعاملين فيه. وأظلمت عيناها كما تظلمان تحت الضربات التي تتلقاها واحدة بعد أخرى. وقال لها إنه صمم على ألا يشغل نفسه بشيء، وأن يزيح الدنيا عن عاتقه. ولها أن تعتبر الحال مرضًا واضحًا أو غامضًا، ولكنه على أي حال لا يجد سبيلًا أفضل من الخلو إلى نفسه بعيدًا عن الناس. وليس في الموضوع امرأة، يجب أن تصدِّقه، ولا لهو أو عبث، ولكنها أزمة طاحنة بلغت ذروتها، ولن تنفرج إن كان مقدرًا لها أن تنفرج إلا بالطريقة التي اختارها. وتوسلت زينب قائلة: ولقد تركناك وشأنك، وإذا كنت كرهت العمل فاهجره، وإذا كان الحنين يراودك على الفن فاستجب له، ولكن لا تهجرنا إكرامًا لأبنائك.

وخزه الكلام، ولكنه قال إنه لا فائدة ترجى من ثَنْيِه عن عزمه الذي يُسيِّره كالقضاء، فقالت: لقد حدثني مصطفى طويلًا، وآلمني أنك صارحته بما تخفيه عني، ولكني انتحلت لك بعض العذر أمام نفسي لغموض الحال التي تعانيها، ولا تؤاخذني على عدم فهمي لما تبحث عنه من معنى لوجودك أو للحياة، ولكني لا أجد علاقة بين ذلك وبين انقلابك على عملك، ومستقبلك، وأسرتك. لماذا لا تعود إلى استشارة الطبيب؟

– لذلك لم أصارحك بكل شيء.

– ولكن المرض ليس بعيب.

– إنك تظنين بي الجنون.

فبكت حتى اضطرب جذعها، ولكنه لم يلِن، وقال بتصميمٍ: الحل الذي اخترت فيه الخير لنا جميعًا.

فقالت بضراعة: اذهب إلى أي مكان حتى تسترد راحتك النفسية، ثم عد إلينا.

– ربما حدث ذلك، ولكن من الأفضل أن نوطن النفس على ذهاب لا رجعة منه.

فاسترسلت في البكاء حتى قال: إن لم أفعل ذلك، فإنني سأُجن أو أنتحر.

ووقفت وهي تقول: بثينة ليست طفلة، ويجب أن تسمع رأيها.

ولكنه هتف بها: لا تضاعفي من عذابي.

ومن اليسير أن يخمن ما سيقال عن مرضه، عن عقله، ولكن لا أهمية لذلك ألبتة. ولعله حق. إنه يخاطب الجماد والحيوان، ويناقش الكائنات المنقرضة. ويرى أحيانًا وهو ينطلق بسيارته الأرض المتماسكة وهي تتفتت، ثم تتحول إلى شبكة مترامية من الذرات حتى يضطر إلى التوقف، وهو يرجف. وأحيانًا وهو يرنو إلى شجرة أو النيل تتحقق للمنظور شخصية حية، وتتخذ هيئته ملامح خفية لا يعوزها الشعور أو الإدراك، ويخيل إليه أنه يرامقه في حذر، وأنه يضع وجوده بإزاء وجوده هو على مستوى الند للند، ومفاخرًا في ذات الوقت بعراقته في الوجود، وخلوده النسبي في الزمن. علام يدل ذلك؟ وعلام يدل نبذه للعمل، والأسرة، والأصدقاء؟ وعليه فيجب أن يكون حذرًا، وإلا وجد نفسه مسوقًا إلى مستشفى الأمراض العقلية.

وجاء مصطفى وعثمان للاجتماع به. وأدرك أنهما دُعيا إلى ذلك. ولم تنفع ضحكات مصطفى في التخفيف من توتر الجو، ولم يكن يتكلم لدى استقبالهما. وجيء بالويسكي إلى الشرفة، فشرب كأسًا تحية للقادمين. وتبادلوا نظرات طويلة وشت بما تخفيه من إشفاق. وظهرت زينب دقيقة واحدة لتحية الرجلين. وقالت وهي تهمُّ بالانصراف: كنا أسعد أسرة، ولم يكن مثله في الرجال أحد، ثم انهار كل شيء.

وأزهق تصريحها روح التردد، فلم يبقَ بد من الانقضاض على الموضوع. وتساءل مصطفى: هل حق ما سمعنا؟

ولم يجب مكتفيًا بإشارة من وجهه المصمم.

– إذن فأنت ذاهب!

أجاب بصراحة كنصل مرهف: أجل.

– إلى أين؟

– مكان ما.

– ولكن أين؟

ولم يُجِب. المكان رغم لا نهائيته سجن، ومصطفى أحمق؛ إذ يستعمل لغة لا معنى لها.

– إذن جاء دورنا لتلقي بنا في صندوق الزبالة.

فقال عابسًا: أمس بكت بثينة، ولكنها لم تسمع خيرًا من هذا الجواب.

فقال مصطفى في جزع: أهذا هو آخر عهدنا بك؟

– هو آخر عهدي بكل شيء.

– سوف أبكي بجماع روحي وجسدي.

– وأنا كابدت ما هو أشق من البكاء.

فتساءل مصطفى بحرارة: لأية غاية؟

فقال بمرارة: لأنطح الصخر.

فقال عثمان: لا أفهم.

ولكن مصطفى واصل حديثه قائلًا: ليكن ما تشاء، ولكن فلتبقَ بيننا.

– يجب أن أذهب.

فقال عثمان، وهو لا يحول عنه عينيه: ألا ترى أن تستشير الطبيب؟

فأجاب بحدة: لست في حاجة إلى إنسان.

– ولكنك بنيان قائم، ولا يجوز أن يتهدم للاشيء.

– لست شيئًا في الواقع.

– ألا يستطيع الإنسان أن يفكر وهو بين الناس؟

– لن أفكر ألبتة.

– ماذا ستفعل إذن؟

فقال بضيق: لا سبيل للتفاهم فيما بيننا.

– لكنني على ثقة من أنك تدفع بنفسك إلى الهلاك.

– أنت الذي تدفع بنفسك إلى الهلاك.

– إذا كان لا بد من الهلاك فمن الأفضل أن ننضم إلى …

فقال ملوحًا في قرف: لن أنظر إلى الوراء.

– إنك تجري في الحقيقة وراء لا شيء.

نشوة الفجر شيء أم لا شيء؟ وهل تكمن حقيقة كل شيء في اللاشيء؟ ومتى ينتهي العذاب؟

واستطرد عثمان قائلًا: تصور أن يقتدي بك العقلاء في هذه الدنيا!

– فليبقَ العقلاء للدنيا.

– لكنك واحد منهم.

فمسح على رأسه، ثم كور قبضته، ورمى بها إلى الأرض بازدراء قائلًا: هاك عقلي تحت قدميك.

فتساءل عثمان محزونًا: ما جدوى هذه المناقشة؟

– هي عقيمة، ولا جدوى منها، وغدًا لن تقع عليَّ عين.

وقال مصطفى متأوهًا: لا أصدق كلمة واحدة مما يقال.

فقال وهو يخفي عينيه في الأرض: من الخير أن تنسياني كأن لم أكن.

فقال مصطفى: ولكنه فوق الاحتمال.

وتصلب وجه عثمان في حزن غاضب. وأسدل عمر على وجهه ستارًا أصفر من اللامبالاة. وتحوَّل شخصاهما في نظره إلى مجموعتين من الذرات فامَّحت ذواتاهما. ومن صراعه الباطني أدرك أن حبهما ما زال عالقًا بفؤاده كأسرته. ذلك الصراع الذي يُحَمِّل أعصابه ما لا تحتمل من ضغط وتمزق. وتاقت نفسه إلى لحظة الانتصار المأمولة، لحظة التحرر الكامل.

١٨

عندما يظفر قلبك بضالته سيجد نفسه خارج أسوار الزمان والمكان. ولكنك ما زلت تشقى باللوعة في البيت الصغير ككوخ، تنبسط من حولك الأرض المُعْشَوشبة، وتحيط بها على مدى السور أشجار السرو الرفيعة المقام. متى اليوم الذي يغيب عنك السرو وما يحدق به؟ يوم تسكت أشجان الليل المستقطرة من هسيس النبات، وزفرات الصراصير، ونقيق الضفادع. يوم لا ترهقك ذكرى ماضية، ويستأثر بك اللاشيء، وتتلاشى أصداء الترانيم الهندية، والتأوهات الفارسية، فتستقبل شعاع النشوة الوردي بلا وسيط. نشوة الفجر العصماء العصية لتشدك بقوة المجهول إلى قبة السماء. هنالك لن يعرف قلبك النوم، ولا حواسك الصحو.

وقفت بثينة رشيقة كشجرة السرو، وأجالت عينيها الخضراوين بين الحديقة والحقول المترامية وراء الأسوار، والترعة الجارية بين صفين من أشجار السنط، وسألته في عتاب: أمن أجل هذا؟!

ضعفت أمام طلعتها، فمسحت برفق على موجات شَعْرها، وغمغمت: بل من أجل اللاشيء.

– ألا تخاف الوحشة في الخلاء؟

فهمست في أذنها: أرهقتني الوحشة في الزحام.

وتباعدت خطوة وهي تقول: أمس عثمان قال …

فقاطعها برفق: ألم تفطني يا بنيتي بعد إلى أنني أصم؟

فغادرت الحديقة من الباب الخشبي القصير المغروس في سور اللبلاب والنرجس، واختفت عن الأنظار. وتنهدت في إعياء، وفتحت عيني في الظلام. ماذا يعني هذا الحلم إلا أنني لم أبرأ بعد من نداء الحياة؟ وكيف أفكر فيك طيلة يقظتي، ثم تعبث بمنامي الأهواء؟

•••

وعانقك مصطفى بحرارة ومرح، ثم نظر في عينيك نظرة حادة وحزينة. ورأيت مكان صلعته شَعرًا أسود غزيرًا، مسترسلًا إلى الوراء، فلم تملك أن تشير إليه قائلًا: مبارك عليك شَعْرك، ولكن ماذا فعلت؟

فقال بجدية غير معهودة فيه: تلوت سورة الرحمن عند السَّحر.

فسألته بدهشة: ومتى عرفت الطريق إلى الرحمن؟

– منذ اعتزلت أنت العالم في هذا المكان.

– ولم جئت؟

– لأقول لك: إن زينب تعمل بقوة عشرة من الرجال.

– لها الله.

وألقى على البيت والحديقة والحقول نظرة، ثم قال: ما أجدر هذا البيت بأن يكون مهد غرام أو مثوى فنان!

فجفلت قائلًا: ها أنت تعود إلى الهزل.

فتأوه قائلًا: لم يبقَ لنا إلا الهزل، نحن بنو العصر الحجري، ولكنك بدل أن تهزل جننت بحب اليأس.

فتراجعت وأنا أقول: ألم تدرك أنني ميت الحواس؟

فهز منكبيه استهانة، وتسلق شجرة سرو حتى بدا أعلى من البدر الصاعد فوق الأفق، وراح يحرك يده بجرس ذي رنين شديد حتى زحفت من الحشرات أنواع شتى، ومضت ترقص حول الشجرة في ضوء القمر. والتمعت صلعته تحت ضوء القمر.

وتنهدت في إعياء، وفتحت عيني في الظلام. ماذا يعني الحلم إلا أنني لم أبرأ بعدُ من نداء الحياة؟ وكيف أفكر فيك طيلة يقظتي، ثم تعبث بمنامي الأهواء؟

•••

وأمس جُلت بأنحاء الحديقة مرددًا شِعر المجنون. وعندما بلغت السور الشمالي الذي ترى وراءه الترعة، هزني صوت حلقي وهو يصيح: أين الباب يا رجل؟

عثمان يعتلي دراجة بخارية مزركشة العجلة والمقود بالأعلام الصغيرة على طريقة أهل البلد في الأعياد. وقلت له دون مجاملة: لا تدخل.

فهتف: ألم تدرِ بالمعجزة؟ … لقد عَبَرْتُ سطح الترعة بالدراجة.

– لا أومن بالمعجزات.

فضحك عاليًا، وهو يقول: لكننا في عصر المعجزات.

تراجعت خطوة وأنا أسأله: ماذا تريد؟

فقال بجدية وجلال: جئتك موفدًا من الأسرة.

– لا أسرة لي.

– ألم تدرِ بالمعجزة؟ لقد ظهر لأسرتك فروع جديدة في القارات الخمس، أفلا تود أن ترجع إلى ذلك المزيج العجيب من البلاتين والفحم؟

فقلت متحديًا: ألم تدرِ بأن أسرتنا الحقيقية هي اللاشيء؟

فقال مهددًا: سأطاردك بفرقة كاملة من الكلاب المدربة.

وقعقع أزيز الدراجة، وارتفع نباح الكلاب، فتنهدت في إعياء، وفتحت عيني في الظلام. ماذا يعني هذا الحلم إلا أني لم أبرأ بعد؟ وكيف أفكر فيك طيلة يقظتي ثم تعبث؟

•••

وسهرت الليل كله في الحديقة. ولم يكن معي في الظلام شيء، والنجوم تومض في القبة. وساءلتها عن أشواقي، وساءلتها متى يتحقق الحلم المنشود؟ وصرخت حتى اضطربت لصراخي خلايا السرو. وعاتبت كل شيء ولا شيء، ورنوت إلى نجم متألق بين النجوم.

– أريد أن أرى.

فهمس: انظر.

فنظرت فرأيت فراغًا لا شيء فيه. ولكن ليس هذا ما أتوق لرؤية وجهه، فهمس: انظر.

فانحسرت هالة من الظلام عن رجل عارٍ، وحشي الملامح، مسدل الشَّعر حتى المنكبين، يقبض بيمناه على عصا من الحجر الصلد، ويتحفز للقتال. ووثب نحوه وحش لم ترَه عيني من قبل كأنه تمساح، ولكنه يقوم على أربع أرجل طوال، وله وجه ثور. ودارت بينهما معركة دامية، انتهت بسقوط الوحش، وتراجع الرجل مترنحًا، والدماء النازفة تخضب وجهه وصدره، وتسيل فوق ذراعيه، ولكنه رغم آلامه ابتسم.

ولكن ليس هذا ما أتوق لرؤية وجهه وأنت تعلم، فهمس: انظر.

فانجابت الظلمة عن فسحة من المكان تكتنفها غابة، وينهض في خلفيتها جبل. وانحدر من الجبل قوم عرايا مدججون بالأحجار، فتصدى لهم آخرون من الغابة لا يقلون عنهم وحشية، أو رغبة في القتال. ودارت معركة عنيفة، وعلا الصراخ، وسالت الدماء. حتى الوحوش الكاسرة ولت لائذة بأعالي الشجر والقنوات وقمة الجبل. وانهزم أهل الغابة؛ فسقط منهم من سقط، وأُسِرَ من أُسِر، وهلل أهل الجبل.

ولكن ليس هذا ما أتوق لرؤية وجهه وأنت تعلم، فهمس: انظر.

فرأيت جموعًا تعكف على الأرض، تحرثها وتزرعها، وقوافل تسير محملة بالبضائع، وطائفة تمتطي الخيل مدججة بالسلاح متأهبة للقتال.

ولكن ليس هذا ما أتوق لرؤية وجهه وأنت تعلم، فهمس: انظر.

فرأيت جبهة عالية، يرتسم التفكير في أخاديدها، وصاحبها منكبٌّ على أوراق يخط فوق صفحاتها أرقامًا لا نهاية لها.

ولكن ليس هذا ما أتوق لرؤية وجهه وأنت تعلم، فهمس: انظر.

ولم أرَ شيئًا أول الأمر. ولكني شعرت بوثبة تبشر بالنصر، وشاع في صدري شعور غامر بالسعادة. وتذكرت الإحساس الباهر الذي سبق الرؤيا ساعة الفجر بالصحراء. ولم أشكَّ في أن النشوة آتية بموسيقاها، وأن العريس سيبزغ وجهه. وانجابت الظلمة عن منظر آخذ في الوضوح رويدًا والتوكد. وخفق قلبي كما لم يخفق من قبل، وتمخض عن باقة، هيئة باقة ورد، غير أن وجوهًا آدمية حلت محل ورودها. وما لبثت أن تبينت فيها وجوه زينب، وبثينة، وسمير، وجميلة، وعثمان، ومصطفى، ووردة. ذهلت من الدهشة، وحملقت فيها بإنكار. وباخ حماسي مرة واحدة، وتجرعت غُصص الخيبة. ليس هذا ما أتوق لرؤية وجهه وأنت تعلم. أين وجهه؟ … أين وجهه؟ ولكن المنظر تشبث بكينونته. وازداد مع الوقت دقة ووضوحًا، وتبادلت أشخاصه الألاعيب. تبدت زينب برأس وردة، ووردة برأس زينب. ولبس عثمان صلعة مصطفى، ونظر مصطفى إليَّ بعيني عثمان. وإذا بسمير يثب إلى الأرض متخذًا من رأس عثمان رأسًا له، ثم يحبو نحوي. وفزعت فعدوت، والكائن المركب من سمير وعثمان يتبعني. وكلما زدت من سرعتي زاد هو من سرعته وإصراره. وقفزت من فوق السور الأخضر، فوثب الآخر من فوقه كجرادة. وركضت بحذاء الترعة، والآخر في أثري كثور عنيد. وعدوت، وعدوت حتى سرى الإنهاك في عضلاتي، وانبهرت أنفاسي، وخارت قواي، ودار رأسي؛ فهويت إلى الأرض. انطرحت على وجهي فوق عشب ندي، وقدما الآخر تقتربان مني في إصرار، وكأنهما تزدادان قوة. عبث الشيطان بالحلم. وبدلًا من النشوة حلت اللعنة، واستحالت الجنة ملعبًا للمهرجين. وتخليت عن فكرة المقاومة، واستسلمت للأرض المعشوشبة. ورفعت رأسي قليلًا لأنظر فيما حولي، سمعت صفصافة تترنم ببيت من الشِّعر، واقتربت مني بقرة قائلة: إنها سوف تتوقف عن در اللبن لتتعلم الكيمياء. وزحفت حية رقطاء، ثم بصقت أنيابها السامة، وراحت ترقص في مرح. وانتصب الثعلب حارسًا بين الدجاج. واجتمعت جوقة من الخنافس، وغنت أغنية ملائكية. أما العقرب فتصدت لي في لباس ممرضة.

وتنهدت في إعياء، وفتحت عيني في الظلام، ماذا يعني هذا الحلم إلا أنني … وكيف أفكر فيك طيلة يقظتي، ثم …

١٩

استلقيت على ظهري فوق الحشائش رانيًا إلى الأشجار الراقصة بملاطفات النسيم في الظلام. أنتظر وإن طال الانتظار، وإذا بأقدام تقترب، وصوت يهمس: مساء الخير يا عمر.

وانتصب شبح إلى جانبي. ما أكثر الأحلام! ولكنني لا أرى شيئًا، وقال: كدت أيأس من العثور عليك، كيف ترقد هكذا؟ ألا تخاف الرطوبة؟

وجلس إلى جانبي فوق الحشائش ومد يده، ولكني تجاهلته؛ فقال: أنسيت صوتي؟ … ألم تعرفني بعد؟

قلت متأوهًا: متى يكف الشيطان عني؟!

– ماذا قلت يا عمر؟ بالله حدِّثني فأنا في غاية من الضيق.

– من أنت؟

– يا عجبًا! … أنا عثمان خليل.

– وماذا تريد؟

– أنا عثمان، لقد وقع المحذور وأنا مطارد.

تحسست جسمه بيدي، وقلت: ليس هذا بجسم سمير، فماذا تعني هذه المرة؟

– سمير؟! … إنك تخيفني.

– ولكني لن أخاف، ولن أعدو كالمجنون.

فلمس ذراعي، وقال: بالله حدِّثني كصديق، لا تدفع بي إلى اليأس منك.

– وماذا يهم؟

– أصغِ إليَّ يا عمر، إني في موقف خطير، إنهم يبحثون عني في كل مكان، وإذا ألقوا القبض عليَّ هلكت.

– إذن فأنت الهارب هذه المرة.

– سأختبئ عندك حتى أتمكن من الهرب.

فتساءلت في حزن: كيف جاء بك الشيطان؟

فأجاب بلهفة: كنا نعرف مكانك من أول يوم، وليس ذلك بالمطلب العسير على صحفي مدرب كمصطفى، وكثيرًا ما حام مصطفى حول مسكنك، وأوصى بك الفلاحين الذين يجيئونك بالطعام، ولكننا لم نرد أن نزعجك.

فهتفت متأوهًا: هم الذين حالوا بيني وبين وجهه.

– بل لم نزعجك مرة واحدة طوال عام ونصف عام.

– لن أبالي حتى إذا وضعت رأسك مكان رأس سمير!

فقال بحسرة: ماذا أصابك؟ … لا … لا، لن أصدق أنك لم تعرفني بعد.

– صدق أو لا تصدق.

– أصغِ إليَّ يا عمر، سأصارحك بحقيقة مذهلة، لقد تزوجت من بثينة.

– فليعبث الشيطان ما شاء له العبث.

فقال، وهو يدني وجهه من وجهي: رغم فارق السن تزوجنا، هو الحب كما تعلم، وفي بطنها الآن ينبض جنين، هو ابني وحفيدك.

– كما كنت ابني وعدوي.

– ألم توقظك الأخبار العجيبة؟

– كما لفظت الحية أنيابها السامة ورقصت.

– يا للخسارة!

– هذا ما أردده دائمًا، وما من مجيب.

فربت على صدري برفق، وقال: عد إلى وعيك، إنهم في أشد الحاجة إليك، لقد هربت في اللحظة المناسبة، ولكنهم يجدُّون في البحث عني، ولقد فتشوا مكتبك، وأخشى أن يسيئوا بك الظن، عد لتعلن براءتك، وترعى أسرتك، بثينة تنتظر وليدًا، ولن تراني أبدًا.

– وأنا لم أره.

– ألا تريد أن تفهم؟

– أموت كل يوم عشرات المرات كي أفهم، ولكنني لا أفهم.

– ألم تفهم أنني زوج ابنتك، وأنه مقضي عليَّ بالاختفاء أو الموت؟

– اجرِ حتى تسقط إعياء، وسوف ترى الخنافس وهي تغني.

– يا للفظاعة!

– يا للفظاعة.

فهزني بشيء من الشدة، وقال بغضب: اصحُ، لا وقت للهذيان، يجب أن أفهِّمك كل شيء قبل أن أذهب.

– اذهب، لا تكدر صفو أحلامي.

– يا للتعاسة! ماذا فعلت بنفسك؟

– سوف ييأس الشيطان مني.

– اصحُ، أسرتك في خطر، إذا اتجه الشك إليك فسيتعرضون للبهدلة، أنا لا أخاف على نفسي؛ فقد نذرتها للهلاك، ولكن يجب أن تعود إليهم.

– عد إلى الجحيم فهو مقرك.

وهزه مرة أخرى بحنق قائلًا: يجب أن أهرب، ويجب أن تعود.

– ابقَ إذا شئت لترى بعينيك انتصاري.

فهز رأسه في أسف، وقال: يا لك من أحمق! بددت مجدك في البحث عن شيء غير موجود.

– متى تصدق أنت أنك غير موجود؟

نهض الرجل قائمًا وهو يقول: أشهد أنني يئست منك، رغم أن اليأس ليس في قاموسي.

– ها قد يئس الشيطان!

ابتعد الشبح في الظلام، وهو يقول بحزن: الوداع يا أخا الجهاد القديم.

عاد السكون إلى الليل، ولكن ذلك لم يطل، سرعان ما عاد الرجل مهرولًا وهو يقول: جاءوا، كيف اهتدوا إليَّ بهذه السرعة؟

وجرى في الحديقة نحو السور الغربي، وسرعان ما رجع وهو يقول في هياج: إني محاصر.

وجرى نحو المبنى الصغير، ورنوت إلى النجوم في سلام نسبي. ولكن صوتًا مزعجًا ترامى صياحه وهو يقول: سلم نفسك، عثمان خليل … سلم نفسك، أنت محاصر من جميع الجهات.

لم أسمع جوابًا، واتجهت عيناي نحو مصدر الصوت الغارق في بهيم الليل، وغمغمت: الشيطان يتمادى في عبثه، ولكني لست محاصرًا، بل أنا حر.

وترامت الأصوات من جميع النواحي المحدقة بالسور، واقتربت رويدًا، وصاح صوت أشد إزعاجًا من الأول: المقاومة لا جدوى لها، ولا معنى لها.

ولم يرد المختبئ، وغمغمت: كل شيء له معنى.

وإذا بأضواء كشافة تجتاح البيت من جميع الجهات، فتجعله شعلة من نور، وضاق الخناق على المكان كله، وصاح الصوت: سلم يا عثمان، اخرج رافعًا ذراعيك.

وتأوهت متمتمًا: متى تسكت عني أصوات الشياطين؟

وصاح الصوت الرهيب: ألا ترى أن أي مقاومة عبث؟

فهمست: لا شيء في الوجود عبث.

واندفعت أقدام مصحوبة بصياح في الناحية الخلفية للبيت الصغير. وخرج شبح إلى الشرفة الأرضية المتصلة بالحديقة وزعق: انتهى … انتهى … قُبِضَ عليه، وانتهى كل شيء.

وهمست: ليس لشيء نهاية.

واندفع عديد من الأشباح في الحديقة راكضين نحو البيت. وعثر أحد الراكضين بساقي؛ فسقط على وجهه، وصاح: حذارِ، يوجد آخرون.

وانطلق عيار ناري. وندت عني تأوهة عميقة، وشعرت بألم حاد كأنه ألم حقيقي لا عبث شيطان بحلم.

وتنهدت في إعياء، وفتحت عيني. ماذا يعني هذا الحلم إلا أنني لم أبرأ بعد؟ وكيف أفكر فيك طيلة يقظتي، ثم تعبث بمنامي الأهواء؟ ولكن مهلًا، أين أنا؟ أين النجوم؟ أين أعشاب الحديقة، وأشجار السرو؟ هذه سيارة تنطلق، وأنا راقد على مقعد طويل جانبي يجلس على طرفه رجل. وعلى المقعد المواجه لي في الجانب الآخر من السيارة يجلس عثمان صامتًا بين رجلين. لا شك أني ما زلت أحلم. وثمة ألم في منكبي يدفعني إلى التأوه، وقال صوت: من المؤكد أن الرصاصة اخترقت الترقوة، ولكنه جرح سطحي لا خطر منه.

تُرَى ماذا يعني هذا الحلم؟ وأين يذهب بي؟ ومتى يسكن الألم الحاد بمنكبي؟ ومتى أنتصر على الشيطان وعبثه؟ ومتى تختفي من أحلامي الدنيا ومن فيها؟ وتأوهت رغمًا عني، فقال صوت: اصبر قليلًا.

فقلت بتحدٍّ: زولوا لأرى النجوم.

– أنت بخير.

فقلت بعناد: إني بخير ما انتصرت عليكم.

– اهدأ، سيراك الطبيب فورًا.

– لا حاجة بي إلى إنسان.

– لا تجهد نفسك بالكلام.

فقلت بإصرار: لقد تكلمت الصفصافة، ورقصت الحية، وغنت الخنافس.

ومضى يردد ذلك بصوت خافت. وأغمض عينيه، ولكن الألم لم يسكن، وتساءل متى يرى وجهه؟ ألم يهجر الدنيا من أجله؟

•••

خامره شعور بأن قلبه ينبض في الواقع لا في حلم، وبأنه راجع في الحقيقة إلى الدنيا.

ووجد نفسه يحاول تذكر بيت من الشِّعر. متى قرأه؟ وأي شاعر غناه؟

وتردد الشعر في وعيه بوضوح عجيب:

إن تكن تريدني حقًّا فلِمَ هجرتني؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤