أخبِرْني حين تَنال كفايتك
جلست ليزي إلى طاولة بيضاء مطلية بالمينا، تُمسِك تفاحة تُقطِّعها باستخدام سكِّين طويل لامع. أزال السكين القشرة الداكنة دون مجهود يُذكَر. بعد ذلك سمعت ليزي ضوضاء آتية من الغرفة المُجاوِرة، ورفعت رأسها لترى ديانا وجونزاليس يدخلان.
قالت لهما وهي تضع السكين جانبًا: «مرحبًا.» ثم رفعت نصف التفاحة أمامهما كي يريانه وقالت: «تفاحة جميلة، أليس كذلك؟ البذور آتية من وادي ياكيما، على مسافةٍ ليست بعيدة عن جبل سانت هيلين.» ثم قضَمت من القطعة التي تحملها في اليد الأخرى.
نهضت وقالت: «يَنمو التفاح هنا، في تربتنا. يزدهر الكثير من الفاكهة والخضراوات هنا كذلك؛ فنحن نمنحها الرعاية، ونجلب لها الماء النقي والتربة الخصبة، ونُوفِّر لها ضوء الشمس والهواء الغني بثاني أكسيد الكربون، ونعتني بها دائمًا. قد تظن أنها جميعًا ستَزدهر، لكن بطبيعة الحال لا يحدث هذا؛ إذ يَذبُل البعض ويموت، بينما يظل البعض مريضًا.» ثم وقفت أمام ديانا ممعنة النظر إليها.
قالت ديانا: «الكائنات الحية معقَّدة، وكثيرًا ما تكون مرهَفَة، حتى حين تبدو قوية.»
قالت ليزي: «هذا صحيح، لكن ألِف تفهم ما تحتاجه الحياة كي تنمو وتَزدهِر في هذا العالم.» ثم مدَّت إليها شريحة من التفاح وأخذتها ديانا. واصلت ليزي حديثها قائلة: «تفاحاتها، شعبها.»
أخذت ديانا قضمة من شريحة التفاح وقالت: «إنها لذيذة حقًّا.»
وضعت ليزي يدًا على كتف جونزاليس وضغطت عليه كي تُرحِّب به. ثم قالت لديانا: «لديكما موعد مع الطبيب. حريٌّ بكما الذهاب الآن، تفضَّلا من هذا الطريق.» ثم قادتهما عبْر ردهة، وأحد الأبواب، وصولًا إلى غرفة كبيرة. والتفتَت إليهما وقالت: «أولًا يُمكنكما مقابلة أعضاء الجمعية.»
•••
وقفت ليزي تُراقب جونزاليس وديانا وهما يتحدَّثان إلى التوءمَين، وكان من الواضح أنهما مُنبهران بشكلهما. لم يكن هذا جديدًا؛ فقد كان الجميع كذلك. كانت التوءمان نحيلتَين لديهما بشرة بنية وشعر أسود، ووجهان بيضاويان وقوران، وعيون بنية هادئة، وبدا أنهما في مُقتبَل مرحلة المراهقة. في الحقيقة كانتا أكبر عمرًا من هذا بكثير. وكان لوجهيهما ذلك الوقار الهادئ المميز للأقنعة. ومهما وقفت قريبًا منهما فقد كانتا تبدوان وكأنهما موجودتان على مسافة بعيدة عنك.
لقد وفَّرت جمعية الاتصال لهما موطنًا، لهما وللآخرين جميعًا. ستامدوج، ذا ديدر، تاج، باينت، توت دي توتس، ديفول، فيوليت، لافنج نوز … بعضهم كانوا بشرًا طبيعيين بمقاييس الأرض، والبعض الآخر كان ذا موهبة غامضة غير متوقعة. كان البعض يمتلك إدراكًا فائقًا وقدرة تعبيرية عالية تتجسَّد في اللغة والموسيقى. وكان هناك أيضًا أصحاب القدرة الهولوجرامية الخارقة، أولئك الذين يمتلكون القدرة على استدعاء خبرات الماضي بكل حذافيرها، أو ضحايا هذه القدرة، والذين يستطيعون إعادة خلق ذكريات دقيقة تمامًا بالكلمات والصور، أزمنة مفقودة حقيقية، وكانوا يشعرون باليوم الحاضر فقط بوصفه مقدمةً خاملة لذكرى ما، وكانوا عاجزين تقريبًا عن الفعل. وهناك المهووسون بالحسابات الرياضية، الذين لا يتحدثون كثيرًا إلا بلغة الأرقام، ويدردشون بالأعداد الأولية والجذور التربيعية واللوغاريتمات الطبيعية، ويُمكن إثاره ضحكاتهم العميقة عن طريق الإتيان على نحوٍ غير متوقَّع على ذكر بعض التكرارات غير المتوقَّعة، مثل أعداد فيبوناتشي وغيرها. وهناك فاقدو الإدراك الداخلي الذين فقدوا قدرتهم على الحس العميق، ووعيهم الداخلي بأجسامهم، ومِن ثَمَّ فهم يدركون الفضاء والأجسام والمادة والحركة بوصفها أشكالًا صلبة مجسمة تطفو في أثير ملموس، وهم يتحركون في هذا العالم برشاقة عجيبة مفتقَدة للحس لا تتحطَّم إلا حين يخطئون في حساب مسارهم ويصطدمون مباشرة بإحدى حقائق العالم المادية، ومن الممكن أن يؤذوا أنفسهم بشدة لو أخطئوا حساباتهم ثانية واحدة.
تساءل الناس عن الكيفية التي تتماسَك بها جمعية الاتصال وكيفية مباشرتها لعملها. كانت ليزي تعرف الإجابة: ألِف. لقد بسطت ألِف شبكاتٍ فوق العالم كله أدناها، وبحثت عن المهارات أو القدرات الخاصة المتعلِّقة بأنماط الحس أو الإدراك غير المعروفة مسبقًا … نسخ من الوجود أو الصيرورة باتت تعتاد التفكير فيها إجمالًا بوصفها «حالة ألِف». وبعد أن جندتها لصالحها، ركزت على ما يجعلهم غرباء، وفي خضمِّ هذه العملية توصلت في المعتاد إلى جوهر ما يجعلهم سعداء، أو في كثير من الحالات ما يجعلهم شديدي التعاسة، ومنحتهم متنفسًا لحالتهم، ومِن ثَمَّ لتفرُّدهم. ونتيجة لذلك، كانوا شديدي الولاء بعضهم لبعض، ولألِف بما يتجاوز حدود المنطق.
كانت تفهم أيضًا سبب اهتمامهم بحالة جيري تشابمان؛ فقد رأى البعض فيها فرصة للخُلود، بينما رحَّب البعض الآخر ببساطة ببسط نطاقهم الأصلي: فضاء الآلات غير مُتناهي المرونة والإبهام الذي تقابل فيه البشر وألِف واتحدا.
قالت مخاطبة ديانا وجونزاليس: «تعاليا، سيكون تشارلي في انتظارنا.»
•••
في وسط الغرفة كانت توجد طاولة معدنية، وأعلاها كرة ضوئية بجوارها مجموعة من الأدوات المغلَّفة الموضوعة في خزائن من الصلب الذي لا يصدأ. قالت ليزي: «لقد وصل الأطباء.» بعدها أشارت إلى تشارلي، الذي وقف يتململ إلى جوار الطاولة ود. تشو الضخم، الواقف في سكون عند الطرف البعيد للطاولة.
وَفق توجيه تشارلي، استلقت ديانا على وجهها على إحدى الطاولات بالغرفة. توافَقَ ذقنُها مع تجويف غائر عند أحد طرفي الطاولة، ووضع تشارلي كلَّابات تثبيت حول صدغيها، ثم غطَّى شعرها بغطاء ملائم يَنحسِر عند قاعدة عنقها.
تحسَّست أصابع تشارلي طريقها في رفقٍ كي تجد ما يقع تحت الجِلد، وبينما كانت أصابعه تتحرك كان ينظر إلى صورةٍ هولوجرامية تقع أعلى طرف الطاولة البعيد وتَعرِض ما يحدث وقت حدوثه. عرضت الشاشة مشهدَين مقطعيين لرقبة ديانا والجزء السفلي من جمجمتها: أسفل الجلد، على كلا جانبَي العمود الفقري، كان يوجد مقبسان دائريان، يمتد منهما سلكان صغيران إلى الأمام ويبدو أنهما يختفيان في منتصف الدماغ. وبينما كانت أصابع الطبيب تتحرَّك، جسدت أصابع خيالية على الصورة الهولوجرامية ما يحدث تمامًا.
أخرج تشارلي مجسًّا طويلًا حادًّا كالإبرة من رف الأدوات المجاور للطاولة ووضع طرفه على رقبة ديانا. وبينما كان يحركه ببطء عبْر الجِلد، كانت الصورة الهولوجرامية تُحاكي حركته. كان طرف المجس الهولوجرامي يُضيء بلون أصفر، وتحرك تشارلي ببطء أكثر. وحين أضاء طرف المجس الهولوجرامي بضوء أحمر توقَّف تشارلي. بعد ذلك حرَّك المجس في أقواسٍ دقيقة إلى أن أظهر الهولوجرام ضوءًا أحمر ساطعًا غير متقطِّع، وأصدر رف الأدوات هسيسًا خافتًا. كرر تشارلي العملية عدة مرات.
قال تشارلي: «لقد عزلنا أعصابها الآن. أنا جاهز للقطع.» هبط مبضع ليزري من السقف على طرف كابل أسود مرن، وأوضح جهاز عرض ضوئي الحدود الخارجية لدائرتين متوهجتَين على جلد ديانا. وعرض الهولوجرام المشهد ذاته. أولًا صدر أزيز قصير بينما أُزيل الشعر الخفيف الموجود على هاتين الدائرتَين بعيدًا، ثم بدأ تشارلي القطع. وفي المواضع التي كان المبضع يمرُّ عليها كان خط أحمر رفيع وحسب يظهر على جلدها.
تساءل تشو: «هل من مُشكلات يا دكتورة هايوود؟» وكان يقف إلى جوار جونزاليس يشاهد ما يحدث.
قالت: «كلا. لقد تواجدتُ عند كلا طرفَي المِبضَع من قبل … وفي حقيقة الأمر، أُفضِّل أن أكون عند الطرف الآخر.» وعند طرف الطاولة قالت ليزي: «لا يُمكن أن يكون الحال كذلك دائمًا.» وضحكت.
استخدم تشارلي كلَّابات الجراح وأسقط قطعتين دائريتين من الجِلد في طبق معدني؛ حيث بدآ التغضُّن. ظل طرفا المقبسين المفتوحين مكشوفين عند رقبة ديانا، تجويفين كثيفين من الأشواك المصنوعة من الكروم، تحيط بها أجزاء من اللحم الأحمر. حرَّك تشارلي أداة تنظيف فوق المقبسَين المفتوحين، ولوهلة كانت هناك رائحة لحم مُحترِق. قال: «وصلات عصبية.» ثم هبط كابلان أسودان آخران، يَنتهي كل منهما بأسطوانة. أوصل في حرص إحدى الوصلات في أحد مقبسي ديانا اللذين نظفهما للتو.
وقال: «حسنًا، لنرَ ماذا لدينا.»
خلت عينا ديانا من أيِّ تعبير بينما كانت تنظر إلى عالم آخر.
•••
جلس تشارلي وتشو وليزي وجونزاليس في الغرفة الكبيرة التي كانت تؤدِّي وظيفة غرفة الاجتماعات المشتركة لأعضاء جمعية الاتصال. استلقَت ديانا على مقعد معلَّق ذي إطار معدني ومكسو بقماش القنب الخشن. لاحظت ليزي أن يدها كانت تتحرَّك دون وعي إلى الدائرتين المضمدتَين اللتَين لا تزالان خدرتين على قفاها. ومن الشاشة المكتمِلة المعلَّقة في طرف الغرفة كانت الصورة التجسيدية لألِف تُراقب ما يَجري.
جلس تشارلي وهو يضع يديه في حِجره، وقال: «لدينا مشكلة: معدَّل نقل بيانات غير كافٍ داخل المقبسين، وهو ما يُترجَم إلى تغذية شديدة السوء للاتصال بين المقبس والأعصاب. لديك وصلات بدائية، وهذا يعني مشاركة غير كفء في الوظائف الدماغية المعقدة؛ لذا سيغمرك تيار المعلومات. الأمر مُثير للقلق.» ثم أخرج السيجار الرفيع من فمه ونظر إليه كما لو أنه لم يرَه من قبل.
قال تشو: «في الأيام الأولى لهذا البرنامج كان ثَمَّة ضحايا. وقعَت بعض المواقف البغيضة حقًّا: اختلالات عصبية خطيرة، حالتا انتحار، حالات جنون مُستحثَّة من مختلَف الأنواع، إلى أن عرفنا أخيرًا كيفية انتقاء المرشحين للاتصال الكامل؛ أي عرفنا مَن بوسعه البقاء حيًّا من دون تلف ومَن لا يُمكنه ذلك. الآن الأمور يجب أن تسير على ما يُرام؛ فلدينا تقييمات نفسية جسَدية، وعمرية، وخرائط طوبولوجية عصبية، وتوزيعات للنواقل العصبية وكثافاتها. بعض المرشَّحين لا يصلحون مع ذلك، لكنهم لا يَمُوتون أو يصابون بالجنون.»
قالت ديانا: «وأنا لا أتوافَق مع التقييمات.»
قالت صورة ألِف: «لا أحد يتوافَق تقريبًا. غير أن هذه المخاوف عديمة الأهمية؛ فحالتك مختلِفة؛ فلقد مررتِ بتجربة اتصال كاملة من قبل، ولم يُطلَب منك تأدية نوعية الأنشطة الحركية التكاملية التي تُسبِّب الخلل العصبي.»
قال تشارلي: «عمليات تيلتشير. على غرار مساعدة روبوتات التشييد في إنجاز مهامِّها بالخارج.»
نظرت ديانا إلى الشاشة وقالت: «أفترض أن هذه الأمور قد حُسمَت.»
قالت صورة ألِف: «لا أرى مشكلة. الموقف استثنائي، لكنني واعية بالمخاطر.»
قالت ديانا: «حسنًا، لطالَما كان الموقف بيننا استثنائيًّا.»
سألتها صورة ألِف: «حقًّا؟ علينا مناقشة هذه الأمور في وقت آخر.»
فكَّرت ليزي في نفسها قائلة: «كم هذا لطيف يا دكتورة هايوود.» مجرَّد تلميح بسيط أو إشارة، جملة عابرة تُبيِّن «أنك تعلمين أننا نعلم أن شيئًا غريبًا حدث منذ وقت طويل …» أجل، سيكون هذا ممتعًا.
قال تشارلي: «أولًا: علينا تجهيز الدكتورة هايوود. سنبدأ غدًا.»
سأله جونزاليس: «متى ستَحتاجُونَني؟»
قال تشارلي: «غدًا، لو سارت الأمور على ما يُرام.»
قال جونزاليس: «لا يُمكنني الاستعداد بهذه السرعة.»
قالت ليزي: «انسَ أمر تلك المأساة التي مرَرتَ بها. ستُرتب ألِف أمورك جيدًا بمجر دخولك البيضة. ثق بي.»
قال جونزاليس: «حسنًا، ليس لديَّ خيار آخر.»