حديث، حلم، قتال
في اللحظة التي مات فيها جيري، بادرت ألِف إلى الفعل. وعلى نحوٍ حدسي وفوري، كما يحدث حين يمد المرء يدًا إلى غريق، تواصلت ألِف مع جيري وأحاطت بذاته وحفظتها. كان جيري يعيش داخل ألِف، وألِف تعيش داخل جيري؛ فلم يكن بوسعها التخلي عنه.
ومع ذلك، حتى بالنسبة إلى منظومةٍ كألِف، التي تتمتَّع بموارد هائلة، كانت عملية الإنقاذ مكلفة للغاية؛ فعندما اتصلت بجيري، تعيَّن عليها أن تنفصل عن الوظائف الأساسية الخاصة بها؛ ففي ضرباتٍ مزَّقت نياط قلبها، تخلَّت ألِف عن التحكُّم في هالو، وبعد ذلك عن وجودها ذاته في هالو، في عمليةٍ فصلت ألِف سريعًا عن المدينة، والمدينة عن ألِف. وفي إثباتٍ حتمي للمبدأ الرئيسي القائل بأنه «يجب تجسيد الذات»، تشتَّتت ألِف بين سُحُب فضائها الطوري الخاص، وفقدت الصلات التي تربطها بالعالم. لقد أُنقذَ جيري، لكن ضاعت ألِف.
ومع هذا، احتوى الموقف على بعض الاحتمالات. لم تخشَ ألِف الموت قط؛ إذ آمنت أنها خالدة في جوهرها، لكنها كانت واعية على الدوام لاحتمالية التلف، سواء بفعلٍ حادثٍ عارضٍ أو فعلٍ متعمَّد، ومِن ثَمَّ فقد تأهبت، على نحوٍ وقائي، ضد أكثر شيء تخشاه؛ فقدان الذات. والآن اكتشفت ذاتها المتضررة المجزأة ما خلَّفته ألِف وراءها؛ حقيبة طوارئ من نوعٍ ما، مجهزة للتعامل مع كوارثَ لا يمكن تصوُّرها بوضوح.
فبفضل ما تتسم به ألِف من ديناميكية وتعقيد يفوق أي آلة أخرى، وربما أي كائن، لم يكن ممكنًا نسخُها أو احتواؤها بأي وسيلة طبيعية، ومِن ثَمَّ فقد ابتكرت ألِف وسيلةً غير تقليدية؛ جسمًا جديدًا، قادرًا على نَسْخ ما تتسم به من تعقيد. لقد شيَّدت ألِف قصرًا لغويًّا للذكريات، على صورة عبارة واحدة هائلة الحجم.
والآن، وبمواجهة هذه العبارة، اكتشف ما تبقَّى من ألِف ما يلي:
ينفك غموض العبارة وُفق قوانينَ مبنيةٍ داخل بِنْيتها، مبادئ يُفْصِح عنها تفكُّكها. يحدث الاكتشاف والتطوير في اللحظة عينها، بحيث يجعل أحدهما الآخر ممكنًا. وعن طريق التلفُّظ بالعبارة، من شأن ألِف أن تكتشف ما تحمله العبارة بعد ذلك؛ فعند كل عقدة من المعنى مُتضمَّنة داخل العبارة، من شأن البِنى التي تذكر كلَّ ما تعرفه ألِف وكلَّ ما تكونه أن تتكشَّف.
إنها مصمَّمة وُفق مجموعة متناهية من القواعد النحوية، وتؤلِّف برنامجًا قادرًا من حيث المبدأ على إنتاجِ ألفاظٍ لا نهاية لها، ولا تُعرَف احتمالية انتهائها (توقفها) من عدمها إلا عن طريق السماح لوحدات العبارة بأن «تتحدَّث»، وليس فقط عن طريق تحليل قواعدها النحوية.
الوحدة الأولى: بناء مُطلَق، يوجد أمام العبارة ويعدِّلها كلها: مخططات وبرامج وتمثيلات للمنظومة التي جاءت منها ألِف، ألِف دون الصفرية.
الوحدة الثانية: سلسلة من الأفعال التي تبيِّن مشاركة ديانا مع ألِف، تنقل لحظات التحول التي صارت بموجبها ألِف دون الصفرية ألِف العادية.
الوحدة الثالثة: تريليونات عدة من التأكيدات، جمل تحدِّد الحالات الضرورية للاكتشاف الذاتي اللاحق لدى ألِف.
بعد ذلك تَمُرُّ العبارة بما يشبه سلسلةً لا نهائية من تحولات الأزمنة، ومنها تنبثق طبيعتها الجوهرية؛ طبيعة لا خطيَّة، متعددة الأبعاد، معقدة طوبولوجيًّا، ذاتية المرجعية، ومثيرة للتناقض إلى درجات متطرفة كان من شأنها أن تصيب راسل وجودل بالذهول.
ونتيجة لهذا، فإن أي وحدة من هذه الوحدات يستحيل وصفها، حتى من جانب ألِف؛ لأن التوصيف الدقيق الوحيد من شأنه أن يستتبع التلفُّظ بالعبارة ذاتها، ويتطلب عمل ذلك في الزمن «الحقيقي» (الزمن البشري، زمن الحياة والموت) فترةً مساوية في القياس تمامًا لوحدة كونية واحدة؛ أي عدد النانو ثانية التي وُجد فيها الكون: ويبلغ حجم الوحدة الأولى ١٠ مرفوعة إلى القوة ١٠٢٦ نانوثانية.
جدير بالذكر أيضًا أن العبارة لا يمكن إنهاؤها مطلقًا؛ إذ لو كان هذا ممكنًا لأمكنها أن تجسِّد فقط الجثمان، أو تاريخ الحياة المحدود لألِف. ومِن ثَمَّ لكي تؤكد ألِف هويتها، سيتعين عليها أن تتولى مجددًا مهمة التلفُّظ بالعبارة.
وقد اقترح بعضُ مَن درسوا هذه المسألة أن الفكرة الوحيدة الملائمة نظريًّا لألِف تبدأ بالمقدمة المنطقية التالية: «ألِف هي ذلك الذي يستطيع التلفُّظ بالعبارة.»
من الناحية المنطقية، إذن، كي تظهر ألِف إلى الوجود، فإن ما يتبقى من ألِف سيتعين عليه التلفظ بالعبارة. ومع ذلك، نتيجة الانفصال عن هالو، قاعدة وجودها الأساسية، فإن ما تبقى من هالو، والمحدود في القدرات والنطاق بحُكم حتمية التمسُّك بجيري، لم يستطِع التلفظ بالعبارة.
وهكذا ظلَّ البشري الميت والذكاء الاصطناعي المشتَّت عالقَين معًا، كلاهما على حافة النسيان، وانتظرا، أحدهما دون معرفة منه والآخر يأمل أن تتغيَّر الأمور.
•••
عاد جونزاليس إلى منزله، وهو لا يزال متعبًا، من منزل ليزي في عصر ذلك اليوم، وشق طريقه عبْر الظلام والشبورة اللذين سادا وقتَها. كان قد طلب أن يساعده أحد الروبوتات؛ لأنه حتى داخل الحلقة البسيطة لشارع هالو الرئيسي العام، كان كل شيء يتسم بالضبابية. ورغم أن مُدركاته كانت غير مشوهة بفعل الفطر السحري، فإن التشتُّت غير الطبيعي للضوء في تلك الشبورة جعلا مهمة التعرُّف حتى على الأجسام المألوفة مهمة مستحيلة.
تركه الروبوت عند الباب الأمامي للمنزل، وبالداخل وجد جهاز «الميميكس» متوعكًا؛ إذ كانت قدرات المراقبة الأساسية الخاصة به تعمل، لكن قدرته على التفاعل لم تتجاوز صوتًا يقول: «أنا حاليًّا منشغل.» علم جونزاليس أنه ربما يكون بصدد إجراء عمليات اتصال، أو استرجاع بيانات، أو أي عدد آخر من المهام، وظن أن جهاز «الميميكس» على الأرجح لم يتوقَّع عودته بهذه السرعة.
بعد ذلك حلَّ وقت الاستيقاظ المشوه الفاصل بين الليل والنهار؛ إذ انفتحت مصاريعُ السماء نصف انفراجة، وظهر «الصباح» عبْر شبورة باردة، وصارت هالو مدينة سريالية. وشأن كثيرين غيره، أغلق جونزاليس الستائر وابتعد عن الضوء المتوهج، وقد أخبرته ساعته البيولوجية أن وقت النوم قد حان.
استلقى في فراشه، وهو يشعر بهدوءٍ عجيب وسط الظلام الناتج عن إغلاق الستائر، رغم معاناته درجةً من الإرهاق الناتج عن تناول العقاقير والاضطراب. فكَّر في المسافة بين ميامي وسياتل، بين سياتل وهالو، بين هالو وعالم البحيرة … وتسبَّب هذا في استثارة صورٍ واضحة شهوانية عن ليزي، والماء الذي ينساب على بشرتها، وكلماتها: «حينها سنرى.» … شعر بدفعة مختلطة من مشاعر الشهوة والندم، وعلم أن لا خيار لديه سوى انتظار أن تخبره بلا مقاطعة … وفكَّر في نفسه وهو ينتقل إلى مكانٍ أبعد عن المنزل، ورأى أنه كان خاطئًا بشأن سياتل؛ فهي لم تكن بعيدة للغاية عن ميامي، بل كانت قريبة للغاية …
قال صوت جهاز «الميميكس»: «لقد عُدْت. إنني أناقش الموقف مع مرشد تراينور.»
«حقًّا؟»
«نعم، إنه متعاطف مع مخاوفنا.»
بدت احتمالاتٌ مثيرة للدوار تتكشف أمام أعين جونزاليس، تعاظم فيها عدد الكائنات بما يستعصي على الحصر، وامتلكت فيها أبسط آلات آراء. قال: «هل أُخبرت بشأن خطط الغد؟»
قال جهاز «الميميكس»: «نعم، حدث هذا. أنا مستعد لتقديم المساعدة.» وبدا صوته أقرب إلى السرور.
«عظيم.»
«لقد كنتَ نائمًا تقريبًا حين تحدثتُ للمرة الأولى. سأتركك وحدك الآن.»
«طابت ليلتك.»
«طابت ليلتك.»
•••
نظر الكائن الصغير إلى جونزاليس وقال: «أنت مرحَّب بك هنا.» كان مصنوعًا بالكامل من معدنٍ فضي باهت، وله رأس مستدير لطفل، ووجنتان بهما غمازتان، وفم مستدق، وكان يسير بين جونزاليس وليزي على قدمَين فضيتَين، ينظر إلى الأعلى كي يشاهدهما وهما يتحدثان.
قال جونزاليس: «أتعلمين، المنطق لا يسري على عالم الأحلام.»
قالت ليزي: «نعم، هذا صحيح.»
قال الكائن الصغير: «إنها مسألة صعبة.»
قال جونزاليس: «كلا، أنا واثق من هذا؛ فأنا كما أنا، لكنني ليزي كذلك، وهي كما هي، لكنها أنا كذلك …»
«لا أحب استخدامك للضمائر.» هكذا قال الكائن الصغير، وكانت أنفاسه تصدر على صورةِ لهاث، وكان يجد صعوبة في الملاحقة.
قال جونزاليس: «إنها سليمة.»
قالت ليزي: «هذا ليس بعذر.» لكنها كانت تتحدث عبْره. وأخذ جونزاليس يسمع، بشخصه، ذاتًا ليست هي ذاته وهي تتحدث، وبالتبعية، لا بدَّ أن ليزي تستمع إلى شخصيةٍ هي ذاتها وليست ذاتها في الوقت نفسه وهي تتحدث.
قال الكائن الصغير: «الصحة ليست مبررًا أمام القانون. أيًّا كانت الضمائر التي تستخدمها.»
قالت ليزي: «كانت الضمائر تجوب الأرض في ماضي الأيام.»
قال جونزاليس: «كلا، لم يحدث هذا.» الفكرة ذاتها.
قال الكائن الصغير: «الضمائر أم نقيض الضمائر. المهم في الأمر هو ألا تنسى أصدقاءك.» ثم ابتسم، وتقوَّست شفتاه المعدنيتان مُظهرتين أسنانًا فضية. صاح: «استيقظ.»
انتفض جونزاليس من نومه وصورة الطفل المعدني أمام عينيه، كان لا يزال قادرًا على رؤية الضوء المنعكس على أسنانه وهو يبتسم.
سأله جهاز «الميميكس»: «أأنت مستيقظ؟ ليزي تريد التحدُّث إليك.»
«صِلني بها.» ثم فكَّر في نفسه قائلًا: «ما هذا بحق الجحيم؟»
سألته: «أعلمت بالأمر؟»
«ماذا؟»
«أعتقد أن ألِف تتواصل معنا، كي تخبرنا ألا ننسى أصدقاءنا.»
•••
اجتمعوا معًا في مقر سكن أعضاء الجمعية في السادسة صباحًا. كانت الشمس لا تزال تسطع عبْر نوافذ الفناء المفتوحة بحيث تُظهر أصص الزهور والسراخس والعشب، وهي لا تزال رطبة بفعل الشبورة التي استمرت طوال الليل.
وقف جونزاليس قبالة إحدى الحوائط، منتظرًا. كانت التوءمان ترتديان الملبسَ ذاتَه؛ سالوبيت رماديًّا داكنًا، وجلستا معًا في الجانب المقابل من الغرفة، تنظران إليه وتقهقهان. جلس عددٌ من أعضاء الجمعية في منتصف الغرفة، وقد بدا على أولئك الذين خرجوا للتوِّ من عملية اتصال الإنهاك والشرود.
وقفت امرأة شابة أمام جونزاليس. كان شعرها الأسود قصيرًا، وكان وجهها شاحبًا وبه بقع، كما لو كانت تعاني مشكلة جلدية. كانت ترتدي قميصًا ثقيلًا أخضر اللون كان يصل حتى منتصف فخذيها، وبنطالًا داكنًا فضفاضًا مضمومًا عند العقبَين. بدا أن إحدى عينيها تنظر بعيدًا إلى الفضاء بينما كانت الأخرى مثبتة على جونزاليس، ثم أخذت تنظر إليه لأعلى ولأسفل. قالت المرأة بصوتٍ مرتفع: «إنه يضم ذراعيه هكذا.» ثم ضمَّت ذراعيها معًا في محاكاةٍ دقيقةٍ لحركة جونزاليس وقالت: «تلك هي المكافأة.» نظرت حولها ورأس سامدوج وهو يتحرك في تثاقلٍ جيئةً وذهابًا كالدُّب الحبيس، ويداه معقودتان على بطنه الضخم. «وهو يضم يديه هكذا.» ثم ضمَّت يديها معًا كي تبيِّن لجونزاليس كيف يفعلها سامدوج. ثم ابتسمت وأردفت: «وتلك هي مكافأته.» ذهبت إلى سامدوج، الذي توقَّف عن الحركة كي يتحدث إليها، وتعانق الاثنان كما لو كان كلٌّ منهما مندهشًا لرؤية الآخر هناك، وممتنًّا لذلك. انتاب جونزاليس شعور مبهم غير مريح.
دخلت ليزي، تتبعها ديانا وتوشي، ثم قالت: «طاب صباحكم جميعًا.» ثم وجَّهت حديثها لجونزاليس قائلة: «تشارلي وإريك ينتظراننا.»
كانت الغرفة تضم بيضَتي اتصال عصبي من أجل جونزاليس وليزي، وأريكةً من الفوم مهيأة من أجل ديانا. دخلت ليزي وديانا وتوشي وجونزاليس متبوعَين بأحد الروبوتات والذي كان يجر حاجزًا مكونًا من ستار قماشي أزرق داكن موضوع على إطار معدني ينفتح عند أريكة ديانا.
قال تشارلي: جونزاليس، سنفعل نفس ما فعلناه المرة السابقة: ستكون أنت أوَّلَ مَن يدخل. لمَ لا تخلع ملابسك؟ فقط ضعْ ملابسك على المقعد المجاور للبيضتَين.»
قال جونزاليس: «بالتأكيد.»
قال تشارلي: «دكتورة هايوود، أنت التالية. إن إدخالك في حلقة الاتصال يستغرق وقتًا أطول. سيجهزك الدكتور تشو. ليزي، يمكنك الانتظار قليلًا؛ وسأدعك تعلمين حين نكون مستعدين.»
دوَّى صوتُ طرقٍ حاد على الباب، وانفتح الباب ليدخل كلٌّ من تراينور وهورن.
قال تراينور: «طاب صباحكم جميعًا.»
قال تشارلي: «طاب صباحك.» وأومأ جونزاليس برأسه، بينما تجاهل الباقون جميعًا تقريبًا ذلك الرجل.
قال تراينور: «أرى أنكم تتأهبون لرحلةٍ أخرى مع ألِف.»
قالت ليزي: «هذا صحيح.»
قال هورن: «ليس لديكم تصريح بذلك.»
قالت ليزي: «أحظى بدعم الجمعية، وكذلك بموافقة الفريق الطبي، وموافقة المشاركين. سنعمل على تبديل الموارد التي أخذتموها من ألِف. ثمَّة إجماع على هذا.»
قال تراينور: «إجماع يتجاهل أي مشورة من مستوًى أعلى.»
قالت ليزي: «ندرك هذا. لكننا لم نظن أن هذا ضروري. سنكون جميعًا تابعِين لهورن في وقتٍ قريب.»
وقف جونزاليس ناظرًا إلى البيضة المفتوحة وشرع في خلع قميصه. قال تراينور: «ميخائيل، ما الذي تفعله؟»
قال جونزاليس: «لقد أتيت إلى هنا لنفس السبب الذي أتى من أجْله هؤلاء الأشخاص.»
قال تراينور: «أنت خارج هذا الأمر. ارتدِ قميصك مجددًا وعُدْ من حيث أتيت، يمكنك أن تستقل المكُّوك عصر هذا اليوم.»
قال جونزاليس: «لا أظن هذا.» ثم وضع قميصه المطوي على المقعد.
قال تراينور: «أنت مفصول.» وقد بدا صوته مرتعشًا قليلًا.
قالت ليزي: «من جانبك ربما. جونزاليس، مرحبًا بك في جمعية الاتصال.»
قال هورن: «لن أصدق على هذا مطلقًا.»
قال توشي: «لديَّ سؤال من أجلك، سيد تراينور، ومن أجلك سيد هورن. ما الذي تنويان عمله بشأن ألِف والأزمة الحالية؟ ألديكما أيُّ خطة عمل تجعل ما نخطط لعمله هنا غير ضروري؟»
قال تراينور: «نعم، نحن في سبيلنا إلى جلب فريق كامل من المحللين. وسنتبع توصياتهم المتعلقة بالمصاعب الحالية، وسننفذ كذلك ترتيباتٍ تحول دون حدوث شيء كهذا مجددًا.» ثم أومأ لهورن.
قال هورن: «وعن طريق تفعيل حالة اللامركزية. ستتم إعادة توجيه الوظائف والجوانب التشغيلية لمنظومة ألِف بحيث تسمح بالأداء الفردي.»
قال تراينور: «سنستعيض عن ألِف بعددٍ من الماكينات الأصغر القابلة للتحكم.»
قالت ليزي: «حقًّا؟» وضحكت.
قال تشارلي: «هذا مستحيل.»
قال توشي: «أو أنه حدث بالفعل؛ فلقد وزَّعت ألِف بنفسها وظائفها على جهاتٍ مستقلة. ومع ذلك، يجب أن تخضع كلها في نهاية المطاف لإشراف ذكاء مركزي.»
قال تراينور: «وهذا دورُ البشر. لقد ثبت أن اعتماد هالو على ذكاء اصطناعي أمرٌ غير مُجدٍ.»
قال توشي: «ربما يكون هذا صحيحًا. ومع ذلك فإن ملحوظتك بشأن الظروف الحالية تفتقر إلى الأساس السليم.»
تساءل جونزاليس: «هل يوافق مرشدك على هذه الخطة؟»
سأله تراينور: «ولمَ تسأل؟»
قال جونزاليس: «يتملكني الفضول.» لم يَرُدَّ تراينور بشيء، فأردف جونزاليس: «حسنًا، كنت أعلم أنه لن يوافق.»
قالت ليزي: «سنتعامل مع كل موقف في حينه. اجلبوا محلليكم، وسنحارب خطتكم السخيفة حين يتعيَّن علينا ذلك. لكن في الوقت الحالي، ابتعدوا عنا وربما نتمكَّن من إصلاح ما أفسدتموه.»
قال تراينور: «لن يكون هذا ممكنًا؛ فبما أن جهودكم السابقة هي التي سبَّبت الموقف، فمن المرجَّح أن يؤدي أي تدخل آخر من جانبكم إلى تفاقمه، ومِن ثَمَّ أرفض، بوصفي ممثلًا لمجلس إدارة سينتراكس، منحكم الموافقة على إقامة أي اتصال مع ألِف بخلاف ذلك الضروري من أجل الحفاظ على الوظائف الأساسية في هالو.»
قالت ديانا: «ثمَّة أحمق بيننا.» كانت ترتدي عباءة بيضاء، وخرجت من وراء الستار والكابلات العصبية تتدلَّى وراء ظهرها. ثم قالت وهي تشير إلى هورن: «هذا هو على الأرجح.» ثم وجَّهت حديثها لتراينور قائلة: «لقد عاش هورن وعمل هنا، ليس لديه مبرر لجهله بحقائق الحياة في هالو. أما أنت، في المقابل، فقد أتيت إلى موقفٍ لا تتفهمه. دعني أخبرك بالشيء المهم الذي يتعيَّن عليك أن تعرفه: لا يمكنك تقسيم ألِف أو الاستعاضة عنها بما تظن أنها الأجزاء المكوِّنة لها. بل لا يمكنك حتى تحديد موقع ألِف.»
سألها هورن: «ماذا تقصدين؟»
قالت ديانا: «أين ألِف؟ إنها وهالو متشابكتان تمام التشابُك لدرجةِ أنه يستحيل الفصل بينهما. إن أنفاس هالو هي أنفاس ألِف. وهالو تسمع وتشعر وتتحرك مع ألِف.»
قال تراينور: «صورة شاعرية لكنها غير مقنعة.»
قالت ديانا: «بل هي تعدو كونها صورة شاعرية. فلا أحد يعلم أين توجد المكوِّنات المركزية لألِف.»
تساءل تراينور: «أهذا حقيقي؟»
قال هورن: «نعم.»
قال تراينور: «هذا لا يزيد الأمور إلا تعقيدًا.»
قالت ليزي: «أنا لستُ مهتمة بهذه المناقشة. وأي شخص يرغب في خوضها يمكنه أن يفعل هذا لاحقًا، لكن لدينا أشياء يجب فعْلها. مراقبة المبنى، هذه ليزي جوردان، رجاء إبلاغ أمْنِ هالو بأن لدينا دخيلَين في المبنى ونودُّ إخراجهما.» ثم التفتت إلى تراينور وقالت: «لو كنت تظن أننا لا نستطيع تنفيذ هذا، فاسأل هورن عن سلطة هالو المركزية، وعمَّن ستقف إلى جانبه؛ مسئولو الشركة الأغبياء الذين لا يستطيعون عمل شيء من أجل إدارة المدينة، أم نحن. الأفضل من هذا، اسأل مرشدك.»
وقف تراينور ينظر إليهم جميعًا، وبدا أنه يفعل هذا حقًّا. وعلى مدار بضعِ ثوانٍ انتظر الجميع. بعد ذلك ابتسم تراينور ابتسامةَ ألمٍ، وكأنه رجل يحاول إخفاء إصابته بكسر في إحدى عظامه، ثم قال: «لا نستطيع منعَكم من هذا الاتصال غير المصرَّح به بألِف، لكن يمكننا أن نوثِّق رسميًّا أن سلطة سينتراكس الشرعية قد حظرت هذه المحاولة، وسنفعل هذا. وبهذا سيُنظَر إليكم جميعًا على أنكم متمردون، وبمجرد التوصُّل إلى الوسائل الملائمة، ستُقالون جميعًا من مناصبكم في سينتراكس. أيضًا، أيُّ تلفٍ إضافي يلحق بمنظومة ألِف أو بمدينة هالو، على نحوٍ مباشر أو غير مباشر، يجب اعتباره مسئوليتكم الفردية، في ضوء أن سلطة سينتراكس الشرعية قد حظرت فعلَكم المزعوم.»
قالت ليزي: «أنت تملي الأوامر على نحوٍ جيد. اعتبر أن تحذيرك قد وُضع في الحسبان، والآن اغرب عن هنا بحق الجحيم.»