الفصل الثاني عشر

نظرة على مستقبل الفضاء وآفاق التجديد

التجارة والتعاون في مجال الفضاء

هل ستُدمَج برامج الفضاء الأمريكية والروسية حاليًّا في مشروع واحد؟ شهدت السنوات الأخيرة بالتأكيد آفاقًا جديدة من التعاون بين هذين البلدين. مع تراجُع مشروعات المحطات الفضائية لكلتا الدولتين على نحوٍ متزايد، كان من دواعي المفارقة أنْ سعَتِ الدولتان إلى تعزيز المشروعات بالربط بينها. وسط حالات العجز في عملة الروبل الروسية، قدَّمَتْ شركة «لوكهيد مارتن» تمويلًا بالدولار الأمريكي، وشرعت في تسويق مركبة «بروتون» الروسية كمركبة إطلاق تجارية، وبدأت جهودٌ لتطوير صاروخ طراز «أطلس-سينتاور» بمحركاتٍ روسية. وقد كان مدير ناسا، دانيال جولدن، يسعى بحماسٍ منذ عام ١٩٩٢ نحوَ مزيدٍ من هذا التعاوُن.

جاء جولدن إلى ناسا قادمًا من عالَم أقمار الاستطلاع الصناعية السرِّيَّة بشركة «تي آر دبليو»، حيث ظلَّ بعيدًا عن الأنظار. أقَرَّ جيفري ريتشلسون، أحد المراقبين المتابعين للبرامج عن كثب، الذي ألَّف كتبًا كثيرة حولها، قائلًا: «لم أسمع عنه قطُّ.» مع ذلك، كان جولدن منذ عام ١٩٨٧ نائبًا لرئيس ناسا ومديرًا عامًّا بها. أتاحت له خلفيته حول المركبات الفضائية غير المأهولة تغييرَ مجريات الأمور على نحوٍ جذري، حيث كانت خلفيته تأتي على النقيض تمامًا من تركيز قوي على الرحلات المأهولة تميَّزَ به قادةُ ناسا السابقين.

كان ريتشارد ترولي، المدير الذي حلَّ جولدن محله، قد بدأ حياته المهنية كرائد فضاءٍ في المختبر المداري المأهول، ثم صار رائد فضاءٍ للمكوك الفضائي، وأدار برنامج المكوك الفضائي خلال الفترة التي تلت استعادة «تشالنجر»، ثم تولَّى أعلى منصب في ناسا. كان نائبه، جيمس آر طومبسون، مديرًا لمركز مارشال لرحلات الفضاء، الذي كان مسئولًا عن تصميم محركات المكوك الفضائي واختبارها. وكان ويليام لنوار، رئيس مكتب الرحلات الفضائية، رائدَ فضاءٍ أسبق، مثلما كان روبرت كريبن، رئيس برنامج المكوك الفضائي.

اشتركوا جميعًا في التزامهم بتنفيذ برامج كبيرة باهظة التكاليف، مثل المكوك الفضائي والمحطة الفضائية. أشار إليهم الكاتِب جريج إيستربروك، الكاتِب في «نيوزويك» و«أتلانتك مانثلي»، بأنهم يعتقدون أنه «حتى تشغيل مصباح ضوئي في الفضاء يتطلَّب نصف دستة روَّاد فضاءٍ في عربة فضاء تكلفتها مليار دولار أمريكي». على النقيض من ذلك، كان جولدن يفضِّل الأساليب الآلية التي كانت تتَّسِم بأنها سهلة وغير باهظة التكاليف؛ كان يتوقَّع على وجه التحديد أن يتم الاعتماد على صواريخ التعزيز القابلة للاستخدام مرةً واحدة بدلًا من المكوك الفضائي.

كان تحولٌ نحو الصواريخ القابلة للاستخدام مرة واحدة قد بدأ بالفعل في أغسطس ١٩٨٦، عندما أعطى ريجان إشارة البدء لبناء «إنديفور» كي تحل محل «تشالنجر». في الوقت نفسه، أصدر قرارًا بألَّا تستخدم ناسا المكوكَ الفضائي لنقل حمولاتٍ تجارية يمكن نقلها على متن «دلتا» أو «أطلس» أو «تايتان». في عام ١٩٨٣، وضَعَ الرئيس سياسةً جديدة تفيد بوضع هذه الصواريخ القابلة للاستخدام مرة واحدة في أيدي الشركات التجارية، بَيْدَ أن هذه المحاولة لم تُسفِر عن شيءٍ وسط منافسة المكوك الفضائي المدعوم الحائز على كثير من الدعم. لكن بعد عام ١٩٨٦، ظهرت الحقيقة وتكشَّفت الأمور.

استطاعت الصواريخ القابلة للاستخدام مرة واحدة أن تحظى بعملاء بفضل ميزاتها، ولم يتوقَّف الأمر عند ذلك فحسب، بل صارت تحظى بسوق معدَّة بحسب الطلب في مجال الحمولات المخصَّصة للمكوك الفضائي الذي صار الآن في حاجةٍ إلى صواريخ لإطلاقها في مدار. في سبتمبر عام ١٩٨٦، أرسلت ناسا قائمةً بالمركبات المكوكية أعقبَتْ كارثة «تشالنجر»، والتي جعلت خمسة وعشرين قمرًا صناعيًّا خاصًّا بالاتصالات بصدد البحث عن بدائل. كانت لدى البنتاجون مشكلة مشابهة، حيث كان لديه مخزون يزيد عن عشرين قمرًا صناعيًّا، والمزيد في طريقه إلى خط الإنتاج.

كان تصرُّف القوات الجوية في عام ١٩٨٤ قد أتاح لشركة «مارتن ماريتا» تحقيقَ السَّبْق في استئناف إنتاج «تايتان ٣»، والمُضِيَّ قُدمًا لإنتاج نموذجه الأكثر قوةً المتمثِّل في «تايتان ٤». لم تكن شركة «ماكدونل دوجلاس» بالصاروخ «دلتا» المطوَّر لديها وشركة «جنرال داينمكس» التي صمَّمَت الصاروخ «أطلس-سينتاور»، تتمتعان بهذه الميزة؛ إذ كان على كلتا الشركتين إعادة تشغيل خطوط الإنتاج التي توقَّفت تمامًا. لكن في يناير ١٩٨٧، أرسى قائد القوات الجوية إدوارد ألدريدج عقدًا على شركة «ماكدونل» بقيمة ٣١٦ مليون دولار أمريكي لسبعة صواريخ إطلاق طراز «دلتا ٢» مطوَّرة حديثًا، مع إمكانية تطوير ثلاثة عشر صاروخًا إضافيًّا. بعدها بثلاثة أشهر، أعلنت هذه الشركة أن تسعة من العملاء الذين سدَّدوا ثمنَ الرحلات قد حجزوا رحلاتٍ لأقمار صناعية خاصة بالاتصالات على متن الصاروخ نفسه.

كان الصاروخ «دلتا ٢» على جانبٍ من القوة يؤهِّله لأن يتخطَّى مجال «أطلس»، بينما منحت هذه الطلبيات «ماكدونل» ميزةً على «جنرال داينمكس». لكن، تمكَّنَتْ «جنرال داينمكس» من رفع مستوى كفاءة صواريخ «أطلس-سينتاور» عن طريق تزويدها بمحركات «روكيت داين» المُحسَّنة التي كانت منافستها تشتريها. في عام ١٩٨٨، طلبت القوات الجوية إحدى عشرة مركبةَ إطلاقٍ من هذا النوع، ضامِنةً بذلك أن «أطلس» سيدخل هذا العصر الجديد أيضًا. مضت «جنرال داينمكس» في طرح مجموعة من نماذج «أطلس-سينتاور» من خلال أربعة نماذج أعلن مديروها أنها تستطيع أن تغطِّي تسعين في المائة من سوق الأقمار الصناعية التجارية. استثمر هؤلاء المسئولون التنفيذيون أيضًا ٣٠٠ مليون دولار أمريكي في بناء اثنين وستين صاروخًا حتى عام ١٩٩٧.

بالإضافة إلى أحد عشر صاروخًا طراز «أطلس-سينتاور»، تضمَّنَتْ طلبات القوات الجوية أيضًا عشرين صاروخًا طراز «دلتا ٢»، وثلاثة عشر صاروخًا طراز «تايتان ٢»، وثلاثة وعشرين صاروخًا طراز «تايتان ٤». شملت الطلبيات التجارية تسعة صواريخ أخرى طراز «تايتان». ظهرت «آريان» في المشهد أيضًا؛ فبدءًا من يناير ١٩٨٩، كان لديها طلبيات بثمانٍ وثلاثين مركبةَ إطلاقٍ. لكن، كانت ثمة مشروعات للجميع؛ إذ كان من المنتظر ابتداءً من ذلك الشهر أن يجري اختيار مركباتِ إطلاقٍ لنقْلِ ثمانٍ وخمسين حمولةً تجارية.

لا شك أن مصمِّمي الحمولات قد واجَهوا حالةً من هبوط الأسعار نتيجةً لزيادة العرض عن الطلب، حيث إنه بحلول عام ١٩٩٠ حدثت زيادة كبيرة في سعة الإطلاق. قدَّرت شركة «يوروكونسَلت» البحثية في باريس أن سوق الأقمار الصناعية للاتصالات، وهي الفئة التجارية الرئيسية، كانت ستصل إلى حد التشبُّع بإجراء ما يربو على خمس عشرة عمليةَ إطلاقٍ سنويًّا. على النقيض من ذلك، أجرت «أطلس» و«تايتان» و«دلتا» و«آريان» معًا أربعين عمليةَ إطلاقٍ سنوية، وأملت الصين أيضًا في الانضمام إلى مضمار المنافسة. وبناءً على ذلك، واجَهَ الجميع ضغوطًا مستمرة لعرض أقل أسعار ممكنة، ونجحت الصين — وهي وافدٌ جديد — لبعض الوقت في الفوز في هذه المنافسة من خلال البيع بأسعار أقل.

كانت هذه الدولة قد طوَّرت عائلة من صواريخ الإطلاق، سُمِّيت «لونج مارش»، وانطلقت للمرة الأولى في عام ١٩٧٠. ربما كانت القيودُ على الصادراتِ سببًا في منع الصينَ من إطلاق حمولات أمريكية، من خلال التعامُل مع الأجهزة الإلكترونية على متن الأقمار الصناعية للاتصالات بوصفها تكنولوجيا استراتيجية. لكن للترويج لعلاقاتٍ أفضل مع بكين، خفَّفَتِ الحكومة الأمريكية من القيود، مع السماح للصين بطرح عروض إطلاق أوَّلية بسعر منخفض للغاية.

أشار جوزيف ألان، وهو رائد فضاءٍ سابق، إلى الأمر على هذا النحو: «إذا كنتَ رئيس مجلس إدارة شركة أقمار صناعية أمريكية، وكان لديك اختيار بين ٨٠ مليون دولار أمريكي في كيب كانافيرال وبين ١٥ مليون دولار أمريكي مع «جريت وول» (وهي شركة الإطلاق الوطنية في بكين)، فإنك ستجمع ١٥ مليون دولار أمريكي وتسافر إلى الصين. هذا أمرٌ واضح لا يستحق التفكير.» أُجرِيت أول عملية إطلاق في أبريل ١٩٩٠، كانت حمولتها عبارة عن قمر صناعي للاتصالات بَنَتْه شركةُ «هيوز» باسم «إيشاسات ١»، الذي جرى استرجاعه في وقت مبكر من إطلاقه عن طريق المكوك الفضائي «ديسكفري» في نوفمبر ١٩٨٤. كان القمر يمثِّل دخولَ الصين السوقَ التجارية.

كان السوفييت أيضًا يضعون هذا المشروع نصب أعينهم. كانوا مستعِدِّين لاغتنام الفرصة بعد سقوط «تشالنجر»؛ حيث أسَّسوا مكتبًا باسم «جلافكوسموس» في يونيو ١٩٨٥، كانوا ينوون من خلاله بيع خدماتهم في مجال الإطلاق. كانت خبرتهم لا تُضاهَى؛ ففي حين أن الولايات المتحدة قد تخصَّصت في أعداد محدودة من المركبات الفضائية الطويلة الأجل، كان السوفييت تعوزهم الإلكترونيات التي يُعوَّل عليها؛ ومن ثَمَّ أطلقوا عددًا كبيرًا من المركبات القصيرة الأجل. منذ ستينيات القرن العشرين، حافظ السوفييت على معدل إطلاق اقترَبَ أحيانًا من مائة عملية إطلاق سنويًّا، كما كان لديهم أسطول متنوع من الصواريخ التي ظلت مشهودًا لها بكفاءتها لفترة طويلة؛ شملت تلك الصواريخ الصاروخ «بروتون» القوي والصاروخ «آر-٧» القديم، مع خياراتٍ عديدة من صواريخ المرحلة العليا، بالإضافة إلى تصميمات جديدة.

لم يحققوا أيَّ إنجاز في البداية؛ حيث إنهم خالَفوا القيود الأمريكية على الصادرات، التي حالت دون عبور معظم التكنولوجيا المتقدمة الحدود السوفييتية. حدثت واقعة في عام ١٩٨٧ حدَّدَت النسق العام لهذا الأمر، حيث لم تتمكَّن «هيوز إيركرافت» من الحصول على ترخيص بالتصدير؛ ومن ثَمَّ لم تستطع السماح لجلافكوسموس بإطلاق أحد أقمارها الصناعية. مع ذلك، واصَلَ المسئولون السوفييت المحاوَلةَ، على الرغم من مواصلة السبل القديمة. في عام ١٩٩٠، أشارت مجلة «ساينتفيك أمريكان» إلى محادثة مع مدير تدريب يُدعَى يوري جلازكوف، قال فيها مباهيًا: «تفوَّقْنا على الأمريكيين والفرنسيين والكنديين، وجميعهم يريدون أن يدرِّبوا روَّاد فضائهم هنا.»

س: كَمْ يكلِّف تدريب رائد فضاء؟

ج: إنه سرٌّ.

س: كيف يكون سرًّا إذا كنتم تحاولون بيع خدماتكم؟
ج: حسنًا، أكثر من ١٠ ملايين دولار أمريكي. أسراري تتسرَّب!1

لكن سمَحَ سقوط الشيوعية في أغسطس ١٩٩١، بتخفيف القيود على الصادرات وبمنح موسكو الشروطَ الملائمة التي كانت واشنطن قد وسَّعَتْ من نطاقها سابقًا لتشمل بكين؛ وهو ما أفضى إلى زيادة هائلة في المشروعات المشتركة، التي اقتربت من دمج الأنشطة الأمريكية والروسية الكبرى في برنامج دولي منسَّق.

بلغت الدولتان مرحلة مهمة في يونيو ١٩٩٢، عندما التقى الرئيس جورج بوش نظيره الروسي بوريس يلتسن؛ كان على رأس أجندتيهما إبرامُ اتفاقيةٍ للحد من الأسلحة، مع تعهُّدهما رسميًّا بتفكيك كثير من القاذفات والصواريخ الباليستية العابرة للقارات والرءوس الحربية النووية التي كانت قد وجَّهَتْها كلٌّ منهما إلى الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، جدَّدا اتفاقية كانت قد أُبرِمت في عام ١٩٨٧ حول التعاون في مجال الفضاء ووسَّعَا من نطاقها. سمحت الاتفاقية الجديدة لروَّاد الفضاء الروس بالطيران على متن مركبات فضاءٍ أمريكية، والعكس صحيح. استعادت هذه الاتفاقية روح بعثة «أبولُّو-سويوز» لعام ١٩٧٥، لكنها برهنَتْ على نية واضحة أن يتضمَّن هذا التعاون الجديد ما هو أكثر من بعثة أحادية الخطوة.

شجَّعَت الاتفاقية بقوةٍ المسئولين التنفيذيين في «لوكهيد»، الذين كانوا يسعون سعيًا محمومًا وراء مركبة الإطلاق الروسية «بروتون». واجهَتْ «بروتون» ظروفًا صعبة؛ حيث لم تكن الشركة المصنِّعة لمحركها، «موتورسترويتل»، قد تلقَّتْ طلباتٍ جديدة، ولم تكن تحصل على مقابل لعملها. وعلى الرغم من ذلك، واصَلَتِ الشركة بناء محركاتها؛ إذ مثلما أشار أحد مديري الشركة قائلًا: «كانوا يحتاجون هذه المحركات بشدة، والمشكلة أنهم لم تكن لديهم أي أموال لسداد مقابلها.» تكبَّدَتْ «موتورسترويتل» خسائر جسيمة، وتوقف العمل فيها وأُغلِقت.

كان مصنع خرونتشيف قُرْبَ موسكو، الذي تولَّى بناء «بروتون»، يمثل الذراع التصنيعي لإمبراطورية صواريخ فلاديمير تشلومي. جاء مسئولو «لوكهيد» في زيارةٍ للمصنع في عام ١٩٩٢، ومضوا في إقامة مشروع مشترك باسم «خدمات الإطلاق الدولية»، صار مسئولًا عن تسويق «بروتون» دوليًّا كمركبة إطلاق فضائية. أُبرِمت اتفاقية حكومية دولية في عام ١٩٩٣ نصَّتْ على شروط دخول موسكو إلى هذه السوق التجارية؛ حيث وافَقَتْ روسيا على إجراء ما يصل إلى ثماني عمليات إطلاقٍ إلى مدار جيوتزامني قبل عام ٢٠٠١. في غضون أشهر، تلقَّى مؤيدو «بروتون» أول طلبية، عندما رتَّبَتْ «سبيس سيستمز»/«لورال» — وهي شركة مصنِّعة للأقمار الصناعية في مجالي الاتصالات والأرصاد الجوية — شراء خمس مركبات إطلاقٍ من هذا النوع. في أبريل ١٩٩٦، أطلق «بروتون» أول أقماره الصناعية الغربية كإحدى الرحلات التابعة لمشروع خدمات الإطلاق الدولية.

كانت شركات المحركات الصاروخية في أمريكا تزاوِل أعمالها بنشاطٍ أيضًا. كان انفجار الصاروخ «إن-١» القمري قبل عشرين عامًا قد خلَّفَ كنزًا من المحركات في المخازن، متضمِّنًا تصميماتٍ لنيكولاي كوزنيتسوف، من تلامذة كوروليف النُّجباء. كانت الشركة المصنِّعة لهذه المحركات، وهي شركة تُسمَّى «ترود»، تريد أن تبيعها في الولايات المتحدة. في كاليفورنيا، كانت «إيروجت» مهتمة على وجه خاص بالصاروخ «إن كيه-٣٣»، وهو نموذج إنتاج من محرك المرحلة الأولى «إن-١». بالمثل، بعد التخلِّي عن الصاروخ «إنرجيا» الكبير، أصبحت محركاته معروضة للبيع. كان «إنرجيا» يحتوي على أربعة صواريخ تعزيز مربوطة به، كلٌّ منها يجري تشغيله باستخدام محرك طراز «آر دي-١٧٠»، بقوة دفع ١٫٦٣ مليون رطل؛ هذا المحرك كان أقوي المحركات الصاروخية على الإطلاق، حيث كان يماثل في قوته الصاروخَ «إف-١» في عصر «أبولُّو». تواصَلَتْ شركة «برات آند وتني» مع الشركة المصمِّمة للصاروخ، وهي شركة «إن بي أوه إنرجوماش»، واتفقت على أن تكون ممثلتها في الولايات المتحدة.

قبل نصف قرن، كان سقوط ألمانيا النازية قد فتح كنزًا من التكنولوجيا المتطورة في مجال الصواريخ، والقذائف الصاروخية، والطائرات النفاثة. قدَّمَ سقوط الشيوعية فرصةً مماثِلة، حيث جاءت شركتا «لوكهيد» و«مارتن» في مقدمة المستفيدين من الكنز السوفييتي مع مضيهما في تحدِّي «آريان» الأوروبية. كانت «آريان سبيس» قد تعامَلَتْ مع عملائها بعناية؛ فعلى حدِّ تعبير مديرها تشارلز بيجو «تعاملت ناسا مع عملائها كما لو أنها سيدٌ إقطاعي يستقبل فلاحينَ على أرضه، وكانت «آريان سبيس» تعاملهم كتاجر تجزئة.»

حازت «آريان سبيس» ولاءَ العملاء بتقديم شروط جذَّابة؛ ممَّا أدَّى بذلك إلى التقليل من قيمة صواريخ «دلتا» و«أطلس» و«تايتان». كانت ناسا قد استخدمت المكوك الفضائي للتقليل من قيمة هذه الصواريخ القابلة للاستخدام مرة واحدة فقط، كذلك. حتى بعد عام ١٩٨٦، عندما حظي مصمِّموها بحرِّيَّة المنافسة، واجَهُوا تأجيلات طويلة في إعادة تشغيل خطوط الإنتاج. ساهَمَتْ طلباتُ القوات الجوية في دعم هذا الأمر بدرجة كبيرة، لكن على الصعيد التجاري، لم يكن أحدٌ يستطيع الاقتراب من الأوروبيين؛ إذ كانت سلسلة صواريخ «آريان ٤» تضرب مثلًا يُحتذَى به. كانوا أيضًا بصدد تجهيز «آريان ٥»، حيث زوَّدوه بزوج من صواريخ التعزيز ذات الوقود الصلب الكبيرة بقوة دفع كاملة لإطلاق قمرين صناعيين زنة ثلاثة أطنان إلى مدار جيوتزامني في عملية إطلاقٍ واحدة. حظيت «آريان سبيس» بنسبة ٦٠ في المائة من السوق التجارية، وهو ما يعادل ضِعف حصة الأمريكيين.

لكن، كانت «مارتن ماريتا» بصدد إعداد رد على «آريان ٥»، وتجسَّدَ الردُّ في تصميم صاروخ «تايتان ٤» متطور. على غرار الصواريخ الأخرى من هذا النوع، كان «تايتان ٤» يمثِّل نسخة مطوَّرة من «تايتان ٣»، الذي انطلق المرة الأولى في عام ١٩٦٥، لكنه لم يكن بالتأكيد صاروخ «تايتان» الأول، وفي مقدور المرء تقدير مميزاته في ضوء تصميمٍ لمركبة فضائية نووية كان مهندس الصواريخ ماكس هانتر قد قدَّمَه في منتصف الستينيات من القرن العشرين؛ كان التصميم يتضمَّن غرفةَ بضائع أكبر من خزان الوقود، وكتبَ هانتر أن هذا هو الشكل الأمثل الذي يجب أن تكون عليه المركبة الفضائية.

كان «تايتان ٢» يتجاوز في طوله مائة قدم بقليل. ضاعَفَ «تايتان ٤» هذا الارتفاع إلى ٢٠٤ أقدام، وكان معظم هذا يُعزَى إلى المقدمة المخروطية التي كان يبلغ طولها ستًّا وثمانين قدمًا مضروبًا في عرض سبعة عشرة قدمًا تقريبًا. كانت أوسع من غرفة حمولات المكوك الفضائي وأطول بمقدار ست وعشرين قدمًا. كان صاروخا التعزيز ذوَا الوقود الصلب موضوعَين على امتداد الجزء الأكبر من طول الصاروخ الأساسي ذي الوقود السائل، بينما أضاف صاروخُ المرحلة العليا «سينتاور» الذي لم يستطع المكوك الفضائي نقله، مزيدًا من القدرة. في ظل الزيادة التي حدثت في قوة الدفع من جرَّاء صواريخ التعزيز ذات الوقود الصلب، تمكَّنَ الصاروخ «تايتان ٤» من رفع ٤٩ ألف رطل إلى مدار منخفض، وهو ما يزيد عن ضِعف حمولة الصاروخ «تايتان ٣» السابق وستة أضعاف الصاروخ «تايتان ٢».

figure
صواريخ التعزيز القابلة للاستخدام مرة واحدة لعام ١٩٩٥: الصواريخ الأمريكية ممثَّلةً في الصاروخ «دلتا ٢»، والصاروخ «تايتان ٤» الذي يشتمل على غطاءٍ واقٍ للمقدمة المخروطية بطول ٨٦ قدمًا، والصاروخ «أطلس ٢ إيه إس»، بالإضافة إلى الصاروخ «آريان ٤» الأوروبي والصاروخ «بروتون» السوفييتي (دان جوتييه).

بالإضافة إلى ذلك، أدَّتْ موجة من النشاط على مستوى الشركات إلى وضع «بروتون» و«أطلس» و«تايتان» تحت سقفٍ واحد. في عام ١٩٩٤، اشترت شركة «مارتن» القسم الذي تولى تصميم «أطلس-سينتاور» في شركة «جنرال داينمكس»؛ ثم في عام ١٩٩٥، حدث اندماج بين هذه الشركة وشركة «لوكهيد» مكوَّنتين شركة جديدة من الشركات العملاقة في مجال الفضاء، وهي شركة «لوكهيد مارتن»؛ وكان هذا جزءًا من عملية دمج تضمَّنَتِ الشركات الكبرى في صناعة الطيران والفضاء، نشأ عن نقص في العقود العسكرية في أعقاب الحرب الباردة. أعلن المسئولون بشركة «لوكهيد مارتن» ومركز خرونتشيف أنهم سيدمجون الصاروخين «أطلس» و«بروتون» في عائلة واحدة من مركبات الإطلاق ليدعم أحدهما الآخر، وثارت ثائرة تشارلز بيجو الذي كان قد أصبح في تلك الأثناء رئيس مجلس إدارة «إيرو سبيس»، وأضافَ مُحذِّرًا من إغراق مُمنهَج للسوق بصواريخ «بروتون»، قائلًا: «هذا إعلانٌ للحرب.»

إذا كان قد قُدِّر لهذه الحرب أن تندلع في حقيقة الأمر، لشهدت وقوف واشنطن وموسكو معًا كحلفاء ضد الفرنسيين. كان من بين الموضوعات المهمة التي أثارها هذا الموضوع على الفور الصاروخ «أطلس ٢ إيه إس»، وهو آخِر نماذج «أطلس-سينتاور». كحال النماذج التي صُمِّمت عام ١٩٥٧، كان «أطلس» يحتوي على محركَيْ صاروخَيْ تعزيز يعملان بالوقود السائل، فضلًا عن محرك مداومة لدفعه إلى مدار فضائي. كان الصاروخ يحتوي أيضًا على أربعة صواريخ تعزيز صغيرة مربوطة به، بإجمالي سبع محركات صاروخية. كان هذا أمرًا جيدًا للغاية، وقرَّرَ نورمان أوجستين — رئيس «لوكهيد مارتن» — أن الوقت مناسب للتبسيط؛ كان يريد نموذجًا جديدًا من «أطلس» يشتمل على محرك أو محركين فقط يحلَّان محلَّ المحركات السبعة.

وُضِعتِ المُنافِسة الناتجة عن ذلك — وهي شركة «روكيت داين» التي كانت تبني محركات «أطلس» حتى قبل وجود برنامج الصواريخ ذلك — في مواجَهةٍ مع غريمَين روسيَّيْن. عرضت «ترود» محركها «إن كيه-٣٣»، بينما تولَّتْ شريكتها «إيروجت» تشغيلَ هذا المحرك على منصة اختبار والتحقق من أدائه. اقترحت «إنرجوماش» بدورها تقسيم «آر دي-١٧٠» إلى نصفيْن. كان هذا المحرك يشتمل على أربع غرفِ دفعٍ تُغذِّيها مجموعةٌ واحدة من المضخات التوربينية، وهو تصميمٌ كان فالنتين جلشكو أول مَنْ أدخله منذ زمنٍ طويل. كان المقترح الجديد يتطلَّب نموذجًا مُعدَّلًا، «آر دي-١٨٠»، يستخدم غرفتَيْ دفعٍ فقط، فضلًا عن مجموعة صغيرة من المضخات التوربينية تتلاءم مع قوة دفعه المُخفَّضة.

في نوفمبر ١٩٩٥، خرجت «روكيت داين» من السباق الثلاثي الاتجاهات؛ إذ قرَّر رئيسها بول سميث أن المحرك الصاروخي لا يمكن أن يكون جاهزًا في الوقت المحدد بحيث يَفِي بالجدول الزمني لشركة «لوكهيد مارتن»، وأشار إلى أن مسئوليها التنفيذيين «كانوا ملتزمين بصفة أساسية ببناء محركٍ صاروخي». وقد قال وهو ينظر بشيءٍ من الحزن على مشروعٍ جديدٍ للبنتاجون، وهو مشروع مركبة الإطلاق المتطورة القابلة للاستخدام مرةً واحدة: «نأملُ في أن تدرك القوات الجوية فوائدَ الحفاظ على مركبة فضائية أمريكية خالصة.» لكن كان هذا المشروع لا يزال خطوة مستقبلية، بينما كان مشروع «أطلس» الجديد وشيكًا وفي المتناول. في يناير ١٩٩٦، وقع اختيار مصمِّمي المركبة على محرك «آر دي-١٨٠» باعتباره المحرك الفائز. صرَّح أحد مسئولي «لوكهيد مارتن» أن الصاروخ «أطلس» هذا سيحقِّق «أفضل مكانة» في السوق التجارية، بإطلاق أقمار صناعية أحادية للاتصالات بأكبر الأحجام.

كان اختيار «آر دي-١٨٠» بمنزلة انتصار بعد الممات لفالنتين جلشكو الذي كان قد تُوفِّي في عام ١٩٨٩. كانت الشركة المصمِّمة للمحرك، وهي «إن بي أوه إنرجوماش»، قد نشأت عن مؤسسة محركات صاروخية أسَّسها جلشكو في ضاحية خيمكي بمدينة موسكو في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ وعلى الرغم من أن هذا المحرك كان قد دخلَ في منافَسة على قدم المساواة مع محرك «إن كيه-٣٣» لكوزنيتسوف، جاءت نتيجة المنافسة انعكاسًا لنتيجة المعركة حول الصاروخ «إن-١» القمري لكوروليف. كان «إن كيه-٣٣» عبارة عن نموذج قديم من الصاروخ «إن-١»، الذي كان جلشكو قد أَخرجه من الخدمة. أما «آر دي-١٨٠»، فقد كان يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالصاروخ «إنرجيا» لجلشكو. تبدَّت المنافسة القديمة بين كوروليف وجلشكو مرةً أخرى على الأراضي الأمريكية، وانتهت مجددًا بالطريقة نفسها. بالإضافة إلى ذلك، كان من المنتظر أن تبني شركة «برات آند وتني» محرك «آر دي-١٨٠» في وست بالم بيتش بولاية فلوريدا، مع دفع عوائد الملكية إلى موسكو بالعُمْلة الصعبة.

في تلك الأثناء، كان دان جولدن يؤكِّد وجوده في ناسا؛ إذ كان الرئيس بوش قد أعفى سابقه ريتشارد ترولي من مهام منصبه في وقتٍ مبكر من عام ١٩٩٢، وعيَّنَ جولدن مديرًا جديدًا للوكالة. حظي جولدن بدعم قوي من نائب الرئيس دان كوايل، رئيس مجلس إدارة أحد مجالس الفضاء، الذي كان يرغب في التوقف عن استخدام الممارسات التقليدية، وجاء جولدن بأمر تنفيذي لتغيير الأوضاع. اتفقَ جولدن وكوايل على أن إحدى المشكلات الرئيسية كانت تكمن في وجود رغبة في تنفيذ عددٍ من المشروعات الكبيرة الجذَّابة، التي كانت عُرضةً لتأجيلاتٍ طويلة وتجاوزاتٍ كبيرة في التكلفة. حصل برنامج الفضاء المأهول على نصيبه من هذه الجهود بلا شك، بَيْدَ أن ذلك أثَّرَ أيضًا على برنامج الفضاء غير المأهول في ناسا؛ عندئذٍ فقط، كان مرصد هابل الفضائي مثالًا على ذلك.

كان المرصد عبارة عن مرصد فضائي حقيقي في مدار فضائي، مزوَّدٍ بمعداتٍ وألواحٍ شمسية كمصدر للطاقة، ونظامٍ دقيق للغاية يتولَّى توجيهه إلى نجم محدد أو مجرَّة بعينها، ونظام بيانات. صُمِّم هذا المرصد بناءً على القاعدة التكنولوجية نفسها التي أتاحت الإمكانية لتصميم قمر الاستطلاع الصناعي «كيه إتش-١١»، بما في ذلك المرايا الكبيرة ذات الشكل الدقيق للغاية، وأجهزة إقران الشحنات المسئولة عن تكوين صوره. مع ذلك، لم يكن شراء القمر «كيه إتش-١١» وتوجيهه ببساطة إلى النجوم بالأمر الممكن. ظلَّ وجود «كيه إتش-١١» في حد ذاته سرِّيًّا لفترة، وكانت تفاصيل تصميمه مسألة غاية في السرِّيَّة. كان جهاز الاستخبارات هو الجهة الوحيدة التي في مقدورها استخدام هذا القمر، وإنْ كان ذلك سرًّا. على النقيض من هذا، كان علماء الفلك على مستوى العالم يباشِرون عملهم علانيةً، دون أي موافقاتٍ أمنية، ولم تكن وكالة الاستخبارات المركزية لتتحدث إليهم.

بناءً على ذلك، تحوَّل مرصد هابل إلى مشروع قائم بذاته؛ لكن، بينما كانت القوات الجوية ووكالة الاستخبارات المركزية قد اعتمدتا على خبرتيهما الممتدة لبناء أقمار صناعية استطلاعية، واصَلَتْ ناسا مشروعَ هابل بالعودة إلى الإدارة المُوجَّهة نحو النجاح في برنامج المكوك الفضائي. انتهجت الوكالة هذا النهج؛ لأنها كانت تسعى مجددًا نحو تنفيذ مشروعاتٍ أكثر ممَّا تتيح لها ميزانيتها. لم تكن ناسا قد بَنَتْ مركبة فضائية قطُّ مثل «هابل»، ونظرًا لافتقارها إلى تلك الخبرة فقد تكبَّدَتْ تأجيلاتٍ وتجاوزاتٍ في التكاليف؛ ومن ثَمَّ، واجَهَ مديرو المشروع ضغوطًا شديدة، حتى إنهم لم يُحكِموا السيطرة على الموقف ممَّا أدَّى إلى تفاقُمه. فقد استهجنوا مقترحات إجراء اختباراتٍ إضافية؛ لأنه أمرٌ يتطلَّب مزيدًا من الأموال، ولم يكن لدى المشروع ما يمكنه الاستغناء عنه.

أدَّى هذا إلى خطأ كبير في تشكيل المرآة الرئيسية لهابل. كانت الشركة المتعاقدة، وهي شركة «بركين إلمر»، قد صنَّعت مرايا كثيرة من هذا النوع لصالح وكالة الاستخبارات المركزية. أثناء العمل على مرآة «هابل»، كان الاختصاصيون لدى الشركة يعتمدون على جهاز بصري شديد الحساسية، وهو عبارة عن «مصحِّح عاكس»، يستطيع تمييز أدق الانحرافات عن الانكسار المناسب. للأسف، لم يجرِ التحقُّق من دقة المصحِّح العاكِس، الذي كان مقدار الخطأ فيه ١٫٣ ملِّيمتر، وهو ما كان أكثر من كافٍ لإفساد النتيجة النهائية. استُعينَ بأدوات اختبار أخرى كانت متوافرة، وأشارت تلك الأدوات في حقيقة الأمر إلى أن المرآة لم يتم تشكيلها على النحو الصحيح، بَيْدَ أن العاملين تجاهلوا تلك النتائج. على أي حال، تعارضت تلك النتائج مع نتائج المصحِّح العاكِس، الذي كان محل ثقة العاملين، كذلك لم تستفِدْ ناسا من عرض القوات الجوية لاختبار المرصد الكامل في مختبرها البصري.

ظلَّ موضع القصور غير مُكتشَف حتى أصبحت المرآة جزءًا من مرصد هابل الكامل، وهو مركبة قيمتها ١٫٥ مليار دولار أمريكي هلَّلَ لها علماء الفلك بوصفها أولَ مرصدٍ على مستوى العالم. حمَلَ المكوك الفضائي «ديسكفري» المرصدَ إلى مدار فضائي في أبريل ١٩٩٠، وعندئذٍ فقط أُجرِيت — في الفضاء — اختباراتٌ بصرية على المرصد كنظام متكامل؛ كشفَتْ هذه الاختبارات على الفور عن الشكل المعيب للمرصد، وهو ما جعل «هابل» قريب المنظور قليلًا؛ ممَّا أدَّى إلى قلة وضوح الصور المُلتقَطة. ساد الحزن ناسا، حيث إنها ارتكبَتْ مجددًا خطأً بمليار دولار أمريكي.

لم يكن المرصد معدوم الجدوى، حيث سمحت معالَجة الصور باستخدام الكمبيوتر بزيادة وضوح الصور في عدد من الحالات. لكن، كانت ناسا لا تزال تعتمد في استمراريتها على العلاقات العامة، وقد أدى هذا الخطأ الأخير إلى دعاية سلبية مثلما حدث في مشهدٍ افتتاحي في الفيلم الكوميدي «نَايكِد جَنْ » («البندقية العارية »). صوَّر المشهد ردهة مظلمة وكئيبة مُعلَّقة على جدرانها صور كوارث، مثل هيندنبورج وتايتانك ومرصد هابل الفضائي.

قدَّم برنامج استكشاف الكواكب مثالًا آخَر لمواضع الخلل والقصور داخل وكالة ناسا. في أعقاب النجاحات التي تحققت في عقدَي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، ضاعفَتْ ناسا نشاطها بينما أعطت المكوك الفضائي والمحطة الفضائية أولويةً أكبر. على مدى أكثر من عشر سنوات، من عام ١٩٧٨ إلى عام ١٩٨٩، لم تُرسِل البلاد ولو بعثةً جديدة واحدة إلى أيٍّ من الكواكب.

شهد ذلك العقد كثيرًا من العمل على الأرض بهدف بناء ثلاث مركبات سَبْر جرت الموافقة عليها، وهي «جاليليو» للمشتري و«راصد المريخ» و«ماجلان»، لرسم خريطة للزهرة باستخدام الرادار. لكن، أظهرت هذه المركبات الفضائية مجددًا ميلَ الوكالة إلى وضع جهود كثيرة للغاية في عدد قليل للغاية من المشروعات. أبلت «ماجلان» بلاءً رائعًا؛ حيث أرسلت خرائط تنافِس صور القمر والمريخ. لكن جهود «جاليليو» تعرقلَتْ بسبب تعطُّل الهوائي الرئيسي لها؛ وهو ما أدَّى إلى انخفاض معدل بياناتها وتراجُع مردودها العلمي بشدة. كان أداء مركبة «راصد المريخ» التي بلغت تكلفتها مليار دولار أمريكي أسوأ بكثير؛ فقد وصلت إلى المريخ في أغسطس ١٩٩٣، وتلقَّتْ أوامر بإطلاق صاروخ ارتكاسي كابح وبدخول مدار، ثم اختفت دون أن تخلِّف لها أثرًا. ألقَتْ لجنةُ فحصٍ باللائمة على وجود تصدُّع على متن المركبة، ربما أدَّى إلى دوران المركبة بسرعة جنونية؛ ممَّا جعلها عاجزةً عن توجيه الهوائي الموجود بها صوب الأرض.

كان هذا الأسلوب في وضع البيض كله في سلة واحدة يتعارض على نحوٍ لافتٍ مع الأسلوب المُتبَع من قِبَل الوكالة في ستينيات القرن العشرين. كان أسلوب الستينيات يركِّز على الرحلات المتكررة، وهي عادةً رحلاتٌ مزدوجة للحماية من فشل رحلات الإطلاق الأحادية. كانت مركبة «مارينر» الفضائية في تلك الفترة تزن بين خمسمائة رطل وألف رطل، بينما اقتربت «جاليليو» و«ماجلان» — على النقيض من ذلك — من أربعة أطنان، وكانتا أكثر قدرةً بكثير. لكن، في ظل قلة عدد البعثات المُحتمَل، دفعت اتجاهاتٌ قوية كلًّا منهما نحو تكلفة أكبر وتأجيلاتٍ أطول.

مثلما أشار أحدُ العلماء، فإن أي بعثة معينة «كانت تبدو كما لو أنها الحافلة الوحيدة المغادرة للمدينة؛ لذا كان المرءُ يريد أن يضع كلَّ شيءٍ فيها». كان الجميع يرغب في زيادة المردود العلمي بإضافة معداتٍ جديدة أو أفضل، على الرغم من أن ناسا لم تستطع دومًا التعامُلَ مع تبعات ذلك؛ وهكذا خرجَتِ الأمور عن نطاق السيطرة في مركبة «راصد المريخ»؛ حيث أشار رئيس لجنة الفحص المعنية إلى الإهمال وسوء الإدارة، وقال بصراحة شديدة إن «مركبة راصد المريخ إذا أُطلِقتْ ولم يحدث شيءٌ مختلف، فثمة احتمالٌ كبير أن تُفقَد المركبة مجددًا».

عندما جاء جولدن إلى ناسا، وَجَدَ مشروعًا عملاقًا آخَر في جدول أعمال الوكالة، وهو مشروع «كاسيني»، الذي كان عبارة عن مركبة مدارية لاستكشاف كوكب زحل على غرار «جاليليو»، كان من المقرَّر إطلاقها في عام ١٩٩٧. وصفها جولدن بأنها «سفينة جلاكتيكا حربية» مُحمَّلة بحمولة زائدة. كان قد قُطِع شوط كبير في المشروع بما يَحُول دون إلغائه، لكنه كان يمثِّل عقليةً مؤسسية أراد أن يغيِّرها، حيث صرَّح قائلًا إن «الوقت قد حان لبدء ثورة ثقافية وتقديم ناسا بصورة جديدة». وفي إطار دعوته إلى بعثاتٍ «أصغر، وأرخص، وأسرع، وأفضل»، تعهَّدَ ﺑ «تغيير الثقافة» داخل الوكالة، محوِّلًا إياها من بيروقراطية عقيمة إلى مجموعة من المبتكرين المُغامرين.

منحه برنامجٌ قائم، وهو نظام رصد الأرض، فرصةً مبكرة لاتباع هذا الأسلوب. كان هذا الأسلوب قد انبثق عن خطة لناسا للفوز بدعم المحطة الفضائية في المجتمع العلمي، عن طريق بناء أقمار صناعية غير مأهولة وكبيرة، لدراسة بيئة الأرض وغلافها الجوي ودفع مقابلها من ميزانية المحطة الفضائية. عندما حصل نظام رصد الأرض على موافقة، في عام ١٩٨٩، وضع مديروها تصوُّرًا له، وكان عبارة عن مركبتين زنة ثلاثة عشر طنًّا، وميزانية بمبلغ ١٧ مليار دولار أمريكي. لم تَدُمْ هذه الخطة؛ ففي عام ١٩٩١ خفَّضَ مجلس النواب التمويلَ إلى ١١ مليار دولار أمريكي.

مضى جولدن أبعد من ذلك؛ ففي منتصف عام ١٩٩٢، وافَقَ على خطةٍ من شأنها تقليل تكلفة البرنامج أكثر من ذلك، وصولًا إلى ٨ مليارات دولار أمريكي، بالتركيز على مركبات فضائية أصغر تركِّز بمعدل أكبر على موضوعاتٍ علمية محددة. صرَّحَ لمجلة «إيروسبيس أمريكا» قائلًا: «ثمة ميل دومًا إلى الحصول على ١٠٠ في المائة من النتائج المرغوبة، والفرق بين الحصول على ٨٥ في المائة و١٠٠ في المائة يمكن أن يعني فرقًا كبيرًا للغاية في التكاليف. سألني أحدهم، هل ستسعون إلى الحصول على نسبة ٢ في المائة المتبقية من البيانات من بعثة «ماجلان»؟ كانت إجابتي لا، حيث إن نسبة ٢ في المائة المتبقية تكلِّف كثيرًا من الأموال.»2

أراد جولدن أن يعود إلى ستينيات القرن العشرين، بإحياء عصر عمليات الإطلاق المتكررة والتكاليف البسيطة؛ أسلوبٌ كهذا كان من شأنه أن يعرِّض ناسا لبعثاتٍ فاشلة، وأن يساعدها في التعامُل مع حالات الفشل هذه بنجاح. كانت لديه ذكريات عزيزة لبرنامج «سرفيور»، الذي كان قد أجرى عمليات إنزال آلية على القمر استعدادًا لأبولُّو. «مررنا بمحاولتين فاشلتين من بين سبع محاولات إطلاق. كان برنامجًا ناجحًا على نحو رائع.»

كان جولدن قد جاء إلى مكتب الوكالة كأحد المُعيَّنين من قِبَل الرئيس بوش، لكنه لم يتأثر بالتغيير الذي حدث في الإدارات، وظلَّ محتفظًا بمنصبه بعد أن تقلَّدَ الرئيس كلينتون مهامَّ منصبه الرئاسي في البيت الأبيض. بعدها بعام، أثبتَ برنامجٌ لوزارة الدفاع باسم «كليمنتاين» أن التطورات في المعدات كانت تعني أن البعثات غير المأهولة ربما تصبح صغيرةً، وغير مكلِّفة، ومثمرةً للغاية. مثل ابنة عامل المنجم تلك، فحصت «كليمنتاين» أنواعًا مختلفة من الصخور على القمر، ثم مضت قدمًا لفحص كويكب حتى «فُقِدَ أثرها واختفت إلى الأبد» في الفضاء السحيق.

انبثق برنامج «كليمنتاين» عن مبادرة الدفاع الاستراتيجي. في مختبر لورانس ليفرمور الوطني قُرْبَ سان فرانسيسكو، كان عالم الفيزياء لوويل وود قد قدَّم نموذجًا باسم «بريليانت بِبلز»، وفيه تدور مركبات فضائية صغيرة — لكنها عالية القدرة — في مداراتٍ فضائية بأعدادٍ كبيرة لتدمير صواريخ العدو عن طريق الاصطدام بها أثناء الطيران. خفَّضَ هذا النموذج وزنَ الكاميرا المحمولة في الفضاء من خمسين رطلًا إلى رطلين أو أقل. كانت المركبة «كليمنتاين» التي انبثقت عن هذا النموذج تزن أقل من ألف رطل، وكان قرابة نصف هذا الوزن عبارة عن الوقود الدفعي على متن المركبة، وكانت تحمل ست كاميراتٍ تستطيع التقاط صور عند أطوال موجية للأشعة فوق البنفسجية والأشعة المرئية والأشعة تحت الحمراء القصيرة والطويلة. كانت هذه الكاميرات تحتوي أيضًا على جهاز مسح بالليزر. ربما كانت تهدف سابقًا إلى تحديد المسافة إلى رءوس حربية صاروخية، بَيْدَ أنها الآن تُجرِي قياساتٍ دقيقة لارتفاع الجبال على سطح القمر وعُمْق الوديان والفوهات البركانية، مكمِّلةً بذلك الصور المُلتقَطة في دراساتٍ طبوغرافية.

شملت بعثات التصوير الفوتوغرافي السابقة المركبات المدارية القمرية الخمس من عام ١٩٦٦ إلى عام ١٩٦٧، فضلًا عن مركبتين مداريتين سوفييتيتين في عامَيْ ١٩٧١ و١٩٧٤. جمعت بعثات «أطلس» صورًا رائعة للقمر، إلا أنها كان ينقصها خاصية تعدُّد الأطياف التي اتضحَتْ فيما بعدُ قيمتُها العظيمة في عمليات رصد الأرض. نقلت «كليمنتاين» هذه الخاصية إلى القمر، حيث دارت حوله لمدة شهرين وأرسلت نحو مليون صورة تقريبًا، كما رسمت مجددًا خريطةً للقمر، لا من خلال صور الأبيض والأسود العادية، وإنما من خلال أحد عشر لونًا مرئيًّا ومندرجًا ضمن الأشعة تحت الحمراء القصيرة، مع وضع خرائط طوبوغرافيته كذلك. أثارت النتائج اهتمامًا بالغًا بين الجيوفيزيائيين؛ حيث إنها ألقت الضوء على مراحل التطور الأولى للقمر. سمحت هذه الصور أيضًا بإعداد خرائط جيولوجية عن طريق عرض أنواع الصخور المختلفة على سطح القمر. أشارت البيانات الأخرى إلى وجود ثلج قُرْبَ القطب الجنوبي للقمر، وهو ما قد يكون مصدرًا لتوفير الماء ووقود الصواريخ لقاعدة مأهولة في المستقبل. بالإضافة إلى ذلك، تبلغ تكلفة المركبة الفضائية ٥٥ مليون دولار أمريكي فقط.

على الرغم من أن «كليمنتاين» كانت أحد مشروعات البنتاجون، فقد احتضن جولدن المشروع ورحَّبَ به. في أبريل ١٩٩٤، تحدَّثَ جولدن في مؤتمر صحفي حول بعثات استكشاف الكواكب المنخفضة التكلفة، مُعلِنًا أنه في السنوات السابقة «صرنا جميعًا معتادين على طريقة مباشَرة الأعمال التي لا يتعيَّن علينا فيها أن نُلقِي بالًا إلى التكلفة. كان تنفيذ البعثة أكثر أهميةً من التكلفة. مضى ذلك ونُسِي، وانتهى.» بدلًا من ذلك، صدَّقَ على برنامج باسم «ديسكفري»، يتضمن مشروعاتٍ بتكلفة ١٥٠ مليون دولار أمريكي بحد أقصى. لم تكن هذه المشروعات تستعين بموارد مختبر الدفع النفاث، بل جاءت نتيجة مقترحاتٍ أعَدَّها علماء أفرادٌ غيرُ تابعين لهيئاتٍ بعينها، معروفين باسم الباحثين الرئيسيين. صرَّحَ أحد المديرين المشاركين بوكالة ناسا في المؤتمر قائلًا: «نريد من الباحثين الرئيسيين اقتراحَ بعثة كاملة، وإذا أعجبنا العرض — إذا أعجبنا الاقتراح، إذا أعجبتنا طريقة إدارتكم له، إذا راقت لنا التكلفة — فسنشتري التصميم، وندفع مقابله لكم، ثم تنفِّذونه.»3

بينما كان جولدن يقلِّل من تكلفة نظام رصد الأرض ويعيد إحياء برنامج استكشاف الكواكب، كانت القوات الجوية توسِّع نطاقَ جهودها في مجال مركبات الفضاء غير المأهولة للبلاد، من خلال تقديم خدماتٍ جديدة كبرى في مجالَي الملاحة والتحكم في مراقبة حركة الطيران. انبثقَتْ هذه الجهود من مشروع عسكري، هو نظام تحديد المواقع العالمي، الذي كان قد تأتَّى كنظامِ ملاحةٍ من شأنه تحسين أقمار «ترانزيت» الصناعية التابعة للقوات البحرية. تطلَّبَتْ «ترانزيت» أجهزةً مكلِّفة تختص بمعالجة الإشارات، وعادةً ما كانت تحتاج إلى عمليتَيْ مرورٍ منفصلتين لأحد الأقمار الصناعية، تفصلهما ساعة ونصف ساعة. أفلَحَ هذا الأمر مع غواصات «بولاريس» التي كان قادتها ينتظرون طوال اليوم للحصول على موقع ملاحي سليم، بَيْدَ أن القوات الجوية كانت تريد تحديدًا آنيًّا للموقع لتمكين الطائرات من إلقاء قنابل بدقة أكبر. وكان النظام الذي نشأ عن ذلك هو نظام تحديد المواقع العالمي المعروف اختصارًا بنظام «جي بي إس».

النظام عبارة عن مجموعة من أربعة وعشرين قمرًا صناعيًّا، في مداراتٍ مدتُها اثنتا عشرة ساعة على ارتفاع ١٢٥٤٣ ميلًا. يحمل كلٌّ منها ساعةً ذرِّيَّة لتحديد الوقت بدقة، بينما يسمح التتبع الأرضي لكل قمر صناعي بتحديد موضعه بنفس مستوى الدقة؛ عندئذٍ، يتلقَّى جهازُ استقبال أرضي الإشارات من المركبات الفضائية في مجال الرؤية، محدِّدًا مواقعها فضلًا عن الأوقات الفعلية لنقل الإشارات. يتضمَّن جهاز الاستقبال ساعتَه الداخلية، التي ليست دقيقةً تمامًا، بينما تسمح البياناتُ الواردة من الفضاء بمزامَنة هذه الساعة مع ساعات الأقمار الصناعية. يحسب جهازُ الاستقبال عندئذٍ المدةَ الزمنية التي استغرقتها كل إشارة أثناء الانتقال، منتقِلةً بسرعة الضوء، ويُترجَم هذا إلى تحديدٍ دقيق للمسافة التي يبعدها كلُّ قمر صناعي؛ ومن خلال طريقة التثليث، يحدِّد جهاز الاستقبال موقعه.

وصلَ أول قمر صناعي من هذا النوع إلى مدار فضائي في عام ١٩٧٧، وبحلول عام ١٩٨٣ توفَّر عدد كافٍ من الأقمار الصناعية لإجراء تجارب مبدئية. في ذلك العام، ضلَّتْ طائرة «بوينج ٧٤٧» من خطوط الطيران الكورية طريقَها في المجال الجوي السوفييتي فوق جزيرة سخالين، وهي منطقة عسكرية حسَّاسة، وأُسقِطت الطائرة. ربما كان نظامٌ ملاحي أفضل ليَحُول دون ذلك، وأمَرَ الرئيس ريجان القوات الجوية بتوفير إشارات نظام تحديد المواقع العالمي للاستخدام على المستوى الدولي. دخلت مجموعة الأقمار الصناعية، البالغ عددها أربعة وعشرين قمرًا، الخدمةَ في مارس ١٩٩٤، وبعدها بعامين تقريبًا، دخل الخدمةَ قمرٌ صناعي روسي مناظِر، هو «جلوناس».

إنَّ أجهزة الاستقبال الخاصة بنظام تحديد المواقع العالمي بسيطة حقًّا؛ تبيع شركة «ماجلين سيستمز» هذه الأجهزة مقابل ١٩٩ دولارًا أمريكيًّا، وهو ما يجعلها في متناول سائقي القوارب الذين يبحثون عن طريق عودتهم إلى موانئ يُغلِّفها الضباب، وشركات الشحن التي تريد تتبُّع مواقع مركباتها؛ إذ يسمح نموذجٌ مختلف من أجهزة الاستقبال بإجراء اتصال هاتفي برقم الطوارئ ٩١١ لتحديد الموقع عبر الأقمار الصناعية. ستجد هذه الأجهزة مشترين بين قائدي المركبات على الطرق السريعة ممَّن يخشون تعطُّل مركباتهم في منطقة نائية. ثمة نماذج أكثر تعقيدًا تتضمن الخرائط المرسومة بواسطة الكمبيوتر أو ما يُعرَف بالخرائط المُحوسَبة. عند تركيب هذه الأجهزة في السيارات المعروضة للإيجار، فإنها لا تُظهِر الموقع فحسب، بل توجِّه قادة المركبات إلى وجهاتهم داخل المدن غير المألوفة بالنسبة إليهم.

يستفيد أيضًا الطيران التجاري من ذلك؛ يعتمد الطيران التجاري على مجموعاتٍ واسعة من أجهزة الإرسال والاستقبال اللاسلكية الأرضية المستخدمة في الملاحة، فضلًا عن جهاز الهبوط الآلي، الذي يُوجِّه الطائرات لإجراء عمليات هبوطٍ اضطراري بسبب سوء الأحوال الجوية إلى أكثر من ألف مطار. أثبتت الأجهزة قيمتها على مدار عقود من الاستخدام الروتيني، ويستشعر المرءُ هذه الفترة الطويلة بإعادة قراءة رواية إرنست كيه جان الأكثر مَبيعًا لعام ١٩٥٣، «السامي والقوي». كان على متن الطائرة التي ظهرت في الرواية، وهي طائرة طراز «دي سي-٤»، عشرون شخصًا، يحاولون جاهدين الانتقال من هونولولو إلى سان فرانسيسكو بعد فقدان محرك ذو مكبس. استرشد قائد الطائرة بالنجوم، مثلما كان يحدث في أيام الكابتن كوك. اقتربَ قائد الطائرة من المطار بمساعدة جهاز لاسلكي قديم كان يُستخدَم بلا شك خلال عصر الطائرات الثنائية السطح، لكن خلال عملية الاقتراب الأخيرة، أجرى طاقمُ الطائرة هبوطًا آليًّا بالاعتماد على جهاز الهبوط الآلي.

مع ذلك، تنطوي هذه الأجهزة على مواضع قصور. لا تتبع الطائرات أقصر المسارات على طول رحلاتها، لكنها تنطلق بدلًا من ذلك من محطة ملاحية إلى أخرى بطريقة توصيل النقاط. في المسارات الطويلة فوق المحيطات، تتراجع غالبًا الدقة الملاحية، وتتفادى الطائراتُ حدوثَ تصادماتٍ بالطيران على مسافة مائة ميل بعيدًا عن بعضها البعض. وعندما تسوء الأحوال الجوية، تحدُّ معظم المطارات أيضًا من أنشطتها، حيث تحصر عمليات الهبوط في ممر طائراتٍ واحد مزوَّد بجهاز هبوط آلي. بالإضافة إلى ذلك، يسمح جهاز الهبوط الآلي بالاقتراب المباشِر فقط، ولا يسمح للطائرات بالدوران أو المناورة أثناء الهبوط، وهو ما يقيِّد كثيرًا أنماطَ حركةِ الملاحة الجوية المسموح بها، من خلال السماح بتحليق الطائرات في خطوط مستقيمة فقط، كما يقلِّل الطاقة الاستيعابية للمطارات في المدن الكبرى ذات المطارات المتعددة. توجد في نيويورك، على سبيل المثال، مطاراتٌ عالمية، لكن عندما يسوء الطقس، لا يستطيع مطار لاجوارديا التعامُل إلا مع أربع وعشرين عمليةَ هبوطٍ أو إقلاعٍ فقط كلَّ ساعة، مقارَنةً بثمانين عملية هبوط وإقلاع في الأيام الجيدة الطقس.

يتضمَّن نظام تحديد المواقع العالمي حاليًّا إمكانيةَ نظام موحَّد يُسمَّى الطيران الحر، وهو نظام يتجاوز أوجه القصور هذه. بدلًا من الاعتماد على أجهزة الإرسال والاستقبال الأرضية، يستخدم قادة الطائرات أجهزةَ الاستقبال المعتمدة على نظام تحديد المواقع العالمي وكذلك أجهزة الكمبيوتر على متن الطائرة؛ ممَّا يسمح لهم بالتحليق في مساراتٍ مفضَّلة توفِّر في استهلاك الوقود. بالإضافة إلى ذلك، تتوقع هيئة الطيران الفيدرالية أن تتخلَّى عن كثيرٍ من أجهزتها اللاسلكية التقليدية خلال الخمس عشرة سنةً القادمة. قررت الهيئة أيضًا أن الأجهزة المعتمِدة على نظام تحديد المواقع العالمي ستحل بمرور الوقت محلَّ جهاز الهبوط الآلي، ووضعت بالفعل قواعدَ رسميةً تستطيع طواقمُ الرحلات بموجبها استخدام الأقمار الصناعية لنظام تحديد المواقع العالمي في إجراء عمليات هبوطٍ آلي.

في ظل نظام تحديد المواقع العالمي وإصلاحات جولدن التي تشير إلى توجُّهاتٍ جديدة في أنشطة الفضاء غير المأهولة، كان المكوك الفضائي أيضًا يحقِّق نجاحات جديدة، حيث استطاع في نهاية المطاف أن يقدم إسهامًا ممتازًا في المجال العلمي؛ تحقَّق هذا من خلال إطلاق بعثة لإصلاح مرصد هابل أثناء تحليقه في مدار فضائي. كان المرصد قد صُمِّم بما يسمح بإجراء أعمال الخدمة والصيانة في الفضاء، وفي ديسمبر ١٩٩٣، التحمت «إنديفور» به والتقطته عن طريق ذراع موجه طويل. استبدل أفراد طاقم الطيران مجموعةً متذبذبة من بوصلات التوجيه الجيروسكوبية، ووضعوا ألواحًا شمسية جديدة، ووضعوا معداتٍ داخلية جديدة تضمَّنت مرايا صغيرة، شُكِّلت حتى بلغت منتهى الدقة. كانت المرايا تُستخدَم كنظارات، تصحِّح رؤية هابل المعيبة.

نتيجةً لذلك، تمكَّنَ مرصد هابل من التقاط مجموعة هائلة من الصور الجديدة التي أثارت أسئلة مُحيِّرة. كان من بين البعثات الرئيسية بعثة تتضمَّن إجراء عمليات رصد قد يتحدَّد من خلالها عُمْرُ الكون. في واقع الأمر، سُمِّي المرصد على اسم إدوين هابل، وهو أول عالِم فلك يحاوِل تحديد عُمر الكون. حصلَ عالِم الفلك ويندي فريدمان، الذي يعمل بالقرب من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، على صور جديدة واضحة من هذا المرصد واكتشَفَ مفارَقةً مُحيِّرة، أَلَا وهي أن الكون يبدو أقل عُمْرًا من النجوم التي يحتويها.

كان هذا تطبيقًا للعلم في أحسن صوره؛ حيث أثار الأمر إشكاليات عويصة حول أسس الفيزياء الفلكية. لم يكن الأمر مسألة بسيطة تتعلَّق بالتجارب الروتينية والنتائج المُحسَّنة على نحو طفيف؛ بدلًا من ذلك، وضعَ مرصد هابل الأساليب الرئيسية في علم الفلك موضعَ تساؤل، مشكِّكًا فيما يعرفه العلماء حقيقةً، وفي طريقة زعمهم لتلك المعرفة. مع ذلك، جاءَ هذا المرصد في صدارة الأعمال الموجَّهة إلى حلِّ هذه المفارقة، من خلال تحديد العُمر التقديري للكون على نحوٍ أكثر دقةً.

في ظل ما ظفرَ به المكوك الفضائي من مؤيدين جُدد بإنقاذه مرصد هابل، كانت المحطة الفضائية في طريقها للثبات بسهولة عند مستوى إنفاقٍ يقترب من مليارَيْ دولار أمريكي سنويًّا. في عام ١٩٨٤، دعا ريجان إلى إكمالها «في غضون عقد»، وبعدها بتسع سنوات، مع تولِّي الرئيس كلينتون مهامَّ منصبه، كان البرنامج قد تلقَّى أكثر من ٩٫٨ مليارات دولار أمريكي على سبيل الاعتمادات المالية. لكن، في خضم عمليات إعادة التصميم المتكررة، لم تكن المحطة الفضائية أكثر من نموذج تصميمي على الورق. كان من المنتظر أن تصبح المحطة الفضائية المشروعَ الحكومي الأهم؛ حيث أنفقت مليارات الدولارات سنويًّا دون أي بادرة على اقتراب النهاية، بينما وفَّرَتْ ما لا يزيد عن كونه وظائف مدعومة.

لم يَرُقِ الأمر لجولدن؛ إذ أشار إلى المحطة بوصفها «برنامجَ استحقاقٍ مدته ثلاثون عامًا». لم يَلْقَ الأمر قبولًا كذلك لدى كلينتون؛ ففي وقتٍ مبكر من عام ١٩٩٣، أصدر توجيهًا إلى جولدن بأن يُنحي جانبًا خطةَ الثلاثين مليار دولار الحالية، وأن يقدِّم تصميمًا جديدًا آخَر؛ وهو ما أدَّى إلى خفض التكلفة إلى ما يصل إلى ٥٠ في المائة. كانت المحطة الفضائية الناتجة في التصميمات تشبه منطادًا من الرصاص. وفي يونيو، أوصى مجلس النواب خلال عملية تصويت واحدة بإلغاء برنامج المحطة الفضائية، التي لم يكن قد مضى على شهرتها سوى خمس عشرة دقيقة فقط. مع ذلك، أدرك جولدن أنه لا يزال في مقدوره الحصول على المحطة الكبيرة التي كان جميع عملاء ناسا يريدونها، بالتعاون مع روسيا.

تابَعَ جولدن تنفيذَ اتفاقية عام ١٩٩٢ مع موسكو بالمُضِيِّ قُدمًا في خططٍ لإرسال رواد فضاء على متن المكوك الفضائي، مع إرسال رواد فضاء لإجراء بحوث على متن المحطة الفضائية «مير». بالإضافة إلى ذلك، كان كلينتون قد صرَّحَ لجولدن بالسعي للحصول على دعم من روسيا في بناء محطة ناسا. كانت روسيا قد وضعت خططًا لبناء «مير» ثانية، بَيْدَ أن الخطط كانت متوقفة، وسط ضغوطٍ خاصة بالميزانية فاقت ضغوط ميزانية ناسا بكثير. لكن في منتصف مارس ١٩٩٣، كتبَ جولدن خطابًا إلى نظرائه الروس، مقترحًا بناء محطة فضائية مشتركة تُدمِج «مير ٢» مع تصميم ناسا. في الوقت نفسه، توجَّهَ وفدٌ من ناسا إلى موسكو ودعا شركة «إن بي أوه إنرجيا»، التي تولَّتْ تصميم «ساليوت» و«مير»، للمشاركة في آخِر عملية إعادة تصميم للمحطة الأمريكية.

بعد هذا، توالت الأحداث بسرعة. في غضون أسابيع، بارَكَ الرئيس بوريس يلتسن الجهد المشترك، وفي آخر شهر يونيو، عقدت ناسا ووكالة الفضاء الروسية اتفاقًا رسميًّا، يفسح المجال أمام تعاون واسع النطاق. توجَّهَ رئيس شركة «إن بي أوه إنرجيا»، يوري سيمينوف، لزيارة واشنطن على رأس مجموعة معه لتقديم عرضٍ لناسا والشركات المتعاقدة معها حول إسهامات روسيا المُرتقَبة. شاركت المجموعة أيضًا في مناقشاتٍ عُقِدت في كريستال سيتي، قُرْبَ واشنطن؛ حيث كان فريق من ناسا يواصِل فحْصَ تصميمات المحطة الفضائية.

في أواخر شهر أغسطس، سافَرَ رئيس الوزراء فيكتور تشيرنوميردين إلى واشنطن والتقى نائب الرئيس ألبرت جور، ووقَّعَا اتفاقيةً جديدة حوَّلَتِ المحطةَ الفضائية إلى مشروع مشترك حقيقي، مطالبةً بأقوى تعاون بين الدولتين في تاريخ استكشاف الفضاء. وافقت الولايات المتحدة على إنقاذ برنامج الفضاء المأهول الروسي بدفع ٤٠٠ مليون دولار أمريكي على أربع دفعاتٍ سنوية. في واشنطن، كان هذا المبلغ لا يَفِي بتغطية تكلفة رحلة مكوك فضائي واحدة، لكنه في موسكو يمكن أن يحقِّق الكثير؛ ففي تلك الدولة قد يستطيع المرءُ شراء خدمات مركز بحوث مزوَّد بطاقم عمل مدرَّب جيدًا نظير تكلفة لا تزيد عن ١٠٠ ألف دولار أمريكي سنويًّا.

كانت دفعات السداد موجَّهةً في المقام الأول نحو دعم «مير»، بإحياء نموذجَيْ «سبكتر» «وبريرودا» وتمويل إطلاقهما إلى الفضاء. كان التركيز على «مير» بدوره جزءًا من البرنامج المشترك للرحلات المأهولة الذي وُضِع تصوره في اتفاق بوش-يلتسن لعام ١٩٩٢. أُجرِيت أول رحلة من هذا النوع في فبراير ١٩٩٤، حيث أطلقت «ديسكفري» بعثة مدتُها ثمانية أيام كان من بين أفراد طاقمها رائد الفضاء سيرجي كريكالف، وبعدها بعام حمل المكوك الفضائي نفسه فلاديمير تيتوف، وهو رائد فضاء مخضرم قضى في الفضاء عامًا كاملًا، في بعثة مشابهة. التقى المكوك الفضائي ﺑ «مير»، لكنه لم يلتحم بها. كانت هذه العملية الدقيقة ستنتظر حتى الرحلة القادمة.

في تلك الأثناء، كانت روسيا بصدد إعداد سبكتر. كانت سبكتر مخصَّصة في الأساس للدراسات البيئية باستخدام كاميرات متعددة الأطياف، بَيْدَ أنها غيَّرَتْ هذه البعثة بسبب القاعدة القائلة بأن مَنْ يملكُ الذهبَ يَسُود. كانت ناسا تمتلك الذهب؛ إذ كانت قد أنفقت جزءًا من ميزانيتها البالغة ٤٠٠ مليون دولار أمريكي لصالح مجموعة جديدة من الأدوات بغرض استخدامها في دراسات طبية بيولوجية. كان من المقرر أن يستخدم رائد الفضاء نورمان ثاجارد تلك الأدوات خلال إقامة مخطَّط لها على متن «مير»؛ حيث كان من المتوقع أن يتمكَّن من خلال المساعدة الروسية من تحطيم الرقم القياسي الأمريكي البالغ ٨٤ يومًا على متن «سكايلاب».

انطلق ثاجارد إلى «مير» على متن «سويوز»، في مارس ١٩٩٥. لسوء الحظ، كانت «سبكتر» لا تزال على الأرض. واجَهَ الأمريكيون تأجيلاتٍ في شحن معدَّاتهم، ثم واجَهوا مزيدًا من التأجيلات في موسكو، عندما احتجز مسئولو الجمارك بعض الأدوات نظرًا لعدم دفع الرسوم الواجبة. انطلقت «سبكتر» أخيرًا من تيوراتام في مايو واتصلت بالمركبة «مير»، وهو ما منح ثاجارد قرابةَ شهرٍ استطاع استخدامها خلاله. ثم وصل المكوك الفضائي «أطلنطس»، في أواخر شهر يونيو، وكان يحمل رائدَيْ فضاءٍ إلى «مير» وأعادَ رائدَيْ فضاءٍ آخَرين إلى الأرض، فضلًا عن ثاجارد. قضى ثاجارد ١١٥ يومًا في مدار فضائي.

أثناء مناورة «أطلنطس» قُرْبَ «مير»، راقَبَ رائدا الفضاء العائدان الفضاءَ من «سويوز» والتقطا صورًا. لم يكن هذا فيلم «٢٠٠١: ملحمة الفضاء»، الذي يصوِّر التحام مركبة فضائية — هي «بان أمريكان» — بمحطة تشبه عجلة دوَّارة ضخمة. كان الأمر لا يزال مبهرًا: مركبة مدارية مكوكية في مثل حجم طائرة خطية طراز «دي سي-٩»، قريبة من مجموعة ممتدة من الأسطوانات السميكة والألواح الشمسية العريضة بزنة إجمالية ١٣٠ طنًّا. وفي بعثة مشتركة مشابهة خلال عام ١٩٩٦، سجَّلَتْ رائدة الفضاء شانون لوسيد رقمَها القياسي بالمكوث في الفضاء لمدة ١٨٨ يومًا.

بالإضافة إلى ذلك، كان مهندسون من الدولتين لديهم تصميمٌ للمحطة الدولية يمكنه أن يحل محل «مير». كانت شركة خرونتشيف ستبني مركزها، المُسمَّى قاعدة البضائع الوظيفية (يشار إليه بالاختصار «إف جي بي» بالروسية)، وكان من المقرَّر إطلاق هذه القاعدة أعلى الصاروخ «بروتون»، الذي كانت موسكو ستوفره كمركبة نقل ثقيل، مُكمِّلة المكوك الفضائي. وعدت روسيا أيضًا ببناء أقسام رئيسية أخرى، وكان من المقرَّر أيضًا أن تبيع إلى ناسا عددًا من النُّظم المستخدمة في عمليات الالتقاء والالتحام الآلية.

كانت الخطة الكلية كافيةً أن تأسر الألباب. بالإضافة إلى الولايات المتحدة وروسيا، شاركَتْ أيضًا كندا واليابان ووكالة الفضاء الأوروبية. تقرَّر بدء البناء في نوفمبر ١٩٩٧ بإطلاق «إف جي بي» وسيتواصل حتى يونيو ٢٠٠٢. شهدت تلك السنوات الخمس ثلاثًا وسبعين رحلة إلى مدار فضائي، ثلاثة أخماسها روسية. كانت أبعاد المحطة الكاملة ٢٩٠ قدمًا طولًا، و٣٦١ قدمًا عرضًا، وكان وزنها البالغ ٤٤٣ طنًّا يضاهي وزن طائرة «بوينج ٧٤٧». وكان من المقرَّر أن تحمل طاقمًا من ستة أفراد، فضلًا عن ألواح شمسية ضخمة توفر ١١٠ كيلو وات من الكهرباء، وهو ما يكفي لإضاءة عشرين منزل مكوَّن كلٌّ منها من أسرة واحدة. كان متوقَّعًا أن تبلغ تكلفتها ٩٤ مليار دولار أمريكي على مدى ثلاثين عامًا.

كانت هذه الخطة تتضمن ما هو أكثر من الطموح؛ إذ كانت تهدف إلى بناء إمبراطورية على نطاقٍ قَلَّما أمكنت رؤيته. وإذا كانت الخطة بعيدة المدى، فقد أتاحت على الأقل مجالًا كافيًا للتقليص ومدِّ الفترة الزمنية للبرنامج. لم يكن ينقص الخطة أيضًا التفاؤل المبهج، مثلما انعكس في الجدول الزمني لعمليات السير في الفضاء خلال مرحلة التجميع. تغيَّرَ موقف ناسا تمامًا التي كانت تنظر إلى هذه الأمور عادةً باعتبارها خطرة. تطلَّبَ النموذج النهائي من تصميم المحطة الفضائية «فريدوم»، قبل عام ١٩٩٣، تنفيذَ عمليات سير في الفضاء أثناء التجميع لمدة ٣٦٥ ساعة، وهو ما رآه جولدن إفراطًا. بدءًا من مارس ١٩٩٤، تطلَّبَتِ الخطة الجديدة عملياتِ سيرٍ في الفضاء لمدة ٤٣٤ ساعة. بعدها بعام، مع توافُر فهم أفضل لمتطلبات المشروع، ارتفعت مدة هذه العمليات إلى ٦٤٨ ساعة. أشارت المحلِّلة السياسية مارشيا سميث إلى «تغيير مفاجئ في سياسة ناسا حيال المخاطر المُتضمَّنة في عمليات السير في الفضاء. لم تَعُدْ ناسا تنظر إلى عمليات السير في الفضاء على أنها ملجأ أخير، بل إنها صارت الآن «فرصة».» كانت الوكالة تؤكِّد روحَ الإصرار والنجاح الموجودة لديها، بَيْدَ أنها كانت تبحث أيضًا عمَّا قد يكون فرصة حقًّا للمجازفة.

في الوقت الحالي، تنشأ مخاطر أخرى من طبيعة الشراكة نفسها، حيث تراهِن ناسا بكثير من مستقبلها على التعاوُن مع حكومة مرتعشة واقتصاد غير مستقر. ربما يتحدَّى نظام قومي الغربَ من خلال سياسات عدائية مجددًا، مع استنكار الاتفاق مع ناسا باعتباره خيانة لمصالح البلاد. ربما تتذرَّع حكومة صديقة وداعمة بفقرها وتَنْكِث التزاماتها المالية. إذا حدث ذلك، فربما ينتهي المطاف بمشروع المحطة الفضائية المشترك إلى ما لا يزيد عن شمعة أمل وسط أعاصير الحماقة الإنسانية.

ثمة مَوْطِن ضعفٍ آخَر ينشأ عن التركيز على الرحلات الفضائية المأهولة، الذي لا يزال شأنًا من اختصاص الحكومات، ولم يصبح بعدُ اتجاهًا قائمًا بذاته. اعتمدَ علماءُ الأرصاد ومديرو الاتصالات، على سبيل المثال لا الحصر، طويلًا على المركبات الفضائية غير المأهولة. لا يوجد مجتمع يدعم البعثات المأهولة، والسبب بسيط، وهو أن تكلفة البعثات المأهولة تتجاوز كثيرًا الفائدة المحدودة التي يمكن أن توفرها للمستخدمين.

يستطيع المرءُ أن يدرك هذا من خلال المسألة الأساسية المتمثلة في إطلاق رحلاتٍ إلى مدارات فضائية. يتطلَّب المكوك الفضائي ١٫٢ مليون إجراء منفصل حتى يصبح جاهزًا للإطلاق. لتنفيذ عمليات الإطلاق، اعتمدت ناسا على ٢٨٠٠ موظفٍ لديها، فضلًا عن ١٩٧٠٠ آخرين من الشركات المتعاقدة، بدءًا من عام ١٩٩٥. كان هذا العدد مساويًا لعدد الأفراد الذين تطلَّبَتْهم عمليةُ إطلاق إحدى مركبات «أبولُّو» القمرية قبل رُبْع قرن، والذين كان عددهم ٢٠ ألف شخص. في وقتٍ مبكر في عام ١٩٩٦، ذكرت مجلة «أفياشن ويك آند سبيس تكنولوجي» أن تكلفة إطلاق مكوك فضائي هي ٥٥٠ مليون دولار أمريكي؛ وكان هذا يتعارض مع التكلفة المذكورة للصواريخ القابلة للاستخدام مرة واحدة ذات القدرة المماثلة، والتي بلغت ١١٠ ملايين دولار أمريكي للصاروخ «آريان ٥»، و٦٠ مليون دولار أمريكي للصاروخ «بروتون».

figure
المحطات الفضائية في تسعينيات القرن العشرين: في الأعلى، محطة «مير» الفضائية في عام ١٩٩٦. في الوسط، المحطة الفضائية الدولية المقترحة. في الأسفل، محطة «مير» الفضائية بنفس حجم المحطة الفضائية الدولية (دان جوتييه).

هذا التباين بنسبة عشرة إلى واحد سيستمر على الأرجح، والسبب أنه على الرغم من إمكانية إطلاق مركبة فضائية في إحدى بعثات المكوك الفضائي، فإن الهدف الرئيسي لذلك لا يكون نقْلَ حمولةٍ إلى مدار فضائي، بل إعادة الطاقم بسلام. على أي حال، يتضح من تجربة «تشالنجر» أن فقدان روَّاد الفضاء يمكن أن يؤدِّي إلى حالةٍ من الحداد الوطني، مع هزِّ الوكالة من أساسها.

على الرغم من هذا كله، تمثِّل المحطة الفضائية حاليًّا إنجازًا مهمًّا. للمرة الأولى منذ «أبولُّو»، تقترح ناسا بناء مستقبلها مستنِدةً إلى ما هو أكثر من التحايُل على البلاد بمشروع مخادع. بهذا المفهوم أيضًا، تعود الوكالة إلى ستينيات القرن العشرين، بينما تواصِل رحلاتها المأهولة لقيمتها السياسية في المقام الأول. يَعِدُ هذا الجهد المشترك بأن يؤكِّد على نحوٍ واضح ومثير أن أفضل فرص روسيا ربما تكمن في الشراكات مع الغرب، وأن أوروبا والولايات المتحدة تقدِّران وتُعجبان بالأعمال المُنفَّذة في صناعاتها وعلى أيدي مهندسيها، وأن عصر المواجَهة يمكن أن يفسح المجال حقًّا لعصرٍ من التعاون.

بالنظر إلى هذا القرن المؤسف، يلمس المرءُ تعارضًا صارخًا بين الآمال المثالية للثوريين الذين التفُّوا حول لينين والإنجازات المحدودة التي زعموا هم وأتباعهم اللاحقون تحقيقَها. هزموا النازيين، متحمِّلين وطأةَ المعركة. أسَّسوا نظامًا مثيرًا للإعجاب في مجال التعليم العام، وهو نظامٌ لا يزال يتفوَّق على نظام الولايات المتحدة في جوانب مهمة. كانوا أوائل مَنْ سافروا إلى الفضاء. لكن، بالكاد ما كانت هناك إنجازاتٌ أخرى خلاف هذه الإنجازات الثلاثة؛ فقد تراوحت حالات فشلهم ما بين إرهاب ستالين من خلال قمع الحرية من جهة والفقر المدقع والمستويات المتدنية لأحوال الصحة العامة من جهة أخرى. وفي النهاية، غدت روسيا أمة في مصاف العالم الثالث، وإن كانت تمتلك أسلحةَ العالم الأول. مع ذلك، لا يزال برنامجهم الفضائي يلقى استحسانَ شعبها ومصدرَ فخرٍ له. إذا كانت روسيا في النهاية ستمضي في طريقها بصرف النظر عمَّا تفعله أمريكا، فربما لا يزال يحدونا الأمل حاليًّا في أن تعلن شراكة روسيا مع ناسا عن عصر جديد، يشير إلى قرن جديد سيكون أقلَّ دمويةً وأكثر سلامًا بكثير من القرن المنصرم.

كيف إذن يمكن فهم هذا التناقض الأساسي للرحلات الفضائية المأهولة؟ ماذا يمكن أن نقول عن التعارُض بين ارتفاع تكاليفها وانعدام جدواها تقريبًا، وعِظَم قيمتها السياسية فعليًّا؟ البداية يمكن أن تكون ملاحظة أن الطيران، وهو وثيق الصلة برحلات الفضاء، كان ولا يزال يحمل أهميةً سياسية مشابِهة. تجني دول أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية التي تستخدم «بوينج ٧٤٧» فوائدَ النقل الجوي الفعَّال، وتتمتع هذه الدول أيضًا برموز حداثية قوية، وبقدرة حكوماتها على شراء الأحدث والأفضل.

تقدِّم الطائرة «بوينج ٧٤٧» قيمة وفائدة حقيقيتين فضلًا عن دلالتها الرمزية، ومن ثَمَّ تتفادى هذا التعارض. لكن، يظهر التعارض في صورته الكاملة في طائرة تجارية مختلفة، وهي الكونكورد. جودتها لا تقبل الجدال؛ تلخِّص صورةٌ لهذه الطائرة وهي تمرُّ ببرج إيفل قرنًا من الريادة الفنية الفرنسية. مع ذلك، لا يوجد سوى عدد محدود من طائرات الكونكورد في الخدمة، وهذا لسبب بسيط، أَلَا وهو تكلفتها المرتفعة. تبلغ أجرة السفر في رحلة ذهاب فقط على الخطوط الجوية البريطانية من نيويورك إلى لندن ٤٥٠٩ دولارات أمريكية، وتبلغ تكلفة رحلة الذهاب والعودة بأجرة مخفضة ٧٥٧٤ دولارًا أمريكيًّا؛ وبناءً عليه، تخدم هذه الطائرة عملاء من الصفوة بعيدين مثل رواد الفضاء.

يستدعي تاريخ الكونكورد أيضًا تاريخَ الرحلات الفضائية المأهولة؛ حيث إنها تطورت أيضًا كمشروع خاص بالحكومات، وعانت بشدة من وطأة القلق على المكانة القومية. مثلما ذكرنا من قبلُ، كان راعي الطائرة شارل ديجول قد انزعج حيال ما سمَّاه «استعمار أمريكا للسماوات»، وهو هيمنة تجارية جعلت مصمِّمي طائرات أوروبا عاجزين عن المنافسة. لم تواجِه الكونكورد الاختبارات الاقتصادية القياسية التي أجرتها شركاتٌ مثل «بوينج» عند دراسة مشروعاتٍ جديدة. كان ديجول ونظيره البريطاني، رئيس الوزراء هارولد ماكميلان، يستخدمان صناعات الطائرات في دولتيهما كأذرع للدولة، وكانوا يغطون خسائرهم من خلال الدعم.

تميِّز التكلفة المرتفعة أيضًا الرحلات الفضائية المأهولة، وربما كانت خاصيتها الأساسية. لتقليل مستوى الخطورة، لا يمكن تنفيذ جداول الإطلاق الزمنية الروتينية المتكررة التي كان مؤيدو المكوك الفضائي قد بشَّروا بها في عام ١٩٧٢. بدلًا من ذلك، تتعامل ناسا حاليًّا مع المكوك الفضائي بوصفه سلعة نادرة وقيِّمة؛ حيث تفصل عملياته عن عالَم التطبيقات الفضائية والفرص التجارية الحالي. يتبدَّى هذا الأسلوب اليومَ في الجدول الزمني لإطلاق المكوك الفضائي، الذي يقتضي تخصيصَ ما يصل إلى ثلثَيْ رحلات المكوك الفضائي لخدمة المحطة الفضائية.

يضمن هذا على الأقل أنه في حال فشل عملية إطلاق أخرى للمكوك الفضائي، ستظل الآثار محصورةً إلى حدٍّ كبير في نطاق البعثات المأهولة وحده؛ بَيْدَ أن هذا بدوره يؤكِّد على فكرة أن الرحلات المأهولة صارت مشروعًا في حد ذاتها، ينطوي على قيمة سياسية ودلالة رمزية قوية، دون أن تكون له فائدة حقيقية. يشير هذا بدوره إلى أن المشروع ربما يزول تدريجيًّا بمرور الوقت ليصير جزءًا من تاريخ ماضٍ؛ حيث إن الوسائل التكنولوجية الناجحة لا تبقى فقط كأنصابٍ تذكارية تموِّلها الحكومات. فهذه المشروعات تخدم قطاعات المستخدمين، بما في ذلك العامة.

تتكوَّن لدى المرء رؤيةٌ أعمق من خلال وضع الرحلات المأهولة في سياق ما نراه بصفة عامة تقدُّمًا علميًّا. من الأمثلة النموذجية على ذلك التحوُّل في مجال النقل البحري من الشراع إلى البخار، ومن القاطرات البخارية إلى الديزل، ومن الطائرات ذات المحركات المكبسية إلى الطائرات النفاثة، ومن الإلكترونيات ذات الأنابيب المفرَّغة إلى الإلكترونيات ذات الدوائر المتكاملة، ومن البواخر العابرة للمحيطات إلى الطائرات التجارية؛ الفرق أن التقنيات التي صارت متقادمة — في كل هذه الأمثلة — كانت ملائِمةً تمامًا لعملها.

لم تُوصَف السفن الشراعية التي زخرت بها البحار على مدى قرون بأي عيوبٍ جوهرية. في الواقع، حتى عندما ظهرت السفن البخارية وصارت تمثِّل تحدِّيًا لها، أثبتَتْ فعاليتها لدرجة أن التحوُّل من السفن الشراعية إلى البخارية استغرق مائة عام حتى يأخذ مجراه الطبيعي. ساعدت الطائرات ذات المحركات المكبسية في تحقيق الانتصار في الحرب العالمية الثانية، وساهَمَتْ في ظهور الطائرات الكبرى؛ حيث ثبُتَ ببساطة أنها أقل قدرةً من الطائرات النفاثة. ظلت القاطرات البخارية تنقل البضائع والمسافرين على مدى قرنٍ من الزمان.

قدَّمَتِ الأنابيب المفرَّغة أساسًا ملائِمًا تمامًا لأجهزة الراديو والرادار والتليفزيون وللخدمات الهاتفية للمسافات البعيدة، كما أنها قدَّمَتْ بدايةً جيدة في مجال أجهزة الكمبيوتر. في حقيقة الأمر، ظلت هذه الأنابيب ودوائرها تقدِّم جوانبَ جديدة من القوة والقدرة حتى بعد ظهور الترانزستور. كانت السفن العابرة للمحيطات مثل «نورماندي» محبوبة كثيرًا؛ حيث أَسِفَ كثيرون على خروجها من المشهد.

كانت السفن الشراعية، والمركبات البخارية، والطائرات ذات المحركات المكبسية، والأنابيب المفرَّغة، والسفن العابرة للمحيطات جميعًا على درجة كبيرة من الفاعلية، ومُستخدَمة على نطاقٍ واسع؛ لكنْ، أدت ضغوط السوق التي لا هوادةَ فيها، والسعي دائمًا نحو بدائل أفضل، إلى الإطاحة بها جميعًا بعيدًا وإحالتها إلى المتاحف. من المفيد النظر إلى المحطات الفضائية من منظور مماثل، مع أخذ جانبٍ مهم في الاعتبار، وهو أنه نظرًا لارتفاع تكاليف المحطة الفضائية على نحوٍ أساسي، فإنها لم تحصل قطُّ على فرصةٍ لتقديم خدماتها المُرتقَبة.

إذا كان تطوير إلكترونياتٍ دقيقة جيدة قد تأخَّرَ طويلًا، فربما تحقَّقَ بذلك سيناريو «كوليرز»؛ ربما كانت المحطة الفضائية ستبرز بوصفها الأسلوبَ الأوَّلي لتحقيق فوائد مثل الاستطلاع العسكري، والأرصاد الجوية، والخدمات الهاتفية العابرة للمحيطات. صار الانتشار اللاحق للإلكترونيات الدقيقة، الذي جاء بعد ذلك بعقود، بمنزلة المنافِس الأكثر تطورًا أمام المحطة الفضائية، مثلما كانت المحركات النفاثة بالنسبة إلى المحركات المكبسية، أو مركبات الديزل بالنسبة إلى القاطرات البخارية. في حقيقة الأمر، أدَّى الدخول السريع للإلكترونيات المتطورة إلى تقادُم المحطة الفضائية قبل بنائها، من خلال التشجيع على تطوير المركبات الفضائية غير المأهولة. على حدِّ تعبير الكاتِب المسرحي ناجيل نيل، صار نموذجُ المحطة الفضائية «متقادمًا تقريبًا قبل أن يبرز ما ينافسه أو يتفوَّق عليه».

من هنا، يستطيع المرءُ من خلال استعراضه لنظرة مستقبلية على عالم الفضاء أن يرى فرصًا شديدة التبايُن في مجال الملاحة الفضائية بجانبَيْها المأهول وغير المأهول. سيواصل برنامج الرحلات الفضائية غير المأهولة بلورةَ مستقبله من خلال أعدادٍ محدودة من المركبات الفضائية ذات القدرات العالية، التي سيظل نطاقُ استخداماتها في ازديادٍ. تشمل استخداماتها حاليًّا شبكةَ الإنترنت العالمية، التي تعتمد عادةً على اتصالات الأقمار الصناعية. وفي المستقبل، ستظهر استخداماتٌ كبرى لنظام تحديد المواقع العالمي، وكذلك للأقمار الصناعية ذات الخدمات الملاحية، في مجال مراقبة الملاحة الجوية.

ستظل عملياتُ إطلاق هذه المركبات أحداثًا قوية الوَقْع ومثيرة للاهتمام؛ فقد أطلقت ناسا صواريخ «دلتا» بالمئات، بَيْدَ أن كلَّ رحلة منها تظل حدثًا لا يُنسَى بالنسبة إلى الأشخاص الذين يشاهدونها للمرة الأولى. لكن، نادرًا ما تُعرَض عمليات الإطلاق هذه على شاشات التليفزيون؛ فقد فتُرَ اهتمامُ العامة بها ولم يعودوا يُولونها اهتمامًا منذ زمنٍ طويل. يتعامل الناسُ أيضًا مع خدمات المركبات غير المأهولة على أنها أمورٌ بديهية مسلَّم بها؛ ومن ثمَّ، وعلى الرغم من أهمية هذه الخدمات، فإن البرنامج غير المأهول صار فعليًّا غير ملحوظ؛ وهذا أمرٌ يشهد بنجاحه؛ حيث إن التقنيات المفيدة تنزوي في حقيقة الأمر وتتراجع إلى خلفية المشهد، ولا تقتحم علينا وعْينا أثناء استخدامنا إياها.

على الجانب الآخر، تختلف النظرة المستقبلية المتعلقة بالرحلات المأهولة. عجزت خبرة ثلاثة عقود عن أن تفضي إلى مقترحاتٍ جَدِّيَّة تصبح هذه الرحلات بموجبها مفيدة، ومع ذلك، ظلت الرحلات المأهولة مصدرَ إبهارٍ وإعجابٍ بالنسبة إلى العامة. ونظرًا لكونها معدومة الجدوى ومرئية، فإنها تُظهِر تباينًا مزدوجًا مع عدم جدوى البرنامج غير المأهول وكونه غيرَ ملحوظ تقريبًا. يقدِّم هذا الإعجاب أيضًا للبرنامج المأهول أفضلَ فُرَصه وإنجازاته المُرتقَبة.

ينصبُّ تركيزُ البرنامج المأهول حاليًّا على المحطة الفضائية، وثمة احتمالٌ لأنْ يُستكمَل مشروع المحطة الفضائية فعليًّا؛ وفي حال حدوث ذلك، سيخلِّف الأمر إرثًا كبيرًا في صورة صناعاتٍ ومؤسساتٍ في عدد من الدول الكبرى التي تتعاون حاليًّا لبنائها. لن تزول هذه المؤسسات، بل على العكس، سيدفع القادة السياسيون نحو مزيدٍ من الجهود المشابهة. وقد تتضمَّن تلك الجهود عودةً إلى القمر، أو رحلةً لرواد فضاءٍ أمريكيين وروسيين إلى المريخ. سيشير هؤلاء القادة مجددًا إلى الدلالة الرمزية السامية لرحلات الفضاء، وإلى الأمل في أن المشروعات الدولية المستقبلية قد تصوِّر عصرهم بوصفه عصرًا للسلام.

بناءً على ذلك، ربما تصير الغاية النهائية من البرنامج الفضائي المأهول أن يكون ضربًا من العرض المسرحي؛ لكن، لطالما كان المسرح عنصرًا أساسيًّا لدى أكثر السياسات جديةً وأقواها مردودًا. فقد كانت المواكب والمسيرات مَلْمَحًا أساسيًّا من ملامح الإمبراطورية البريطانية، بفرسانها الذين يسيرون في مواكب مرتدين حُلَلهم الملوَّنة، وقُضاتها ذوي الشعر المستعار، واستعراضاتها البحرية وفِرَقها التي كانت تعزف النشيد الوطني الإنجليزي «فَلْيحفظ الله الملكة». كما أن الأداء المسرحي قد لَعِبَ دورًا رئيسيًّا في أعمال ونستون تشرشل وجون كينيدي، أستاذَيِ التحدي والأمل المُفوَّهَيْن؛ وفي القرن الجديد، ربما تتحقَّق رؤى فون براون وكوروليف من خلال تضخيم مُثُل الدولية وإحيائها وتجسيدها في إطارٍ ملموس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤