الفصل الأول

أسلحة ووندر ومعسكرات الاعتقال

علم الصواريخ في عصر ستالين وهتلر

كان الوقت ظهرًا في أحد أيام الخريف الصافية، في أوائل شهر أكتوبر من عام ١٩٤٢ المعروف بعام الحرب. في بينامونده، وهو مركز صواريخ على ساحل بحر البلطيق في ألمانيا، وقفَ صاروخٌ جاهزًا للإطلاق، بَدَا أشبه بمركبة فضائية تقليدية؛ كان رفيعًا وطويلًا وهيكله مستدقُّ الطرف، ومثبتة في ذيله زعانف أنيقة. وكان يحيط بخزان الأكسجين السائل فيه شريطٌ من الصقيع الأبيض، مُخْفِيًا على نحوٍ جزئيٍّ النقوشَ البارزة المطلية بالأبيض والأسود التي تقسِّم سطح الصاروخ إلى أرباعِ دائرةٍ، وتمر كابلات كهربية من قطب مجاور إلى مقبس قُرْب مقدمته. وباستثناء ذلك، كان الصاروخ يقف وحيدًا في العراء.

فجأةً برزت سحابة من فوهته، يلفُّها شررٌ من جهاز إشعال، وسرعان ما تحوَّلَ الشرر إلى لهب، ثم إلى عادم أصفر مائل إلى الحُمْرة، وتجمَّعَ الدخان قُرْبَ قاعدة الصاروخ. انفصلَتِ الكابلات وسقطت إلى أسفل، وحالَ لونُ اللهب سريعًا إلى الأبيض المائل إلى الصُّفْرة، وبَدَا نظيفًا في مظهره، يضاهي الشمس في لونه وشدته. ومع سطوع الشمس، ارتفع الصاروخ وسرعان ما زاد من سرعته وتحليقه إلى أعلى.

كان إرنست شتولينر، وهو اختصاصيٌّ في توجيه الصواريخ، يتابع عمليات الإطلاق هذه على مسافة قريبة تصل إلى خمسمائة قدم، ويتذكر تلك العمليات قائلًا: «كنا نشعر بحرارة الصاروخ على وجوهنا بمجرد تصاعد اللهب، وكان الصوت مدوِّيًا، ولم نكن نسمع بآذاننا فقط بل نستشعر الأمر بكامل أجسامنا وحواسنا كما لو أن الجلد كله طبلةُ أذنٍ تهتزُّ. وارتفع الصاروخ في سلاسة تامة، وتحرَّكَ كما لو أن شيئًا لم يكن موجودًا على الأرض. وتزايدت سرعة الصاروخ، بينما تطاولت ألسنة اللهب، وشقَّ الصاروخ طريقه إلى أعلى في خطٍّ مستقيم، ثم بدأ يميل في سلاسة بالغة، وانطلق أعلى بحر البلطيق، كما لو لم تسبق ذلك أية حركة أخرى.»1

ثم جاءت لحظة حرجة عندما انطلق الصاروخ بسرعة الصوت. لم تضطرب حركة الصاروخ بل واصَلَ الانطلاق بدقَّة. وفجأةً، وقعت الصدمة! تكوَّنَ خطٌّ أبيض طويل خلفَ الصاروخ، وبَدَا شديدَ الوضوح على خلفية السماء الزرقاء. لم يكن هذا انفجارًا، بل ذيلًا من الدخان، تكوَّن على نحو طبيعي نظرًا لتكثُّف العادم في طبقات الهواء العليا الباردة. وضربت رياحٌ عاتية، انتشرَتْ على ارتفاعٍ هائل، الذيلَ سريعًا فبدَّدَتْه في صورة خط متعرِّج.

بعد دقيقة واحدة من الإطلاق، ظهرت خلال النظارات المكبِّرة نقطةٌ حمراء صغيرة في مقدمة الصاروخ — الذي كان قد بلغَ حينئذٍ مسافة عشرين ميلًا تقريبًا — حيث ارتفعت درجة حرارة مقدمته من جرَّاء احتكاكه بالغلاف الجوي، وأرسلت أجهزة التحكم الأرضية إشارةَ توقُّف، واختفت ألسنة اللهب، واختفى كذلك ذيل الدخان. وكانت ثمة نقطة برَّاقة لامعة لا تزال تظهر عند ذيل الصاروخ، حيث واصلَتْ فوهته السطوع من جرَّاء الحرارة البيضاء.

كان فالتر دورنبِرجر، مدير المشروع، يراقب المشهد مع الكولونيل ليو زانسن، مدير مركز بينامونده، وكتب دورنبِرجر لاحقًا يقول: «تركتُ نظارتي المكبِّرة آخِذًا نَفَسًا عميقًا. كان قلبي يدق بشدة. بكيتُ فرحًا، ولم أستطع التفوُّه بكلمة لبرهة من الوقت؛ إذ كانت تنتابني مشاعر جيَّاشة. والتفتُّ إلى الكولونيل زانسن لأراه يمرُّ بالحالة نفسها؛ كانت عيناه مغرورقتين، ومدَّ يديه إليَّ مصافحًا، فتلقَّيْتُهما في حرارة. ثم غمرتنا مشاعرُنا بسرعة، فإذا بنا نصيح فرحًا، ثم يحتضن كلٌّ منا الآخَر كالصِّبية حين يعتريهم حماسٌ عارم.»

في وقتٍ لاحق من ذلك اليوم، ألقى دورنبِرجر خطابًا قصيرًا على بعض زملائه، قال فيه: «نحن أول مَن يُطلِق صاروخًا بسرعة ٣٣٠٠ ميل في الساعة؛ ومن ثَمَّ، فقد أثبتنا أنه من الممكن تمامًا بناء صواريخ أو مركبات موجَّهة تفوق سرعتها سرعة الصوت، ونجحنا في ذلك من خلال نُظُم التحكم الآلي، ووصلَ الصاروخ الذي أطلقناه اليومَ إلى ارتفاع ٦٠ ميلًا تقريبًا.

غزونا الفضاء بصاروخنا؛ وبرهَنَّا بذلك على أن الدفع الصاروخي إجراءٌ عملي في رحلات الفضاء. وما دامت الحرب مستمرةً، فليس أمامنا مهمةٌ أكثر إلحاحًا من الإسراع بتطوير الصاروخ كسلاح، في حين ستكون مهمتنا في أوقات السِّلْم هي تطوير الإمكانات الفائقة لهذا السلاح التي لا نستطيع تصوُّرها بعدُ، وسيكون أول شيء نقوم به إذن هو أن نعثر على وسائل آمِنة للإرساء بعد الرحلة عبر الفضاء.»2

في عملية الإطلاق الأولى، كان ثمة عدد من الأشخاص الذين قادوا هذه التطويرات، منهم مَن كانوا حضورًا، ومنهم مَن كانوا مشاركين إلى حدٍّ كبير في المشروع، وكان من بين هؤلاء مدير دورنبِرجر الفني، فيرنر فون براون. ولم يكن سيرجي كوروليف — الشخص الذي كان بيده أن يحدِّد وتيرة بحث تلك الاحتمالات — موجودًا في أي مكان في ألمانيا، بل كان يعمل على مسافة ١٥٠٠ ميل شرقَ موقع الإطلاق، وكان سجينًا لدى المفوضية الشعبية للشئون الداخلية؛ الشرطة السرِّيَّة في عهد ستالين.

بالنسبة إلى كوروليف، وكذلك دورنبِرجر وفون براون، كان ثمة أصلٌ مشترك في هذه المسارات التي أدَّتْ إلى مواقفهم تلك، يعود إلى أعمال مدرس الرياضيات هيرمان أوبيرت الذي كان يتحدَّث الألمانية. درس أوبيرت في ميونخ وهايدلبِرج، ثم عاد إلى مسقط رأسه في رومانيا، حيث عاشَ بين مجموعة من الألمان المغتربين، واشتغل بتدريس الرياضيات في المدرسة الثانوية المحلية؛ وبعد الحرب العالمية الأولى، أصبح شديدَ الشغف بالصواريخ.

كان الناس يصنعون الصواريخ منذ اختراع البارود، قبل سبعمائة عام تقريبًا، واستُخدِم أفضلها في حروب القرن التاسع عشر، حيث قدَّمت صورةَ «وهج الصواريخ الأحمر» التي ألهمَتْ فرانسيس سكوت كي فيما بعدُ ليكتب النشيدَ الوطني الأمريكي الذي تضمَّنَ تلك العبارة نفسها. ومع ذلك، أفضَتِ التطورات اللاحقة في المدفعية ذات القدرة الفائقة إلى تضاؤل الاهتمام بالصواريخ. وكانت نقطة البداية التي انطلق منها أوبيرت تتمثَّل في مبدأ بسيط وقوي، وهو: عن طريق حرق مصادر الوقود الحديثة، مثل الجازولين والأكسجين السائل، قد يتفوَّق أداءُ أيِّ صاروخ على أداء الصواريخ التي تعمل باستخدام البارود. وتأكيدًا لذلك، قدَّم أوبيرت توصياتٍ تتعلق باختياراتٍ محدَّدة للوقود، وقاسَ أداءَها، وقدَّم اقتراحاتٍ لتصميم المركبة الصاروخية التي يمكن أن تستخدِم تلك الأنواع من الوقود.

ثم مضى أبعدَ من ذلك، مشيرًا إلى أن تطبيق هذا الأسلوب سيجعل الرحلات الفضائية المأهولة أمرًا ممكنًا. وفي استشرافٍ منه لما سيحدث بعد ذلك بأربعين عامًا، أشارَ إلى أن صاروخَ وقودٍ سائلٍ زنة ٤٠٠ طن متري يمكنه نقل رائدَيْ فضاءٍ إلى مدار فضائي. تأثَّرَ أوبيرت بأفكار كاتِب الخيال العلمي كورد لاسفيتس، فأشار إلى أن رحلات الفضاء هذه قد تؤدِّي إلى بناء محطة مدارية، وهو ما قد يخدم أغراضَ الأرصاد على ارتفاعاتٍ شاهقة واتصالات الأقمار الصناعية؛ وربما تمثِّل أيضًا هذه المحطات قاعدةً للصواريخ الأخرى، التي قد تنطلق إلى الكواكب. وكلمسة أخيرة، اقترح أوبيرت بناءَ عاكسات شمسية عملاقة، من أجل «الحفاظ على الطريق البحري، المؤدي إلى موانئ شبتسبرجِن وشمال سيبيريا، خاليًا من الثلوج من خلال تركيز أشعة الشمس عليه، ولزيادة رقعة المناطق الصالحة للسُّكْنَى في الشمال».

على الرغم من أن أفكار أوبيرت كانت مُبتكَرة تمامًا، فقد تلاءمت مع روح العصر. في العقود الأخيرة، كان محرك الاحتراق الداخلي قد أفسَحَ المجالَ أمام اختراع الطائرات والسيارات؛ وكان التوربين البخاري — وهو الاختراع المعاصِر لمحرك الاحتراق الداخلي — يشجِّع على ازدهار صناعة الطاقة الكهربية، وأدَّى إلى تطورات هائلة في حجم وسرعة السفن الحربية وسفن الركَّاب. وكان أوبيرت يشير إلى محرك جديد، وهو صاروخ وقود سائل، ويصفه بأنه هدف جديد أمام المخترعين؛ كما كان يطرح رؤيته الشاملة لتطبيقات واسعة النطاق.

في عام ١٩٢٣، دوَّنَ أوبيرت أفكاره وأعماله في كتابٍ بعنوان «الصاروخ في عالم الفضاء بين الكواكب»، ونشره غالبًا على نفقته الخاصة، ولم يكن الكتاب يزيد عن كتيبٍ ورقيٍّ يضم أقل من مائة صفحة، لكن سرعان ما بدأ في جذب الانتباه الذي كان أوبيرت ينشده. وكانت موسكو من بين الأماكن التي حظي فيها هذا الكتاب بالاهتمام؛ حيث كان البعضُ على دراية بأن مواطنًا روسيًّا يُدعَى قسطنطين تسيولكوفسكي يُروِّج لأفكار مماثلة.

كان تسيولكوفسكي مدرس رياضياتٍ في أحد الأقاليم مثل أوبيرت، وكان يعمل في مدينة كالوجا، على مسافة مائة ميل من العاصمة. وُلِد تسيولكوفسكي عام ١٨٥٧، وتولَّدَ لديه اهتمامٌ قوي ومبكر بعلم الفلك، ثم حاول لاحقًا اختراع سفينة جوية، واتبع في ذلك مسارًا بحثيًّا قاده إلى بناء أول نفق هوائي روسي. وبعد عام ١٨٩٥، جمعَ بين مجالَي الاهتمام هذين وشرعَ في تصميم مركبة فضائية.

كان تسيولكوفسكي على دراية جيدة بعلم الفيزياء، وهو ما أتاح له تقديم أعمال تتسم بالمصداقية. قرَّرَ تسيولكوفسكي أن هذه المركبة ستحتاج إلى دفعٍ صاروخي؛ فكتبَ عن استخدام أنواع وقود مشابهة للكيروسين، لكنه اكتشفَ إمكانية الحصول على أداءٍ أفضل من خلال استخدام الأكسجين والهيدروجين السائلين. وكانت هذه خطوة جريئة حقًّا؛ فقد كان السير جيمس ديور البريطاني لا يزال بصدد تحضير العينات الأولى من الهيدروجين السائل على مستوى العالم، ولم يكن من الممكن إطلاق أي صاروخ باستخدام هذا الوقود الدفعي إلا بعد عام ١٩٦٠. وعلى الرغم من ذلك، كانت أبحاث تسيولكوفسكي تشير بوضوح إلى إمكانية تنفيذ هذا الأمر إلى حدٍّ كبير.

شرعَ تسيولكوفسكي بعد ذلك في نشر نتائجه تلك، وبينما كان يعمل على بناء هذه السفينة الجوية، تلقى دعمًا قيِّمًا من ديمتري مندلييف، مُكتشِف الجدول الدوري في الكيمياء، بَيْدَ أن ذلك لم يساعده كثيرًا في تجاربه؛ ففي عام ١٨٩٨ أرسل بحثه إلى مجلة مهنية، هي «ساينس سيرفاي»، وظلَّ محرِّر المجلة محتفِظًا بالبحث لمدة خمس سنوات قبل أن يقرِّر نشره. ولم يحظَ البحث بالاهتمام الكافي، ولم تكن قاعدة قراء المجلة كبيرة، حتى داخل روسيا نفسها. واصلَ تسيولكوفسكي أبحاثه غيرَ عابئ بذلك، وقبل اندلاع الحرب العالمية الأولى بفترة قصيرة نشَرَ بحثَين آخرَين في مجلةٍ تحظى بجمهور أوسع من القراء، وحازَ هذان البحثان اهتمامَ واحدٍ من كبار الكُتَّاب في المجال العلمي في روسيا، وهو ياكوف بيرلمان؛ وقد ساهَمَ بيرلمان في التعريف بتسيولكوفسكي داخل روسيا على الأقل.

ظهر بعد ذلك كتاب أوبيرت في عام ١٩٢٣، وشرع المسئولون في الحكومة البلشفية الجديدة، في غمرة حماسهم لإعلان ريادة بلادهم، في نفْضِ الغبار عن ورقة تسيولكوفسكي البحثية المنشورة عام ١٨٩٨، وأعادوا نشرها مع عبارةِ رثاءٍ تقول: «هل علينا دومًا أن نحصل من الأجانب على الأفكار التي وُلِدت في حدود بلادنا الشاسعة ثم ماتَتْ وحيدةً من جَرَّاء الإهمال؟» بالتأكيد لن يصبح عمله مُهمَلًا بعد الآن؛ إذ سرعان ما تشكَّلت جمعياتٌ معنية بالصواريخ داخل موسكو وفي مدن أخرى.

قادَ هذا المجال فريدريك تساندر، وهو مهندس لاتيفي وكان من أوائل المتحمسين لأعمال تسيولكوفسكي. وفي عام ١٩٢٤، بدأ تساندر برنامجًا من المحاضرات العامة حول رحلات الفضاء، سرعان ما أدَّى إلى تشكيل نادٍ لعلم الفضائيات، وهو جمعية دراسة الاتصال بين الكواكب. (كانت كلمة «علم الفضائيات» astronautics مشتقة من اللغة الفرنسية، ثم صارت جزءًا من اللغة الإنجليزية في عام ١٩٣٠.) وتبيَّن أن جمعية تساندر لم تكن أكثر من لفيفٍ من المتحمسين، إلا أن تشكيلًا لاحقًا، وهو قسم الاتصال بين الكواكب التابع لجمعية المخترعين، ذهبَ إلى ما هو أبعد من ذلك من خلال رعاية معرضٍ عامٍّ في موسكو خلال عام ١٩٢٧. وكان هذا المعرض بمنزلة نسخة مبكرة من معرض ستار تريك؛ حيث كان يعرض أعمال جول فيرن وإتش جي ويلز بدلًا من جين رودنبِري، لكنه ساعدَ في الترويج لهذا المجال الجديد ونشر فكرته.

انضمَّ بعد ذلك إلى مجموعة الهواة المتحمسين هذه سيرجي كوروليف، الذي وُلِد في أوكرانيا، وكان الطيران قد أسرَ لبَّه منذ الصغر؛ فوجد فيه غايةً وهدفًا جعلاه ينحو في حياته منحًى كئيبًا ومنعزلًا غالبًا. تزوَّجت أمه زواجًا تقليديًّا بينما كانت لا تزال في مرحلة المراهقة، ولم يَدُم الزواج طويلًا؛ إذ انفصلت قبل أن تبلغ عشرين عامًا، وأرسلت طفلها ليعيش مع والديها، ولم تَستَعِده إلا عندما تزوجت مرةً أخرى. ومات والد سيرجي بينما كان لا يزال في ريعان شبابه، وكان محظوظًا أن تبنَّاه زوجُ أمه الجديد بوصفه ابن زوجته.

عند التحاقه بالمدرسة الثانوية في أوديسا، انضم إلى نادي طيران محلي، وكان يشارك بحماسٍ في أنشطة النادي، حيث صمَّمَ طائرةً شراعية تمكَّنت من التحليق بنجاح. وتعلَّم الرياضيات وعلم الفضائيات بنفسه دون أن يستعين بمعلم، لكنه لم يستطع الالتحاق بالجامعة؛ وبدلًا من ذلك، انخرط في صناعات البناء. وعندما نجحَ في الالتحاق بالجامعة فيما بعدُ، قرَّرَ أن يكون ذلك في كييف، على الرغم من أنه كان يعلم أن موسكو تقدِّم فرصًا أكثر بكثير، لكنه وجد فرصته عام ١٩٢٦، وكان في التاسعة عشرة من عمره، عندما انتقلت أمه وزوجها إلى موسكو. رحلَ كوروليف عن كييف ليلحق بهما، ونجحَ في الالتحاق بمعهدٍ من أهم المعاهد في البلاد، وهو معهد بومان الفني العالي في موسكو؛ وهناك أطلق العنان لكامل قدراته.

كان كوروليف يعمل في مصنع طائراتٍ نهارًا، ويتلقى الدروس في المعهد ليلًا، كما كان يتعلَّم الطيران واستطاع الحصول على رخصة طيَّار. وجذبت موهبته انتباه أندريه تبوليف، أحد أهم مصمِّمي الطائرات في الاتحاد السوفييتي، ومضى كوروليف يصمِّم وينشئ طائرة أخرى كتلميذٍ له. كما عمل مع مصمِّم آخَر من المصمِّمين الرائدين، وهو سيرجي إليوشن، حيث اخترعَ طائرة شراعية استطاعت التحليق عاليًا لأكثر من أربع ساعات، وفازت في إحدى المسابقات الوطنية.

بالإضافة إلى ذلك، تنامى شغفٌ عميقٌ ودائم لدى كوروليف بالرحلات الفضائية. وكان قد وصل إلى موسكو في الوقت المناسب لحضور معرض عام ١٩٢٧، وفي الوقت المناسب التقى أيضًا تسيولكوفسكي في موسكو، وبعد تخرُّجه في المعهد الفني عام ١٩٣٠ التقى مصادفةً تساندر الذي كان وقتَها يأمل في بناء محركاتِ وقودٍ سائل. وكان تساندر بصدد تشكيل جمعية جديدة من الشباب المهتمين بالصواريخ، وهي مجموعة موسكو لدراسة حركة رد الفعل (موسجيرد). وكان كوروليف قد اقترحَ تركيب أحد محركات تساندر في طائرة شراعية دون محرك، وحصل على دعم مالي محدود من منظمة «أوسوافياكيم» الحكومية التي كانت تشجِّع أنشطةَ الطيران.

اتخذت المجموعة من قبو خمور سابق مقرَّ عملٍ لها، وكان ذلك في طابق أرضي مظلم ورطب لكنه كان واسعًا، وشرعوا في العمل، لكنهم لم يحرزوا تقدُّمًا كبيرًا. في الواقع، كان مستوى الدعم الذي تلقَّوْه محدودًا؛ فقد شكا أعضاءُ موسجيرد من أن الاسم المختصر لجماعتهم يعبِّر فعليًّا عن عبارة روسية مختلفة، تُترجَم من الروسية إلى «جماعة موسكو للمهندسين المتطوعين دون أجر». ومما أعاقَ تجاربهم أيضًا أن الأجهزة الرئيسية التي كانوا يستخدمونها كانت عبارة عن ماكينتين متهالكتين، لكن كوروليف لم يرضخ للأمر ولم يسلِّم به على عِلَّته. إذا لم تكن «أوسوافياكيم» قادرةً على تقديم الدعم لمجموعة موسجيرد على النحو الذي ينشده، فسيحاول الحصول على دعمٍ أفضل من الجيش الأحمر.

كان مسئول التسليح في الجيش، ميخائيل توكاشيفسكي، مهتمًّا جدًّا بالصواريخ، ورأى توكاشيفسكي في الصواريخ وسيلةً للتغلب على القدرات المحدودة للأسلحة الثقيلة، من خلال إطلاق قذائف كبيرة للغاية من المتفجرات إلى أي مسافة. وبالإضافة إلى ذلك، كان يتوقَّع في وقتٍ ما قبلَ اختراع المحرك النفَّاث أن ترفع الصواريخُ «الحدَّ الأقصى لارتفاع الطائرات الحربية إلى طبقة الستراتوسفير»، وهو ما سيسفر عن أداءٍ غير مسبوق. وكان يُنظَر إلى توكاشيفسكي على نطاق واسع باعتباره من جهابذة الجيش الأحمر وأرجحهم عقلًا، فضلًا عن قوة إرادته وعزيمته. وكان يتمتع أيضًا بمكانة مرموقة؛ ففي عام ١٩٣٥، بعد إجراء عملية إصلاح عسكري داخل الجيش، حصل على رتبة مارشال، وهي رتبة لم يتلقَّها سوى خمسة جنرالاتٍ فقط، وكان يُشرِف أيضًا على تمويل مجموعة مختصة بأبحاث الصواريخ في ليننجراد، وهي معمل ديناميكا الغازات.

انبثقَ معمل ديناميكا الغازات عن مجموعة سابقة تجاوزت في أبحاثها مجالَ صواريخ البارود التقليدية، من خلال التعامل مع البارود اللادخاني، وهو ما زوَّدَ الصواريخ بطاقةٍ أكبر. وكان هذا المركز البحثي يباشر أعماله كذراع لسلاح المدفعية في الجيش؛ حيث كانت توجد منصة اختبار لإطلاق صواريخ في قاعدة ليننجراد الرئيسية، وكان مديره ضابطًا في سلاح المدفعية. وفي عام ١٩٢٩، أدخَلَ مهندسٌ تابع لهذه المجموعة البحثية، يُدعَى فالنتين جلشكو، توسُّعاتٍ على برنامج معمل ديناميكا الغازات بإطلاق برنامج لإنتاج صواريخِ وقودٍ سائل. واستمرَّ جلشكو في بناء محركات الصواريخ هذه بغرض إجراء عمليات إطلاقٍ ناجحة، وهو ما أسفَرَ عن قوةِ دفعٍ بلغت أربعة وأربعين رطلًا، من خلال حرق الجازولين مع الأكسجين السائل.

نظرًا لأن «أوسوافياكيم» كانت على صلة وثيقة بالدوائر العسكرية، عَلِمَ توكاشيفسكي بالأبحاث التي تجريها مجموعة موسجيرد منذ وقت مبكر جدًّا. في البداية، اكتفى بدعم أوسوافياكيم، لكن سرعان ما رأى أن مجموعة موسجيرد كانت في حاجة إلى دعم أكبر. ومن خلال العمل المباشر مع كوروليف، اتخذ توكاشيفسكي التدابيرَ اللازمة لتمويلِ مجموعة موسجيرد مباشَرةً، ولدمْجِ موسجيرد ومعمل ديناميكا الغازات في مؤسسة قوية واحدة. وبحلول شهر أغسطس من عام ١٩٣٢، كانت إدارة الاختراعات العسكرية التابعة للجيش ترسل دفعاتٍ من التمويل المبدئي إلى مجموعة موسجيرد؛ وبالإضافة إلى ذلك، وُفِّق كوروليف إلى استخدام موقع إطلاقٍ صاروخي في قاعدة قريبة تابعة للجيش.

خلال العام التالي لذلك، بينما كانت مجموعة موسجيرد لا تزال تباشر عملها في قبو الخمور، واجَهَ أعضاؤها حوادثَ مؤسِفة تجاوزت المشكلات المعتادة في مجال أبحاث الصواريخ؛ ففي إحدى المرات، انقلبت شاحنة المجموعة في الثلوج الرطبة المبللة. وذات مرة أخرى، بينما كانت الشاحنة تحمل صاروخًا إلى موقع الإطلاق، اصطدمت بحجرٍ على متن الطريق وكادت تنقلب مجددًا. وأخيرًا، في أغسطس ١٩٣٣، انطلقَ صاروخٌ اسمه «٠٩» في أول رحلة له، وبلغَ الصاروخُ ارتفاع ١٣٠٠ قدم، لكنه تعثَّرَ بعد ذلك في مساره وسقط متهشمًا بعدما احترقت إحدى حواف ذيله الناتئة. ومع ذلك، كان كوروليف مسرورًا، وأعلن ذلك قائلًا: «انطلق الصاروخ بالفعل، ولم يذهب جهدنا أدراجَ الرياح.»

بعد ذلك بثلاثة أشهر تحقَّقَ نجاحٌ جزئي مشابه؛ حيث ارتفع صاروخٌ جديد يُسمَّى «جيرد-إكس» إلى ارتفاع ٢٥٠ قدمًا، ثم ما لبثَ أن استدار في حدَّة ليسقط على الأرض على مسافة ٥٠٠ قدم. وحتى ذلك الوقت، كانت مجموعة موسجيرد ومعمل ديناميكا الغازات قد أكملا عمليةَ اندماجهما في مؤسسة جديدة تُدعَى معهد الأبحاث العلمية في مجال الدفع المعاكس، وصار إيفان كليمنوف — الرئيس السابق لمعمل ديناميكا الغازات — مديرَ المؤسسة الجديدة، وصار كوروليف نائبًا له، ولو في البداية على الأقل. وانتقلت مجموعة موسجيرد من قَبْوها المظلم إلى مصنعٍ سابق لمحركات الديزل في ضواحي موسكو، وأعلنت عن إنتاج خلايا لاختبار محركاتٍ سرعان ما استُخدِمت فيما بعدُ في اختبار محركات الصواريخ؛ وانضمَّ كوروليف، الذي كان مدنيًّا، إلى الجيش الأحمر وحصلَ على رتبة ضابط مكلَّف.

لم تكن ثمة دولة أخرى خلاف ألمانيا تبني صواريخَ وقودٍ سائل بدعم عسكري. وفي حقيقة الأمر، تطوَّرَتْ أنشطة تلك الدولة على غرار مثيلاتها في الاتحاد السوفييتي، من خلال كتابات هيرمان أوبيرت التنبُّئِية التي أثارت موجةً من الاهتمام بالصواريخ ورحلات الفضاء؛ موجةً أدَّتْ أولًا إلى فتح الباب أمام التجارب الدءوبة، ثم إلى تلقِّي الرعاية العسكرية المباشِرة. ومع ذلك، تلقَّى مجالُ تطوير الصواريخ في ألمانيا تشجيعًا خاصًّا من خلال فيلم الخيال العلمي «امرأة في القمر».

كان منتِج الفيلم، فريتز لانج، أكثر من مجرد صانِع أفلام؛ فقد كان رائدًا في مجال الفن والثقافة في بلاده. وأشار الكاتِب العلمي فيلي لاي إلى أنه في أحد العروض الأولى لأفلامه «كان من قبيل القاعدة الصارمة، وإنْ كانت غير مكتوبة، أن يرتدي المرءُ زيًّا مسائيًّا كاملًا، وليس بدلة سهرة فحسب؛ وكان جمهور الحاضرين يضم في الواقع جميعَ الشخصيات المهمة في مجال الفن والأدب، مع حضور قوي لمسئولين حكوميين رفيعي المستوى.» وفي عام ١٩٢٦، عرضَ لانج الفيلم الكلاسيكي «متروبوليس» الذي كان يؤدي دور البطولة فيه إنسانٌ آلي، وكان من المُنتظَر أن يسير لانج على المنوال نفسه بالنسبة إلى رحلات الفضاء.

كتبت زوجته، الممثلة تيا فون هاربو، سيناريو الفيلم معتمِدةً بدرجة كبيرة على كتابات أوبيرت. وقد استعانَ لانج بأوبيرت نفسه كمستشار فني، ثم أقنعه أوبيرت بأن يتعهَّد بتمويل عملية بناء صاروخٍ حقيقي، سيكون في نهاية المطاف بمنزلة دعاية رائعة للفيلم إذا تزامنَتْ تجربةُ إطلاقه مع اليوم الأول لعرض الفيلم. وبالفعل قدَّمَ لانج تمويلًا بسيطًا إلى أوبيرت؛ مما سمحَ له بتشكيل فريق فني مبدئي.

كان من أوائل مَنْ أُجرِيت معهم مقابلاتٌ شخصية للانضمام إلى هذا الفريق؛ رجلٌ حادُّ الملامح، يرتدي ملابسَ أنيقة للغاية، وتبدو عليه هيئة عسكرية صارمة، وقال مقدِّمًا نفسه: «اسمي رودلف نيبل، مهندس حاصل على دبلومة، وعضو في أقدم جماعة طلابية بافارية، وكنت طيَّارًا حربيًّا سابقًا في الحرب العالمية برتبة ملازم، وأسقطتُ سبع طائراتٍ للعدو.» في واقع الأمر، كان نيبل حاصلًا على مؤهلاتٍ هندسية محترمة لكنْ لم يسبق له قطُّ أن عمل مصمِّمًا، وإنما كان يعمل مسئولَ مبيعاتٍ، يبيع رولمان بلي ثم أجهزة إنذار ضد السرقة؛ ومع ذلك، عيَّنه أوبيرت على الفور ضمن الفريق.

حظيَ فيلم «امرأة في القمر» بتقدير قوي بين صفوف المهتمين بالصواريخ، وعندما انطلقَ صاروخ دورنبِرجر بنجاح عام ١٩٤٢، كان شعارُ الفيلم موضوعًا عليه، حيث تظهر عليه صورة امرأة شابة تجلس على هلال. وبالإضافة إلى ذلك، قدَّمَ لانج العَدَّ التنازلي كأداة درامية: «خمسة، أربعة، ثلاثة، اثنان، واحد … أَطلِقْ!» لكن الفيلم نفسه لم يحقِّق نجاحًا تجاريًّا كبيرًا، وكان السببُ يدعو إلى السخرية؛ إذ قيل إن الفيلم لم يكن مواكبًا لروح التكنولوجيا؛ كان فيلمًا صامتًا، وبحلول وقت عرضه في أواخر عام ١٩٢٩، كانت معظم المدن الألمانية تعرض الأفلام الجديدة الناطقة.

تعثَّرَ مشروع الصاروخ أيضًا من جرَّاء ذلك. كان المشروع يسعى إلى بناء صاروخِ وقودٍ سائل ينطلق إلى ارتفاع خمسة وعشرين ميلًا، لكن على الرغم من نجاح نيبل في بناء محركاتٍ صغيرة بغرض اختبارها، فإنه لم يَبْنِ أيَّ شيءٍ في مقدوره التحليق على أية حال. ومع ذلك، أسفرَتِ الجهود عن بناء أجزاءٍ صغيرة من مشروع صاروخِ وقودٍ سائل، حتى إنْ كان مشروعًا صغيرًا. وبعدما انتهى دعم لانج، قرَّرَ نيبل مواصَلةَ المشروع وحده.

كان أوبيرت قد ترأس مجموعة من المهتمين بالصواريخ، وهي جمعية رحلات الفضاء، وكان للجمعية مكتبٌ مسجَّل استطاع نيبل ممارسة العمل من خلاله، لكنْ كان يعوزه المال الذي يمكِّنه من تحقيق ما يريد، وبينما كان يبحث عن مصدرِ تمويلٍ اهتدى إلى الكولونيل كارل بيكر، رئيس هيئة أسلحة الجيش. ومثل توكاشيفسكي، كان بيكر يعرف سلاح مدفعيته، ومثل نظيره السوفييتي، كان بيكر بصدد وضع أفكاره الخاصة حول الصواريخ العسكرية.

داخل هذا السلاح من الضباط البروسيين الضيقي الأفق، الذي ظلَّ متعلقًا بأساليبه التقليدية القديمة، تميَّز بيكر من خلال رغبته في التحرُّك في اتجاهاتٍ جديدة. كان بيكر يحمل درجة الدكتوراه في الهندسة، وكان أستاذه كارل كرانتس قد ألَّفَ كتابَ ألمانيا الرائد حول الصواريخ الباليستية، وكان بيكر قد شارَكَ بنفسه في مراجعة نسخة الكتاب التي صدرت عام ١٩٢٦، مُضِيفًا قسمًا مطوَّلًا عن الصواريخ، تضمَّنَ مناقشةً حول صواريخ الوقود السائل. وبينما كانت المدفعية هي السلاحَ الأساسي في الحرب العالمية الأولى، تصوَّرَ بيكر أن تلعب الصواريخ دورًا كبيرًا في الحرب القادمة. وعلى غرار زملائه الضباط، كان بيكر ينتظر الحربَ القادمة بلهفةٍ.

وضعَتْ معاهدة فرساي، التي كانت قد أنهت الصراع الأخير، قيودًا صارمة على حجم الجيش الألماني وعلى أسلحته؛ فقد حظرت هذه المعاهدة على ألمانيا تطويرَ أسلحةٍ مدفعية ثقيلة — وهو تخصُّص بيكر — أو إنتاجَ غازاتٍ سامة، لكنها لم تضع أيَّ قيود على إجراء أبحاثٍ حول تطوير الصواريخ، وهو ما رأى فيه بيكر ثغرةً يستطيع استغلالها؛ فربما تقدِّم الصواريخ الحربية نوعًا جديدًا من أسلحة المدفعية، وربما يمكنها أيضًا إطلاق غازاتٍ سامة.

كان بيكر يدرك جيدًا أن الجيشَ في حاجةٍ إلى توخِّي الحذر أكثر من حاجته إلى استغلال الثغرات، وكان قادة الجيش ينظرون إلى معاهدة فرساي بازدراءٍ بالغ، مخالفين إياها سِرًّا متى استطاعوا، حيث كانوا على استعدادٍ كبير لإعادة التسلُّح. وكانت لدى شركة «كروب»، وهي أكبر شركةِ سلاحٍ في ألمانيا، تصميماتٌ للجيل التالي من الدبابات؛ ومع ذلك، كانت أبسطُ قواعد الحذر تقتضي من قادة الجيش بحثَ عمليات التسلُّح القانونية وغير القانونية على حدٍّ سواء. وفي عام ١٩٢٩، فوَّضَ وزيرُ الدفاع بيكر لبدء برنامج صغير لدراسة الصواريخ، وكان التركيز الأساسي للبرنامج يتضمن إنتاج أنواع من البارود التجاري. وبالإضافة إلى ذلك، أصدر وزير الدفاع توجيهًا إلى نائبه، النقيب رتر فون هورستيج، كي يبحث جيدًا إمكانيةَ استخدام صواريخ الوقود السائل الجديدة.

بعد لقاء نيبل وبيكر، قدَّمت إدارة الأسلحة الحربية تمويلًا صغيرًا بمبلغ ٥٠٠٠ مارك ألماني، وهو ما يعادل ٢٠٠٠ دولار أمريكي تقريبًا. وكان نيبل في حاجة إلى مكانٍ لإجراء اختبارات الصواريخ، وعثر على مخزن ذخيرة مهجور قُرْبَ برلين، وكان جزءٌ منه سَبخًا، لكن كانت له جدران وسواتر قوية بما يكفي لتحمُّل انفجارٍ صاروخي. وكانت أبنية المخزن مملوكةً للجيش، إلا أن نيبل استطاع بمساعدة مكتب بيكر اتخاذ التدابير اللازمة لتأجير الأبنية التي كان يحتاجها، مقابلَ عشرة ماركات فقط سنويًّا، وأطلقَ على المنطقة «راكتنفلوجبلاتس» (أيْ مطار الصواريخ)، وأُعلِن افتتاحها في سبتمبر ١٩٣٠.

لكن سرعان ما وجدَ بيكر أن نيبل غريبُ الأطوار أكثر مما يطيق، وكان بيكر يكره ميل نيبل إلى الاستعراض، بينما كان ولع نيبل البالغ بكتابة المقالات الإخبارية المثيرة يتعارض بشدة مع إصرار بيكر على السرِّيَّة التامة؛ ومن ثَمَّ، وجدَ نيبل نفسه محرومًا من تلقِّي تمويلٍ إضافي من الجيش، في وقتٍ كان يحتاج فيه إلى المعدات والفنيين المَهَرة. على الرغم من ذلك، كان نيبل يعرف كيف يعيش معتمِدًا على مهاراته، واستطاع أن يوظِّف موهبته كمسئولِ مبيعاتٍ في الحصول على الأمرَين معًا: العتاد والفنيين المَهَرة. على الرغم من كل شيءٍ، كان نيبل يصنع ما من شأنه أن يحيل فكرة فيلم «امرأة في القمر» إلى حقيقة.

بدأ نيبل مشروعه بزيارة هيئة السكك الحديدية الحكومية، حيث جمعَ قطع الأخشاب المُتخلِّفة من عربات القطارات، واستخدمَ هذه الأخشاب في رَأْب الجدران المُتصدِّعة وتغطية الأرضيات. وعلى نحو مشابه، عثرَ على موقدَين قديمَين يصلحان للتدفئة في الشتاء، واشترى آلة كاتِبة من متجر رهوناتٍ وبدأ في كتابة مئات الخطابات، التي سعى فيها إلى الحصول على دعم من الشركات والحكومة؛ وبهذه الطريقة، استطاع توفير مصدرَيْ طاقةٍ وضَوءٍ مجانيَّيْن، وأكسجين سائل، وسبيكة ألومنيوم، وأواني طلاء، ومِخرطة أخشاب صغيرة، وماكينة حفر.

امتدت قدرة نيبل على الإقناع إلى مصلحة الضرائب، التي أعفت مكتبه من دفع ضريبة إنتاج على الجازولين، وهو ما خفَّضَ نفقات المكتب بمقدار الثُّلثَين تقريبًا. بالإضافة إلى ذلك، كان نيبل يعرف كيف يغيِّر الظروف لصالحه، وسوف يذكر فيرنر فون براون لاحقًا كيف «استطاع إقناع مدير شركة «سيمنز هايسكه إيه جي» بتوفير كمية كبيرة من أسلاك اللحام، من خلال وصفه الواضح لأهمية رحلات الفضاء وضرورة التعجيل بها.» ويستطرد فيرنر قائلًا: «كان استخدامنا لهذا النوع من الأسلاك محدودًا للغاية، إلا أن نيبل قدَّمَ هذه الأسلاك إلى ورشة لحام في مقابل الاستعانة بجهود عمَّال اللحام المَهَرة، وهو ما كنَّا في أشدِّ الحاجة إليه.»

توافرت القوى العاملة التي استعان بها على هذا النحو العفويِّ نفسه؛ فبعضهم كانوا أعضاءً في جمعية رحلات الفضاء، وكان من بين هؤلاء فون براون نفسه. بالإضافة إلى ذلك، وفَّرَ مطارُ الصواريخ عملًا للرجال المؤهَّلين الذين فقدوا وظائفهم أثناء فترة الكساد العظيم، ولم يكن في مقدور نيبل دفع رواتب لهم، لكنه استطاع أن يوفِّر لهم معسكرات إقامة دون إيجار في الأبنية التابعة له. وبالنسبة إلى الطعام، كان ثمة مصنع قريب تابع لشركة سيمنز يدير مطعمًا لتقديم الوجبات المجانية، وكان بعض هؤلاء الأشخاص يتلقَّوْن إعاناتِ بطالةٍ، وكانوا جميعًا سعداء بالفرصة التي أُتيحَت لهم لمزاولة العمل والحفاظ على مهاراتهم.

كتب أحد الزائرين لاحقًا يقول: «كان مطار الصواريخ يتألف من مجموعة صغيرة من الثكنات البسيطة للغاية، وكثيرٍ من الورش، وكان في مقدور المرء أن يستشفَّ بسهولةٍ التفاني الشديد الذي لدى رجال نيبل في العمل؛ كان معظمهم أشبه بضباطٍ يعيشون وفْقَ نظام صارم من الانضباط العسكري. كان هو وطاقمه يعيشون كالمتنسِّكين، ولم يكن أيٌّ من هؤلاء الرجال متزوجًا.»3 إنهم لم يكونوا مجرد هواة، بل هواة بلا عمل؛ ومع ذلك، باشَرُوا عملهم بسرعة مذهلة.
بحلول منتصف مايو من عام ١٩٣١، بعد أقل من ثمانية أشهر، كان طاقم نيبل قد أعَدَّ صاروخًا تجريبيًّا جاهزًا للإطلاق، وفي ذلك الوقت كانوا قد انتهوا من بناء وتعديل نوعَين من المحركات، وكان أكثرهما تطورًا يشتمل على قميص تبريدٍ مملوء بالماء. ووصَفَ المؤلِّف فيلي لاي لاحقًا كيف انطلق الصاروخ مُصْدِرًا «صوتًا عاليًا للغاية»:
ارتطم الصاروخ بسقف المبنى وانطلقَ مائلًا بزاوية ٧٠ درجة تقريبًا، وبعد ثانيتين أو نحو ذلك بدأ في الالتفاف في حركة أنشوطية، وقذف كل المياه خارج قميص التبريد، وهبط بسرعة بالغة بقوة المحرك. وبينما كان يهبط سريعًا تحطَّمَ جدارُ غرفة الاحتراق — التي لم تَعُدْ تُبرِّد — في أحد الأجزاء، ومع وجود المحركَين النفَّاثَيْن المسئولَين عن دوران الصاروخ، زادت سرعة الصاروخ بمعدلٍ جنوني تمامًا، ولكنه لم يتحطَّم حيث نفد الوقود في اللحظة التي عدَّل فيها اتجاهَه بعد عملية الانقضاض بقوة المحرك أثناء هبوطه قُرْبَ الأرض. وفي حقيقة الأمر، كاد الصاروخ يهبط هبوطًا كاملًا.4

كان هذا هو صاروخ «ريبولسر ١»؛ استقى لي الاسمَ من روايات الخيال العلمي للكاتِب كورد لاسفيتس. وكان صاروخ «ريبولسر ٢» جاهزًا للإطلاق بعده بأيام قليلة. ومثلما كتبَ لي لاحقًا: «انطلق الصاروخ إلى ارتفاع ٢٠٠ قدم تقريبًا، ثم مالَ جانبًا كما لو كان سيارةً تسير في منحنًى. وفي ذلك الوضع انطلق الصاروخ مندفعًا في أرجاء المكان كله، وكان لا يزال ينطلق بكامل طاقته.» وحلَّقَ الصاروخ إلى ارتفاع ٢٠٠٠ قدم تقريبًا قبل أن يصطدم بشجرة.

ومع صاروخ «ريبولسر ٣»، بدأ القائمون بالتجارب في استخدام المظلات؛ في المحاولة الأولى، فُتِحَت المظلة قبل أوانها وأدت إلى انحراف الصاروخ عن مساره قبل أن تتمزق. وبينما كان الصاروخ يصعد لأعلى كما لو كان قذيفةَ مدفع هاوتزر، اصطدم بنفس مجموعة الأشجار التي كان «ريبولسر ٢» قد سقَطَ عندها. لكن في شهر أغسطس من ذلك العام، وعلى حدِّ قول لي، بلغَ صاروخٌ أكثر تطورًا «ارتفاعَ كيلومتر واحد تقريبًا، وبدا مجرد نقطة صغيرة في السماء، وفجأةً رأينا مظلةً بيضاء صغيرة على خلفية السماء الزرقاء، واتجه «ريبولسر» برشاقة هابطًا إلى الأرض».

خلال الأشهر التي أعقبت ذلك أجرت هذه المجموعة مزيدًا من عمليات الإطلاق بصفة روتينية، حيث كانوا يُطلِقون الصواريخ كلَّ بضعة أيام. وفي الوقت نفسه، كان الكولونيل بيكر يوسِّع من نطاق أنشطته؛ إذ كان يميل إلى انتقاء المساعدين المُقرَّبين الذين كانوا يشاركونه نفس خلفيته الثقافية، التي كانت تجمع بين درجةٍ أكاديمية متقدِّمة وخبرةٍ بسلاح المدفعية في فترات الحروب. وكان نائبه فون هورستيج له خلفيته الخاصة، وكذلك كانت الحال مع فالتر دورنبِرجر الذي انضمَّ إلى بيكر عام ١٩٣٠. وفي ديسمبر من ذلك العام، حصل بيكر على تعهُّدٍ بتوفير تمويلٍ يسمح له بإجراء اختباراتٍ على الصواريخ في منطقةٍ لاختبار أسلحة المدفعية.

كان بيكر يَعِي تمامًا أوجهَ القصور التي تعاني منها الأسلحة المدفعية الحربية. كانت أضخم المدافع تستطيع إطلاق قذائف زنة طن واحد لمسافة ٢٥ ميلًا، بَيْدَ أن هذه المدافع كانت ثقيلة للغاية، وزنًا وارتدادًا، ولم يكن من الممكن حملها إلا على متن السفن الحربية؛ حتى الناقلاتُ البحرية العملاقة لم تكن تستطيع أن تفي بالغرض. وبَرًّا، كانت الحرب الأخيرة قد شهدت استخدام مدفع «بيج برثا» الذي يبلغ طوله ١٦٫٥ بوصة، لمدى تسعة أميال. ولكنْ، كلُّ سلاح من هذه الأسلحة كان يقتضي استخدام اثنتي عشرة عربة من عربات السكك الحديدية عند تفكيكها، ويستغرق كلٌّ منها في تجهيزه عشرين ساعة. وعلى الجانب الآخر، كان مدفع باريس الشهير في عام ١٩١٨ قد قصفَ العاصمة الفرنسية على مسافة ٨٠ ميلًا تقريبًا، ولم يكن وزن كل قذيفة يزيد عن ٢٣٠ رطلًا، وجزءٌ صغير فقط منها هو ما كان قابلًا للانفجار.

أعطت صواريخ الوقود السائل الأملَ في تجاوز أوجه القصور هذه. لم تكن هذه الأسلحة في حاجة إلى حوامل ثقيلة من الصُّلب، بل إلى منصة إطلاقٍ خفيفة ومتحركة؛ وإذا بُنِيت كطائرة، فقد تصبح ضخمة للغاية. وعلى الرغم من تسارُعها البطيء، فقد تبلغ هذه الأسلحة سرعاتٍ هائلة وتنطلق لمسافاتٍ بعيدة بالتوازي مع ذلك؛ وبناءً عليه، بعد انضمام دورنبِرجر إلى طاقم بيكر، وضعَ بيكر له هدفًا مستقبليًّا، وهو: «تطوير صاروخ وقود سائل يستطيع حمل قذائف أكثر من أي مدفع نمتلكه حاليًّا ضمن أسلحة المدفعية، عبر مسافة تزيد كثيرًا عن أقصى مدى يبلغه أي مدفع».

خلال عام ١٩٣٢، مع استمرار العمل في مطار الصواريخ، قرَّر بيكر إعادة النظر في أسلوب العمل داخل المطار، وظلَّ نيبل نفسه شخصًا غير مرغوب فيه؛ ليس فقط لأنه لم يكن يُجْرِي التجارب على النحو الذي يريده الجيش، بل أيضًا لأنه كان يميل على نحوٍ مزعجٍ للغاية إلى تقديم وعودٍ تفوق قدراته؛ وظلَّ توفير تمويل جديد أمرًا غير وارد على الإطلاق. ولكنْ، كان بيكر حينئذٍ متأهِّبًا لوضع برنامجه الخاص لتصميم صواريخِ وقودٍ سائل، وتنفيذه في منشآت الجيش. كان مساعِدو نيبل موجودين في برلين، وكان بيكر يرى أن في إمكانه الاستعانة بأفضلهم بسهولةٍ؛ فعلى الرغم من كل شيءٍ، كان في مقدور بيكر دَفْع رواتب في حين لم يكن نيبل يستطيع. بدأ بيكر في ضمِّ واحد من أنبغ الأفراد وأبرزهم إلى فريقه، وهو فيرنر فون براون.

كان فيرنر ابن البارون ماجنوس فون براون، وهو أرستقراطيٌّ بروسي له جذور عميقة؛ إذ كان أحد أفراد عائلة فون براون قد حارَبَ المغول في عام ١٢٤٥، وبعدها بسبعة قرون خدمَ البارون لدى القيصر كموظفٍ مدني رفيع المستوى، وبعد الحرب العالمية الأولى صار مصرفيًّا وأقام علاقاتٍ وثيقة مع المشير باول فون هيندنبورج، الذي قاد الجيوش أثناء الحرب وصار لاحقًا رئيس جمهورية فايمار. وخلال عام ١٩٣٢، أثناء الأشهر الأخيرة للجمهورية، خدم البارون كوزيرٍ للزراعة؛ وعلى الرغم من رجعيته الشديدة، فإنه لم يكن نازيًّا، وانتقلَتْ مواقفه إلى ابنه. كان فيرنر يعمل عن كثبٍ مع النازيين، لكنه كان يتفادى أن يصير واحدًا منهم.

كانت والدة فيرنر من هواة دراسة علم الفلك المتحمسين، وظهرَ لدى ابنها شغفٌ مبكر بهذا المجال. وكما قال لاحقًا: «تأكيدًا لولعي بعلم الفلك، لم أحصل على ساعة يد وبنطال طويل، مثل غيري من الصِّبية اللوثريين، وإنما حصلتُ على تليسكوب؛ إذ ظنَّتْ أمي أن التليسكوب هو أفضل هدية لي.» قاده علم الفلك إلى رحلات الفضاء، وهو ما أسر خياله سريعًا. اشترى نسخةً من كتاب أوبيرت، وصُدِم إذ وجده محتويًا على مجموعة هائلة من المعادلات الرياضية؛ فقد كان يكره الرياضيات، بل كان يفشل في اجتياز اختباراتها في المدرسة؛ لكنْ مثلما يتذكر لاحقًا: «قررتُ أنه إذا كان إلمامي بالرياضيات شرطًا كي أفهم رحلات الفضاء وعلم الصواريخ، فلا بدَّ إذن من دراسة الرياضيات.» وهذا ما فعله بالضبط، فقد أتقنَ تعلُّم الرياضيات حتى صار يساعد زملاءَه في فهم الرياضيات والفيزياء عندما التحقَ بالمدرسة الداخلية.

كان معظم شباب الأرستقراطيين ينظرون إلى الدراسة في الجامعة باعتبارها فرصةً لإقامة علاقاتٍ اجتماعية بينما يتلقَّوْن قدرًا يسيرًا من المعارف الكلاسيكية؛ وفي حياتهم المهنية اللاحقة، كان الموظفون المُعيَّنون هم مَنْ يؤدُّون العملَ فعليًّا. أما فون براون، فاختار دراسة الهندسة في جامعة برلين الفنية، وانضمَّ أيضًا إلى فريق نيبل، حيث شارَكَ بسعادة بالغة في عمليات إطلاق الصواريخ التي طوَّرها الفريق. وبعد عمليات الإطلاق الناجحة، كان يحتفل عادةً في أحد النوادي الليلية وسط المدينة، وعندما قابله دورنبِرجر في عام ١٩٣٢، كان مندهشًا من «حيوية هذا الطالب الشاب الطويل ذي الشعر الأشقر، ومن ذكائه في العمل، ومن معرفته النظرية المدهشة». وعلى عكس نيبل، برهَنَ فون براون على استعداده التام للتأقلم مع طبيعة الحياة العسكرية، وعندما منحه بيكر الفرصةَ، انضمَّ إلى برنامج الصواريخ في الجيش ككبير الاختصاصيين المدنيين، وكان عمره آنذاك عشرين عامًا.

واصَلَ بيكر سعيه في تأهيل فون براون سريعًا، وهو ما قاده لاحقًا خلال سنواتٍ قليلة إلى تقلُّد منصب المدير الفني في بينامونده؛ حيث تولَّى المسئولية الكاملة عن برنامج الصواريخ الطويلة المدى. وكانت السرِّيَّةُ مهمةً للغاية، وهو أمرٌ التزمَ به فون براون بينما كان يواصل دراساته الجامعية. ثم انتقلَ إلى جامعة برلين، متجاوزًا النصف الثاني من مقررات مرحلته الجامعية الأولى، وبدأ العمل على رسالة الدكتوراه؛ كان موضوع الرسالة يدور حول صواريخ الوقود السائل. وترأَّسَ أستاذه، إيريش شومان، مجموعةَ بيكر البحثية الرئيسية، وواصَلَ فون براون العملَ على الصواريخ التجريبية، وإن كان ذلك في المنطقة المُخصَّصة لإجراء الاختبارات في الجيش بدلًا من مطار الصواريخ.

يستغرق الأمر عادةً سنوات كي يحصل الطلاب على درجة الدكتوراه من جامعة ألمانية كبيرة، لكنَّ فون براون حصَل على درجته العلمية بعد ثمانية عشر شهرًا فقط، وكان موضوع الرسالة سرِّيًّا، حتى إنه لم يكن مسموحًا بالإعلان عن عنوانها، ومنَحَه أستاذه مرتبةَ الشرف الأولى. وكانت المسألةُ برُمَّتِها تتلخَّص في إجراء فون براون بحوثًا عسكرية من خلال العمل كطالبِ دراساتٍ عليا، لكنْ في حقيقة الأمر أثمرت الجهودُ المبذولة تصميمَ أول صواريخ تجريبية ناجحة للجيش.

في البداية، في عام ١٩٣٣، كان يوجد الصاروخ «أجرجات-١»، أو «إيه-١». ومثلما يصف فون براون لاحقًا: «استغرق بناء الصاروخ عامًا ونصف العام، واستغرق نصفَ عام آخَر لتفجيره.» أُدخِلت تعديلاتٌ كبرى على التصميم؛ ممَّا أدَّى إلى تطوير الصاروخ «إيه-٢». وعلى غرار سابقه، كان الصاروخ «إيه-٢» يعمل بمحركٍ من تصميم فون براون، تبلغ قوة دفعه ٦٥٠ رطلًا، وقد حلَّقَ صاروخان من طراز «إيه-٢» بنجاح في ديسمبر ١٩٣٤، حيث وصلا إلى ارتفاع ميلٍ.

بحلول ذلك الوقت كان النازيون على رأس السلطة، وكانوا على أتمِّ الاستعداد لرفض معاهدة فرساي برُمَّتِها، ولم تكن لمشروعية بحوث الصواريخ أية ميزة؛ إذ كان نموذج الصاروخ الفائق الذي تصوَّره بيكر وخطَّط له يعتمد على فوائده العسكرية. ومثلما كشفت الأحداث خلال وقتٍ قصير، بَدَتْ هذه الفوائد العسكرية هائلةً، ولا يمكن تقدير قيمتها إلا من خلال وجهة نظر رجل عسكري ألماني.

قبل قرنٍ مضى، قال نابليون إن بروسيا «خرجت من رحم قذيفة مدفعية». وكان الأمر ينطبق تمامًا على الدولة النازية؛ إذ كتبَ هتلر يقول: «سوف نتسلَّح مجددًا!» وسرعان ما سيَثبُت بعد ذلك أنه رجلٌ يَفِي بوعوده. تدفَّقَتْ أموال عمليات إعادة التسليح بوفرة هائلة، وهو ما شجَّع جنرالات الجيش على إعادة التفكير في رغباتهم المُؤجَّلة، وأيضًا على المساهمة في جهود البناء؛ وبينما كان الوطن يبدأ في إحكام قبضته الحديدية استعدادًا لمعركة أخرى، كان زملاء بيكر من خبراء المدفعية في مقدمة الصفوف.

كانت الحرب العالمية الأولى هي حرب مدفعيةٍ، وكان جنودُ سلاح المدفعية، الذين انتشروا في كل كتائب الجيش، يَعُون تمامًا أن التطورات في هذا المجال قد ساعَدَتْ بقوة في إنجاح الحرب. ودمَّرَتْ مدافعُ بيج برثا — وهي إحدى نتائج عمليات التطوير في فترة ما قبل الحرب — مجموعةً من الحصون البلجيكية القوية ممَّا أفسَحَ المجال أمام غزو فرنسا. وبحرًا، أكَّدَتِ السفن الحربية المُزوَّدة بالأسلحة الثقيلة على أهمية سلاح المدفعية من خلال البحرية الملكية في معركة يوتلاند، وهو ما اضطرَّ البريطانيين إلى الانسحاب وأظهر ضعفًا فادحًا في طرَّاداتهم الحربية، وهي فئة رئيسية من السفن الحربية. وربما كان صاروخ بيكر المقترح، الذي كان يتجاوز أوجهَ القصور في أسلحة المدفعية التقليدية، يبشِّر بمزيدٍ من الانتصارات الساحقة.

بالإضافة إلى ذلك، كان خبراء المدفعية يَعُون جميعًا الآثارَ الكارثية التي خلَّفَتْها سلسلةٌ من القذائف المدفعية الثقيلة، وكانت تلك الآثار تتجاوز تمزيقَ أجساد الجنود إلى أشلاءٍ وتشويهَ أجساد الناجين من عمليات القذف؛ إذ شملت أيضًا الإصابةَ بصدمة القصف؛ وكان هذا رُعبًا يتجاوز حدَّ الخوف، وهو ما كان ينشأ عن تجربة الرقود في خندقٍ تحت وابل مستمر من المواد الشديدة الانفجار، مع انعدام القدرة على الاختباء أو الهرب. فماذا عساه أن يحدث إذن، إذا تمكَّنَتْ صواريخ بيكر من حمل قذائف كهذه إلى باريس أو لندن؟

قذفت القوات الألمانية باريس بمدافعها التي تحمل أسماءها، واستخدمت طائرات زبلن الحربية لإسقاط القنابل على لندن. ولم تُحدِث تلك الهجمات إلا أثرًا طفيفًا، لكنْ مجرد مشاهدة مدفع بيج برثا زنة ٩٨ طنًّا، الذي كان يجرُّه ستة وثلاثون جوادًا، أصابَ مواطِنِي مدينةِ ليج في بلجيكا بحالة من الصدمة جعلتهم يصمتون في ذُعْر شديد، ذُعْر زاد كثيرًا عندما أدَّى إطلاقُ قذيفة واحدة من هذا المدفع إلى تحطُّم معظم النوافذ في المباني المجاورة. وبالمثل، ربما يقضي القذف الكثيف باستخدام صواريخ بيكر الطويلة المدى في حقيقة الأمر على إرادة باريس أو لندن في المقاوَمة.

يضاف إلى ذلك أيضًا إمكانية الحصول على هذه الأسلحة بسرعة وبتكلفة زهيدة. ولم يكن أحدٌ قد تصوَّرَ بعدُ التكلفةَ المرتفعة وطولَ فترة التطوير التي ستتَّسِم بها برامجُ تطوير الأسلحة المستقبلية بعد ذلك، لكنَّ الجميع كان على درايةٍ بالتقدم السريع والهائل في مجال الطيران الحديث. وربما يأتي صاروخ بيكر في صورة نوع جديد من الطائرات الحربية، يُصمَّم بطريقة مباشِرة ومعقولة، ثم يُنتَج بتكلفة غير باهظة وبأعدادٍ هائلة.

في مارس ١٩٣٦، بعد خمسة عشر شهرًا فقط من عمليات الإطلاق التجريبية الناجحة لصواريخ «إيه-٢»، كان دورنبِرجر وفون براون على استعدادٍ لتحقيق هدف بيكر المُعلَن من خلال مجموعة محددة من المتطلبات. وكانا يعملان في حقيقة الأمر على صاروخ «إيه-٣» التجريبي، مستخدِمَيْن محركًا بقوة دفع بلغت ٣٣٠٠ رطل، وكان الصاروخ التالي في السلسلة، «إيه-٤»، هو نموذج الصاروخ الفعلي. وكانا قد أدركا أن محرك الصاروخ سيحقِّق قوةَ دفعٍ تصل إلى ٢٥ طنًّا متريًّا؛ أيْ ما يعادل ٥٥ ألف رطل. اقترح دورنبِرجر — الذي كان يصف نفسه بأنه «خبيرٌ قديم في المدفعية الطويلة المدى» — أن يحمل صاروخ «إيه-٤» طنًّا من المواد الشديدة الانفجار إلى مسافة ١٦٠ ميلًا، وهو ما يضاهي حمولةَ مدفع بيج برثا وحمولةَ أثقل المدافع البحرية أثناء الحرب، مع إطلاق قذائف يتجاوز مداها مدى مدفع باريس. وبعد مرور ست سنواتٍ ونصف سنة، في ذلك اليوم الخريفي المشمس من عام ١٩٤٢، دفَعَ إطلاقُ هذا الصاروخ دورنبِرجر إلى ذروة السعادة؛ حيث انطلق الصاروخ في أولى رحلاته الناجحة.

في تلك الأثناء، كان سيرجي كوروليف في موسكو يواصل أبحاثه بدعمٍ من جيشه، وإنْ كان ذلك لتحقيق أهدافٍ لم تكن على هذا القدر نفسه من الطموح؛ فلم يكن كوروليف يتصوَّر إطلاق قذائف صاروخية مُوجَّهة نحو لندن، بل سار على نهج المارشال توكاشيفسكي وصار مهتمًّا بالطائرات التي تعمل باستخدام الصواريخ. وفي عام ١٩٣٤ ألَّفَ كوروليف كتابًا سمَّاه «رحلات الصواريخ في طبقة الستراتوسفير»، نشره الجيش الأحمر. كما واصَلَ كوروليف أبحاثه وتجاربه في معهد البحوث العلمية للدفع العكسي الذي كان مؤسَّسًا حديثًا وقتَها، والذي كان يسعى إلى جمع المهتمين بالصواريخ في موسكو وليننجراد.

لم تَسِر عمليةُ دمْجِ جمعيتَي المهتمين بالصواريخ على ما يرام. وكان مختبر ديناميكا الغازات قد أُنشِئ في مقاطعة ليننجراد العسكرية، التي كان يرأسها توكاشيفسكي. لكن، كانت مجموعة موسجيرد ترجع في جذورها إلى تصوُّرات توكاشيفسكي فيما يخص رحلات الفضاء، وكانت جماعة المهتمين بالصواريخ في ليننجراد، وهي جماعة متشدِّدة، ترى في مجموعة موسجيرد لفيفًا من الحَالِمين. ولم يساعد جماعةَ المهتمين بالصواريخ في موسكو كوْنُ مختبرِ ديناميكا الغازات الشريكَ الأساسي في عملية الدمج، والذي صار رئيسه السابق إيفان كليمنوف رئيسًا للكيان المُدمَج. شغل كوروليف، الذي كان نائبًا لكليمنوف في البداية، المنصبَ لبضعة أشهر فقط قبل التنازُل عنه لخبيرِ مدفعيةٍ آخَر في مجموعة مختبر ديناميكا الغازات، وهو جورجي لانجماك. وواصَلَ كوروليف عملَه ككبير المديرين الهندسيين، لكنه لم يتولَّ إدارةَ الأنشطة الكلية لجماعة معهد البحوث العلمية للدفع العكسي.

لكنْ، سرعان ما صار لدى كوروليف ما يثير قلقه أكثر من شئون السياسة الداخلية؛ فقد سيطرت حالةٌ من الجنون على الاتحاد السوفييتي، في صورة إرهابٍ ترعاه الدولة في مختلف أنحاء البلاد؛ وأدَّى ذلك إلى انحسار الاهتمام بكوروليف ومشروعه إلى ما لا يزيد عن حصاة مسحوقة تحت حذاءٍ ضخم جدًّا، وهو حذاء ستالين.

كانت جذور إرهاب ستالين تكمن في الدمار غير المسبوق الذي خلَّفته الحرب العالمية الأولى، وهو دمارٌ قضى تمامًا على الصور المعتادة للنظام الاجتماعي والسياسي في روسيا. ونهضت الدولة الشيوعية من بين رماد الحرب، واضعةً قوةً مطلقة في خدمة سلطة غاشمة. وبعد تولِّي ستالين مقاليدَ الحُكْم، استخدم هذه القوة في فرض نظام التأميم الزراعي؛ ولم تكن سياسته إلا حربًا لا هوادةَ فيها ضد شعبه، حربًا أودَتْ بحياة نحو عشرة ملايين شخص، وتطلَّبَ إنشاءُ المزارع الجماعية مُصادَرةً واسعةَ النطاق للأراضي ذات الملكية الخاصة، وفرْضَ العبودية على مائة مليون مزارع كانوا يظنون أنهم أحرار.

كان التغيير كاسحًا، وكانت سلطة الدولة تُمارَس على نطاق واسع للغاية؛ مما أدَّى إلى وجود معارَضة عنيفة تمثَّلت في قضاء المزارعين على ماشيتهم ومخزونهم من الأعلاف بدلًا من تسليمها إلى الدولة. قمَعَ ستالين هذه المعارضة بشراسة، في البداية من خلال استهداف طبقة المزارعين، ثم من خلال القضاء على أقسام كبرى من حزبه الشيوعي، كان قادتها قد تجرَّءوا على انتقاده في السنوات السابقة؛ وبعد ذلك، وجَّهَ ستالين هجومَه إلى الجيش الأحمر. كان يعرف جيدًا أن نظامه يرتكز على القوة فقط، حيث كان النظام يفتقر إلى سيادة القانون، وتغيب عنه أشكال الشرعية التقليدية مثل القبول الجماهيري والأعراف الراسخة. وكان ستالين يدرك أن السلطة المطلقة ستئول إلى كلِّ مَنْ يقود قواتٍ تستطيع الاستيلاء فعليًّا على الكرملين، وكان قادة الجيش هم أول مَنْ قد يحاول القيام بذلك. ربما يُقِرُّ الجنرالات بالولاء الأبدي، لكن ستالين لم يكن يعبأ بذلك؛ فمن وجهة نظره أن الجنرالات كانوا يواجهون إغراءً لا يُقاوم للاستيلاء على السلطة باسم المزارعين، ثم الظفر بولائهم من خلال القضاء على المزارع الجماعية وإعادة الأراضي التي صادرتها الدولة إلى أصحابها.

كان توكاشيفسكي أحد أكثر هؤلاء الجنرالات تأثيرًا، وكان ستالين يعدُّ العُدَّة بعنايةٍ للقضاء عليه، وكانت الاتهامات التي ستُوجَّه إليه هي تهمة الخيانة العظمى من خلال تعاونه مع النازيين، وكان في مقدور ستالين أن يجعل هذه الاتهامات تبدو مُقنِعةً من خلال الاعتماد على الاتصالات الموجودة بالفعل بين النازيين والمفوضية الشعبية للشئون الداخلية؛ شرطته السرِّيَّة. تعاوَنَ هتلر وكبار مسئوليه طواعيةً، مُدرِكين أن القضاء على توكاشيفسكي سيفضي إلى إضعاف الجيش الأحمر.

بناءً على ذلك، كلَّفَ المسئولون الألمان أحد المُزوِّرين بإعداد ملف خطاباتٍ يُفترَض أنه كان يجري تبادُلها بين توكاشيفسكي وعددٍ من أفراد فريق الأركان العامة التابع لهتلر، واستُنسِخ توقيع توكاشيفسكي من اتفاقيةٍ أُبرِمت عام ١٩٢٦ بين جيشَيِ البلدين، بينما استُنسِخت توقيعات الجنرالات الألمان من دفاتر شيكات. وفي مايو ١٩٣٧، وصلَ هذا الملف إلى مكتب ستالين، واتخذَ ستالين إجراءاتٍ سريعةً؛ إذ اعتقلت الشرطة السرِّيَّة عددًا من كبار القادة العسكريين وأعدمتهم، فضلًا عن توكاشيفسكي. كما أطلقت النار على أخوَيْه ثم على زوجته لاحقًا، واحتُجِزت أمه في أحد معسكرات التعذيب حيث قضت نحبها، وأُخِذت أيضًا الأخوات الأربع وزوجتان سابقتان إلى معسكر الجولاج، وسُمِح لابنته بالعيش طليقةً حتى بلغت ثمانية عشر عامًا، ثم أُخِذت هي أيضًا إلى أحد معسكرات الاعتقال.

واجَهَ توكاشيفسكي بذلك تهمةَ الخيانة العظمى، ونُظِر إلى العاملين تحت حمايته، وفيهم قادة معهد البحوث العلمية للدفع العكسي، باعتبارهم متواطئين معه ومشاركين له في جريمته؛ ومن ثمَّ، كان يجب إطلاق النار عليهم أيضًا. لاقى كليمنوف هذا المصير، مثلما لاقاه لانجماك نائبه، ولم يعبأ أحدٌ بأن لانجماك أمَرَ بتطوير سلاحٍ مهم، هو صاروخ المدفعية «كاتيوشا»، الذي صارَ ركيزة أساسية في الحرب التالية. وتعرَّضَ هؤلاء المسئولون للضرب والتعذيب، حيث أُجبِروا على إدانة زملائهم قبل أن ينالوا مصيرَ الإعدام.

حوَّلت الشرطة السرِّيَّة اهتمامها إلى قادة آخرين في معهد البحوث العلمية للدفع العكسي، حيث ألقت القبض على مصمِّم الصواريخ فالنتين جلشكو. كان جلشكو قد بنى أول محرك وقودٍ سائل ناجح في البلاد، ودافَعَ كوروليف عن صديقه الصَّدوق، لكنْ تحت ضغط تحقيقات الشرطة السرِّيَّة، أدان جلشكو كوروليفَ أيضًا. وفي يونيو ١٩٣٨، ألقَتِ الشرطة السرِّيَّة القبض على كوروليف ووضعته رهن الاعتقال.

ألقت الشرطة السرِّيَّة بكوروليف في سجن بوتيركي، وهو مبنًى باردٍ رطب مُشيَّد من الأحجار يعود إلى عصر سجن الباستيل. هناك، خضع كوروليف لشكلٍ من التحقيقات يُطلَق عليه «التحقيق المتناوب المستمر»؛ حيث كانت مجموعة من الضباط، يعمل كلٌّ منهم لمناوبة لا تزيد عن بضع ساعاتٍ، تستجوبه باستمرار على مدى أيام وليالٍ دون انقطاع. وبعد ثلاثة أشهر، مَثُلَ كوروليف أمام وكيل النيابة فاسيلي أولريك الذي كان قد أشرَفَ على محاكمات ستالين الصورية للقادة الشيوعيين، والذي كان قد أدان توكاشيفسكي وزملاءه الجنرالات في العام الماضي.

يصف المؤرِّخ روبرت كونكويست أولريك بأنه «رجلٌ سمين، له لُغدٌ أشبه بلُغدِ الكلب البوليسي الضخم، وعينان صغيرتان كعينَي الخنزير، وكان رأسه المحلوق ذا قمة مُدبَّبة، ورقبته تبرز فوق ياقة زيِّه. وكان صوته ناعمًا ومراوغًا.» نَظَر أولريك قضيةَ كوروليف في عشرين دقيقة، وأصدَرَ حكمًا بعشر سنوات من الأشغال الشاقة في مناجم كوليما، في أعماق سيبيريا.

من بين المجازر الجماعية التي وقعت في هذا القرن، تبرز كوليما باعتبارها واحدة من أسوأ ساحات القتل؛ إذ ماتَ ما يقرب من ثلاثة ملايين «زك» (سجين سياسي) تحت حكم ستالين، بعضهم مات بإطلاق النار عليهم، وكثيرون ماتوا من جَرَّاء الأمراض والتضوُّر جوعًا. وعلى الرغم ممَّا كان يعانيه السجناء من برودة قاسية خلال شتاءٍ ممتد لمعظم فترات العام، وكميات الناموس الهائلة التي كانت تحيط بهم في الصيف، فقد مُنِعوا من ارتداء ملابس تُدفِئهم وأحذية مناسبة، وكانوا يتلقَّوْن حصصًا شحيحة من الطعام؛ ومع ذلك، كانوا يُؤمَرون بتنفيذ كلِّ ما يُعهَد إليهم من أعمال، وهو ما كان يتطلَّب حصصًا أكبر من الطعام لم تكن تُوفَّر لهم. وعلى سبيل معاقبتهم على عدم إنجاز الأعمال المُوكَلة إليهم، كان الحرَّاس يقتطعون على نحوٍ سافِرٍ من حصص الطعام الشحيحة المُخصَّصة إليهم، وكان السجناء السياسيون يصابون بالضعف ويموتون، ولكن كان هناك دائمًا سجناء جُدد يحلُّون محلَّهم، ويلقَوْن المعامَلةَ نفسها.

صرَّحَ كوروليف لاحقًا: «لم تكن ثمة تحقيقات بالمعنى الصحيح للكلمة. اتُّهِمتُ بصورة فجَّة بأنني أجريتُ أبحاثًا لتطوير تكنولوجيا جديدة، ولم أكن أتصوَّر تهمةً أكثر عبثيةً وأبعد عن التصديق من تلك التهمة.» لكن الشرطة السرِّيَّة كانت ماهرة للغاية في إظهار معتقليها في أسوأ صورة ممكنة. وجَّه أحد المحققين كلامَه إلى كوروليف قائلًا: «لا تحتاج بلادنا إلى ألعابك النارية، أو لعلك تصنع الصواريخ في محاولةٍ لاغتيال قائدنا؟»

لم يذهب كوروليف إلى كوليما مباشَرةً، بل قضى الأشهر الثمانية التالية في سجن في نوفوتشركاسك، وهي مدينة في الجنوب. وفي تلك الأثناء، جاء مدير جديد للشرطة السرِّيَّة، حيث كان المدير السابق، نيوكلاي يزوف، قد مات رميًا بالرصاص أمام إحدى فِرَق إطلاق النيران التي كانت تعمل تحت قيادته. وأصدرَ خليفة يزوف؛ لافرنتي بريا، أوامر جديدة، وكان من نتائج ذلك أن أصدَرَ أولريك تعليماتٍ إلى جهاز الشرطة السرِّيَّة بإعادة كوروليف إلى موسكو، لكن كوروليف كان بعيدًا في ذلك الوقت، حيث كان قد بدأ رحلته قبل أسبوعين إلى كوليما.

اجتازَ كوروليف البلاد بالقطار، في عربةِ ماشيةٍ قَذِرة ومزدحمة، وكان من المنتظر بعد ذلك أن يمضي في رحلةٍ عبر بحر أوكوتسك في مخزن سفينة تُقِلُّ سجناء، وكانت الروائح الكريهة تفوح من السجناء السياسيين؛ إذ لم تكن ثمة حمَّامات أو مراحيض. وفي أغسطس ١٩٣٩، بلغ كوروليف وجهته المقصودة، وهي معسكر مالدياك للتعدين، في أقصى أعماق البلاد، ولم يَمْضِ وقتٌ طويل حتى تدهورت صحته ودخل في مرحلة احتضار بطيء؛ فقد أُصِيبَ بمرض الإسقربوط، الذي أصابه بنزيفٍ في اللثة وأفقده الكثير من أسنانه، وكان فكه قد انكسر خلال عملية تعذيبٍ سابقة، وها هو يصاب بجروح في رأسه على إثر لكمة يسدِّدها إليه أحدُ الحرَّاس؛ وكان ذلك في شهر نوفمبر، ولا تزال أيام الشتاء القادمة تُنذِر بمزيدٍ من الطقس السيئ.

في تلك الأثناء، وصل أمرٌ جديد من الشرطة السرِّيَّة إلى معسكر مالدياك، ليعود كوروليف أدراجه عبر الطريق الطويل الذي كان قد قطعه من موسكو، وكانت الخطوة الأولى في طريق العودة تتمثَّل في عبور بحر أوكوتسك، وأُدرِج كوروليف بالفعل في قائمة سفر على متن سفينة «إنديجيركا»، وهي سفينة تابعة للشرطة السرِّيَّة. ووسط الطقس العاصِف، خرجت السفينة عن مسارها واصطدمت بالصخور قرب اليابان، ورفضَ قائد السفينة فتح أبواب السجن بالسفينة؛ ممَّا تسبَّبَ عَمْدًا في أن لقي أكثر من ألف سجين سياسي حتفهم غرقًا، ولم يكن كوروليف من بين هؤلاء؛ إذ لم يتمكَّن من بلوغ ميناء ماجادن في الوقت الملائم لركوب السفينة.

قضى كوروليف فترةَ الشتاء في ماجادن، حيث كان يُصلح الأحذية ويقوم بأعمال أخرى صغيرة. وحملته سفينة أخرى إلى فلاديفوستوك، آخِر محطة على المحيط الهادئ في خط السكة الحديدية العابر لسيبيريا. وفي كاباروفسك، في الشرق الأقصى، تلقَّى كوروليف الرعاية الطبية وبدأ يستعيد قدرًا من صحته، ثم أعادته الشرطة السرِّيَّة إلى سجن بوتيركي الشديد الازدحام في موسكو، حيث صدرَ ضده حكمٌ آخَر في منتصف عام ١٩٤٠ بقضاء ثمانية أعوام أخرى؛ ولكنْ لم يَعُدْ كوروليف إلى كوليما، بل استفاد من قرار آخَر من قرارات بريا.

يشير المؤرِّخ ألكسندر جرشتين قائلًا: «كان الجولاج — نظام معسكرات الاعتقال — مصدرًا رئيسيًّا لعمالة السُّخرة. لم يقرِّر بريا توفير عبيدٍ لأداء الأعمال البدنية فحسب، بل استحضر أيضًا عبيدًا لأداء الأعمال الفكرية.» شكَّلَ بريا مجموعةً من الفِرَق ذات مهاراتٍ فائقة في مجال تصميم الطائرات للعمل خلف الأسلاك الشائكة، مستعينًا بالسجناء السياسيين في المناصب الرئيسية، وكان أفراد هذه الفِرَق يعملون في مكاتب هندسية تقليدية، حيث ينفِّذون المهام المعتادة في تخصُّصاتهم، لكنهم لم يكونوا يعودون في المساء إلى عائلاتهم، بل كانوا يقضون الليل في الثكنات؛ حيث يرافقهم حرَّاسٌ طوالَ الوقت. وكان يُطلَق على هذه المعاهد اسم «شاراجاس»، وهي كلمة مشتقة من لفظة عامية تعني «خدعة» أو «لعبة خداع» أو «مجموعة من الأشخاص المعدومي الفائدة». وداخل تلك المعاهد، كان بريا يتوقَّع أن يصمِّم السجناء طائرةً جديدة تستطيع أن تحقِّق انتصارًا حربيًّا مُؤكَّدًا، وكان خيار الترحيل إلى كوليما مطروحًا دائمًا في حال ما لم يتمكَّنوا من إنجاز مهمتهم.

كان من بين السجناء وقتَها مُعلِّم كوروليف القديم، أندريه تبوليف، الذي كان قد أشرَفَ على نموذج الطائرة الذي صمَّمَه كوروليف بينما كان في معهد بومان الفني العالي. وكان تبوليف قد خالَفَ أوامر ستالين خلال الحرب الأهلية الإسبانية، عندما حقَّقَ المقاتلون الألمان تفوقًا ساحقًا على نظرائهم السوفييت. وكان تبوليف قد صمَّمَ قاذفات، وليس مقاتلاتٍ، لكن ذلك لم يُحدِث فارقًا؛ إذ زَجَّ ستالين بكبار مصمِّمي الطائرات الذين عملوا تحت إشرافه في غياهب السجن على نحو عشوائي. أصدرَ بريا تعليماته إلى تبوليف بتشكيل فريقِ تصميمٍ تابِعٍ للشرطة السرِّيَّة، سمَّاه تبولفسكايا شاراجا، وتذكَّر تبوليف تلميذه القديم كوروليف، الذي سرعان ما انضمَّ إليهم. كما انضمَّ إلى الفريق أحدُ زملائه المهندسين، ويُدعَى ليوند كربر، وكتبَ لاحقًا عن ذلك يقول:

«اصطُحِبنا إلى غرفة الطعام، والتفتت الرءوس تجاهَنا، وعَلَتْ موجةٌ من الهتافات المفاجئة، وأسرَعَ الناسُ نحونا. كانت ثمة وجوه كثيرة مألوفة وصديقة، وكنَّا نرى على الموائد تبوليف وبتلياكوف ومياسشتشيف وكوروليف وكثيرين غيرهم من صفوة مبتكري تكنولوجيا الطائرات الروسية. ولم يكن مرجَّحًا أن يكون قد أُلقِي القبض عليهم جميعًا؛ فهم جميعًا سجناء، وهو ما كان يمثِّل كارثةً في حق الطيران السوفييتي!»5

في حقيقة الأمر، لم يكن الأمر كذلك؛ ربما كان بريا شخصًا شريرًا لا يعرف الرحمة، لكنه لم يكن أحمق وكان يعلم كيف يوفِّر لهؤلاء السجناء ما يتيح لهم إنجاز مهمتهم. ومع ذلك، يتذكر كربر لاحقًا كوروليف ويصفه بأنه «شخصٌ سوداوي ومتشائم، يتسم بنظرة شديدة القتامة عن المستقبل». لم يُخْفِ كوروليف ازدراءَه للنظام، وكان من المتوقَّع أن يُقتَل رمْيًا بالرصاص، وكثيرًا ما كان يتمتم قائلًا: «سنختفي جميعًا بلا أثر. سوف يُبِيدوننا تمامًا عن وجه الأرض دون أن تذكرنا الصُّحف حتى في خبرٍ على إحدى صفحاتها.»

وجدَ كوروليف في عمله مُتنفَّسًا وسلوى له. يتذكَّر أحد زملائه في السجن لحظةَ سماعه هو وكوروليف لمعزوفة كونشرتو الكمان في الإذاعة، حيث شعَرَ كلاهما بحنين شديد إلى الوطن: «ذُرِفت الدموع على وجنتيَّ، ونظرتُ حولي لأرى كوروليف يقف بجواري وعيناه مغرورقتان بالدموع؛ فأجهشتُ في البكاء بمرارةٍ شديدة، وعاد هو إلى المكتب، وعندما عدتُ كان يجلس إلى مكتبه منهمكًا في العمل الذي يؤديه.»

أثناء العمل في مكاتب تبوليف في موسكو، استعادَ فريقُ السجناء السياسيين العامِلُ تحت إشرافه سُمعةَ قائدهم الطيبة، من خلال نجاحه في تصميم قاذفة ذات محرك مزدوج، وهي قاذفة «تي يو-٢». ومع اندلاع الغزو الألماني النازي في يونيو ١٩٤١، سادت حالة من الانصراف العام عن الأنشطة البحثية في مجال الطيران. ذهب تبوليف وفريق شاراجا التابع له إلى أومسك شرقًا، وأسفرت جهودهم المُضنية عن بناء مصنع لإنتاج قاذفات «تي يو-٢». وفي بعض الأوقات، كان كوروليف ينجح في الحصول على زجاجة مسروقة من زيت الفرامل المُستخدَم في الطائرة، الذي كان يحتوي على الكحول، وكان زيتًا مطلوبًا للغاية. كان مذاق هذا الزيت مريعًا، لكنه كان الشرابَ الكحولي الوحيد المتوفر، واستخدَمَه كوروليف في بعض الأحيان لرشوة أحد الحرَّاس، حيث نجح في الترتيب لقضاء ليلةٍ مع إحدى النساء.

في تلك الأثناء، كان فالنتين جلشكو قد أنهى أيضًا فترةَ عقوبته بالسجن، وأصبح يدير فريق شاراجا الخاص به في كازان، حيث كان يبني صواريخ الوقود السائل. وكانت هذه الصواريخ عبارة عن وحداتٍ صغيرة، تهدف إلى المساعدة في إقلاع القاذفات ذات الحمولات الثقيلة، وكان كوروليف يعرف جيدًا أن جلشكو هو أحد زملائه السابقين الذين خانوا ثقته؛ إذ كتَبَ في خطابٍ بعثه من السجن: «شُوِّهت سُمْعتي بشدة من قِبَل مدير المعهد كليمنوف، ونائبه لانجماك، والمهندس جلشكو.» لكن، كان كوروليف قد تخطَّى مرحلة أخذ مسألة الخيانة على مَحْمَل شخصي، وعندما علم كوروليف بعمل جلشكو، طلَبَ من الشرطة السرِّيَّة أن تنقله إلى مجموعته؛ ونُقِل بالفعل في خريف عام ١٩٤٢. وعلى الرغم من أنه كان لا يزال سجينًا، فقد قضى ما تبقَّى من فترة الحرب منخرطًا في هذه المهمة الجديدة.

كانت النجاحات القيَّمة التي أسفرت عنها مساهمات كوروليف كافيةً لأن ينال حريته، في منتصف عام ١٩٤٤، عندما أنهت الشرطة السرِّيَّة فترةَ عقوبته في السجن؛ لكنه واصَلَ على الرغم من ذلك العملَ مع جلشكو؛ لأن هذه كانت مهمته وقتَ الحرب. وكان قد ترك زوجة وابنة في موسكو، لكنه لم يرهما مجددًا إلا في أغسطس ١٩٤٥، بعد أربع سنواتٍ من تركه لهما وذهابه إلى أومسك، وبعد سبع سنواتٍ من إلقاء القبض عليه.

في ذلك الوقت، كان عالم تطبيقات الصواريخ مهتمًّا للغاية بإنجازات ألمانيا خلال الحرب في السنوات العشر الماضية. في البداية، كانت مصالح طيران ألمانيا النازية (سلاح لوفتفافا) والجيش الأحمر قد التقَتْ في اهتمامِ كلَيْهما بالصواريخ من خلال بحثِ خطةٍ لبناء طائرة اعتراضية صاروخية. ولم يكن الرادار قد اختُرِع بعدُ، وكان المسئولون في سلاح لوفتفافا يخشون أن يرصدهم العدو دون دراية منهم، فيضربهم من خلال قاذفاتٍ تحلِّق على ارتفاعاتٍ شاهقة. كانت الطائرات الحربية التقليدية تحتاج إلى وقتٍ طويل للغاية للتحليق على هذه الارتفاعات، بينما كانت الطائرات الصاروخية تصل إلى تلك الارتفاعات بسرعة بالغة، وتشتبك مع القاذفات في غضون فترة قصيرة من إصدار الأوامر إليها بذلك.

مع انتشار مفاهيم الصواريخ وظهور بوادر جهودٍ على المستوى القومي، كانت القوات المُسلَّحة في حاجةٍ إلى منشأة كبرى جديدة تتولَّى إجراء عمليات التطوير والاختبار، ولم تكن أراضي الجيش القديمة المُخصَّصة لإجراء الاختبارات كبيرةً بما يكفي. بالإضافة إلى ذلك، ومثلما أشار فون براون لاحقًا، فقد أفقدَتْه الاختباراتُ التي كانت تجريها قواتٌ قريبة على بنادق آلية جديدة التركيزَ في إحدى عملياته الحسابية؛ لذا، شرع فون براون في البحث شخصيًّا عن موقع مناسب، موقع يوفِّر غطاءً من السرِّيَّة الكاملة، بالإضافة إلى مدى إطلاق مفتوح؛ وبَدَا أن ساحل بحر البلطيق يقدِّم الخيارَ الأمثل لذلك الموقع.

عثرَ فون براون على موقع جيد في جزيرة روجن، لكن حركة «القوة من خلال السعادة» النازية كانت قد اتخذت بالفعل من هذا الموقع وجهةً لقضاء العطلات. ثم حلَّ كريسماس عام ١٩٣٥، الذي قضاه في المنزل مع عائلته؛ قالت أمه: «فيرنر، ذكَر والدُك، في حديثه إلينا عن الأماكن البعيدة النائية، أنه كان معتادًا على صيد البط في أوزدم، قُرْبَ بينامونده …» وكانت هذه البقعة النائية المتمثلة في جزيرة أوزدم، المُتاخِمة لساحل شمال شتاتين، مثاليةً. وسرعان ما تبرَّع سلاح لوفتفافا وفيرماخت، الجيش الجديد القوي، بمبلغ قدره أحد عشر مليون مارك ألماني لتمويل المرحلة الأولى من إقامة مركز صواريخ بينامونده.

تطوَّرَ المركز ليصير مكانًا رائعًا لا نظيرَ له في أي مكان في العالم. وكانت منصة الاختبار ١، التي كانت عبارة عن منشأة ضخمة يزيد ارتفاعها عن الأشجار القريبة، مزوَّدة بمحركاتٍ صاروخية تزيد قوة دفعها عن ٢٠٠ ألف رطل؛ بينما كانت منصة الاختبار ٧، التي كان ارتفاعها مائة قدم، تستطيع حمل صاروخ «إيه-٤» كامل في وضع إشعال استاتيكي لمحركه، ثم تعود إلى الوضع السابق استعدادًا للانطلاق. سعت هيئة القياسات، وهي مركز متخصِّص في استخدام الأدوات المتطورة، إلى وضع نُظُمِ توجيه تعمل بأسلوب التحكم الآلي. وكان ثمة مصنع لإنتاج الأكسجين السائل، ونفق هوائي بسرعاتٍ تفوق سرعة الصوت، وموقع رادار، ومنصة لإطلاق الصواريخ البحرية غير المأهولة، فضلًا عن منشآت إنتاج لتصنيع صواريخ «إيه-٤»، يعادل طول كلٍّ منها ارتفاع مبنًى من أربعة طوابق، من خلال خط تجميع. بالإضافة إلى وجود معسكر لأسرى الحرب، الذين كانوا يخدمون كعمَّال في المركز.

كانت بينامونده في حاجة إلى هذه المختبرات البحثية؛ إذ كان المهندسون والعلماء العاملون في المركز، أثناء مباشَرةِ عملهم في تصميم صاروخ «إيه-٤»، يقدِّمون ابتكاراتٍ غير مسبوقة في عدة مجالات. وقد استحوَذَ محركه الصاروخي على الاهتمام مبكرًا؛ فقد كانت قدرة المحرك تتجاوز ٨٠٠ ألف حصان، وكان يتعيَّن تبريده مثل أي محرك، وكانت خزانات التبريد المملوءة بالمياه ثقيلةً للغاية، لكنْ كان لدى والتر ثيل، الذي كان مسئولًا عن تطوير الصواريخ، أسلوب مختلف، أَلَا وهو التبريد الاسترجاعي. كان هذا النوع من التبريد يقتضي تدفُّق الوقود، مُمثَّلًا في الكحول، عبر أنابيب رفيعة تحيط بغرفة الدفع والفوهة من الخارج، ثم يمتص الوقودُ الحرارةَ، وعندما ترتفع درجة حرارته بشدة، يحترق بقوة مولِّدًا مزيدًا من الطاقة.

على الرغم من ذلك، أظهرت تجارب ثيل أن هذا الأسلوب وحده لم يكن كافيًا؛ فالمحركات التي يجري تبريدها بأسلوب التبريد الاسترجاعي كانت تحترق في المواضع الساخنة من المحرك، وتصدر عنها انفجاراتٌ هائلة، وكان الحل هو عمل ثقوبٍ صغيرة قُرْبَ نهاية الفوهة، في أضيق مواضع المحرك وأكثرها سخونةً. ويعمل الكحول، المُتسرِّب عبر هذه الثقوب، كطبقةِ تبريدٍ عازلة وواقية فوق لوح الفوهة المعدني؛ ويُعرَف هذا الأسلوب في التبريد باسم التبريد الغشائي. وبالفعل نجح هذا الأسلوب وساعَدَ في بناء محرك يمكن التعويل عليه.

بالإضافة إلى ذلك، ظهرت مشكلة أخرى وهي كيفية تزويد هذا المحرك بوقودٍ دفعي بمعدل السرعة المطلوبة، وهو ٢٧٥ رطلًا في الثانية. حقَّقت الخزانات المُكيَّفة الضغط نجاحًا في الصواريخ الصغيرة، لكن في الخزانات الكبيرة لصواريخ «إيه-٤»، اقتضى الأمر تصنيع خزاناتٍ ثقيلة للغاية حتى تستطيع مقاوَمةَ الضغط الناتِج. وكان من بين البدائل المطروحة استخدام مضخة توربينية، وهي عبارة عن مضخة تعمل بتوربين بخاري خفيف الوزن؛ الأمر الذي بَدَتْ متطلباتُ تحقيقه مُخيِّبةً للآمال.

زار فون براون أحدَ مصانع المضخات وقدَّم مواصفاته المطلوبة، وكان المطلوب هو تصنيع مضخة توربينية تعمل بضغطٍ عالٍ مقداره ٣٠٠ رطل لكل بوصة مربعة، بينما تضخ كمية ٥٠ جالونًا في الثانية لأعلى. ولكن الأمر اقتضى تركيبًا خاصًّا حتى تحقِّق المضخة درجةً عالية من الموثوقية؛ فلا بد أن تصل المضخة إلى كامل سرعتها في غضون ثوانٍ معدودة، ثم تحافظ على ضغط التصريف ومعدل التدفُّق المتوفرَين بها دون أي تغيير تقريبًا. وبالإضافة إلى ذلك، كان يُشترَط أن تكون خفيفةَ الوزن للغاية.

توقَّع فون براون أن يعترض المصمِّمون في المصنع ويزعمون أنه يطلب المستحيل، لكنهم أخبروه أنَّ ما كان يطلبه لم يكن سوى المضخة التي يستخدمها رجال المطافئ؛ إذ كانت المواصفات المطلوبة واحدةً في الحالتيْن: تصميمٌ بسيط، سرعةٌ في الأداء، معدل تدفُّق مرتفع جدًّا، ضغط تصريف ثابت يسمح لرجل المطافئ بحمل خرطوم المياه في ثباتٍ. وكانت المضخات المتوافرة تقدِّم الأساس لما كان يريده فون براون.

كان التوربين البخاري الذي سيحرِّك المضخة يمثل مشكلة أخرى؛ فلم يكن من الصعب تطوير التوربينات نفسها، بل كانت المشكلة تكمن في توليد التدفُّق القوي من البخار الساخن ذي الضغط المرتفع لتشغيل المضخة؛ وتمثَّلَ حل هذه المشكلة في بروكسيد أكسيد الهيدروجين. وبتوخي الحذر اللازم، أمكنَ تخزين محلولٍ نقيٍّ تمامًا بأمان، محلولٍ من شأنه أن يعمل في الحال عند تحلُّله على توليد تدفُّق البخار بالمعدل المطلوب، وسيكون مولِّد البخار بدوره أخفَّ كثيرًا وأكثر انضغاطًا وأكثر قوةً وأسرع أداءً من أية غلاية. وهكذا، توفَّرَ حلٌّ فني لهذه المشكلة، ولم يكن حلًّا عمليًّا فحسب، وإنما كان أيضًا حلًّا رائعًا.

كانت مسألتا التوجيه والتحكُّم تمثِّلان صعوباتٍ أكبر؛ فالحفاظ على استقامة الصاروخ أثناء توازُنه مع تدافُع العادم النفَّاث منه، بعد عملية الإقلاع مباشَرةً، يشبه الحفاظ على مكنسة في وضع قائم أثناء توازنها على ظهر اليد. يجب الانتباه جيدًا إلى أيِّ مَيلٍ في بدايته أو حال الشعور به، ثم التدخُّل بحركةٍ معينة لتصحيح هذا الميل. في مجال علم الصواريخ، تعمل البوصلات الجيرسكوبية كأجهزة استشعارٍ وترسل إشاراتٍ إلى جهاز التحكم يتغيَّر على أساسها مسارُ عادِمِ الصاروخ؛ ممَّا يوفِّر قوةً تصحيحيةً. لكنْ، يجب أن يُلتفَت في عملية توجيه الصواريخ إلى التعامل مع هبَّات الرياح؛ إذ يجب إمالة الصاروخ في عمليات التحليق البعيد المدى، والمحافظة على ثبات الصاروخ بينما يقوم بذلك؛ كما يجب مواءَمة الوزن المتغيِّر للصاروخ مع احتراق الوقود الدفعي الخاص به، وتغيُّر موضع مركز ثقل الصاروخ، فضلًا عن الخواص الديناميكية الهوائية التي تتغيَّر مع تجاوُز الصاروخ سرعةَ الصوت.

قدَّمَتْ نُظُم الطيران الآلي التي استُخدِمت في ثلاثينيات القرن العشرين نقطةَ بدايةٍ جيدة. لكنْ، لم يكن أحدٌ قد بنى نُظُمَ توجيهٍ كهذه من قبلُ، واستغرقَ الأمر عدة سنوات لإقامة مزيج من المختبرات الموجودة داخل المؤسسات وفي شركات صناعة الصواريخ والجامعات، يكون في إمكانه معالجة مسألة التوجيه هذه. فشلت المحاولة الأولى لتوجيه الصواريخ التي من طراز «إيه-٣» فشلًا ذريعًا، ولم تستطع عملية التوجيه حتى التعامُل مع الرياح القوية. وأظهرت الأبحاث اللاحقة أن المشكلات فاقَتْ في صعوبتها كلَّ التوقُّعات، وهو ما استجابَ فون براون له بإنشاء مختبر التوجيه الخاص به. وعلى الرغم من المعادلات الرياضية التي كان حلُّها يساعد في تصميم نظام التوجيه، فإنها كانت معادلاتٍ صعبةً للغاية في تطبيقها. وحدث تطوُّر مهم عندما صمَّم أحد العلماء العاملين في مختبر فون براون نموذجًا مبكرًا لجهاز كمبيوتر تناظُري إلكتروني يستطيع حلَّ المعادلات الرياضية؛ وتبيَّنَ أن تطوير نظامِ توجيهٍ أمرٌ صعب للغاية، حتى إنَّ فون براون صمَّمَ نوعًا جديدًا تمامًا من الصواريخ، هو «إيه-٥»، لاختبار النُّظُم التجريبية. وحتى عندما دخلت صواريخ «إيه-٤» مرحلةَ اختبارات التحليق، كان الاعتماد ينصَبُّ في البداية على نُظُم التوجيه المؤقتة التي كانت في حاجةٍ إلى مزيدٍ من التطوير.

وصل أول صاروخ تجريبي إلى منصة الإطلاق في يونيو ١٩٤٢ لكنه سقط، ثم تلاه صاروخٌ تجريبي ثانٍ ولاقى المصيرَ نفسه. أما محاولة الإطلاق الثالثة، فكانت هي المحاولة الناجحة؛ فقد ارتفع الصاروخ في سماء أكتوبر الزرقاء وبلغ ارتفاع ١١٨ ميلًا، وهو ما كان يقترب على نحو مشجِّع من الارتفاع الذي كان دورنبِرجر يهدف إلى بلوغه، وهو ١٦٠ ميلًا. ولكنْ لم يتذكَّر الناس هذه المحاولة إلا لفترةٍ وجيزة. وأُجرِيت خلال الأشهر الستة التالية إحدى عشرة عملية إطلاق أخرى، لكن لم تكن أيٌّ منها مطابِقةً في أدائها لمحاولة إطلاق الصاروخ التجريبي الثالثة. ولم يبدأ صاروخ «إيه-٤» في التحليق بثباتٍ وبلوغ المدى الكامل للتحليق حتى ربيع ١٩٤٣.

في ذلك الوقت، كان الوضع العسكري الألماني يزداد سوءًا، وكان من بين نقاط التحوُّل الرئيسية التي حدثت في وقتٍ مبكر من ذلك العام الهزيمةُ التي تكبَّدَها الجيش الألماني في معركة ستالينجراد، التي قضت على أي أمل في تحقيق النصر على الجبهة الشرقية؛ فجَوًّا، كانت قاذفات قوات الحلفاء تقذف أهدافها بقوة متزايدة، وكانت مدينة الرور الصناعية هدفًا خاصًّا. وصرَّح هيرمان جورنج، قائد سلاح لوفتفافا، مفاخِرًا في عام ١٩٣٩: «لن تتعرَّض الرور لقذيفة واحدة.» ولكن القوات الجوية الملكية شنَّتْ عليها ستًّا وعشرين غارةً مكثَّفة خلال ربيع ١٩٤٣. بالإضافة إلى ذلك، في إنجازٍ رائع، أحدثت قوةُ القاذفات المُجهَّزة تجهيزًا خاصًّا صدْعًا في سَدَّين من أكبر السدود في البلاد، وهما سدَّا مونه وإدر، وهو ما أسفر عن تدفُّق ثُلث كمية المياه في الخزانَيْن، التي تُقدَّر بمليار طن، بسرعة تدفُّق هائلة عبر مدينة الرور. وسرعان ما تفاقمت الأمور وازدادت سوءًا؛ ففي شهر يوليو، دارت معركة الدبابات الكبرى في كورسك، وهي المعركة التي بادر فيها السوفييت بالهجوم وواصَلُوا عملياته. وفي وقتٍ لاحق من ذلك الشهر، أدَّتْ مجموعة من الغارات الجوية البريطانية المُكثَّفة على مدينة هامبورج إلى إضرام النيران في كل مكانٍ؛ ممَّا أدَّى إلى احتراق المدينة عن بكرة أبيها. وكانت هامبورج هي المدينة الأولى التي تحترق على هذا النحو، لكنها لم تكن الأخيرة.

ظلَّ هتلر على مدار سنواتٍ يموِّل عددًا من مشروعات التطوير المُكلِّفة، ومنها مشروعات تصنيع الأسلحة المتطورة، وكانت أربعةُ مشروعاتٍ منها قد بلغت مراحل متقدِّمة وأصبحت جاهزةً لدخول طور الإنتاج؛ أَلَا وهي: الطائرة النفاثة طراز «مسرشميت مِي ٢٦٢»، وطائرة صاروخية اعتراضية طراز «مِي ١٦٣»، وصاروخ باليستي طراز «إيه-٤»، وصاروخ «كروز» نفَّاث طراز «فيزلر فِي-١٠٣». وقدَّمَتْ هذه الأسلحة الفائقة، التي أُطلِق عليها «أسلحة ووندر»، احتمالاتٍ مُغْرِيةً حقًّا. وكان التصوُّر الموضوع وقتَها أنه إذا استطاعت ألمانيا بناء هذه الأسلحة بكمياتٍ كافية، فربما تتمكَّن الطائرات الألمانية من صدِّ الهجمات الجوية المتزايدة التي تشنُّها قواتُ الحلفاء، وربما توفِّر الصواريخ سلاحًا ألمانيًّا جديدًا، يُستخدَم في قصف لندن بقوة هائلة، ويُعِيد للألمان الموقف الهجومي. لاقى طراز «إيه-٤» استحسانًا خاصًّا؛ إذ كان في مقدوره الطيران بسرعة تزيد خمس مراتٍ عن سرعة الصوت، ولم يكن ثمة أي نظام دفاعي قائم بإمكانه صدُّه.

مع ذلك، عندما جرت الموافقة على إنتاج الصاروخ «إيه-٤» واستخدامه على نطاق واسع، لم يكن السبب في ذلك أن الصاروخ أثبت كفاءةً في الأداء، بل لأن هتلر ومعاونيه كانت لديهم رغبة متزايدة لتجربة أي شيءٍ. وصف دورنبِرجر موقف هتلر ابتداءً من شهر يوليو ذلك، عندما التقى هو وفون براون مع الفوهرر لشرح الوضع الحالي للصاروخ «إيه-٤». وخلال ذلك الاجتماع، تجاوَزَ هتلر مرحلةَ الأمل إلى عالَم اللامعقول.

قال هتلر، متجاهِلًا مَنْ كان السبب الأول في الحرب: «لو كانت هذه الصواريخ قد توافرت لدينا في ١٩٣٩، لَمَا خضنا هذه الحرب. من الآن فصاعدًا، ستصبح أوروبا — بل العالم أجمع — أصغرَ كثيرًا من أن يحتوي حربًا واحدة، ولن تستطيع الإنسانية تحمُّل ويلات هذه الأسلحة وآثارها.» دعا هتلر إلى إقامة غرفٍ محصَّنة لتكون بمنزلة مواقع إطلاق وأضاف قائلًا: «ستجتذب هذه الملاذات طيارِي العدو كانجذاب الذباب نحو آنية العسل، وكلُّ قنبلة تُسقَط عليهم سيكون مفادها سقوط قنبلة واحدة على الأقل على ألمانيا.»

بعد الإقرار بقدرة الصاروخ «إيه-٤» على حمل حمولة حربية زنة طن، سأل هتلر ضيوفه عن إمكانية زيادة هذه الكمية إلى عشرة أطنان؛ فأجاب دورنبِرجر أن حمولة عشرة أطنان من الرءوس الحربية سوف تقتضي تصميم صاروخ أكبر بكثير، وهو ما قد يستغرق سنواتٍ في تطويره. لمعت عينا هتلر عندما ردَّ قائلًا: «لكنني أريده دمارًا، دمارًا شاملًا!» وعندما أجابَ دورنبِرجر قائلًا: «لكنني لم أكن أفكِّر في إحداث دمار شامل.» استدار هتلر إليه في غضبٍ عارم وقال: «أنتَ! أعلم أنك لم تفكِّر في ذلك، لكنني فكَّرْتُ!»6

ماذا قدَّمَ دورنبِرجر، على أية حال، في هذا الاجتماع؟ ماذا كان ذلك السلاح الذي كان يفتقر إلى القدرة التدميرية الشاملة بينما لا يزال يمثِّل سلاحًا حربيًّا مريعًا لا تستطيع الإنسانية تحمُّلَ آثاره؟ كان هتلر قد سمع عن أن القنبلة الذَّرِّيَّة ربما تصبح ذات يوم سلاحًا ممكنًا، وكان قد أخبر المارشال إرون روميل قبل ذلك بعام عن مادة متفجرة ستظهر في المستقبل تستطيع «إسقاط رجل أرضًا عن صهوة جواده لمسافة تتجاوز الميلين». وبالطبع، استطاع الصاروخ «إيه-٤» أن يترك انطباعًا أقوى من هتلر لدى الأشخاص الأقل ميلًا إلى الخيالات، وعندما رأى ديتر هوزيل — أحد زملاء فون براون — بعضَ هذه الأسلحة للمرة الأولى عن كثب، ظنَّ أنها «قادمة إلى الأرض من وحي فيلم الخيال العلمي «امرأة على القمر».»

في حقيقة الأمر، خلال سنوات ما بعد الحرب، قدَّم صاروخ «إيه-٤» تصوُّرات حول إمكانية تصنيع مركباتٍ فضائية قوية في المستقبل؛ لكنَّ آمال هتلر كانت تمضي في اتجاه مختلف، وهو تصنيع أسلحةِ دمارٍ شامل. ومع ذلك، فبالنسبة إليه، ومثلما كانت الحال بالنسبة إلى الكثيرين، استحضَرَ الصاروخُ تصوُّراتٍ حول الشكل الذي ستكون عليه الأمور في المستقبل. وكما كان الصاروخ مصدرَ إلهامٍ لجيل من روَّاد الفضاء المرتقبين، فقد كان مصدرَ إلهامٍ مشابهًا لهذا الرجل المصاب بجنون العَظمة الذي حلم ببناء ترسانة من الأسلحة القوية القادرة على تدمير العالم.

بارك هتلر هذه الأسلحة الأربعة جميعها، وحظي الصاروخ «إيه-٤» والصاروخ «كروز» طراز «في-١٠٣» بأولوية كبيرة. انفرد الصاروخ «كروز» طراز «في-١٠٣» بميزة خاصة؛ لأن تكلفته لم تكن باهظةً ويمكن إنتاجه بأعدادٍ كبيرة. وضع جوزيف جوبلز، وزير الدعاية، لمستَه الخاصة على هذه المشروعات؛ حيث أطلَقَ عليها «أسلحة الانتقام». أما عن صواريخ «كروز»، فقد دخلت الخدمة باسم «في-١»، وصار اسم الصاروخ «إيه-٤» — وهو السلاح الأكثر فاعليةً — هو «في-٢»؛ ممَّا يوحي بتطوير أسلحة أكثر فتكًا.

أصبح إنتاج الأسلحة من المسائل المهمة التي تحتل مكانة الصدارة، واتضح على إثر غارة جوية بريطانية شُنَّتْ على بينامونده في أغسطس ١٩٤٣ ضرورة إقامة منشآتٍ جديدة لاستيعاب الجهود المبذولة في تطوير الصاروخ «في-٢». عثر مدير الإنتاج، جيرهارد ديجينكولب، على ضالته في مستودع لتخزين النفط تحت الأرض في منطقة جبال هارتس قُرْبَ نوردهاوزن. وللبدء في إنتاج هذا الطراز من الصواريخ بأعدادٍ كبيرة، وإدخاله حيز التنفيذ الفعلي، لجأ النازيون إلى نظام عُمَّال السُّخرة. كانت فرقة القوات الخاصة هي المسئولة عن إدارة العاملين بالسخرة في الرايخ الثالث؛ وصار الكولونيل هانز كاملر، المنتمي إلى هذه الفرقة، شخصيةً رئيسية في برنامج صواريخ «في-٢». وكانت مؤهلاته رائعة؛ فقد أدَّى دورًا مهمًّا في تدمير الأحياء اليهودية في وارسو، وصار مسئولًا فيما بعدُ عن تصميم المحارق وبنائها في أوشفيتس.

كانت المنشآت التي شُيِّدت تحت الأرض في حاجة إلى توسعات، وشرع سُجناء كاملر في أعمال التوسيع باستخدام الفئوس؛ حيث تعرَّضوا للاختناق من جَرَّاء الغبار الذي كان يحتوي على النشادر اللامائية. ولم يكونوا يغتسلون ولم تُوفَّر لهم مراحيض، وكانوا يقضون حاجتهم حيث هم واقفون، ومن ثَمَّ كانت تفوح من المكان رائحةٌ نتنة مثل رائحة المصرف الصحي. كان السُّجناء يعيشون في معسكر اعتقال يُسمَّى دورا، أحد فروع بوخنفالد، وكانوا يتعرَّضون للضرب ويعانون من سوء التغذية والإجهاد من جَرَّاء العمل الزائد، وكانت أمراض الالتهاب الرئوي والتيفود والدُّسنتاريا والسُّل منتشرةً بينهم، وعلى الرغم من أن معسكر دورا لم يكن معسكرَ إبادةٍ، كانت فرقة القوات الخاصة تنفِّذ أحكامَ إعدام متكررة. وفي البداية، كان الموتى يُنقَلون إلى بوخنفالد لدفن جثثهم، ولاحقًا صار دورا معسكرًا صالحًا لدفن الموتى، ولاقى نحو عشرين ألف شخص حتفَهم هناك. عندما ذهب المسئولون البريطانيون إلى المعسكر في نهاية الحرب، وجدوا نقَّالات مُشبَّعة تمامًا بالدم، فضلًا عن حفرة كبيرة ممتلئة برفات جثثٍ بشرية.

إلى أي مدًى كان فون براون على دراية بتلك الأوضاع ومتى عرف بها؟ كان يعرف الكثير؛ إذ كان يزور هذه المعسكرات على نحو متكرر، وكان أخوه ماجنوس يعمل مديرًا في مصنع نوردهاوزن. ومع ذلك، كان فون براون المدير الفني في بينامونده، وهو ما كان يعني أنه يدير عمالة عالية المهارة لم تكن تعتمد على عُمَّال السُّخْرة. وعلى الرغم من معرفته بالفظائع التي كانت تُرتكَب في نوردهاوزن، فلم يكن مسئولًا عنها وتجنَّبَ الانخراط الشخصي فيها، وهو ما أعفاه من المسئولية عن جرائم كاملر ضد الإنسانية. وفي عام ١٩٤٥، لقي كاملر حتفه رميًا بالرصاص على يد معاوِنه، وهو مصير فضَّله كاملر على خزي الوقوع في الأَسْر.

انطلقت الصواريخ الأولى من طراز «في-١» في يونيو ١٩٤٤ مستهدِفةً لندن، لكن ثَبُتَ ضعفها أمام الدفاعات الجوية البريطانية. وبنهاية الصيف، كانت إنجلترا قد استطاعت الحدَّ كثيرًا من تهديد تلك الصواريخ. وتباينت هذه النتيجة مع حملة قصف قوات الحلفاء، التي ظلَّتْ تكتسب مزيدًا من القوة.

كان الصاروخ «في-٢» مختلفًا؛ فلم تستطع أي دفاعاتٍ جوية إسقاطه، لكنه لم يدخل الخدمة إلا في سبتمبر ١٩٤٤، في وقتٍ كانت الجيوش الأمريكية والبريطانية قد استردت باريس وكانت تقاتل في شراسة للاستيلاء على الرَّاين. نجح الألمان في إطلاق حوالي ٣٢٢٥ صاروخًا طراز «في-٢» خلال الأشهر العديدة التالية، حيث وجَّهوا عددًا أكبر من الصواريخ نحو أنتويرب مقارَنةً بما وجَّهوه نحو لندن. وعلى الرغم من أن الكثير من تلك الصواريخ أخفَقَ في إصابة أهدافه، فإن حمولة المواد المتفجرة الناتجة التي كانت تزن أكثر من ٣٠٠٠ طن تماثِل حمولة ١٥٠٠ قنبلة تقريبًا لقاذفة القنابل طراز فلاينج فورترس، وهي الطائرات الحربية التقليدية في مسرح العمليات الأوروبية.

على الرغم من ذلك، تمثِّل هذه الأرقام الأثرَ الإجمالي الذي أحدَثَه الصاروخ «إيه-٤» خلال فترة الحرب بأسرها، ولم يتخطَّ سقفُ الإنتاج أكثرَ من ٧٠٠ صاروخ شهريًّا، وهو ما كان يماثل على أقصى تقدير غارةً جوية كبيرة نوعًا ما كلَّ بضعة أسابيع. مع ذلك، كان سلاح القاذفات التابع لقوات الحلفاء يشنُّ ٣٦٣ غارة جوية على برلين وحدها، في ظل غياب أسلحة ووندر. وأشار ونستون تشرشل إلى أنه في حالة الصاروخين «في-١» و«في-٢»، «بلغ متوسط الخطأ أكثر من عشرة أميال. وحتى إذا استطاع الألمان الحفاظ على معدل إطلاقٍ قدره مائة وعشرون قذيفةً يوميًّا، فإن الأثر الذي يُحدِثه ذلك سيكون مماثِلًا لأثر قنبلتين أو ثلاثٍ زنة طن واحد لكل ميل مربع أسبوعيًّا». وكان اللورد تشرويل، المستشار العلمي لتشرشل، يعتقد لفترة أن الصاروخ «في-٢» كان يمثِّل خدعةً كبرى؛ إذ لم يكن مقتنعًا أن تُهدِر ألمانيا مواردَها في سلاح قليل الفاعلية كهذا.

كانت أسلحة هتلر الأخرى — المتمثِّلة في الطائرة المتطورة — أقلَّ فاعليةً، وكانت طائرة «مِي ٢٦٢» طائرةً مقاتلة نفَّاثة بمعنى الكلمة، فهي ذات كفاءة جيدة تكفي لأن تحارب جنبًا إلى جنب مع الطائرات الأمريكية النفاثة لفترة ما بعد الحرب في الحرب الكورية. لكنْ إذا كانت طائرة «مِي ٢٦٢» قد قدَّمَتْ رؤيةً عن الصراع المُقبِل؛ فقد أثبتَتْ أيضًا عدمَ فاعليتها في الصراع المُعوَّل عليه، وهو الحرب العالمية الثانية. ولم يكن لها نظير في مناوراتها الجوية، لكنها كانت تفتقر إلى قوة التحمل، وكانت تحلِّق لفتراتٍ قصيرة في الجو، وكانت هدفًا يسهل اصطياده على الأرض. وفي حقيقة الأمر، كانت قواعد طائرات «مِي ٢٦٢» هي ما جذب طياري قوات الحلفاء كانجذاب الذباب نحو آنية العسل. وفي نهاية الحرب، أعلنت القوات الجوية الأمريكية أن طائرات «مِي ٢٦٢» أسقطت لها ٥٢ قاذفة، فضلًا عن ١٠ طائراتٍ مقاتلة. وكان سجل الآثار التي خلَّفتها الطائرة الاعتراضية الألمانية «مِي ١٦٣» أثناء الحرب أكثرَ سوءًا؛ حيث أسقطت تسع طائراتٍ، كان من بينها حالتان غير مؤكَّدتين.

هل كانت هذه النتائج حتمية الحدوث؟ بالطبع كان من المنتظر أن تكون هذه الأسلحة أكثر فاعليةً لو أنها شاركت في المعارك في تاريخ مبكر عن ذلك، أو لو كانت ألمانيا قد نجحت في مدِّ فترة الحرب. لكنْ، أجرت طائرة «مِي ١٦٣» الاعتراضية رحلةً تجريبية في عام ١٩٤١، حيث بلغت سرعتها ٦٢٤ ميلًا في الساعة في وقتٍ لم يكن ثمة الكثير من الطائرات المقاتلة التي تستطيع تخطِّي حاجز ٤٠٠ ميل في الساعة. ونجحت الطائرة الاعتراضية «مِي ٢٦٢» في التحليق بنجاح في يوليو ١٩٤٢، بينما نجح الصاروخ «إيه-٤» في الانطلاق بعد ذلك ببضعة أشهر. انطلاقًا من هذا المنظور، لم يكن المهم هو معرفة إنْ كان هتلر قد أطلقَ برنامج إعادة تسليح جاد في فترة مبكرة من عام ١٩٣٥، أو أن الحرب قد بدأت في عام ١٩٣٩؛ إذ كان التوقيت المناسب هو في ربيع وصيف ١٩٤٣، عندما تحوَّلت أحداث الحرب على نحو حاسم ضد الألمان. وربما كانت الأسلحة جاهزةً في وقت مبكر عن ذلك، لكن لكي يحدث ذلك، كان لا بد أن تُعطَى الأولوية مبكرًا لتلك الأسلحة. يتعارض هذا المسار بشدة مع الميل الطبيعي لدى جميع قادة الحرب نحو استخدام الأسلحة التي ثَبُتت كفاءتها وجاهزيتها.

إنه لقائدٌ متهور حقًّا الذي يخاطر بمصير بلاده نظيرَ ما هو غير مألوف وغير مؤكَّد. هذا ما فعله هتلر، فقد أعطى الأولوية لأسلحة الانتقام، في لحظة من اليأس والتهور لم يفصله فيها عن الهزيمة المحققة إلا فترة تقل عن عامين. وحدَّدَ هذان العامان، في مقابل الأعوام الستة للحرب كلها، الوقتَ الذي كان بمقدور صواريخ وطائرات هتلر المتطورة أن تحقِّق بصمتها خلاله. ولم يكن الوقت كافيًا.

على الرغم من ذلك، إذا كان الصاروخ «في-٢» قد بَدَا غير فعَّال في ربيع ١٩٤٥، فإنه لم يَعُدْ كذلك في الصيف؛ فقد طرح ظهورُ القنبلة الذَّرِّيَّة المفاجئ الاحتمالَ المباشر بوجود سلاح ووندر حقيقي، وهو صاروخ باليستي بعيد المدى يحمل رأسًا نوويًّا. وزاد هذا الاحتمال كثيرًا من أهمية اللجنة الفنية المشتركة، وهي مجموعة عليا من اختصاصيين سوفييت في علم الصواريخ، كانوا في ألمانيا سينهلون قدرَ استطاعتهم من تكنولوجيا الصواريخ في هذه البلاد. وفي سبتمبر ١٩٤٥، ذهبَ كوروليف إلى برلين بوصفه أحد أعضاء اللجنة.

شارَكَ أعضاء اللجنة مراقبين في ثلاث من عمليات إطلاق الصواريخ «في-٢»، بينما كانت القوات البريطانية توجِّه الأسلحة بعيدًا صوبَ بحر الشمال. وفي ذلك الوقت، كان كوروليف يحمل رتبة مقدِّم في الجيش، لكنه كان لا يزال في رتبةٍ أدنى ممَّا يسمح له بحضور عملية الإطلاق الميدانية؛ لذلك، كان مضطرًّا إلى مراقبة عملية الإطلاق من خلف السياج. لكن، أعَدَّتْه هذه المهمة لقيادة برنامج تطوير الصواريخ في بلاده.

يروي المؤرِّخ جرشتين قائلًا: «نحن الروس لدينا مثلٌ يقول: أنا ديك، وظيفتي أن أصيح. وإنْ لم تشرق الشمس، فلا آبه بذلك.» ولكن كوروليف كان عنيدًا، ويتصرف وفقَ ما تمليه عليه نفسه على أية حال؛ كان فظًّا وصريحًا في الدفاع عن وجهة نظره خلال المناقشات مع زملائه. بادر بوضع الإطار العام لبرنامج الصواريخ الذي كان يعتمد على ما أُنجِز في المشروع الألماني، كما كان يتحمل مسئولياتٍ متزايدة في الاضطلاع بأنشطة اللجنة.

في ذلك الوقت تحديدًا، كان ستالين بصدد إصدار تعليماتٍ إلى وزير التسليح لوضع برنامج صواريخ مماثل. وكان الوزير، ديمتري أوستينوف، قد حاز الأفضلية من خلال حملات التطهير الواسعة التي أجراها ستالين في المناصب الحكومية العليا؛ وكان قد ارتقى سريعًا في المناصب الحكومية من خلال شغل المناصب الشاغرة، وصار وزيرًا في المجلس الوزاري عام ١٩٤١، في سن الثانية والثلاثين، وأدار بعد ذلك برامج الإنتاج الواسع النطاق التي كانت تزوِّد الجيشَ بالأسلحة اللازمة لخوض الحروب.

في عام ١٩٤٦، سافر أوستينوف إلى ألمانيا، والتقى كوروليف، ثم أعلن إعجابه به. على الرغم مما تعرَّض له كوروليف مؤخرًا من السجن، فإنه لم يكن شخصًا متملِّقًا أو منافقًا؛ بل كان يطرح وجهات نظره بشجاعة ويدافع عنها، حتى إذا عارَضَه أوستينوف الرأي واختلفَ معه. وكان زملاؤه من المهندسين يعرفون عنه أنه قد يعنِّف المرءَ لإهماله أو عدم انتباهه، لكنَّ غضبه لم يكن يستمر طويلًا، ولم يكن يُضمِر ضغينةً لأحد؛ وكان سريعَ الصفح والعفو. بالإضافة إلى ذلك، حازَ ولاءَ زملائه وإخلاصَهم له؛ لأنه لم يكن يتردَّد في الثناء على مَنْ يستحق الثناء، كما كانت لديه خطةٌ لإقامة منظمة صواريخ تنفِّذ توجيهات ستالين.

عيَّنَ أوستينوف كوروليف رئيسَ قسمٍ في معهد بحثي جديد يُسمَّى «إن آي آي-٨٨»، وكانت مسئولية المعهد تنصبُّ في تنفيذ مجموعة كبيرة من الأنشطة في مجال تطوير الصواريخ، وكانت مسئولية كوروليف تكمن تحديدًا في الصواريخ البعيدة المدى. وعندما جاء إلى المعهد كان مديرًا في المستوى الإداري الأوسط، حيث يُشرِف على طاقم فني مكوَّن من اثنين وخمسين مهندسًا، وتفصل بينه وبين أوستينوف أربعة مستوياتٍ إدارية؛ ومع ذلك، كان في موقع يسمح له بتوسيع مجال عمله المحدود إلى ما هو أكبر، حيث كان ستالين مهتمًّا آنذاك بالصواريخ البعيدة المدى. وبالطبع، لم يَعُدْ كوروليف سجينًا سياسيًّا. وبينما كان في ألمانيا، أُعجِبَ بالسيارات القوية في تلك البلاد؛ واقتنى إحداها بالفعل. وكان الناسُ يُطلِقون عليه «كورول»؛ أيِ الملك.

كان جهد كوروليف المباشِر يتمحور حول الصاروخ «في-٢» السوفييتي الصنع، وشكَّلَ هذا الصاروخ نقطةَ ارتكاز في إنتاج الصواريخ وتدريب قوات الصواريخ الميدانية، لكنه لم يكن سلاحًا واعدًا. وفي أحد الاجتماعات في الكرملين في أبريل ١٩٤٧، ذكَّرَ جورجي مالينكوف، أحدُ معاوني ستالين، وزيرَ الطيران قائلًا: «لن نخوض حربًا مع بولندا. يجب ألَّا نُغفل أن ثمة محيطاتٍ شاسعةً تفصل بيننا وبين عدونا المحتمَل.»

في اليوم التالي، مع استئناف الاجتماع، تلقَّى ستالين تقريرًا موجزًا حول احتمالات إطلاق صواريخ عابرة للقارات، وأجاب قائلًا: «هل تدركون الأهمية الاستراتيجية الهائلة لآلاتٍ من هذا النوع؟ ربما تمثِّل تلك الآلاتُ أداةً فعَّالة لتقييد قدرات ذلك التاجر المثير للصخب هاري ترومان. أيُّها الرفاق، يجب أن نسبق الآخرين إلى ذلك؛ فصُنْعُ صواريخ عابرة للأطلنطي مسألةٌ شديدة الأهمية بالنسبة إلينا».7 وسيكون لكوروليف دورٌ رائد في صنع تلك الصواريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤