الشياطين لا يعرفون اليأس!

عاد «أحمد» إلى مراقبة العربي دون أن يعطي لاختفاء الرجل الآخَر أهمية كبيرة، فهو يعرف الآن كيف يمكن أن يلتقي به أو يجده، فيوم الأربعاء سوف يكون في مدينة «لوجانو» عند شاطئ البحيرة، أو في فندق «الشيراتون»، لكنه كان يفكِّر: إن العربي يمكن أن يكون مصدرًا للمعلومات عن هذا الرجل.

ولذلك فقد التفت إلى الشياطين وقال: إن مواطننا العربي هو طريقنا الآن لمعرفة المزيد من المعلومات، وصمت لحظة ثم قال: أقترح أن يقوم «قيس» بالمهمة.

وافق الشياطين، فانصرف «قيس» بسرعة. لكن عندما التفت «أحمد» إلى شرفة الدور السادس كان الرجل العربي قد غادر مكانه واختفى هو الآخَر، كاد «أحمد» يضحك لكنه كتم ضحكه، وإن كان «بو عمير» قد لاحظ ذلك، فسأله عن السبب.

رد «أحمد» في بساطة: لقد اختفى العربي أيضًا.

كادوا يضحكون جميعًا، إن هذه الأمور قد تبدو لهم وكأنها مداعبة الظروف، لكنهم لا يشعرون باليأس أبدًا، فهذه قاعدة عندهم: «الشياطين لا يعرفون اليأس».

جلسوا في الحجرة في انتظار عودة «قيس». كانوا يتحدثون حول سفرهم إلى «لوجانو»، وإن كان «مصباح» قد اقترح: ما دام هناك يومان حتى لقاء الرجل والعربي، فإننا نستطيع أن نقوم بتحرياتنا حول شركة العقول الإلكترونية. ومن يدري، فقد تكون قد ظهرت مرة أخرى، أو تكون قد أصبحت تحت اسم آخَر.

مرَّت نصف ساعة، كان القلق قد بدأ يساورهم حول تأخُّر «قيس».

فقال «بو عمير»: سوف أذهب لأرى.

وهمَّ «بو عمير» بالانصراف.

لكن فجأةً قال «أحمد»: «انتظر. ينبغي أن ننزل جميعًا، فوجودنا هنا أصبح بلا فائدة». نزل الشياطين.

وعندما كانوا يبتعدون عن باب المصعد وقفوا فجأةً، وقد علَت الدهشة وجوههم؛ لقد وجدوا «قيس» يجلس مع الرجل العربي، وما إن رآهم حتى أشار إليهم، فاتجهوا إليه.

وقف الرجل العربي، فقدَّمه «قيس»: السيد «سعد» رجل الأعمال العربي. ثم قدَّم الشياطين بأسماء مستعارة.

جلسوا جميعًا، ودار حوار حول الوطن العربي والرحلات خارجه. كان «سعد» مرحًا تمامًا، فأخذ يقصُّ عليهم رحلاته، ثم اتجه الحديث إلى التجارة، فحكى لهم أساليب السوق، ومغامراته، والصفقات الضخمة التي عقدَها، وربح من ورائها الكثير. وعرف الشياطين أنه يعمل في كل شيء، وأنه لا يتخصَّص في تجارة بالذات.

قال «سعد» في النهاية: إنني أمام صفقة من الصفقات الطيبة في حياتي، ولو تمَّت فإنني سوف أحقِّق ربحًا هائلًا.

سأله «أحمد»: هل عمل السيد «سعد» في تجارة الذهب؟

ضحك «سعد» طويلًا، ثم قال: نعم، عملت فيه وربحت أرباحًا طيبة، وإن كنت قد خسرت في بعض الأحيان، عندما انخفض سعر الذهب منذ حوالي عامين، إنها تجارة مُخيفة، فإما تربح فيها ربحًا ضخمًا، أو تخسر خسارة ضخمة أيضًا، فالتعامل في تجارة الذهب يصل إلى عشرات الملايين من الجنيهات.

صمت لحظة ثم قال: إنها تجارة تعتمد في رأيي على إحساس خاص، بعيدًا عن أي حسابات.

تنفَّس بعمق، ثم قال مبتسمًا: لا أخفي عليكم بعد أن أصبحنا أصدقاء، إنني بسبيلي إلى عقد صفقة ماس طيبة.

وصمت لحظة ثم قال: هل تبقون هنا طويلًا؟

فأجاب «أحمد»: ربما نرحل غدًا أو بعد غد إلى بحيرة «لوسرن» لنقضي هناك عدة أيام.

قال بلهجة خبير: لو تسمعون نصيحتي إن الذهاب إلى بحيرة «لوجانو» أمتع ألف مرة من بحيرة «لوسرن»، لقد ذهبت إلى معظم هذه المناطق، وفيها — كما أخبرتكم — استطعت أن أعقد صفقات طيبة؛ فمعظم رجال الأعمال الكبار يلتقون هنا. وبين الطبيعة الجميلة والرغبة في الاسترخاء تعقد الصفقات الضخمة. إن بحيرة «لوجانو» من الأماكن المفضلة عندي، فهي تقع بين الحدود السويسرية الإيطالية.

صمتَ لعدة ثوانٍ، ثم أضاف: سوف أكون هناك بعد غد، وأنا أنزل دائمًا في فندق الشيراتون. أرجو أن أراكم هناك، فسوف أمضي عدة أيام ما لم يظهر ما يجعلني أرحل.

طالت السهرة بين أحاديثَ شتَّى. وعندما انصرفوا قال «سعد»: أرجو أن نلتقي مرةً أخرى.

عاد الشياطين إلى حجرة «أحمد»، لكنهم لم يمكثوا كثيرًا؛ فقد اتفقوا بسرعة على أن يقوم «مصباح» و«بو عمير» في الغد بجولة بحثًا عن عنوان شركة العقول الإلكترونية الذي حصلوا عليه من عميل رقم «صفر». وعندما انصرف كلٌّ منهم إلى حجرته ناموا جميعًا بسرعة؛ فقد كان اليوم مشحونًا بكثير من العمل، غير أن «مصباح» كان أول مَن استيقظ، وعندما رفع سماعة التليفون يطلب «بو عمير» سمع دقة معيَّنة على الباب تعني أن «بو عمير» ينتظره.

لقد كان «بو عمير» نفسه يقف على الباب. وفي دقائق كانوا يقطعون شوارع «زيورخ» إلى شارع ٢٠، حيث يقع مقر شركة العقول «الإلكترونية». كان النهار بديعًا، ولم تكن الساعة قد تجاوزت العاشرة صباحًا، وبعد قليل دخلوا شارع ٢٠.

فقال «مصباح»: الشركة في المبنى رقم ١٩٩.

اقتربا من المبنى الذي كانت ترتفع طوابقه، أوقف «بو عمير» السيارة في موقف قريب، ثم سارا إلى حيث المبنى. كانت حركة نشطة تدور داخل المبنى … دخلا من البوابة الضخمة، فوجدا خريطة تبيِّن الطوابق، كان المبنى مقرًّا لعدد من الشركات التجارية، ومكاتب الديكور، ولم يجدا على الخريطة ما يُشير إلى شركة العقول الإلكترونية. غير أنه في يمين المدخل كان يوجد مكتب للاستعلامات، اتجها إليه، وكانت هناك موظفة حسناء تجلس خلف الحاجز الزجاجي، ألقى إليها «مصباح» بتحية الصباح، ثم سألها عن شركة «العقول الإلكترونية».

ابتسمت الموظفة وقالت: هل تحتاجون إلى شيء معيَّن؟

ردَّ «بو عمير»: نعم، إن لدينا عملية لتغيير عقل إلكتروني، ونحتاج إلى شركة متخصِّصة، ولقد قيل لنا إنه توجد شركة في المبنى رقم ١٩٩ في شارع ٢٠.

ابتسمَتْ وهي تقول: لقد تعدَّدت الأسئلة حول هذه الشركة، وصحيح أنها كانت هنا منذ عدة أشهر، لكنها انتقلت ولا ندري إلى أين.

هزَّ «مصباح» رأسه، وقال: «ألا توجد شركة أخرى هنا؟»

قالت: نعم، توجد شركة المستقبل للعقول الإلكترونية، لكنها ليست متخصِّصة في الإصلاح، إنها متخصِّصة في بيع العقول فقط.

استمر الحديث عدة دقائق، ثم شكرَها «بو عمير» وانصرفا. كان واضحًا أن ما توصَّل إليه عملاء رقم «صفر» صحيحٌ، وأن على «بو عمير» و«مصباح» العودة إلى فندق «الكارلتون» فورًا. عندما وصلا إلى هناك لم يجدا «أحمد» و«قيس»، لكنهما وجدا رسالة شفرية في حجرة «أحمد».

كانت الرسالة تقول: «٤–٦–٣–٨–ن–ق–٩». قرأها «مصباح» بسرعة ثم ترجمها، وكانت الترجمة: «ظهرَ شركاء الماس، إننا خلفهما، انتظرا في الفندق، موعدنا التاسعة».

قال «بو عمير»: هل يعني هذا أنهما وجدا خبير العقول الإلكترونية؟

قال «مصباح» بعد لحظة: أعتقد أن رجل الماس ليس هو نفسه خبير العقول؛ فلا أظن أن خبيرًا يمكن أن يعمل في تجارة الماس، لا بد أنه رجل آخَر، وربما تكون الصدفة هي التي تلعب دورها، فيحدث هذا التشابه بين الرجلين، لكن هذا لا ينفي أننا يمكن أن نستفيد من ظهور تاجر الماس، فربما يفتح الطريق أمامنا إلى العصابة.

هزَّ «بو عمير» رأسه موافقًا وهو يقول: قد تكون هذه وجهة نظر صحيحة.

أخذا طريقهما إلى الشرفة، فجلسا فيها. كان المنظر أمامهما رائعًا. ظهرت الجبال واضحة الآن، وكانت تلمع تحت أضواء الشمس بألوانها البُنِّية المتدرِّجة من البُنِّي الفاتح حتى البُنِّي الذي يقترب من الأسوَد. فجأةً دقَّ جرس متقطِّع، فعرفا أن هناك رسالة.

أسرع «بو عمير» إلى جهاز الاستقبال وتلقَّى الرسالة، كانت من «أحمد»: اللقاء في المطار في السابعة.

نقل «بو عمير» الرسالة إلى «مصباح» الذي قال: هذا يعني أن هناك خيطًا ما. ونظر في ساعته ثم قال: لا يزال أمامنا وقت طويل.

فجأةً دارت أُكرة الباب، فتعلَّقت أعينُهما بالحركة، وهمسَ «بو عمير»: خذ حذرك!

قفز الاثنان كلٌّ في اتجاه مخالِف من الباب. مرَّت لحظة فتح الباب بسرعة، وظهر رجلان يحمل كلٌّ منهما مسدسًا، كان الباب مفتوحًا حتى آخِره، وكانت هذه فرصة لم يضيِّعها «بو عمير»، فقد كان يرقد بالقرب منه، ولذلك فقد ضربَ الباب بقدمه ضربة قوية مفاجئة، فاصطدم بالرجل الأول الذي اصطدم بالثاني، فوقعا معًا.

في نفس اللحظة التي كان فيها «مصباح» قد طار في الهواء قبل أن يستطيع أيٌّ منهما القيام بحركة، إلا أن أحدهما كان قد أطلقَ طلقةً من مسدسه، لكنها لم تُصِب «مصباح» الذي كان قد تحرَّك. وفي سرعة خاطفة ضربَ يد الرجل بقدمه، فطار المسدس بعيدًا. كان «بو عمير» قد قفز بسرعة وقبض على يد الرجل الثاني بقوة، ثم لوى ذراعه وضربه، فصرخ الرجل من الألم.

كانت معركة سريعة جدًّا، سيطرا فيها على الموقف. رقد الرجلان على أرض الحجرة، بينما أسرع «بو عمير» بإغلاق الباب. جلس «بو عمير» و«مصباح» أمامهما في انتظار أن تخفَّ آلامهما قليلًا، فقد وجدا أنها فرصة طيِّبة للخروج بشيء من المعلومات.

بعد دقائق بدأ أحدهما يرفع رأسه وينظر إليهما، كانت الشراسة تبدو في ملامح وجهه. نظر له «مصباح» لحظة، ثم قام إليه ووقف أمامه، وفي هدوء قال: «ماذا تريدان؟»

ظلَّ الرجل ينظر إليه، ثم انحنى بوجهه إلى الأرض دون أن يرد. تقدَّم «مصباح» ثم وضع يده على كتفَيه وضغط ضغطة قوية، غير أن الرجل احتملها في إصرار. ثم ضغط أكثر فبدا الألم على وجه الرجل. شدَّ قبضته أكثر فصرخ الرجل. إلا أن «مصباح» لم يرفع يده وسأله مرة أخرى: «ماذا تريدان؟»

لم ينطق الرجل.

اقترب «بو عمير» وقال: نُعطه حقنة الاعتراف.

فجأةً رفع الرجل الآخَر وجهه، ونظر إليهما في فزع.

قال «مصباح»: نعم، يبدو أننا سوف نلجأ إليها.

تحرَّك «بو عمير» بسرعة إلى حيث توجد حقيبته السحرية، فأخرج منها حقنة صغيرة في حجم عقلة الإصبع، رفعها أمامه حتى يراها الرجلان، وعاد إلى حيث يقف «مصباح» الذي قال: إنني أسألكما للمرة الأخيرة، ماذا تريدان؟

نظرا إلى بعضهما ولم ينطق أيهما بكلمة، فتقدَّم «بو عمير» من الرجل الأول، ثم رشق الإبرة في ذراعه فجأة، ثم نزعها بسرعة. مرَّت لحظة نظر فيها الرجل إلى «بو عمير»، ثم إلى «مصباح»، وظهرت ابتسامة خفيفة على وجهه، تحوَّلَت بسرعة إلى ما يشبه الصدمة، ثم بدأ الألم يزحف على وجهه، وفجأةً أخذ يتلوَّى من الألم.

قال «مصباح» للآخَر: هل ترى؟ أظن أنك لست في حاجة إلى هذا.

كان الآخَر ينظر إلى زميله في رعب. ثم قال بصعوبة: نحن لا نريد شيئًا.

قال مصباح: ولماذا دخلتما هنا؟

لم يرد الرجل، لكنه ظلَّ يتابع زميله الذي كان لا يزال يتلوَّى من الألم.

نظر «مصباح» إلى «بو عمير» الذي تحرَّك من مكانه، فقال الرجل بسرعة: سوف أتحدث.

وانتظر لحظة، ثم قال: أنتم تعملون في تجارة الماس.

هزَّ «مصباح» رأسه، ثم قال: ثم ماذا؟

قال الرجل: يجب أن تبتعدوا عن السيد «سعد».

ابتسم «بو عمير» وهو يقول: لماذا؟

نظر الرجل في تردُّد، وقال: إنني لا أستطيع أن أقول أكثر من ذلك.

التقت أعين «مصباح» و«بو عمير» الذي تحرَّك من مكانه، في نفس الوقت الذي اتجه فيه «مصباح» إلى الرجل الآخَر الذي كان يرقد بجوار الحائط.

نظر له وهو يقول: هل نعيد الحقنة مرة أخرى؟

ظهر الفزع في عينَي الرجل وهو يهمس بصعوبة: لا داعي أرجوك.

قال «مصباح»: إذَن تحدث.

مرَّت لحظة صمت. لكن فجأةً كانت طلقات الرصاص تدوي في الحجرة وكأنها المطر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤