مواكب الماضي

وكان الكهان في معبد عِنْلِيل بأُور ونِبور يؤلهون ملوك سُومِر، الدولة الأولى في وادي الرافدين.

وما الذي صنع أولئك الملوك والكهان لخير السواد من الناس؟

وسرجون الأول — ملك أكاد — اكتسح السومريين، وفتح بلادهم، ومدَّ ملكه جنوبًا إلى الخليج، وشمالًا إلى الجبال.

وما الذي قام به سرجون وخلفاؤه لخير السواد من الناس؟

ومن الجبال في الشرق والشمال انحدر بجيشه كدُور ناخُنْتا، ملك عيلام، فغزا بلاد سرجون واكتسحها، وحمل تماثيل آلهتها الكلدانيين إلى أشمونا عاصمة عيلام.

وما الذي صنع كدور هذا، وما الذي شاد خلفاؤه العيلاميون لخير السواد من الناس؟

مدينة القصور والمعابد
للملوك والكهان
والجهل والفقر والعبودية
للسواد من الناس

وكان كهان عشتروت بنينوى، وكهان مردوخ ببابل، يتعاطون السحر والشعوذة، ويملئون بطونهم من ضحايا الهيكل، بينما ملوك بابل وآشور يحتربون ويتطاحنون من أجل السيادة والمجد.

السيادة والمجد للكهان وللملوك، والسحر والنير للسواد من الناس.

وحمورابي أول المشترعين، وآشور بنيبال أول المحبين للعلم والعلماء.

واحتان في البادية، مصباحان في الليل الدامس.

وسنحاريب الفاتح، ونبوخذ نصر المصلح.

ناهب فينيقية.

من جبال الشمال تدفق الثتيون، ومن جبال الشرق انحدر إكزارس يقود جنوده الماديين، ومن السهول في الجنوب سارع جيش بابل إلى نجدة جيش مادي، وقد حالف النهران المحاصرين — طغى الفرات، وطغى دجلة طغيان الجيوش الفاتحة — وصاحوا كلهم قائلين: لتسقط نينوى! سقطت نينوى، وبعد ست وثمانين سنة سقطت بابل.

دول تدول، ومجد بعد مجد يحول، مجد سومر وعيلام، ومجد بابل وآشور، ثم ينتقل صولجان الملك من يد الساميين في وادي الفرات إلى يد الآريين من الملوك.

وما الذي صنع الآريون من أجل السواد من الناس؟ أفي سبيل المجد تُشيَّد الدول أم في سبيل الإنسان؟ إنهم لظلَّامون، الساميون والآريون جميعًا. إنهم النهابون الفاسقون. شيدوا المعابد والقصور، وسخروا لها العباد. ألهوا أنفسهم، وكانوا قساة عتاة، وكانوا عبيدًا للشهوات.

•••

ومن مهد الثقافة الغربية جاء تلميذ أرسطو، الشاب العجيب إسكندر المقدوني. اجتاز البحر إلى الشاطئ الآسيوي. قاد ألوفه الثلاثين، وكان ظافرًا في كل مكان. هزم الفرس في واقعة الغرانيق وفتح فينيقيا، واستولى على مصر، وتعقب الملك دارا إلى بلاد الرافدين، فأدركه قرب أربيل، وكانت الواقعة الفاصلة بين الشرق والغرب (٣٣١ق.م).

في أربيل أُبدِل نيرٌ من حديد مصقول بنير من حديد عتيق. راح الفرس وجاء الإغريق.

كان الإسكندر فاتحًا باسم العلم والنور.

كان الإسكندر مصابًا بداء الصرع. غزا الشرق باسم الآلهة، وعاد منه ناقمًا على الأرض والسماء.

ولكنه في بابل كان مجدِّدًا.

شاء الإسكندر أن «يُأَغرق» العالم، فكانت بابل النهاية لصرعة — لسكرة — مفجعة، وكانت النهاية لحلم ذهبي.

قد تحقق قسم من ذلك الحلم، فبدت بعد الإسكندر دلائل التآخي بين الشرق والغرب.

بدت ثم رَدَتْ، فقد تغلب البرثيون التورانيون على السلوقيين الإغريق يوم كان ذاك التآخي في ازدهاره الأول، فقضوا عليه.

زُرعتْ بذوره في أرض طيبة في الشرق الأدنى.

فجاءت رومة بجيوشها تدوسه وتسحقه سحقًا. وما كانت رومة ممن يحلمون الأحلام.

ومع ذلك فقد كان للرومان فضل يُذكر في الرقي والعمران.

عمَّروا المعابد لآلهتهم، وعبَّدوا الطرق لجيوشهم. وكانت الآلهة، مثل الجيوش، تستولي على الشعوب والأمم باسم رومة، ومن أجل رومة، بل من أجل القياصرة في رومة.

مدنية المعابد والطرقات هي خير من مدينة القصور والمعابد. القصور للملوك، والطرقات للملوك والصعاليك.

ولكن السواد من الناس في عهد الرومان كان كالسواد في عهد بابل وآشور — عبيدًا للكهان والملوك، وحطبًا للحروب.

وما أفلح الرومان في وادي الرافدين. بعد مائتي سنة من الإغارات والحروب سلمت رومة إلى سلوقية. وما خلا الجو لسلوقية طويلًا. عاد الفرس إلى العراق فاستولوا عليه، واستمرت فيه الدولة الساسانية أربعمائة سنة.

والنزاع بين الشرق والغرب، ذلك النزاع الذي كاد ينتهي بعد واقعة أربيل، تجدد بشكل ديني بين المسيحية والوثنية.

وما الذي أثمر جدالُ أرباب الدين، المتنطعين والمتعصبين، لخير السواد من الناس، بل لخير الناس جميعًا؟

•••

وفي ظلمات الجاهلية، في سماء الحجاز، سطع نور النبوءة، نورُ دين جديد. ومشى المؤمنون مكبِّرين، وسلاحهم الإسلام وكلمة التوحيد، فاجتازوا البوادي إلى الأرض الخضراء يرومون الفتح لله، والخلاص للناس. فحملوا على الروم في سوريا، وعلى الفرس في العراق. فكسروا جند هرقل في اليرموك وبددوا جنود فارس في القادسية، وبعد عشر سنوات من وفاة النبي رُفعت أعلام العرب فوق قصور فارس، وفوق حصون دولة الروم.

هي نار النزاع بين الشرق والغرب تزداد اضطرامًا. وهي كذلك أول شعلة من نزاع يُجدَّد بين الساميين والآريين، بين العرب والعجم.

ولكن الإسلام دين التوحيد، ودين العدل والإخاء والمساواة.

المساواة والإخاء في الحروب بين السنة والشيعة! والمساواة والإخاء في الحروب بين التتار والترك والمغول والعرب!

إنما الحكام المسلمون — وخصوصًا العرب منهم — يفوقون سواهم في العدل والإنصاف، بل في كرم الأخلاق والمبرات؛ فقد كانوا على الإجمال أكثر حلمًا وعدلًا من أكثر ملوك الفرنجة.

يصح هذا في الخلفاء الراشدين، وفي بعض الخلفاء الأمويين والعباسيين. أما الدولة العباسية في العراق فما كانت، على الإجمال، المثلَ الأعلى في العروبة، ولا كانت المثل الأعلى في الإسلام. أول خلفائها «السفَّاح» وآخرهم العاجز المستعصم بالله.

وهرون الرشيد؟

شخصية باهرة اجتمعت فيها الأضداد؛ فقد كان هارون ورعًا تقيًّا، وخليعًا أنانيًّا. وكان كثير المبرات والشواذات، عادلًا يومًا، ويومًا ظالمًا. تارة حريصًا على أُبهة الملك، وطورًا يرمي بها إلى الصيادين … ولا أذكِّر بنكبة البرامكة …

والمأمون، ما تقول بالمأمون؟

المأمون، غفر الله ذنبه في أخيه، هو مثل حمورابي في آشور.

المأمون نجم العباسيين الساطع، ونورهم اللامع على الدوام.

figure
جسر الملك فيصل على دجلة (تصوير الدورادو).

وجاء هولاكو بجيشه الجرار صائلًا فاتحًا.

هولاكو من كبار القواد المسلمين الذين وقف الإسلام على شفاههم، وما دخل إلى قلوبهم. فهو الذي اكتسح بغداد ودمَّرها، وأعمل السيف بأهلها.

figure
الدجلة عند بغداد (تصوير الدورادو).

وحكم التتار في العراق نحو مائتين وخمسين سنة، وعاد الفرس فنزعوا السيادة منهم، ثم جاء الترك، بعد ربع قرن، فنزعوا السيادة من يد الفرس واستولوا على البلاد، وظلوا سادتها أربعمائة سنة.

أربعمائة سنة مظلمة، يبدو إلى جانبها العهد التاتاري عهدًا سعيدًا!

•••

وفي العقد الثاني من هذا القرن العشرين جاءت الجيوش من الغرب، رجالٌ زُرق العيون، متحدرون من ألفريد الكبير السكسوني ووليوم الفاتح النورمندي، وبمساعدة العرب انتصروا على الترك لكنهم حاولوا الحلول محلهم.

•••

وبنضال دءوب، عنيف حينًا وسلمي حينًا آخر، انتصرت الإرادة القومية وقام العراق الحديث مملكة حرة متطلعة نحو المجد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤