الياقوتة الثانية

أعودُ
فأحرقُ الأوراقَ والحبرَ الذي لوَّث ثوبي والرُّقى، أُرخي
لأعشابي لذيذ اليمِّ، أستلقي بفجرٍ معتمٍ يرشقُ أورادي
يمامًا تائهًا … يمسح لي روحي، فيلتفُّ ضحى البرقِ على
غصني ويلتمُّ على تاجيَ، ما كان معي غيرُ صدى صوتٍ
يناديني وأشباحٍ تدقُّ الليل.
هذا ملكٌ يرفلُ في الأسمالِ تيَّاهًا جليلًا يُمسكُ النجمَ
ويستمطرُ بالشعرِ جنانًا، هوَ طلَّاعُ ربى النُّعمى، شيخي
الشاعرُ الأعمى، سليلُ الوردِ والأنسام والقَرمُ الذي
طوَّع أفلاكًا وما سمَّى، إذ اختار مجرات له وافتتحَ الطينةَ
والجُرما وقال الشمسُ في مُخِّي وما استبدلَ بالتبرِ طروسًا
حاكها بالنور واجتاحَ له تلًّا عفيفًا وارتمى يحفرُ عن
سلسلةٍ بائدةٍ وردًا وتيجانًا وأحياءَ خرافاتٍ قضت وطرًا
وولَّت،
فانطوى يحنو عليه الأزلُ المغلقُ والريحُ، لذا ألقى
على أسماله الزهرَ وِهاجًا صافيًا من ثمرِ السدرةِ حتى
ينطوي في فلقةِ البلَّور أو يمسك عشبَ الجوهرِ الغامضِ
والآفاق يرعاها ظباء تركلُ الغيمَ على لبوةِ هذا البحر أو
يطرق نهرًا هادرًا في البيد، هذا الملكُ النازحُ في مملكةٍ
عُليا يناديني، لكَم هيَّج فجرًا في دمي واختار أن يبقى
بعيدًا يصلُ النجمة بالنجمة بالأعشاب، منها أسَر الكونَ
على نخلةِ أهليه، إليها، ورنا يمزجُ صلصالًا بماءٍ كدرٍ
فالتفَّت الأحرفُ في فيهِ وفرَّجنَ له الصعبَ ودوَّن لياليه
بأحلى الطُّرس، ناداني حبيبي للرُّبى، لا بد أن أترك
كأسي فارغًا أتبعُه الآن وأُلقي قدمي في أرضهِ الأولى
فنفسي هلكَت من لذةٍ حمراء واخترتُ مآقيهِ ينابيعَ
تداوي عللي تُبرئُ جسمي من قشوري.
إنني أبصرُ يا شيخيَ أفواجًا أتت سكرى
وتيجانًا على ثنيةِ هذا الغيم،
شمسًا من قطاف الروح تدنو من غرانيقي وآلافًا من
الجنِّ تقودُ العربات السود للأقصى فخُذني نحوها يا شيخ
ألقاها وأمشي في مناياها، أشمُّ الروح في أشجارها أعلو
بسلواها إلى غصنٍ سماويٍّ على العرش أدرْ فوقَ إنائي
حبركَ الأبيض واملأني ببحرٍ يغسلُ الدغلَ بروحي والمساء
المُر عن كفي وأعلامي يردُّ الليل عن عقلي ويحميني من
التخمة والجاهِ.
أدِرْ يا شيخيَ الأعمى رضابًا عسلًا فوقَ
لساني واسْعَ بي للمنجم التحتيِّ أُلقي فيه تمساحي وغصني
وأناشيدي الغنوصية والخمرَ التي عتَّقها قبليَ سرِّيون
وانسابوا، كما كوكب زيتٍ، في فنونِ العقلِ في أنغامه
الغَمرية الجَفرية الأولى لأعلو في نجيع الهدم أُحصي غسقَ
المنفى لينشقَّ رمادي وأغني قصة الموتى.
هوى عند قطيع الغنمِ النائم في العشبِ المغطَّى بالندى
نجمٌ وغطَّتهُ فراشات قتيلات، ولكنَّ الفتى صلَّى لباريهِ
وناداه المدى فالتفَّ بالزهرِ وأرخى قدمًا فوقَ طريق المجدِ
واجتاح أعاليهِ … جمالٌ أسر العين وردَّ البرَّ برَّينِ وألقى
صحفَ الماضي على روحٍ ذوت من لهبٍ أعمى وأجفانٍ
هوت فوق خدودٍ زانها الطُّهرُ وروَّاها طرازُ الخمرِ شمسين
جمالٌ سقطَ اليومَ من النارِ وأخفاه عليلُ البالِ في الروح
وألقاه السما فانشقَّ ماضيه سحابًا غَدِقًا روَّى مراعيه
فوافاه الضحى بالكاظمات البيد والتيهِ، أبِنْ يا ليل عن
نجمٍ هوى في عشبِ مجروحٍ وعن غابٍ وإشراقات ممسوحٍ
رمى في زيته نبتًا غريبًا هيَّم الأسماكَ والغيمات والقطعان
واختار له نجعًا بعيدًا خافقًا يمتدُّ في أفق كليلٍ أبيض
النبضِ.
أبِنْ عمَّا يروِّي عرقكَ الشائك واسرح في غبار
الخلقِ، للنجمة لوِّح واربط الطينَ بصلصالٍ طفا في
خاطرٍ ردَّك مخبولًا وخلَّاكَ تنادي شبحًا يركضُ في
صحراء أيامكَ لو مسَّكَ عشبٌ ردَّكَ العشبُ إلى الخضرة
فارتحتَ على سوركَ تبكي زمنًا ضلَّ وما أبقى، جمالٌ
غمرَ الدغلَ وأرخى فيضهُ فوق تلال الليل أرخى شالهُ
فوق تُخوم الأرضِ لو زيَّنها الركبُ وفكَّت فوقها الستر
ونامت واستراحت عندها الروح وأعلاها حنينُ الفتح
للشمسِ وروَّاها زلالُ النبعِ حنَّاها دمُ الفتنةِ واحتكَّ بها
النهرُ القديمُ الأبعدُ الصافي وفي لفح الندى الغافي على
مخملِ أجسادٍ طفَت في عتر الوردِ، سرى في دمه الفجرُ
وشدَّته شموسٌ نحو خلجانٍ فخاطَ البحرَ أعلى برقهُ
الأسود للغَيم وزخَّ الماسَ، ناداه صياحُ الشاعر الأعمى إلى
الجنةِ والحقلِ السماوي فألقى سرَّه في الليل أدَّى قسمًا لله
واختار عصاه ومضى فجرًا.
حزينٌ ضاربٌ في الأرض لا يلوي على سهلٍ ولا يركنُ
في بيتٍ، حزينٌ رابطٌ جنحيه كالباز إلى صخرٍ ومُلقًى في
عراء الله يلتمُّ عليه الطيرُ والعقبانُ ترعاه لكي تنهش عينيه
وقد كان الدجى يومًا حبيسًا في شراعيه وشمسُ البرِّ حبلى
به، قد كان أنيسًا غرقت في كأسه واستسلمَ العاشقُ للتيه
وما أغلق بابًا صوبَ نورٍ قادمٍ من آخر الدنيا إلى القلب
الذي عُتقَ دهرًا في دماه فطفا فيها، وألقى فوق عينيه
بريقًا كاسحًا وازدان شاطيه، له أثوابُ قديسٍ عفيفٍ
ورعٍ يحملُ تيجان أقاحٍ دررٍ ينسكبُ الكوثر من فيه،
عجيبٌ خلطَ الشمسَ بماء العمرِ فانشقَّت له الأغصانُ
يلقي الغسقَ المحزون بالألحانِ والصحوَ بترديد تعاويذِ
الرُّقى والسهدَ بالندمان.
أميرٌ … ملِكٌ في آخر الليل، وفي أوله بدرٌ جليلٌ، سمِّهِ
ما شئتَ … تاريخَ جنونٍ عاشقٍ، سَيلًا من العُشاق،
أنسابًا وأسماءً من الماشين في كوكبة الوردِ، جميلٌ عاشقٌ
في الأرضِ يرتاحُ على سورٍ من اللُّبنى وأنهارٍ من الخمرةِ
والضوءِ، فهل يهتزُّ هذا العالمُ الراكدُ مثل الوترِ المشدود في
العودِ على أيديه؟
هل يهتتزُّ هذا الوثنُ الثورُ وهذا الحجرُ البحرُ؟
وهل يهتزُّ نبعُ الأرضِ وهْو الساكتُ الأدرد؟
هل تُصغي لكفَّيهِ حشودُ العازفين الجامدين الآن في
صالات هذا الكون؟
هل تنفضُّ أرتالٌ من الأرواح نامت واستقرَّت في نواةِ
السيفِ والعرشِ؟
وهل يفعلها غطريفُ لوغوسٍ مُعَلى يضربُ الأرقامَ
بالسوطِ فتبكي وتُدلِّي … يضربُ الأحرفَ بالجمرِ فتعطي
وتُعرَّى شفرةُ الكون؟
فهل يفعلها؟
هل في ظلام الليل يُنهي أمرَه … يعلنُ هذا المحتفي بالموتِ
سرًّا ثم يستلقي قتيلًا وسْطَ نورِ العالمِ السفلي … في
السدرةِ … في سفر البروج الأصفر الملقى بأفواه سكارى
الكلْمة الأولى.
أفِقْ … ليسَ لكَ الآن سوى أن ترشقَ الماءَ بنيرانكَ كي
ترفع بين الحينِ والحينِ كتابًا ثم تمشي زاهيًا فوق خرابِ
الأرضِ تُلقي الشائكَ الأولَ بالناعم والآخرَ بالقادمِ ترميها
بقاعٍ يابسٍ يرفعُ في الأكوان أحياءً ويلتاذُ بنبعٍ عامرٍ، كمْ
كانت الأنجمُ سوداء وكم غنَّت لكَ الأشجار واختارت
لك الفردوس بيتًا طيِّبًا حلوًا وبستانًا
ولكنك ما أمسكتَ منه غير طيفٍ شاردٍ في الليلِ ما
أمسكتَ غير الليلِ منسابًا وجَذلانًا
على كأسكَ يهذي جُملًا ناقصةً، أضغاثَ قاموسٍ
وحيراتٍ تبلُّ العينَ قبل النوم، ما أمسكتَ غير الدهرِ
فوقَ الأرضِ مطروحًا وسكرانًا.
هوى غصنُ شذاتي
وارتقى الطيرُ لتدبير أذاتي
فهو عندي رهجٌ يصعدُ من شمسِ رُفاتي
وسرابٌ قلقٌ ينزلُ من غيم الزمانْ
وينابيع ارتوَت ليلًا بماء الحيوانْ
هكذا أبقى أُنادي الشُّعريانْ
بلَّني الهدهدُ واشتقَّ رحيقًا من شفاهي ورمى البحرُ إلى
كفِّي جِرارًا من خمورٍ عُتِّقَت دهرًا وشابت، بلَّها النورُ
زمانَ النُّطف الأولى وأخفاها هديلٌ شفقيّْ
ورمى لي عطشي الخمرَ السجاجَ الودقيّْ
تحتَ ما احتكَّ من الأنسامِ في ثوبي وسوَّاني التقيّْ.
ربما الحالم في النومِ يهدُّ النومَ والطيفَ الذي علَّقه طيرٌ
ويحتاجُ رمادَ العقلِ إذ رمَّزهُ الطارقُ في الغيمِ وإذ زيَّنَه
النورُ وكبشُ النار، ها أنتَ بَهِي الروحِ أمسكتَ بلوح
الخلقِ واخترتَ بأن تذبح غزلانك والشمسَ عليه،
صِحتَ بالناسِ أنا أولُ حرفٍ فوقَ هذا اللوح والنجمُ
الذي ما زال خفَّاقًا بأقصى الكون والساكنُ في الأرحام
والهائمُ في البرية الأولى، أنادي الوردَ والماءَ الذي يبزغُ
ملتفًّا بقنديلي، وأسعى نحوَ نجمٍ ذابلٍ يظعنُ في المنفى
فألقى بعضَ ما ألقى وحيدًا قلقًا يلعنني الطيرُ وتطويني
ثعابيني، وألقى بعضَ ما ألقى من الفردوسِ مكسورًا
ومكسوًّا بأطواقِ شظايا تنثني في الكونِ أنغامًا وأحجارًا
ولكني، أخيرًا، أرعوي … أرجعُ من نجمي إلى طيني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤