وفجأةً بدأ انهيار الجبل!

أمام الفندق قال «بوش»: هيا إلى سيارتي، إنها تكفينا جميعًا.

ابتسم «أحمد» وقال: ولماذا لا نأخذ سيارتنا؟ إنها يمكن أن تفيدنا في العودة.

قال «بوش»: سوف أعيدكم إلى الفندق.

ظلَّ الحوار بينهم حتى انتهوا إلى رأي أن يصحب «بوش» في سيارته «مصباح» و«قيس»، ويتابعهم «أحمد» و«بو عمير» في سيارة الشياطين، وهكذا انطلقت السيارتان.

كانت حركة الشوارع مزدحمة لعودة الناس إلى بيوتهم آخِر النهار. غير أن ذلك لم يعطِّل حركة المرور، ولذلك فقد خرجوا من المدينة بسرعة، وأخذوا طريقهم إلى الجبل. كان الطريق تحفُّه الخضرة البديعة، وكان المساء قد بدأ، والشمس تأخذ طريقها إلى الغروب، كانت تبدو أمامهم وهي تقف فوق قمة الجبل، فتُحيل لونه إلى لون أحمر وكأنه النار. حتى إن «بو عمير» ابتسم وهو يقول ﻟ «أحمد»: إنه مثل لون النار التي نحن ذاهبون إليها.

ابتسم «أحمد» وهو يرد: بل لون النار التي سوف يرونها إذا كانوا فعلًا كما نتوقَّع.

استمرَّ الطريق في اتجاه الجبل الذي كان يقترب. فجأة توقفت سيارة «بوش»، غير أن «أحمد» لم يتوقَّف، فقد استمر حتى حاذى السيارة، ثم توقَّف بجوارها.

قال «بوش» مبتسمًا: لقد توقَّفتُ حتى ألفت نظرك إلى لحظة غروب الشمس، ألا ترى أنها تستحق أن تُشاهَد فعلًا؟

ابتسم «أحمد» وقال: بالتأكيد، وأنت محقٌّ في دعوتنا لمشاهدتها.

قال «بوش»: الليل أيضًا شديد الجمال في الجبل، فهناك عدة مساكن بجوار بعض هي أماكن للسهر، إن كثيرين يحبون هذه الأماكن.

قال «أحمد»: الإنسان دائمًا في حاجة إلى مثل هذه الأماكن الجبلية؛ فهي تجدِّد نشاطه.

ابتسم «بوش» وقال: أنت تفكِّر كما أفكِّر تمامًا. دعنا نتقدَّم.

انطلق «بوش» بسيارته، فتبعه «أحمد». كانت الشمس قد بدأت نزولها خلف الجبل. ظل قرصها الضخم معلَّقًا فترة وكأنها تودِّع الوجود حتى تعود إليه، وغرق الجبل كله في لون أحمر غريب جعل «بو عمير» يقول: إنه فعلًا منظر لا يُنسَى!

بدأت السيارتان تدخلان في بطن الجبل. وكانت الشمس قد اختفت خلفه، وتركت ذيولها الحمراء التي بدأت تخفُّ، ثم تحوَّلَت إلى البرتقالي والأصفر. كانت ظلمة الليل قد بدأت عند أسفل الجبل، فبدا رهيبًا بلونه الأسود. التوى الطريق الذي كانت إضاءته خافتة وكانت تظهر على جانبَيه. ظلَّ الطريق يلتوي كالثعبان وهو يدخل بطن الجبل. ثم فجأة انحرفت سيارة «بوش» إلى طريق جانبي، واختفت الإضاءة الجانبية.

قال «بو عمير»: يبدو أننا ذاهبون إلى لغز.

ابتسم «أحمد» وقال: إنه لغز فعلًا، لكننا سوف نكشفه بعد قليل.

كانت مصابيح سيارة الشياطين تكشف خلفية سيارة «بوش»، فقرأ «أحمد» رقمها، كان الرقم ٨٧٦٤٣٠. أطفأ «أحمد» ضوء المصابيح لحظةً وهو يسأل «بو عمير»: هل تعرف رقم سيارة «بوش»؟

ابتسم «بو عمير» وذكر الرقم، فابتسم «أحمد»، ثم أضاء مصابيح السيارة. ظلَّت السيارتان في تقدُّمهما حتى مسافة كبيرة. مرة أخرى توقَّفَت سيارة «بوش» فاقترب «أحمد» منها.

قال «بوش»: ألا تظن أننا فقدنا الطريق؟ إننا الآن نمُرُّ في نفق «جوثار»، وهو واحد من اثنين. الآخَر اسمه نفق «سمبلون». وهذا الجزء جديد في النفق، ولهذا فإن المرور فيه قليل، ولعلك لاحظت ذلك، فقد قابلتنا سيارات كثيرة قبل هذه المنطقة.

ابتسم «أحمد» وقال: إنه عمل عظيم أن تشقُّوا الجبل هكذا.

قال «بوش»: إن الجبل يمُرُّ فوقنا الآن، ويستمر النفق حتى الجانب الآخَر منه، هيا.

تقدَّمَ «بوش»، فانطلق «أحمد» خلفه. بعد قليل انحرف «بوش»، فانحرف «أحمد» خلفه. أسرعت السيارة الأمامية، فأسرع «أحمد» خلفها. انحرف الطريق عن الطريق الرئيسي، وأصبح ضيِّقًا. وبعد قليل أخذت سيارة «بوش» تبطئ من سرعتها، ثم بدأت تسير ببطء شديد، وأخيرًا توقَّفَت، ثم نزل «بوش» واتجه إلى سيارة الشياطين حتى وقف أمامها، وكانت قد توقَّفَت هي الأخرى.

قال «بوش» مخاطبًا «أحمد»: سوف نقطع هذه المسافة ببطء؛ فسرعة السيارات هنا تثير بعض الانهيارات الترابية والصخرية، وكذلك أصوات أبواق السيارات، فاحذر أن تضغط «كلاكس» السيارة في هذه المنطقة. وهي ليست طويلة، فقد اقتربنا. ثم عاد إلى سيارته، وفي بطء تحرَّكَت السيارتان.

مرَّت ربع ساعة، ثم أطفأ «بوش» أضواء سيارته، وأضاءها ثلاث مرات، لفت ذلك نظر «أحمد» و«بو عمير».

فقال «أحمد»: أعتقد أنها إشارة مُتَّفَق عليها.

استمرت السيارتان، وفجأةً أطفأ «بوش» سيارته مرَّتَين، ثم استمر في طريقه. وأخيرًا أطفأها مرة واحدة، ثم أضاء ضوءًا قويًّا، فظهرت فتحة في الجبل. لحظة ثم ظهر أحد الرجال يلبس ملابس رعاة البقر التي تظهر في أفلام المغامرات، وبرغم الليل فقد كانت القبعة فوق رأسه. وبعد قليل ظهر رجال آخَرون.

كانت السيارتان قد اقتربتا تمامًا، وبدأت ملامح الرجل تظهر.

اتسعت عينا «بو عمير» دهشة، وقال: هذا أحدهم!

همس «أحمد»: أحد مَن؟

قال «بو عمير»: هذا الرجل هو الذي رأيتُه في الشرفة اليوم.

قال «أحمد»: إنها إذَن اللحظة التي كنا ننتظرها.

بسرعة أرسل رسالة إلى الشياطين، قال في الرسالة: استعدوا، وخذوا حذركم.

كان الرجال قد اقتربوا من سيارة «بوش»، وكان «أحمد» قد توقَّف بعيدًا قليلًا بسيارة الشياطين حتى يُعطي نفسه فرصة الحركة. التفَّ الرجال حول السيارة، فانتظر «أحمد» قليلًا. كان قد فكَّر واستعدَّ، ضغط زرًّا في تابلوه السيارة فجاءت كلمات الرجال هناك.

كان أحدهم يقول: أهلًا بالسيد «بوش»، أهلًا بضيوفك.

تلقَّى «أحمد» رسالة من «مصباح» تقول: إنهم رجال الفندق الذين كانوا عندنا.

فهم «أحمد» الرسالة، فهمس ﻟ «بو عمير»: إنهم فعلًا الرجال.

ورأى «أحمد» تحت ضوء سيارة الشياطين «مصباح» و«قيس» وهما ينزلان من السيارة، ورأى بوضوح علامات السخرية التي كانت تغطِّي ملامح الرجال.

همس «أحمد» ﻟ «بو عمير»: خذ حذرك.

فجأةً ضغط «كلاكس» السيارة في قوة، فتردَّد الصوت في أرجاء الجبل، وظلَّ مستمرًّا في الضغط. كان الرجال قد اندفعوا في اتجاهه، في نفس اللحظة التي سمع فيها صوت الانهيارات الجبلية، ورأى تحت تأثير ضوء السيارة سحابة ترابية قد أخذت تنتشر في المكان.

أطفأ ضوء السيارة، لكن ضوء سيارة «بوش» كان لا يزال يضيء المكان، فرأى «مصباح» و«قيس» وقد اشتبكا مع اثنين من الرجال. أخرج مسدسه وأحكم التصويب، ثم ضغط الزناد، فانطلقت رصاصة أصابت تابلوه سيارة «بوش» بعد أن اخترقت الزجاج الخلفي للسيارة، فغرق المكان في الظلام. حدث ذلك كله في دقيقة، استطاع الرجال خلالها أن يصلوا إلى سيارة الشياطين.

إلا أن «بو عمير» كان مستعدًّا، فقد فتح الباب وانتظر وصول أول رجل، فدفع الباب في قوةٍ طرحت الرجل أرضًا، فاندفع هو الآخَر طائرًا في الهواء، وضرب رجلًا آخَر ضربة قوية جعلت الرجل يصرخ، في نفس الوقت كان «أحمد» قد قفز في خفة بعيدًا عن مسار طلقة أطلقها أحدهم، وعاجله بضربة جعلت الرجل يتهاوى.

كان «قيس» قد أمسك بذراع «بوش» وطوَّح به في الهواء، إلا أن «بوش» كان من الرشاقة بحيث دار مع «قيس»، ثم ضربَه ضربة مفاجئة جعلت «قيس» يتهاوى، غير أن «مصباح» كان قد قضى على رجلين فاستدار في سرعة وضرب «بوش» ذراعًا مستقيمة جعلَتْه يترنَّح. كان «قيس» قد استعاد توازنه، فتلقى «بوش» بين ذراعَيه، ثم أداره في مواجهته وسدَّد إليه يمينًا خطافية جعلته يتراجع، ثم يصطدم بالجبل.

فجأةً صمتَ كل شيء، ولم تكن تُسمَع حتى أنفاس الموجودين. مرَّت دقائق حذرة، كان الشياطين يتحدثون من خلال الأجهزة الدقيقة التي يحملونها، فيعرف كلٌّ منهم مكان الآخَر.

قال «أحمد»: فلنزحف إلى سيارة «بوش».

وفي هدوء وبلا صوت تقدم الشياطين في اتجاه سيارة «بوش» حتى التقوا عندها. تحسَّس «أحمد» الأرض فوجد عدة أحجار. أمسك بحجر متوسِّط الحجم ثم طوَّح به بعيدًا فأصدر صوتًا. وفي لحظة كانت طلقات الرصاص تنهال على المكان الذي سقط فيه الحجر، في نفس الوقت الذي غيَّر فيه الشياطين مكانهم بسرعة، حتى لا يكتشف أحدهم مصدر الحجر. وكان قد عرف أماكن رجال العصابة تحت تأثير ضوء طلقات الرصاص. لم تكن الانهيارات الصخرية كبيرة، فقد سقط حجر أو اثنان في منطقة بعيدة، وإن كانت كمية من الأتربة التي سقطت قد أكدت أنه يمكن الاستفادة من الموقف مرة أخرى.

مرَّت لحظة كان «أحمد» يفكِّر خلالها كيف يمكن أن يستفيد من الموقف الآن؟ فهو لا يريد استخدام الرصاص حتى لا يكشف مكانهم.

وفي نفس الوقت كان يريد أن يلفت نظر أفراد العصابة إلى شيء آخَر، حتى يستطيع الشياطين أن يتقدَّموا داخل مقر العصابة. كان الصمت لا يزال يحيط كلَّ شيء، وبدا الموقف رهيبًا مُنذِرًا بصدام قوي، فتحدَّث إلى الشياطين بطريقة اللمس، وقال لهم خطة وافق الشياطين عليها. لحظة ثم أخرج من جيبه جهازًا دقيقًا، ثم وجَّهَه إلى سيارة الشياطين.

ضغط ضغطة هيِّنة على زرٍّ في الجهاز، فانطلقت أشعة غير مرئية ودارت السيارة. وكان مجرَّد ارتفاع صوت الموتور كافيًا ليلفت نظر أفراد العصابة، فانطلقت كمية هائلة من الطلقات في اتجاهها؛ فقد كانوا يظنون أن الشياطين بداخلها. في نفس اللحظة كان الشياطين قد زحفوا في اتجاه باب المقر المنحوت في الجبل، وعندما وصلوا كانت المفاجأة، لقد كان الباب مغلقًا.

كان الباب عبارة عن بوابة حديدية ضخمة، حاول الشياطين أن يفتحوها لكنهم لم يستطيعوا، في نفس اللحظة التي كانت سيارتهم قد اشتعلت بتأثير طلقات الرصاص التي أصابت خزَّان الوقود. وبدأ المكان يظهر أكثر فأكثر تحت تأثير النيران.

فجأة صرخ أحدهم: إن السيارة سوف تنفجر، وسوف تقع الانهيارات الصخرية! كان الشياطين قد التصقوا في جانب البوابة، حيث كانت مساحة صغيرة تفصل بين البوابة وصخور الجبل. رأى الشياطين أفراد العصابة وهم يجرون في اتجاه السيارة المشتعلة بعد أن أحضر أحدهم مطفأة حريق من سيارة «بوش». وما إن وصلوا إلى سيارة الشياطين حتى دوت فرقعة هائلة تردَّد صداها في الجبل، وسمع الشياطين صوت الانهيارات التي كانت تبدو ضخمة هذه المرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤