الفصل السادس

الحب والصراع: إمبيدوكليس

ابتكر إمبيدوكليس الأكراجاسي (تعرف أكراجاس الآن ﺑ «أجريجنتو» وتقع جنوب صقلية) نظريةً حول المادة كانت من البساطة والإقناع بمكانٍ جعل الجميع يؤمنون بالعديد من جوانبها حتى عصر النهضة. والحق أنَّ تَبَنِّيَ أرسطو هذه النظرية قد ساعد كثيرًا على انتشارها بعد إدخال بعض التعديلات عليها. وفي ظل دعم أرسطو لها، بقيت هذه النظرية سائدة بين أعمال التراث القديم حتى القرن الثامن عشر الميلادي، حيث خضعت لنقد متنوِّر على يد علماء الكيمياء من أمثال بويل. وتقوم النظرية على أن جميع الأشياء تتكوَّن من أربعة عناصر هي التراب والهواء والنار والماء وليس لأيها أفضلية على الآخر، ولكنها تتحد بكميات مختلفة في الأشياء المختلفة. ولنضرب مثالًا على إحدى وصفتي إمبيدوكليس اللتين قدمهما من أجل البقاء؛ فالعظام تتكوَّن من جزأين من الماء وجزأين من التراب وأربعة أجزاء من النار. وهذه الوصفة التي ذكرها إمبيدوكليس تُغرِينا بتقديم وصفة شخصية لإمبيدوكليس نفسه، فهو عالِمٌ أوَّلِيٌّ في جزأين منه، وواعظ فيثاغوري في جزأين آخرين، وصانع أعاجيب في جزء آخر، ولا يخلو من عجرفة هرقليطس ولو شيئًا يسيرًا.

وقد شبَّه البعض إمبيدوكليس بفاوستوس؛ ذلك أنه زعم أن المعرفة التي اكتسبها جعلته شبيهًا بالآلهة ومكَّنته من ممارسة السحر، فأصبح يُحيِي الموتى ويتحكَّم في الطقس (أو «العناصر» كما نسميها أحيانًا). وهذا يذكرنا بكلمات ملاك الشر التي قالها ﻟ «دكتور فاوستوس» شخصية كريستوفر مارلو الشهيرة حين قال له:

امضِ يا فاوستوس في ذاك الفن الشهير،
الذي يحوي كنوز الطبيعة بين دفتيه.
وكن في الأرض كجوبيتر في السماء؛
رَبِّ هذه العناصر ومُصَرِّفِها.

بل إن الأسطورة ذكرت أن نهاية إمبيدوكليس كانت مثل نهاية فاوستوس تقريبًا، فيقال إنه بعد أن تناول عشاءه مع بعض أتباعه قفز إلى داخل نيران بركان إتنا واختفى، تمامًا كما جرَّت الشياطين فاوستوس إلى نيران الجحيم في منتصف الليل. وقد بقيت هذه القصة وعاشت بفضل ديوجينيس لارتيوس وميلتون وماثيو أرنولد. لكن الحقيقة أن إمبيدوكليس توفي خلال نفيه بعيدًا عن صقلية لأسباب سياسية وربما في مدينة بيلوبونيز. وما كان غنيًّا بالأحداث الغريبة حقًّا إنما هو حياته لا موته.

figure
إمبيدوكليس.
وُلِد إمبيدوكليس حوالي عام ٤٩٢ق.م. لأبوين شهيرين وكان ذا مظهر مميز؛ فقد كان يرتدي ثوبًا أرجوانيًّا بحزام ذهبي وحذاءً برونزيًّا وإكليل غار. ويبدو أن هذه الأزياء قد حققت هدفها المنشود حيث يقول:

كنت أسير وسط حفاوة الجميع مكللًا بالتيجان والزهور، وكنت كلما دخلت مدينة ومررت على أهلها رجالًا ونساء ألقى الترحيب والتكريم، وسار الآلاف منهم خلفي …

واعترف إمبيدوكليس قبل هذا الحديث المفعَم بالفخر والإعجاب مباشرة أنه «إله خالد ولم يَعُدْ إنسانًا يموت ويفنى» وأن هؤلاء الذين لا يعرفون قدر تعاليمه ليسوا سوى «حمقى!» وقد تنتابنا الدهشة إذا أدركنا أن نشاطه السياسي في مدينة أكراجاس كرَّسه للدفاع المستميت عن فكرة إقامة الديمقراطية وتحقيقها في وجه نظام الحكم الاستبدادي، وهو الأمر الذي حَدَا بمن يحمل له الجميل من المواطنين أن يعرض منصب الملكية عليه اعترافًا منهم بجهوده الناجحة في المطالبة بالمساواة. والحق أن كتاباته كانت متوافِقة مع سياساته وإن بدت شخصيته مخالفة لذلك؛ فقد كتب بكل حماس عن ذلك العصر الذهبي الذي نَعِمَ فيه البشر جميعًا بالعيش سويًّا، كما أن تعاليمه ومواعظه تقول إن الناس جميعًا — وليس إمبيدوكليس ذو الحظ العظيم وحده — يستطيعون أن يستعيدوا هذه الحالة الإلهية التي كانوا عليها؛ ولذلك فقد كان من دعاة مذهب المساواة الروحانية. وقد غالى إمبيدوكليس في هذا الشأن كثيرًا حتى قال إن جميع المخلوقات الحية بينها تشابُه روحاني؛ فقد كان يؤمن بما آمن به الفيثاغوريون من أن الأرواح تفارق الجسد بعد الموت ويمكن أن تتناسخ مرة أخرى في أشكال النباتات أو الحيوانات أو البشر، حتى قال عن نفسه ذات مرة إنه كان «صبيًّا وفتاة ثم شجيرة وطائرًا ثم سمكة من الأسماك المهاجرة.»

ولكن كيف لهذا الهذيان الفيثاغوري أن يتناسب مع النظرية الكيميائية الجدية التي أكسبته مكانته في التاريخ؟ كما كان الحال لدى فيثاغورس نجِد ثَمَّةَ ارتباطًا بين أنشطة إمبيدوكليس العلمية وآرائه الدينية، حيث يرى الفيثاغوريون أن ثمة اتصالًا بين الأمور الروحانية ومعرفة الطبيعة، وأنهم توصلوا إليه من خلال مفهوم «التأمُّل» لديهم، وهو عبارة عن تأمُّل سامي يعمل على تنقية الروح، ولكن هذا الاتصال يأخذ شكلًا مباشرًا بصورة أكبر عند إمبيدوكليس؛ فالأفكار الأورفية أو الفيثاغورية عن الروح وخلاصها والتي يتناولها إمبيدوكليس في قصيدة له بعنوان «سُبُل النقاء» أو بالأحرى في جزء منها يمكن اعتبارها تطبيقًا للأفكار البشرية في قصيدته «العلمية» (أو ربما كانت جزءًا من القصيدة نفسها) التي تسمى «عن الطبيعة». تمثل الدراما الإنسانية فصلًا واحدًا من المسرحية التي تؤدِّيها العناصر في الكون، وطاقم التمثيل هو نفسه الموجود في قصيدتي «سبل النقاء» و«عن الطبيعة»؛ ولذلك فإن قوة الحب التي تقوم بجذب العناصر الكيميائية بعضها لبعض لتتجمع وتلتحم هي ذاتُها القوة التي يشعر بها الناس في قلوبهم والتي تفسِّر سبب الانجذاب الجنسي، أما قوة الصراع، التي تقوم بإبعاد العناصر بعضها عن بعض، فهي المسئولة عن الانهيار الروحي للإنسان.

•••

ولم يتبقَّ من أعمال إمبيدوكليس سوى نحو ٤٥٠ بيتًا متفرقًا من الشعر لم تضمها هاتان القصيدتان، وإنما وردت في طيات كتابات أخرى لكُتَّاب آخرين. وما تبقى من كتاباته يفوق بكثير ما تبقى من كتابات أي مفكِّر آخر في ذلك العصر ويعكس كيف كانت كتاباته من أكثر الكتابات المستشهَد بها آنذاك. وقد كان إمبيدوكليس آخر الفلاسفة اليونانيين الذين كتبوا بالشعر، وربما كان أمهرهم في قرض الشعر حيث سمَّاه أرسطو «أبو الخطابة»، وكتاباته أسهل في فهمها من كتابات بارمنيدس.

ويتفق إمبيدوكليس مع بارمنيدس في فكرة عدم خلق الأشياء أو فنائها ولكنه صاغها بطريقة أفضل فقال: «إن جميع الأشياء الهالكة لا تُولَد ولا تفنى بالموت، بل بخلط الأشياء وتبديلها، والإنسان هو من أطلق على الأشياء المختلطة اسم الميلاد.» ويُعتَبر هذا حلًّا وسطًا بين بارمنيدس والمنطق السليم، فإمبيدوكليس على استعداد «للالتزام بالعرف» والحديث عن الميلاد والموت، ما دُمنا نتحدث في إطار فكرته عن أن الميلاد أو النشوء هو عملية تكوين شيء من خلال خلط المواد الموجودة سابقًا، وأن الموت أو الفناء لا يعني إلا تفكيك هذه العناصر وإعادة تجميعها لتكوين شيء آخر، وهذه العناصر في حَدِّ ذاتها ليست مخلوقة ولا يصيبها الفَنَاء؛ وبهذا فإن بارمنيدس كان محقًّا إلى حَدٍّ ما. ويتفق إمبيدوكليس مع بارمنيدس كذلك على أن ليس في الوجود ما يسمى فراغًا، ولكن قَلَّمَا نسمع شيئًا عن استحالة الحركة أو أن ليس هناك إلا شيء واحد. وبشكل عامٍّ يبدو أن إمبيدوكليس تجاهل هذه الأجزاء غير المناسبة في مذهب بارمنيدس كما فعل مع مفارقات زينون الداعمة لها.

ويشير حديث إمبيدوكليس عن «الاختلاط والتبادل» إلى دمج العناصر الأربعة، وهو يشبه الطريقة التي تَخلط بها الطبيعة العناصر لكي تُشَكِّل الأشياء الطبيعية بالطريقة التي يخلِط بها الرسام ألوانه فيقول:

إن الناس … يمتلكون بين أيديهم الكثير من الألوان والأصباغ ويقومون بخلطها في تناغم وانسجام ويصيغون بها أشكالًا تحاكي جميع الموجودات، فيصنعون الأشجار والرجال والنساء والوحوش والطيور والأسماك والآلهة الخالدة، ويُضفُون عليها هالة من الجلال.

ولا تشير العناصر الأربعة لدى إمبيدوكليس من تراب وهواء ونار وماء — التي هي بمنزلة الألوان التي تَشَكَّل منها العالم الواقعي — إلى ما نعنيه اليوم بهذه الكلمات؛ فالهواء تشكلت منه جميع الغازات، والماء تشكَّلت منه جميع السوائل، والمعدن يُعَدُّ من السوائل لأنَّه يذوب ويتَّحِد مع عناصر أخرى، بل إنه أعطى كل عنصر اسم أحد الآلهة (وأحيانًا اسمين)، ولم يكن هذا من قبيل الضرورة الشعرية وحسب؛ فبما أن العناصر خالدة ولا تفنى؛ فجدير بها أن تصبح مثل الآلهة في علم اللاهوت الذي لم يكن يضع حدودًا ولا قيودًا في ذلك الوقت. والشيء نفسه يسري على القوتين الأساسيتين لديه وهما الحب والصراع اللذين يعطيهما أسماء آلهة في بعض الأحيان؛ فالحب يجذب العناصر بعضها لبعض ويجمع بينها، في حين أن الصراع ينفرها ويبعدها عن بعضها. وتضع هذه الحرب الدائرة أوزارها في صورة العالم المتغير الذي نراه.

ويرى إمبيدوكليس أنه في وقت من الأوقات سادَ الحب كل العالم واجتمعت كل العناصر في شكل إلهي واحد (ربما يكون مشابهًا للشكل الأشبه بالكُرة لدى بارمنيدس)، ولكن شوكة الصراع أخذت تقوى وبدأت تُفَرِّقُ بين العناصر، فرَدَّ الحب هذا العدوان الغاشم واستطاع توحيد العالم بما فيه من جبال وبحار ونجوم وغير ذلك. وفي عالمنا المعاصر ما زال الحب والصراع في منافسة شرسة حولنا مثل معركة الأسد مع الحصان وحيد القرن في رواية لويس كارول التي يتقاتلان فيها على التاج، فينجح الحب في تجميع بعض العناصر مكونًا بها أحد المخلوقات ثم يأتي الصراع ليفككها ويحولها إلى رماد، وهكذا.

ويومًا ما سيُكتَب الانتصار للصراع (ولكن ليس للأبد) وتعود جميع الأشياء إلى سيرتها الأولى ذرات من عناصر، ولكن الحب سيشن هجومًا مضادًّا رهيبًا ويجمع العناصر كلها في شكل آخر ضخم لتبدأ المعركة بينهما من جديد. ويُشبِه الأمر إلى حَدٍّ كبير حديثنا عن «الانفجار العظيم» و«الانسحاق الشديد» في علم الكونيات المعاصر. فكما يقول الحكماء اليوم إن المادة والطاقة كلتيهما كانتا مضغوطتين بشكل كلي في مكان واحد ثم انفجرتا وتبعثرتا في «انفجار عظيم». وإذا كان الحال كذلك فسيَلِي ذلك في المستقبل البعيد حركة انعكاسية تسمى «الانسحاق الشديد» وسيتجمع فيها جميع الأشياء ويلتصق بعضها ببعض في نقطة واحدة بفعل قوة الجاذبية. وهذه الفكرة تُعَادِلُ فكرة انتصار الحب لدى إمبيدوكليس؛ ولذلك فيمكننا أن نعتبر تفسير إمبيدوكليس للكون خليطًا من فيزياء ستيفن هوكنج والروايات الرومانسية لباربرا كارتلاند.

ويبدو جزء من قصة إمبيدوكليس بشكل يثير الشك مشابهًا لبعض التفاسير القديمة والتوقعات العجيبة للتفاسير الحديثة. وقد رأينا من قبلُ كيف استفاد الملطيون من «المتضادات» الأربع — الساخن والبارد والرطب والجاف — والتي تشبه كثيرًا العناصر الأربعة لدى إمبيدوكليس. أما الصراع لدى إمبيدوكليس فمَثَلُهُ كمَثَلِ الحرب لدى هرقليطس، وربما يشبه فكرة «الانفصال» لدى أناكسيماندر. إذن ما مدى أصالة أفكار هذا الذي نصب نفسه إلهًا؟ هل حقًّا أن إمبيدوكليس بما قدمه من أفكار أساسية لم يُضِف إضافة عظيمة للفلسفة والفكر مثل هرقليطس وبارمنيدس؟ قد يكون هذا هو السبب وراء سهولة ضَمِّ نظريته عن العناصر الأربعة إلى الحكم التقليدية أكثر من أيٍّ من نظرياتهم. أما مَكْمَنُ عبقريته في هذه النظرية فهو التفاصيل التي أوردها للشروح والملاحظات التي يدوِّنها لا سيما في علم الأحياء كما سنرى، وتهذيبه لأفكار سابقيه عن المواد والقوى. ورغم تأرجُحها بين الإحكام والسطحية فقد قدمت هذه النظرية لنا الكثير.

ولنضرب مثالًا على ذلك؛ فالشيء الأهم في عناصر إمبيدوكليس يتمثل في أنها جميعًا متساوية لا يوجد ما يميِّز أيًّا منها عن الآخر، فلم يسبق أحدها باقي العناصر في الوجود ولا يُعتبَر أيها أصل العالم. وليس ثمَّة شيء جوهري لدى إمبيدوكليس؛ ولذلك فليس عليه تفسير كيفية تكوين العديد من الأشياء المختلفة الموجودة حولنا. أما ما تناوله بتفسيرٍ وتوضيح أكثر من سابقيه فهو أنه يجِب تفسير التنوُّع اللانهائي للحياة والمادة بالإشارة إلى الكَمِّيَّات القليلة من المواد النَّقيَّة التي تحتويها الأشياء، والتي لا يمكن اختزالها في أي شيء آخر. ومع توصُّل علماء الكيمياء في القرن السابع عشر إلى أن العناصر الأربعة ليست كافية للقيام بهذه الوظيفة (وقت كتابة هذه السطور تم التعرف على ١١٥ عنصرًا) وأن عناصر إمبيدوكليس الأربعة لم تكُن نقية بأي حالٍ من الأحوال ظَلُّوا على قرب منه أكثر من أيٍّ من الفلاسفة اليونانيين السابقين. أما فيما يتعلق بالحب والصراع، فرغم رَوعة اسميهما فإنهما يظلان الأقرب من أفكار الفلاسفة الآخرين إلى مفهوم القوى المذكور في الفيزياء القديمة. وكانت العناصر المادية قبل إمبيدوكليس هي المنوط بها تكوين العالم، ولم يكُن هناك تفريق واضح بين الأشياء المادية والقوى التي تعمل عليها، أما نظرية الحُبِّ والصراع عند إمبيدوكليس فتُصَوِّر صراعًا بين قوتين منفصلتين مثل قوة الجاذبية أو القوة المغناطيسية الكهربية المعروفة لنا اليوم.

لو قال إمبيدوكليس إن الحب هو الذي يؤلِّف بين العناصر واكتفى بذلك؛ لكُنَّا قد محوناه من سجلات الفلاسفة ونحيَّناه جانبًا باعتباره أحد الرومانسيين الذين حاولوا أن يتنبَّئُوا ببعض العلوم الحديثة، وانتقلنا لشخص آخر أكثر ثقافة وعلمًا، ولكنه لم يترك الحبل على الغارب ولم يَدَعِ الأمر على هذا النحو، فقد جسد إمبيدوكليس دور الحب والصراع في تكوين العالم في صورة عمليات طبيعية معتادة، باذلًا في ذلك جهدًا مضنيًا ليصفه ويُخرجه بشكل متَّسِقٍ ومتناسق. وكما كان الحال مع جميع المفكرين اليونانيين، لم تَعْدُ هذه التفسيرات أن تكون محض ملاحظات واستقراء يختلط بالخيال، ويخضع هذا الاستقراء للتجربة ليس عن طريق اختباره اختبارًا مصطنعًا، ولكن بالاستخدام المقنع لأدوات الإقناع من استعارات وتمثيلات عملية.

وعلى هذا يشبِّه إمبيدوكليس دور الحب في تكوين أول المخلوقات بصناعة الفَخَّار التي يجري فيها تجميع كُتَلِ التراب وبلُّها بالماء ثم تُشَكَّل وتُترَك في الشمس المُحرِقة لتجف. كما استخدم كذلك تشبيه الماء والدقيق في صنع الخبز؛ ذلك أن جفاف العظام وظهورها باللون الأبيض إثر خبزها في درجة حرارة عالية جدًّا قد جعل إمبيدوكليس يقول إن العظام تتكوَّن من أربعة أجزاء من النار من مجموع ثمانية أجزاء. (وربما نتساءل لماذا لم يحاول ذات مرة أن يتحقَّق من هذه الوصفة بصنع العظام. ربما اعتقد أنه أمر مستحيل، بل وينطوي على شيء من الدنس أن يقوم باستدعاء الشمس المُحْرِقَة بنفسه). ويقول إنه بصفة عامة نَتجت الأشياء الطبيعية بفعل التصليب الذي تُسَبِّبُهُ الشمس المُحرِقَة على الأرض والماء. ولا تدهشنا كثيرًا الأهمية التي يوليها لفعل الشمس المحرقة على عنصر التراب إذا علمنا أنه عاش تحت شمس صقلية الحارقة. كما تساعدنا حقيقة كونِه من صقلية على تفسير فكرته الأخرى المحيرة التي تقول إن الأجسام الصُّلبة ربما تكونت من تسخين المياه والتراب، كما هو الحال مع فكرته التي تقول إن الصخور تكوَّنت من الماء، وهي بلا شك فكرة لا أساس لها من الصحة حيث كانت البلورات المِلْحِيَّة تستخرج في صقلية في ذلك الوقت من البحر عن طريق التبخُّر لأغراض تجارية، فربما استنبط إمبيدوكليس من ذلك أن الصخور يمكن أن تتكوَّن من الماء. وكذلك كانت الحُمَم المتدفِّقة من بركان إتنا تقذِف صخورًا، وبما أن الحُمَم سائلة فقد رأى إمبيدوكليس أنها تعتبر ماءً. ولو كان إمبيدوكليس من سكان الإسكيمو لا صقلية لتغيَّرت النتائج التي توصَّل إليها عن العمليات الطبيعية الأساسية، فربما أَوْلَى اهتمامًا أكبر على سبيل المثال إلى الطريقة التي تُذيبُ بها الشمس الأجسام الصُّلبة إلى سوائل مثلًا إذا رأى تمثالًا من الجليد يتحول لبِركة ماء.

قدم إمبيدوكليس تفسيرات أكثر تقدُّمًا بخصوص الكائنات الحية، فمثلًا لاحظ أن الصفات المتباينة بشكل واضح للكائنات الحية يمكن أن تكون لها الوظيفة نفسُها وأن تؤدي أعمالًا متشابهة، وهو أحد المبادئ الأساسية في علم الأحياء؛ ومن ثم فهو يصف الزيتون على شجرة الزيتون بأنه بيض الشجرة، وأن الشعر والريش والقشور هي الشيء نفسه. أما أكثر تفسيراته البيولوجية تفصيلًا عن البقاء هو تفسيره لعمليات التنفُّس عند الإنسان والحيوان؛ إذ يرى أن انتظام حركة التنفُّس يترتب على حركة الدَّمِ في ثقوب صغيرة موجودة في الأنابيب حامِلَةِ الدَّمِ في مؤخَّرَة فتحات الأنف، وهذه الحركة تمتص الهواء لداخل الأنف، كما أن الثقوب كبيرة بالشكل الذي يسمح بدخول الهواء ولا يسمح بهروب الدم (ولذلك يُفْتَرَضُ أن الهواء أفضل من الدم). ثم يستفيض في شرح هذا المبدأ الميكانيكي استفاضةً تنم عن مهارة وذكاء بتشبيهه جهازًا بسيطًا وشائعًا في ذلك الوقت لحمل المياه يعتمد على فكرة الفراغ. وهذه النظرية وإن كانت بعيدة عن الهدف إلا أنها ليست غريبة على شخص كان يعتبر نفسه ذات يوم شجيرة.

اقترب إمبيدوكليس من لُبِّ القضية الجوهرية في علم الأحياء؛ حيث قال إن جميع المخلوقات تَدِينُ بالفضل فيما تحمله من صفات مفيدة ونافعة إلى حقيقة أنه كان ثمة العديد من أنواع المخلوقات، وأن الكائنات الغريبة والمشوهة فشِلت في البقاء لأنها لم تكُن لائقة لذلك، وأنه لم يتبقَّ سوى المخلوقاتِ التي كانت لائِقَةً بالبقاء لكي تتكاثر وتملأ العالم. وينطوي هذا التفسير على تفصيلات خيالية تليق بعالم الأساطير التقليدي (فيقول: لقد كان في هذه المرحلة العديد من الأوجُه بلا رقاب، وكانت الأذرع تهيم بلا أكتاف تلتحم بها، وكانت العيون تضرب في الأرض وحيدة بحثًا عن جباه). ولكن يبدو أنه تفهم شيئًا من عمل الانتخاب الطبيعي قبل أن يقدم داروين ووالاس أدلة ملموسة على النظرية بما يقرب من ٢٣٠٠ عام. وتقول نظرية أرسطو في هذا الشأن: «إن معظم أعضاء الحيوانات تكوَّنت بمحض الصدفة» بعد أن زُجَّ بها بشكل عشوائي في المعركة الدائرة بين الحب والصراع، وعندما أثبتت هذه الأعضاء جدواها فإن المخلوقات التي أسعفها الحظ بأن تكون لها مثل هذه الأعضاء «تمكَّنت من البقاء على قيد الحياة ونُظِّمَت بشكل تلقائي في شكل لائق، في حين أن المخلوقات الأخرى التي نَمَت على نحو مشوه قد اندثرت أو آخذة في الاندثار.» وكما يقول داروين معلقًا على هذه الفقرة: «يمكن أن نتعقب نظرية الانتخاب الطبيعي من هنا فصاعدًا.»

وقد ذكر أرسطو هذه القصة الغيبية عن إمبيدوكليس لكي يفندها، فلم يكن ليقبل تفسيرًا للطبيعة يقوم على الصدفة ويُنكر وجود أيَّة غاية منها أو هدف لها، فأرسطو يعتقد — وكذلك اعتقد أفلاطون من قبله — أن الطبيعة مُصَمَّمَةٌ بشكل من ورائه مقصد ولا يمكن تفسيرها بطريقة ميكانيكية بحتة. وقد انتصر أرسطو وأفلاطون في هذه المعركة، في حين ظَلَّ تفسير إمبيدوكليس للتكيُّف البيولوجي غير مُعتَرَفٍ به حتى ظهور داروين. ورغم أن أرسطو رحَّب بفكرة إمبيدوكليس عن العناصر الأربعة فإنه وجَّه سهام نقده إلى كل ما كتبه إمبيدوكليس غير ذلك، حتى قال ذات مرة إن إمبيدوكليس «لم يكن لديه ما يكتبه.»

ومن أهم الأدوات التي استخدمها إمبيدوكليس في تفسيراته الميكانيكية نظريته حول المسام والدفقات. فقد رأى أن جميع المواد تتخلَّلها مسام وفتحات متفاوتة الأحجام وأن هذه الفتحات تقوم بقذف جزئيات متناهية الصغر، وتقوم الموادُّ بتبادُل هذه الدفقات بصورة مستمرَّة وانتقائية، كما أن بعض المسام تتَّسع لنَوْعٍ معيَّن من الجزيئات بينما تتسع مسامُّ أخرى لأنواع أخرى وهكذا. وقد استخدم إمبيدوكليس هذه الآلية لتفسير كيفية اتحاد العناصر واندماجها، ولماذا تندمج بعض العناصر ولا تندمج عناصر أخرى، مثل اختلاط الماء بالخمر وعدم اختلاطه بالزيت. وقد استخدم إمبيدوكليس هذه الآلية لتفسير جميع الظواهر بما في ذلك الظواهر المغناطيسية وظاهرة التحلُّل (قائلًا إن الأشياء تفنى عندما تقذِف أكثر ممَّا تمتص). وتجلَّت حنكته عندما استخدم هذه الآلية لتفسير ظاهرة الإدراك حيث قال إن كل حاسَّة لها مسامها الخاصة وتسمح بدخول ما يناسبها من جزيئات؛ فعلى سبيل المثال «تعتبر الألوان نوعًا من التدفُّق الصادر عن الأشكال، وهو تدفق مساوٍ للبصر ويمكن إدراكه من خلاله»، كما هو الحال مع أفلاطون الذي قال إن الشم والتذوُّق والسمع يمكن تفسيرها بطرق مشابهة.

وثمة فكرتان مميزتان في رؤية إمبيدوكليس عن الإدراك، إحداهما تدخل في إطار نظرية عامة عن طبيعة الإدراك؛ فهناك مثلًا الأطروحة الميكانيكية غير الناضجة التي تقول إن الإدراك يحدث من خلال الاتصال المادي بين الحواس والأشياء الخارجية من خلال الدفقات المقذوفة بينها، والأخرى عبارة عن مبدأ عام يكتنفه مزيد من الغموض يقول: «يُعرَف الشيء بمثله.» وهذه المقولة جزء من حكمة يونانية قديمة تتحدث عن الفكرة الغامضة التي تقول إن الأشياء تجذب أمثالها. فعلى سبيل المثال، يقال إننا نرى الأشياء اللامعة لأن المادة التي صُنِعَت منها أعينُنا لامعة. وقد كانت هذه الفكرة مقبولة لدى القدماء، لكنها ليست كذلك بالنسبة للعقل الحديث.

وإذا كان التفسير القائم على المسامِّ والدفقات يُعتَبر محاولة لوصف طريقة عمل العين والأذن والأنف من الناحية الفسيولوجية؛ فإن فكرة أن الشيء يُعرَف بمثله إنما هي محاولة متعثِّرة للوصول إلى شيء بخصوص الطبيعة العامة للوعي، فإمبيدوكليس يرى أن الإدراك والتفكير شكلان من أشكال الانجذاب بين الإنسان والطبيعة؛ إذ يمكننا أن نرى الأشياء وندركها لأننا خُلِقنا منها، وبالمثل توجَد قوى الحب والصراع داخل الإنسان؛ ولذلك فهو يستطيع إدراك تجلياتها في الطبيعة، ولكن للأسف طغى الصراع على حياة الإنسان — أو كذلك اعتقد إمبيدوكليس — وما يحياه الإنسان من حياة تعج بالمشكلات يعكس هذه الحقيقة. وتمهد هذه العاطفة لدخول الأفكار الأورفية والفيثاغورية إلى ما ينظمه من شعر ديني أُطلِق عليه «سبل النقاء».

•••

وربما فهِم المستمعون قصيدة إمبيدوكليس «سبل النقاء» على أنها إشارة إلى شعائر التطهير، بمعناها الحرفي والمجازي، التي كانت ضرورية لهؤلاء الذين أساءُوا للآلهة أو خالفوا بعض الأوامر المقدسة. ويتحدَّث هذا الجزء من كتاباته عن الأشكال الأخلاقية للحب والصراع، ويصف كيف تمكن الصراع من فصل الإنسان عن طبيعته السماوية بإغرائه بارتكاب الخطيئة، وترتب على ذلك أن طُرِدَ الإنسان من النعمة السماوية فقال:

ظل الإنسان ثلاثين ألف عام يتِيه بعيدًا عن المكان المبارك حيث تَشَكَّل خلال هذا الوقت على شاكلة جميع الأشياء الفانية متقلبًا في ألوان الشقاء، وظلت قوى الريح تطارده في أواسط البحار ثم تقذف به أمواج البحار إلى تراب اليابسة، ثم تلقيه الأرض تحت أشعة الشمس الحارقة ثم تعيده الشمس إلى دوامات الريح القوية، فظَلَّ في هذا الشقاء تتقاذفه الأشياء الفانية ولا تقبله. وهذا هو حالِي الذي أعيش فيه الآن؛ فأنا منفي عن رحاب الآلهة وهائم على وجهي لأنني وثقت يومًا في الصراع الجامح.

ويرى هسيود أنه يمكن طرد أحد آلهة جبل أولمبوس لمدة معينة إذا أساء التصرف، فقال: «ويُطرَد من زمرة الآلهة الخالدة لمدة تسعة أعوامٍ ولن يعود إلى مجالسهم أو يحتفل بأعيادهم، ولكنه في العام العاشر يعود إلى الآلهة الخالدة ليعيش في بيت أولمبوس.» وقد اعتنق إمبيدوكليس تلك الفكرة التي وجدها في علم الأساطير التقليدي بالإضافة إلى بعض العناصر الأخرى من الديانة الأورفية وبعض الطوائف الدينية الأخرى التي يكتنفها الغموض؛ ولذلك فإن عقاب الإثم لا يقتصر على النفي ولكن يتضمن العديد من عمليات التناسخ، وكذلك لا يقتصر هذا العقاب على آلهة جبل أولمبوس الآثمين فحسب، بل يشمل كل إنسان مشى على ظهر الأرض؛ فكل إنسان كان له قبس من النور الإلهي، ولذلك «فهو يستحق النفي وأن يهيم في الأرض على وجهه دون هدف.» ويبدو أن الخطيئة التي جلبت على الإنسان هذا القدر المشئوم بأن يولد حقيرًا صاغرًا هي التضحية بالحيوانات والأكل من لحومها، فقال في ذلك: «وا حسرتاه! ليتني قُضِي عليَّ في هذا اليوم قبل أن ارتكب هذا الفعل الشنيع وآكل من اللحم.» ووفقًا للمعتقد الفيثاغوري، فإن التكفير عن هذا الذنب يقتضي أن يتحول الإنسان إلى إنسان نباتي لا يأكل اللحم.

ويكمُن المغزى الرئيس من قصته في ضرورة أن تقوم حياة الإنسان على مبدأ الحب لا الصراع. وهو يتحدث عن عصر ذهبي كانت الأرواح فيه تعيش في هناء «قبل أن يكسوها اللحم الغريب» عقابًا لها، فقال في ذلك: «لم يكن بين أظهرهم إله حربٍ ليُعبَد، بل كان الحب هو الملكة المتوجة فوق رءوسهم.» وقال أيضًا: «لقد كانت جُلُّ المخلوقات وديعة طَوْعَ بَنَانِ الإنسان، فكانت الوحوش والطيور في علاقة صداقة رائعة معه.» ولكن قتل الحيوانات أو التضحية بها من أجل الطعام كان أمرًا خاطئًا على ما يبدو؛ لأن الإنسان يجب أن يعيش معها ومع كل ما حوله في سلام.

ويُشبِه هبوطُ الإنسان من الفردوس ليُزَجَّ به بين العناصر والمخلوقات الأخرى في سلسلة إعادة البعث والإحياء ما حدث من تفكُّك لإمبراطورية الحب القديمة، عندما دمر الصراع الكُرة الكونية وقام بفصل العناصر عن بعضها. وكما أن العناصر ستتجمع يومًا ما بفضل قوة الحب؛ فإن الأرواح التي تكسوها أنواع مختلفة من اللحم الآن ستعود كذلك إلى سيرتها الإلهية الأولى، فهي تشق طريقها عبر سلسلة من عمليات التناسخ، وفي ذلك قال:

ولكنها في النهاية تأتي بين أظهُر الناس على الأرض في صورة أنبياء وشعراء وأطباء وأمراء، ثم ينالون من الجلال والعظمة ما ناله الآلهة قبلهم، فيتقاسمون مع الخالدين شرابهم ومأكلهم ومسكنهم دون ذلك الجزء الإنساني المليء بالأسى والحزن والنَّصَب.

وقد كان إمبيدوكليس حقًّا ذلك النبي والشاعر والطبيب، كما كان يعامله الجميع كأمير محبوب. بيد أن الطب — أو على الأقل علم وظائف الأعضاء التقليدي — كان محل اهتمامه العملي الأكبر مثلما كانت الرياضيات هي الشغل الشاغل للفيثاغوريين. لقد غالَى الفيثاغوريون في تعظيم علم الرياضيات حتى اعتبروا دراسته من أَهَمِّ الوسائل التي تجلِب لهم الخلاص، ويبدو أن إمبيدوكليس قد عظَّم علم الطب ورفعه إلى هذه المكانة؛ فقد كان الطب على الأقل يستحوذ على إعجاب العامة أكثر من الهندسة.

وكان إمبيدوكليس أول من يُنسَب إليه الفضلُ في إنشاء واحدة من مدارس الطب الثلاثة؛ ألا وهي المدرسة «التجريبية»، لعرض أسلوبه في اكتساب المعرفة عن طريق الملاحظة الدقيقة. وقد كان بعيدًا كل البعد عن فكرة بارمنيدس التي ترى أن الحواس لا تَجُرُّ علينا إلا الوهم والخداع، أما إمبيدوكليس فقد حث جمهوره قائلًا:

هلمُّوا وكرِّسوا كل طاقاتكم لملاحظة كيف يبدو كل شيء واضحًا جليًّا، فلا تُولُوا البصر الثقةَ الكاملة دون السمع، ولا تُعطُوا السمع أفضلية على اللسان، ولا تسحبوا الثقة عن أيٍّ من الأعضاء الأخرى، فكلٌّ منها يشق طريقًا للفهم والإدراك، ولكن حاولوا أن تفهموا كل شيء بوضوح.

ورغم كل الإعجاب الذي أبداه إمبيدوكليس لبارمنيدس فقد رفض فكرة الاعتماد على العقل فحسب بوصفه الطريق الوحيد للحقيقة ورفض «سحب الثقة» من الحواس. وسنعرض في موضوعنا التالي لأناكساجوراس الذي نشأ في كلازومني واشترك مع إمبيدوكليس في رغبته في فهم كل ظواهر الطبيعة بدلًا من رفضها. ولم يحمل أناكساجوراس أيًّا من صفات الأنبياء والشعراء التي حملها إمبيدوكليس؛ فقد كان كالملطيين باحثًا في الطبيعة يتميَّز بالصفاء والبساطة؛ مما جعل الأفكار الغامضة عن التناسخ في أشكال الشجيرات والوحوش والأسماك والطيور تتلاشى تمامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤