أخطار كثيرة!

تسمَّرَت قدمَا «أحمد» في الأرض عقبَ سماعِه لمَا قاله خبير المعلومات … فأراد أن يفهم منه ما المقصود بأعداء القلعة … إلا أنه انصرف مسرعًا، وتركه غارقًا في حيرته ناسيًا أن لديه تقريرًا كاملًا وافيًا ينتظره بغرفة مكتبه … وعندما تنبَّه لذلك، قطع الطريق إلى هناك في ثوانٍ … ومثلها في إدارة جهاز الكمبيوتر … وهالَه ما قرأ … وكان التقرير يقول: سيد «أحمد» العضو رقم واحد في جماعة الشياطين اﻟ «١٣» … والقائد التنفيذي للمجموعة.

تقرير رقم واحد …

الموضوع: جريمةٌ تحت جدار القلعة …

معدُّه: مركز معلومات المقر.

المحتوى: إن رسوخ الدولة يكمن في تاريخها … وشواهد التاريخ هي الآثار … والعبث بآثار دولة يُعدُّ جريمة … وهو يهدف إلى محوِ أركانِ هذا التاريخ.

وهناك عمل تخريبي يستهدف آثار «مصر» … ونخصُّ هنا قلعة «صلاح الدين الأيوبي» لمَا توافر لدينا من معلوماتٍ عن تواطؤ بعض المفتشين الأثريِّين الأجانب العاملين في منطقة القاهرة الفاطمية مع مركز مخابرات دولة معادية … استهدفَت ضرْبَ السياحة أكثرَ من مرة من قبل، وهذا التواطؤ يهدف إلى إلحاق أكبر قدر من التخريب بقلعة «صلاح الدين».

انتهى التقرير … وشعر «أحمد» أنه غيرُ وافٍ … فهناك الكثيرُ من علامات الاستفهام لديه لم يُجِب عنها … إلا أن بدايتَه جعلَته يطمئنُّ لمكانته في المنظمة. وعلى وجه السرعة … شرع في الاتصال ببقية الشياطين … ليُرتب معهم لاجتماع الليلة … وطلب منهم سرعةَ التواجد في غرفة العمليات الرئيسية في غضون ساعة … وقد اندهش لسرعةِ استجابةِ تليفون «إلهام» وكذلك «فهد».

ولأنهم جميعًا لم يكونوا بالمقر … فقد شَهِد شارعُ «الهرم» توافُدَ العديدِ من سيارات الشياطين، وقد أداروا سارينةَ الإنذار … لإفساحِ الطريقِ أمامهم … ليتمكَّنوا من اللحاق بالاجتماع وترتيباته.

وأمام شاشات الكمبيوتر بقاعات المعلومات المركزية، جلسوا يُعِدُّون التقاريرَ والاستفسارات التي سيطرحونها على رقم «صفر» ويناقشونها مع بعضهم.

وعندما انتهَت «إلهام» من إعداد تقريرها … شعرَت أن هناك مَن يراقبها من خلفها … فالتفتَت لتجد «أحمد» ينظر لها، وعينُه بها ألفُ سؤال … فضحكَت ضحكةً جزلَى، وبادرَته قائلةً: أولًا سمعتُ صفيرك بمنطقة المدافن، ثانيًا: لم أكن أستطيع أن أردَّ عليك … ثالثًا …

فقاطعها «أحمد» قائلًا: لقد قمتُ بالاتصال بك!

إلهام: لقد عطلتُ التليفون.

أحمد: ولكنكِ رددتِ عليَّ بعد ذلك!

إلهام: كنت قد انتهيت.

أحمد: مِن ماذا؟

إلهام: ستعرف كلَّ شيء في حينه.

أحمد: أهو سرٌّ عليَّ؟

إلهام: لا … ولكنه مرتبطٌ بموضوع الاجتماع … ولا داعيَ لأن أحكيَه مرتين … وميعاد الاجتماع اقترب، ولديك الكثيرُ لتعمله.

أحمد: وأنت يا «فهد».

فهد: قمتُ بتعطيل التليفون أيضًا.

أحمد: وجهاز الاتصال؟

فهد: لقد كانت أوامر وقمنا بتنفيذها.

وكأن «فهد» يريد أن يضعَ نهايةً لأسئلة «أحمد» وقلقه. وقد شعر هو بذلك فاكتفى بما قاله «فهد»، والتفتَ إلى «عثمان» يسأله عمَّا كان يقصده من أن هذا الاجتماع هو آخر اجتماع يحضره معهم؟ وتعجب الشياطين لحالةِ القلق وعدمِ الاتزان المسيطرة على «أحمد»، وقد صارحَته «ريما» بذلك قائلة: منذ متى لم تَنَمْ يا «أحمد»؟

أحمد: لماذا؟

ريما: لأنك لستَ في حالتك الطبيعية.

أحمد: مَن قال لكِ هذا؟!

ولم تستطع «إلهام» إخفاءَ قلقِها هي الأخرى عليه … فطريقتُه في الكلام غير عادية … وردُّ فعلِه مبالغٌ فيه، وهو سريعُ الإثارة بداعٍ وبدون داعٍ … فقامت بالاتصال بكبير أطباء المقر … وشرحَت له حالته … فطلب منها اصطحابَه إلى العيادة لتوقيع الكشف الطبي عليه … ولم يكن الأمر سهلًا … بل أضحى مستحيلًا … فقد رفض «أحمد» بعصبية شديدة الاعترافَ بأنه متعب وغير طبيعي … وأنه يحتاج للمعاونة.

ولم يَعُد أمامهم غيرُ حملِه قسرًا إلى عيادة المقر … وكان الدكتور في انتظارهم قد سبقهم إلى هناك بمجرد انتهاء المكالمة.

وما إن انصرف الشياطين، وأغلقوا غرفةَ الكشف على الدكتور و«أحمد» … حتى بادره قائلًا: ألم تَنَمْ منذ فترة كبيرة؟

أحمد: نعم!

دكتور «أدهم»: منذ متى؟

أحمد: ليس ذلك مُهمًّا الآن … المهم …

فقاطعه دكتور «أدهم» قائلًا: أنا الذي أُحدِّد المهمَّ واللامهم.

أحمد: وما لَك ومهامنا؟

ورغم أن السؤال غير لائق، إلا أن الدكتور «أدهم» لم يفقد صبره … فهذا من صميم عمله … وقد قابل مع الشياطين مواقفَ أصعبَ من هذه بكثير … لذا فقد ابتسم وردَّ على «أحمد» قائلًا: أنا عضو في هذه المنظمة … وأنت في حالتك هذه ستُعرِّضنا جميعًا للخطر.

أحمد: آسف دكتور «أدهم».

أدهم: ماذا يُقلقك، أهو خطر يحدق بنا؟

أحمد: إنها أخطار تحيط بالعالم العربي كلِّه.

أدهم: أتعرفها؟

أحمد: نعم!

أدهم: أتعرف علاجها؟

أحمد: ولكنها تحتاج إلى وقت وأشياء أخرى كثيرة لا أملكها.

أدهم: ولكنك تملك أن تؤديَ واجبك من موقعك هنا … كما ألفناك دائمًا … جنديًّا مخلصًا وقائدًا عبقريًّا لجماعتك، وعليك أن تعطيَني ذراعك.

أحمد: لماذا؟

أدهم: سأجعلك تنام ساعة قبل الاجتماع.

نظر «أحمد» بودٍّ شديد لدكتور «أدهم» … ثم أسلمه ذراعه، وهو يشعر بداخله بكثير من الراحة وبرغبة شديدة في النوم … وقبل أن يقولَ له … أشكرك، كان المخدر قد سرَى في شرايينِه، وراح في سُباتٍ عميق.

وفي غرفة المعلومات المركزية … كانت «إلهام» قد أنابَت عن «أحمد» في إدارة حركة التجهيز للاجتماع عندما اتصل دكتور «أدهم» يُطمئنهم عليه … وأنه سيكون بينهم خلال ساعة … مع أنه كان يُفضِّل تأجيلَ الاجتماع إلى أن يستعيدَ «أحمد» نشاطَه … وأخبرهم أنه قدَّم تقريرًا بحالته الصحية لإدارة المقر … لترى ما يمكن عمله.

وبالفعل اتصل رقم «صفر» ليُخبرَهم بقراره تأجيل الاجتماع إلى اليوم التالي … لكن في نفس الميعاد تقديرًا لظروف «أحمد» الصحية … وطَمْأَنهم إلى أنه يُتابع حالتَه مع دكتور «أدهم».

فانتهزَت «إلهام» الفرصةَ لتسألَه عن موقف «بيتر» من الاجتماع … فأخبرهم بأنه لا مانع من حضوره … فقد أثبتَت المتابعة والتجارب أنه أهلٌ للثقة … وقد استُدعيَ بناءً على تعليمات مباشرة منه.

وعقب انتهاء الاتصال، اتفق الجميعُ على استدعائه لحضور التجهيزات للاجتماع، وقد كان وجودُه مُهمًّا جدًّا للطرفين؛ فقد أضفى على المكان جوًّا من المرح اللذيذ … حتى عرف بما جرى ﻟ «أحمد»، فبدَا عليه القلق، وجرَت على لسانه الكثيرُ من الأسئلة، بدأها قائلًا: أين كان في الفترة الأخيرة؟

عثمان: لقد كان في المقر السري الكبير.

بيتر: وهل كان وحده؟

عثمان: نعم؛ لقد تم ذلك بناءً على طلبه.

إلهام: إن ما قاله الدكتور «أدهم» يعني أنه يحمل همَّنا جميعًا … وهموم بلادنا وأهلنا …

باسم: لقد كان متعاطفًا معي جدًّا بعد انهيار محادثات السلام.

بو عمير: ومعي بسببِ أحداثِ الإرهاب في بلدي «الجزائر».

عثمان: ومعي بسبب الحرب بين الأهل في شمال السودان وجنوبها.

فهد: ومعي بسبب احتلال الجولان … ومشاكل المياه مع «تركيا».

مصباح: وأنا أيضًا بسبب العقوبات الظالمة الواقعة على «ليبيا».

رشيد: وبالطبع أنا أيضًا بسبب إخوتي في «العراق» والأطفال الذين يموتون بسبب نقص الدواء والغذاء.

إلهام: لقد حدَّثتُه كثيرًا عن حلمه باليوم الذي يخرج فيه المحتلُّ من جنوب بلدي «لبنان»، إن «أحمد» هو الأخ الأكبر لنا جميعًا.

بيتر: ولكن … أترَون أن معظم الدول العربية تُعاني من مشكلات … إما احتلال أو حظر أو إرهاب … أو حرب أهلية؟!

عثمان: وهل لا يُنبِّهك ذلك إلى شيء ما؟

بيتر: تقصد أن هناك مَن يريد كلَّ هذا؟

إلهام: نعم … إنه عدو واحد … يُجنِّد كلَّ طاقاته، ويُحفز العالَمَ بأسْرِه لإدخال المنطقةِ العربية كلِّها في دوامات الصراعات المستمرة … حتى لا تلتفتَ إلى التنمية والتقدم.

إلهام: ولكن قلعة العرب «مصر» استطاعَت أن تصمد … وتقف شامخة … وتعلو في عيون العالم أجمع.

فهد: وهذا ما يُخيفهم.

باسم: لذلك … لا يجدون غير هذه الحوادث الصبيانية الصغيرة التي يحاولون بها شغلها عن هموم أمتها.

بيتر: أو هذه العملية الأخيرة التي ينوون القيامَ بها ضد آثارها وصروحها التاريخية!

مصباح: هل هم «سايبرسبيس»؟

بيتر: نعم … ولكن بأعضاء جُدد بعد أن مات معظمُ الأعضاء القدامى في عملية «ثورة الأخطبوط».

قيس: وهل لهم علاقة بالأعضاء القدامى؟

بيتر: إن زعيمهم «عازر» هو العضو الوحيد الذي نجا من الجماعة القديمة.

إلهام: عازر! إلى أيِّ بلد ينتمي؟ هل هو من أصل هندي؟

بيتر: أعتقد أنه يتبع جماعة إرهابية.

إلهام: وهل تظن أنه سيقوم بعملية تخريبية ضدنا.

بيتر: نعم؛ لأنها تكون استعراضية في محاولة لإثبات التفوق.

إلهام: إذن فهي عملية لصالح هذه الجماعة أيضًا.

فهد: ﺑ «سايبرسبيس» لأنهم … وقبل أن يُكمل جملتَه قالت «إلهام»: هناك اتصال!

وكان «فهد» قد شعر بوخزٍ في رسغِه، فضغط زرًّا في ساعته … وندت عنه آهةُ دهشة وهو يقول: واوو … إنه «أحمد» …

قيس: فلنذهب له.

إلهام: لا … فليذهب إليه «فهد» فقط كما طلب، وإذا أراد رؤيتنا … طلبنا …

ولم ينتظر «فهد» ما ستُسفر عنه مناقشاتُهم، بل أسرع بتلبية استدعاء «أحمد» الذي فتح عينَيه بصعوبةٍ عندما سَمِع صوتَ خطواتِه تتوقَّف عنده … فنظر إليه مليًّا، ثم قال له: «فهد» … أين أنا؟!

فهد: إنك نائم في العيادة …

أحمد: لماذا؟!

فهد: لا تُجهد نفسك الآن!

أحمد: كيف وميعاد الاجتماع قد اقترب.

فهد: لقد تم تأجيل الاجتماع.

أحمد: لماذا؟ إن القلعة في خطر.

فهد: أي قلعة يا «أحمد»؟

أحمد: قلعة العرب … القلعة في خطر يا «فهد»!

فهد: لا تخَف على القلعة … فكم أحاطَتها الأخطار فقهرَت هالكها وبقيَت هي صامدة.

أحمد: أخاف عليها … أخاف عليها …

قال ذلك وراح في سُبات عميق … وعاد «فهد» إلى الشياطين، وهو يشعر بالأسى العميق … لحالة «أحمد» وبداخله ألفُ رفضٍ للسكوت على ما يحدث … ورغبة عارمة في التحرك بقوة للوقوف في وجه هذه الدول وأطماعها.

وشعر الشياطين بما عليه «فهد» من أسى … وشعروا أن اجتماع الغد قد يُعقد بدون «أحمد»، فران عليهم الصمت … وانسحبوا واحدًا تلو الآخر … عائدين إلى غُرَف نومهم … وقد انتصف الليل، ونام ضوءُ القمر على أسِرَّتِهم … وحامَت حولهم نسائمُ الصيف الرقيقة تحكي لهم … حكايةَ «الأمير النائم» أنه حين يستيقظ سوف يحمل سيفَه ويعتلي صهوةَ جواده ويرحل … يَعبُر التلال والسهول والبحار والمحيطات … سيقتل المستحيل ويقهر الأهوال … ويحقق حلمَ حبيبته ويجعلها سيدة هذا الزمان.

داعب هذا الحلمُ الجميل خيالاتِ الشياطين … في هذا الجوِّ البديع الأخَّاذ، فشعروا بدفء أنفاس الأمل تملأ صدورهم … وملأَتْهم رغبةٌ مُلحَّة في النوم استعدادًا لمَا سيأتي به الغد.

وعندما داعبَت عيونَهم أصابعُ الشمس … وتنفَّس الصبحُ في صدورهم … تذكَّروا أول ما تذكَّروا «أحمد» كيف حاله الآن … هل أصلح النومُ ما أفسدَته الهموم.

وبعد تمام الاستيقاظ … والتخلص من آثار النوم بحمام الصبح المنعش … وكوب الشاي الدافئ؛ اجتمعوا سويًّا في الطريق إلى عيادة المقر للاطمئنان على الأمير النائم، وفي الطريق قابلهم الدكتور «أدهم»، فتبادلَ معهم تحيةَ الصباح وسألهم باسمًا إن كانوا ذاهبين لمهمة رسمية … وعندما عرَف منهم أنهم في الطريق ﻟ «أحمد» طلب منهم أن يرافقَهم للاطمئنان عليه … وإن شاء الله سيكون في أحسن حال.

عمَّ جوٌّ من التفاؤل والمرح بين الشياطين ومعهم دكتور «أدهم» … ما لبث أن توارَى خلف نظرات التساؤل والدهشة والحيرة والقلق عندما فتحوا باب الغرفة التي ينام بها «أحمد» فلم يجدوه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤