الياقوتة الأولى

انجلى الليلُ …
وحنَّى كبدَ الصبحِ صياحُ الديكِ والشِّقشِقةُ البكرُ
على النهر. ومن حيضِ دم الظلمةِ، في ساقية الفجر،
أهرقنا جرار الخمرِ، أرخينا أيادينا به وانحدرَت لذَّتنا في الطينِ
دفنَّاها بقاعٍ معتمٍ يبتلُّ بالعشبِ الشهيِّ اللامعِ الزاهي،
وإذ داهمَنا النورُ وشبَّ الساهرُ الوسنانُ من سُكرٍ قديمِ
قامت الدنيا تفلِّي سرَّها في لحمنا … تبكي … ويبكي
عندها عجلُ مساءِ الجنسِ، تبكي ماسةٌ فينا، وعُدنا مثلما
الليلُ طوانا نسكبُ الخمرَ ونسقي زُحلًا قامَ بنا يدمعُ من
كيد لنستلقي على العشبةِ مأخوذين بالفضةِ فينا والفضا
في قبرنا، والوردُ في أقداحنا يبكي، إذا الأفلاكُ دارت
ردَّها الصبحُ وألقاها شفيعُ البحرِ صوتًا مثقلًا بالزئبق
الناريِّ سوَّاها حُبابًا بلَّ أيدينا كأن الطلعَ فيها أو رمادُ
الماء في قرباننا يطفو.
أفقنا ليتنا ما مرَّت الشمسُ علينا، ليتنا نمنا وسوَّينا بحلمٍ
شمسنا كبشًا وقدناه إلى مرعى وما قُمنا، فشقِّق أيها النائمُ
في رحمِ الحليبِ الضوءَ، أقلِق خُضرةً فينا ويعفورًا يغيضُ
البحرَ، هدهد أفقًا يمحق سيلَ الغيبِ فينا وامسك النارَ
وزدْ واترحْ فما خطبكَ غادرتَ بحورَ الجسدِ المهتاجِ
أبدلتَ به صخرًا أصمًّا جَلفًا — دنياكَ سهوًا — لا ترى
النورَ ولا تعرفَ جمرَ الفرحِ الغامرِ أو لمحَ ندى البرق
البتوليِّ ولا زهوَ الطواويس ولا الكأسَ، وكم ناولتَني
مرجانةَ الخمرِ بكفٍّ لفَّها الوردُ، وعصفوران قُدَّا ذهبًا
قرطانِ في سوسنةِ الماضي وفي مخِّ سمانا، أنتَ بادلتَهما
بالقشِّ، ما خطبكَ لا يرمزُ فيكَ الفصُّ أو يخطفك الضدُّ
ولا ميسمُ جُرح الماءِ وهو الفاتنُ الثديُ اللطيفُ الناتئ
الغديُّ رَهطُ المخملِ الناري في الثغرِ.
تهيَّأْ يا أبا الندمان …
للعيش الخلاسيِّ وللغزو وللرحلة صوتَ الغامضِ المجهول
يا ذا الوجنةِ المترعةِ التعبى وذا الشعرِ الزكيِّ السائب
المحمول فوقَ المتنِ منسابًا مع الريح التي تلفحُ فتيانًا
ملوكيينْ.
تهيَّأْ يا سليلَ العنصرِ الأعلى
ويا ماسًا أزاحَ اللغط الفحمي يا من يرتوي بالخمرِ حتى
يُزهر الخدان بالوردِ، تهيَّأْ يا أبا النجوى لقطفِ المنِّ
والسلوى، ورُدَّ السهدَ بالأشعارِ والترويضَ بالبلوى ويا من
يقفُ الآن على دربِ الذين اشتعلوا في أولِ العمرِ بعشقٍ
هدَّهم فانتشروا ليلًا وسوَّاهم صباحٌ أدردٌ دودًا دبيبًا عند
حافاتِ المجرَّات يفيقون متى ما رشَّهم شبلُ شرابِ الشعر
سمًّا ويغنون، فيا من يقف الآن على الكلمة أطلق طائرَ
النورِ من الجنةِ وامسك أثرَ الله وصيِّر سحبًا مطويةً في
الفجر واستهدِ بخفقِ النجمة الأولى وخفقِ العاشقين العزَّل
الصيد، فلا بابٌ لخيل الملكِ النازل في برية المُلك بلا تاجٍ
يحنِّيه دمُ العشاقِ في التيه، أفِق من حكمةٍ عمياء تلوي
فرس الفارس عن صولةِ حُبٍّ مُستهامٍ ناحلِ العودِ، أفِق
عند شبيه الهتك واهتزَّ لمعنى وطرِ الشمس على عظمكَ
وانشقَّ بشلالٍ من الفضة غضًّا فائحًا من ترفِ الغيمِ على
فخذكَ، من ظلِّ ذبيحٍ فوقَ تيجانكَ هيَّاجًا ومكسورًا
على خرزة أنثى لاغيًا شمسًا بروح الكلبِ أو معنًى بتتويج
سراب، لاغيًا موتًا بشكِ السهم في عين عيون الأبيض
الصافي، أفِق مولاي في روحي ورجَّ الأفقَ الأطلسَ وادفعهُ
عن السقطةِ والنهبِ، ففي رجع صدى الفُلك التي تغرقُ،
في داخلنا الأرحبِ، في الزهرةِ والكوكب، في القاعِ
السديميِّ وفي مضمضةِ النهرِ وفي المُحِّ وفي طُرةِ هذا الشفق
الميتِ تنادينا جِنان الله شطرًا لندى الطُّهر وشطرًا لندى
القاع، فيا قافلة الرهبانِ إذ تطلعُ من بين ثنايا البيدِ
بالعصفرِ والنارِ أريحي الركبَ في أرضي ودُقِّي الميسمَ
العاليَ في كفي، فذا الصبح يحطُّ الآن، من أجل النبيين
برجلَيه على النهر، على قلعةِ هذا البحرِ أو طلعةِ مرأى
الفلك الحندسِ أو قافلة النورسْ.
للماءِ … لهذا الموجِ أحني جبهتي المؤمنةَ الحرَّى
له للرجفةِ الأولى التي تزحفُ منذ الأزلِ الأول
للغيم الذي حامَ على أولِ خلقِ الله،
تلكَ الموجةُ الأولى التي تنطقُ ذاتَ الجملةِ
السرِّية الغامضة الأولى.
ونحنُ الآن في الفجرِ رمادُ اللدغِ
في أيِّ الروابي دُفتَ هذي النفسَ بالشمس وسوَّيتَ
عروقَ النارِ في قلبكَ صلصالًا؟ وفي أيِّ مدًى باكرتَ
طيرَ البازِ إذ بارزت أشباحًا وضيَّعتَ بهم هذي الذرى
فوقَ لسانِ البرِّ أرخيتَ قلوعَ الشوقِ، طرزتَ شتاتَ
الغربِ بالشرقِ؟ وفي النبتة أحييتَ قوى الريحِ ومازجتَ
الرضابَ الحلوَ بالبرقوق، باهلتَ الصبا القافزَ في السهل
وفي الصحراء في خفقةِ سربِ الطير والنحلِ وفي شهوةِ
حبِّ الارتقاء الصعب والخلقِ وفي ضوءِ اليواقيت إذا
ما شُقِّقَت كالبرعم الصاحي.
تناديكَ جموعُ الروحِ نحو
المضجَع السرِّي للكُهان في التلِّ وفي الغارِ القديم الذابل
الذاوي لفكِّ الأحرفِ الممحوَّةِ الأولى من الزبر الذي
سطَّره شيث ومن لوح متوشالح، كيفَ انفطرَت قدرةُ
من قدَّر ومن دارَ على الكونِ ومن سطَّر أو صيَّر أو
أرخى على قاعِ البحار السود قطعانًا من النملِ ومَن كوَّر
نجمًا آفلًا … مَن في الفضا استنسر؟ سمعتُ اسمي يُنادى
من على ساحل هذا البحر من ماضٍ بعيدٍ شدَّني الصوتُ
وأبصرتُ … فكان الله يستلقي على الماء ولم أُدرك كيفَ
انحدرَت نطفةُ أبنائي من الغيم وبلَّت أطلس الأرض
وصارت بشرًا يُصغونَ: عُرِّيتُ لمرأى الروح، أوقفتُ
الندى والنار إجلالًا وصليتُ للُقيا أول الأنسام في الفجرِ.
فمن منكم رأى البيتَ الخرافي الذي عمَّره الشاعرُ
واستلقى به في لحظة الموتِ قتيلًا بين حورياته ينزفُ
أزهارًا وياقوتًا وكان الخمر في قربتهِ يغلي ويرتجُّ؟
إذن من منكمو أوقفهُ العطرُ النجاشيُّ الذي يخرجُ من
وردةِ خُلدٍ عند قاع البحر أو في ساحلٍ أعمى؟
ومن أسسَ في هيكله الكونَ وأبقى نفسه منفصلًا
مستيقظًا للنارِ، أبقى روحه في رفعةٍ أعلى من النزوة …
من بحرٍ غريزيٍّ ومهجورٍ؟
ومَن قاتلَ في داخله الهيدرا التي تشمخُ بالسوءِ إلى الروح
وسوَّاها نباتًا ذابلًا حطَّمها في القاع؟
مَن أحنى لكفَّيه الغيوم الخضرَ والمعدن والنار ولم يقطف،
حين اختار أن يطردَ من جنَّتكم، بابًا ومفتاحًا؟
ومن يخرجُ في أعلى الحصون الصفرِ كي يرقبَ أحجارًا
هوَت منذ زمان الفلقِ الأولى على الموجِ ومسَّتها المياه
الزرقُ فازرقَّت؟
ومَن يربط في أنفاسه البحرَ بمدٍّ وبجزرٍ وبتقليبِ
وأحلامٍ مخاضيبِ؟
هو الساحرُ والعاشقُ والشاعرُ والشاربْ
هو الواثبْ.
مولانا الفتيُّ القمرُ الراهبْ.
طويتُ الخطوة الأخرى
فأبصرتُ المدى من فوقِ حقلِ النخلِ يهتزُّ لقيثارةِ لحنٍ
أزلي قامَ في الصبح، لشمسٍ قُتلَت في أطلس الماسِ وفي
رشقِ كتابِ الطاقِ والشهوة، في فَلِّ بياض الموتِ والجرح
ومِن شمَّ دمِ الأنثى كوردٍ ناقعٍ في الخمرِ، كالسكران
أضناه الجوى والطربُ الأخَّاذ والفتنةُ إذ تسقطُ من فيضِ
شموس البيضِ لو رنَّحها سكرٌ وشدَّت في الخصور الضُّمر
أغصانًا وخزَّت لتهاوى عنبُ الجنةِ في الكأسِ وضُيِّعنا
بوادينا تُحنِّي فمَنا الخمرةُ والتوقُ، نجرُّ المُرطَ من أكتافنا
نهذي ونستصرخُ جوف الليل بالشدوِ وبالغفوِ على
أكتاف من ناموا ومَن أثقلهم سكرٌ.
فشدُّوا رحلكم في الليل والتمُّوا وحنُّوا شعرَكم بالزيت،
حنُّوا بِلُقى الصينِ
رداء الشاعرِ الضلِّيل، دقُّوا الطبلَ والأبواقَ والبرقَ، ففي
الصبح سيفضي لكمو باسم الينابيع التي ينهلُ منها ثم
لا يبقى، سيطوي في الفلاةِ الخطوَ نحو الله، يطوي
حكمةً شاخت بكفهِ وأشعارًا ذوت في نار جنبَيه، لكم
هذي الربى والأرض والدنيا
له الدهرُ وشمسُ البرِّ في أقواسِ عينَيه.
تلقَّاني الفضا والحجرُ النطرونُ، ها أني كما آدم مطرودٌ
من الجنةِ، من حقلِ الشباب النضرِ الزاهي ومدفوعٌ إلى
كومة أحجارٍ من الحكمة في زمرةِ قدِّيسين معطوبين
بالتأويل والباطنِ والفوق، فمن عاقبني حتى أصير اليوم
ما بين الرقى والكتبِ الصفراء والظلمة والنور؟ وقد
اتلفتُ روحي بالنزول المُر للبئر الشهيِّ الفاتنِ المسكون
بالأفعى، إذن هشمتُ هذي النفسَ فيما يُشبهُ الفتنةَ
والصفعَ الذي أفقدني النورَ وأنساني حدودَ اللمسِ،
أصبحتُ قويَّ العقلِ كي لا يعرفَ الناسُ بأني ملكٌ
مجنون، ها أني أظلُّ الآن قربَ اللذةِ الأعتى وطلَّقتُ جنانَ
الشعرِ آثرتُ بأن أنزلَ في النهرِ الذي يمتدُّ جنب الشعرِ
رقراقًا … عميقًا دفقًا ثرًّا ومهراقًا
دعوني أستر النار التي في القلب بالدمعِ، دعوني الآن
مشغولًا ومعتلًّا ومبلولًا
فهذا جسدي ينسلُّ بين القبرِ والأوهامِ مشلولًا
يشدُّ الزهرةَ الأولى
فَراشًا هائمًا صبًّا ومقتولًا
دعوني للسموات التي أعرفها أصبو، فبُعدي سوفَ يأتي
كاهنٌ طفلٌ شديدُ العزمِ يُلقي حبلَه في الفلك الآخر …
يستهدي بما كوَّنتُ من هذي الرقى والكتبِ السحرية
السوداء … من وحي أناشيدٍ لإسرافيل … من يقظةِ دلمون،
وما في السيمياء السر والكانونْ
فتُمسي الأرض كونًا فرِحًا مجنونْ
وينسى الناسُ صبًّا قلِقًا مفتونْ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤