الفصل الثاني

المُبتكِرون الأمريكان

ازدهار صناعة الصواريخ في أمريكا

بالإضافة إلى هيرمان أوبيرت وقسطنطين تسيولكوفسكي، كان ثمة رائد ثالث من روَّاد رحلات الفضاء، وهو روبرت جودارد، من مدينة وورسستر في ولاية ماساتشوستس الأمريكية. ظهر جودارد بوصفه أكاديميًّا حاصلًا على درجة الدكتوراه في الفيزياء من جامعة كلارك في مدينته الأم، وكان قسم الفيزياء في جامعة كلارك صغيرًا لكنه متميِّز. في عام ١٩٠٧، بينما كان لا يزال جودارد في الجامعة، حصل رئيس القسم وقتَها — وهو ألبرت ميكلسون — على جائزة نوبل في الفيزياء ليكون أول أمريكي يفوز بها. ومكث جودارد في كلارك حتى صار أستاذًا، وبينما اكتفى أوبيرت وتسيولكوفسكي في معظم الوقت بالكتابة عن الصواريخ الفائقة الأداء، أخذ جودارد خطواتٍ واسعة في سبيل جعلها حقيقة.

بدأ أولًا بحلم الطيران إلى المريخ في عام ١٨٩٩ بينما كان عمره سبعة عشر عامًا، بعد قراءة رواية إتش جي ويلز «حرب العوالم». وقادته دراساته في الفيزياء إلى دراسةِ علم الصواريخ، ووضْعِ برنامج من التجارب، سرعان ما صار مكلِّفًا على نحوٍ فاق راتبه الذي كان يبلغ وقتها ١٠٠٠ دولار أمريكي سنويًّا. لكنه كان يعرف أن معهد سيمثونيان له سجلٌّ حافل في دعم أبحاث الطيران؛ فتقدَّمَ بطلبٍ وفاز بمنحة قدرها ٥٠٠٠ دولار أمريكي، وعندما وصله شيكٌ بمبلغ الألف دولار الأولى عبر البريد، صاحت أمه في انفعال: «فَكِّرْ في الأمر! تُرسِل إلى الحكومة بضع أوراق مكتوبة على الآلة الكاتِبة وبعض الصور، ثم يرسلون إليك ١٠٠٠ دولار أمريكي ويخبرونك أنهم سيرسلون إليك أربعة آلاف أخرى.» استمرت علاقة جودارد بمعهد سيمثونيان بقية حياته.

ظهرت نتيجة مبكِّرة لتلك العلاقة في عام ١٩٢٠، حيث نشر المعهد أفكار جودارد المبكرة حول الصواريخ في كتيب من تسع وستين صفحة بعنوان «أسلوب بلوغ الارتفاعات الشاهقة». وفي ملاحظة هامشية نوعًا ما، ضمَّنَ جودارد في الكتيب مناقشةً موجزةً حول صاروخٍ ينطلق إلى القمر، ويعلن عن وصوله من خلال تفجير شحنة متفجرة من البارود اللامع. نشر معهد سيمثونيان هذه الرحلة الفضائية في بيان صحفي، بل أُلقِي أيضًا مزيدٌ من الضوء عليها في صحفٍ كبرى، من بينها صحيفة «نيويورك تايمز»، التي نشرت الخبر تحت عنوان: «الهدف العاشر للصعود إلى القمر على متن صاروخ جديد». صُدِم جودارد الذي كان يكره المبالغات الدعائية؛ فقد كان خجولًا بطبيعته، وكتومًا ومتحفظًا، وازداد الأمر لديه الآن. وخلال العقود التالية لتلك الواقعة، لم يكن ينسحب من الأضواء العامة فحسب، بل من رفقة المهندسين المحترفين الذين ربما كان يعاملهم بوصفهم أندادًا له.

ساهمَتْ أبحاث جودارد المبكرة في تطوير أداء صواريخ الوقود الصلب على نحو بالغ؛ فقد اتجه جودارد إلى استخدام الوقود السائل، وفي مارس ١٩٢٦ أطلق أول صاروخِ وقودٍ سائل في العالم، قبل خمس سنوات من تجربة الألمان، وقبل سبع سنوات من طرح طراز «٠٩» الذي أطلقه كوروليف. وبلغ الصاروخ ارتفاع ١٨٤ قدمًا؛ احترق جزء من الفوهة، لكن هذه الرحلة القصيرة كانت كافية لإثبات أهمية ما قام به وتأكيد السَّبْق له. لكن، من اللافت للنظر أن جودارد لم يصرِّح بأي بيان يعلن فيه عن هذه الرحلة.

كانت المنطقة التي أجرى فيها جودارد تجربةَ الإطلاق عبارة عن مزرعة فراولة في مدينة أوبِرن القريبة، وهي مزرعة مملوكة لإحدى قريباته من بعيد وتُدعَى «العمَّة» إيفي وارد. كانت طويلة، ذات شعر رمادي تعقصه على هيئة كعكة؛ لم يسبق لها الزواج، وكان منزلها مليئًا بالقطط، كما كانت تتمتع بروح نضرة، إذ كانت تستقبل جودارد بابتهاج وتسمح له بتخزين معدَّاته في حظيرة دجاج خالية. كان مدير دائرة الإطفاء المحلية أقل ترحيبًا؛ ففي أعقاب عملية إطلاقٍ مشابهة لصاروخ آخَر في عام ١٩٢٩، صدرت الأوامر إلى جودارد بالتوقف عن إجراء تجاربه. وعثر جودارد بعد ذلك على موقع إطلاق آخَر، في قاعدة فورت ديفنز التابعة للجيش؛ وبدعم من معهد سيمثونيان، حصل على تصريح لاستخدام هذا الموقع.

في تلك الأثناء، كان الطيَّار تشارلز لندبرج يصوغ أفكاره حول إطلاق رحلاتٍ فضائية باستخدام مركباتٍ صاروخية، وكانت تجربة جودارد التي أجراها عام ١٩٢٩ قد أحدثت حالة من الاهتمام الجماهيري القصير الأجل، وهو أمرٌ لاحَظَه لندبرج نفسه. وبعدها بفترة وجيزة، أخبر جودارد زوجته: «تلقيتُ مكالمة مشوقة من تشارلز لندبرج.» فأجابته قائلةً: «بالطبع، بوب. وأنا أيضًا تناولتُ الشاي مع ماري، ملكة رومانيا.»

سرعان ما قادَ لندبرج جودارد إلى هاري جوجنهايم، وهو وريثُ ثروةٍ في مجال صناعة النحاس ومديرُ مؤسسةٍ كانت لها جهودها النَّشِطة في الترويج للأبحاث الجديدة في علم الطيران، وسمح الدعمُ الذي أسفرت عنه هذه العلاقة لجودارد بترك جامعة كلارك وإقامة برنامجٍ جادٍّ لأبحاث الصواريخ في نيو مكسيكو؛ حيث كانت توجد وفرة من الأراضي، فضلًا عن الخصوصية التي كان يتطلَّع إليها. وكان جودارد يعمل بمفرده باستثناء مساعدة زوجته إستر ومجموعةٍ صغيرة من الميكانيكيين الذين سبَقَ أن عملوا معه في ماساتشوستس. وعلى الرغم من هذا الدعم الهزيل، استطاع جودارد أن يقطع شوطًا كبيرًا في أبحاثه.

كان أول نجاح مهم حققه في ديسمبر ١٩٣٠، عندما انطلق صاروخ بسرعة ٥٠٠ ميل في الساعة، وهو ما كان يفوق سرعة أي طائرة في ذلك الوقت، وبلغ ارتفاع ٢٠٠٠ قدم. ولم يُستخدَم أي أجهزة تبريد في محرك الصاروخ، بل كان الاعتماد عوضًا عن ذلك على بطانةٍ داخلية من الخَزف مقاوِمةٍ للحرارة. بالإضافة إلى ذلك، لم يتضمن الصاروخ أي نظام توجيه؛ حيث اعتمد في تسارعه في البداية على انطلاقه على طول قضبان حديدية داخل برج إطلاق، ثم على زعانف لإعطائه ثباتًا كثبات السهم عند انطلاقه في الهواء. وفي الجولة التالية من تجاربه، أضافَ جودارد نظامَ تبريد وبوصلةَ توجيه جيروسكوبية.

كان نظام توجيه جودارد يستبق في ميزاته التصميمات الألمانية اللاحقة؛ حيث كان يستخدم بوصلةً لاستشعار الانحرافات عن المحور الرأسي، مصحِّحًا إياها من خلال غمس الأرياش المقاوِمة للحرارة في عادم الصاروخ. وكانت هذه الأرياش تستعيد حركة الصاروخ في مساره الرأسي بعد تبديد العادم. ولتبريد المحرك، استبق جودارد أبحاث فالتر ثيل الألماني باختراع نظام التبريد الغشائي؛ ومن خلال هذه الإضافات، بلغ صاروخ جودارد ارتفاع ٧٥٠٠ قدم في عام ١٩٣٥، وعلقت إستر على ذلك بقولها: «كان الأمر يشبه سمكة تسبح عبر الماء لأعلى.»

حتى ذلك الحين، كان جودارد قد ضغط خزانات الوقود الدفعي لتغذية محركات الصواريخ. وفي أثناء بحثه عن وسيلة لبناء صواريخ كبيرة حقًّا، طوَّرَ جودارد مضخات توربينية خفيفة الوزن استبقت مجددًا النماذج الألمانية، كما بدأ في بناء محرك يستخدم نظام التبريد الغشائي ويبلغ حجمه ضِعْف حجم المحرك الأول، وقوة دفعه ٧٠٠ رطل. ولم ينجح تمامًا في مسعاه؛ إذ مالَ أفضل صاروخ أطلَقَه في أغسطس ١٩٤٠ على الفور بعد انطلاقه، وتحطَّم على الأرض على مسافة ٤٠٠ قدم فقط. وبعد ذلك، بعدما دخلت الولايات المتحدة الحربَ، ترك جودارد نيو مكسيكو للانضمام إلى مشروع صواريخ في سلاح البحرية في أنابوليس.

يقول رئيسه، روبرت ترواكس، الذي بدأ العمل على مشروع الصواريخ الخاص بالبحرية بعد تلقيه تفويضًا من الأكاديمية البحرية بذلك: «كان في مقدوره دائمًا أن يجعلنا ننصت إليه في اهتمام بالغ، لكنه لم يكن يتحدث عن الصواريخ مطلقًا؛ وأعتقد أنه كان يخشى أن يسرق أحدٌ أفكارَه. ولم تكن الأدوات التي استعان بها جيدة. كان فيزيائيًّا؛ ومن ثَمَّ كانت قدرته على أداء الأعمال الهندسية محدودةً للغاية، ولم تكن تعوزه الرؤية بكل تأكيد، وما من شيءٍ تقريبًا جرى تطويره بنجاح لاحقًا إلا وكان لجودارد السَّبْق في تجربته، ولو لمرة واحدة على الأقل، لكنه كان شخصًا شديد العُزلة. وفشل مرةً تلو مرة، حتى إنني مندهشٌ من نجاحه في إطلاق صاروخ من برج الإطلاق.»1

لكن، على الرغم من أنه لم تكن لديه سوى ورشة ماكيناتٍ متواضعة استعان بها في تجاربه، فإن نتائج تجاربه كانت تضاهي أفضل النتائج التي توصَّل إليها فيرماخت في ألمانيا قبل عام ١٩٤٢؛ فقد بلغ ارتفاع صاروخه في عام ١٩٤٠ اثنتين وعشرين قدمًا؛ ممَّا وضعه في فئة واحدة مع صاروخَيْ فون براون «إيه-٣» و«إيه-٥». وكان نظام التوجيه الذي وضعه أبسط إلى حدٍّ كبير؛ إذ لم يكن يتطلب سوى الحفاظ على مسار رأسي. وعلى النقيض من ذلك، ركَّزت الجهود الألمانية على تصميم نظام توجيه يعمل عبر مسار محسوب بدقة يستهدف هدفًا مثل لندن. ونجح جودارد مرارًا في إطلاق رحلاتٍ موجَّهة خلال عام ١٩٣٥، بينما فشل فون براون مرارًا في إطلاق صاروخ «إيه-٣» الموجَّه في أواخر عام ١٩٣٧. بالإضافة إلى ذلك، نجحت الرحلات التي قام بها جودارد عام ١٩٣٥ في استخدام محركاتٍ تعمل بنظام التبريد الغشائي، بينما كان صاروخَا «إيه-٣» و«إيه-٥» اللاحقان يعتمدان اعتمادًا كاملًا على نظام التبريد الاسترجاعي، وهو ما كان أسهلَ في تطويره لكنَّ نطاقَ استخدامه كان محدودًا في الصاروخ «في-٢» الأكبر حجمًا. ومن خلال استخدام المضخات التوربينية عوضًا عن الخزانات المضغوطة، أدخَلَ جودارد ميزةً متطورة لم يكن الألمان يستخدمونها إلا مع الصاروخ «في-٢» نفسه.

استولى الأمريكيون على الصاروخ «في-٢» ونقلوه إلى أنابوليس في عام ١٩٤٥، وتولى جودارد وطاقم عمله فحصه. قال أحد معاونيه: «دُهِشتُ؛ فقد كان بالطبع أكثر تطورًا وأكبر حجمًا بكثير من الصواريخ التي جرَّبْناها، لكنه بدا مألوفًا جدًّا على أية حال.» وقال معاون آخَر: «إنه يبدو مثل صواريخنا، دكتور جودارد.» وأجابه دكتور جودارد قائلًا: «نعم، يبدو كذلك.» وفي تلك اللحظة، لم يكن أمامه سوى بضعة أسابيع ليحياها حيث كان مريضًا بالسرطان، ومات في أغسطس ١٩٤٥ عن عمر يناهز اثنين وستين عامًا.

خلال حياته، كان جودارد صاحب رؤية مستقبلية ولم يَلْقَ حظًّا وافرًا من التكريم؛ إذ كان نادرًا ما يحضر اجتماعات الجمعيات الفنية، ولم يكن ينشر كثيرًا من الأبحاث. وبعد نشر بحثه الأحادي الموضوع في مجال الصواريخ في عام ١٩٢٠، لم ينشر أي أبحاث حتى عام ١٩٣٦، عندما أصدر تقريرًا ثانيًا لصالح معهد سيمثونيان، استعرض فيه أبحاثه منذ عام ١٩٢٠ وحتى عام ١٩٣٥، فيما لا يزيد عن عشر صفحات. وكان يُحيل المهتمين بأبحاثه إلى براءات الاختراع المُسجَّلة باسمه لمعرفة مزيدٍ من التفاصيل.

سجَّلَ جودارد الكثير من براءات الاختراع المهمة؛ فعندما وصل إلى أنابوليس، كان يحمل ثمانيًا وأربعين براءة اختراع في مجال تصميم الصواريخ، وكان كثيرٌ منها يتضمن ميزاتٍ رئيسية سابقة على الميزات الموجودة في الصاروخ «في-٢»، بما في ذلك نظام التبريد الغشائي، واستخدام البُوصلة الجيروسكوبية في نظام التوجيه، والمضخة التوربينية الصالحة للاستخدام مع الأكسجين السائل. وخلال سنوات الحرب، قدَّمَ طلباتٍ لتسجيل مزيد من البراءات؛ ممَّا أسفر عن خمس وثلاثين براءة اختراع جديدة، كان من بينها براءة اختراع محرِّك متعدد نُظُم الدفع، وبراءة أخرى تتضمن وصفًا كاملًا للصاروخ الذي صمَّمَه عام ١٩٤٠. وبعد وفاته، نظَّمَتْ أرملته أبحاثَه الشخصية لنشرها لاحقًا، وحصلت على ما يزيد عن ١٣٠ براءة اختراع إضافية، ومُنِحت آخِرها في عام ١٩٥٧.

كان كثيرٌ من هذه الاختراعات يمثِّل تأمُّلاته وأفكاره، وليست مجرد أجهزة بناها بأسلوب عملي. ومع ذلك، فقد أحسن الألمان استغلالها؛ ففي عام ١٩٤٥، قال أحد الجنرالات في سلاح لوفتفافا، أثناء استجوابه على أيدي أحد المحقِّقين الأمريكيين: «لماذا لا تسألون رَجلكم هذا الذي يُدعَى الدكتور جودارد؟» في عام ١٩٥٠، صرَّحَ فون براون قائلًا: «انبهرتُ للغاية بدقة أبحاث جودارد وشموليتها، ووجدتُ أن الكثير من حلول التصميم الموضوعة في الصاروخ «في-٢» قد تناولَتْها براءات الاختراع المُسجَّلة باسم جودارد.»

رثاه كاتِب سيرته الذاتية، ميلتون ليمان، بأبياتٍ من قصيدة للشاعر روبرت براونينج:
إنَّ الرجل البسيط ليسعى إلى تحقيق شيءٍ بسيط،
فيراه ويحققه،
بينما يسعى الرجل العظيم إلى تحقيق شيءٍ عظيم،
فيموت قبل أن يدركه …

على الرغم من ذلك، حالَ تحفُّظ جودارد المهني دون أن يكون له دورٌ رائد في بناء المؤسسات والكيانات، التي بحلول عام ١٩٤٥ كانت تضع بالفعل حجرَ الأساس للتطور الذي شهده علم الصواريخ الأمريكي لاحقًا؛ وكان من بين هذه المؤسسات المهمة اتحادٌ مهني ظلَّ جودارد عازفًا عن الانضمام إليه، وهو نادي الصواريخ الأمريكي.

تشكَّلت هذه الجمعية في شهر أبريل من عام ١٩٣٠ من جمهرة من الكُتَّاب الذين قدَّموا مقالات للنشر في مجلة هوجو جرنزباك «ساينس ووندر ستوريز»، وهي من أولى مجلات الخيال العلمي التي كانت تُنشَر على ورق خشن من لُبِّ الخشب ذي حوافَّ غير مقصوصة؛ وكان مؤسِّسها وأول رئيسٍ لها، ديفيد لاسر، مراسِلًا لصحيفة «هيرالد تريبيون» في نيويورك، لكنه كان يكتب لصالح جرنزباك كنشاطٍ إضافي. وبدأت مجموعة الكُتَّاب هذه في نشر صحيفة إخبارية متخصِّصة تصدر في عدة نسخ؛ حيث كانوا يجتمعون كل أسبوعين في المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي.

كان أول اسم أُطلِق على مجموعة الكُتَّاب هو الجمعية الأمريكية للرحلات الكواكبية، وهو يعكس تخصُّصها الأصلي في مجال الخيال العلمي. وواصل لاسر الكتابة في هذا الموضوع، فنظَّمَ في أوائل عام ١٩٣١ اجتماعًا عامًّا في متحف التاريخ الطبيعي تحت عنوان «رحلة على متن صاروخ إلى سطح القمر»، وكان مصدر انجذابه الأساسي نسخة إنجليزية من الفيلم الألماني «امرأة في القمر». وبعد أن حذف مشاهد الحب الموجودة في الفيلم، أعلن لاسر عن الفيلم في نسخته الإنجليزية قائلًا: «إنه يصوِّر الرحلة الحقيقية لصاروخ خيالي، لكنه ممكنٌ من الناحية العلمية، إلى سطح القمر.» وأعلن عن الاجتماع من خلال تعليق عشرات اللوحات الإعلانية في محطات مترو أنفاق نيويورك. وكان حضور الاجتماع مجانًا، وبلغ عدد الحاضرين نحو ألفَيْ شخص تقريبًا، لكنَّ قليلًا منهم هم مَن انضموا إلى الجمعية.

كان من بين أصدقاء لاسر شخصٌ شغوف بعلم الصواريخ يُدعَى جي إدوارد بندراي. ولاحقًا في عام ١٩٣١، قام بندراي وزوجته بجولة عبر أوروبا، وكان موضوع أبحاث الصواريخ يستحوذ كثيرًا على اهتمامهما. في برلين، زارا راكتنفلوجبلاتس، حيث منحهما رودلف نيبل ما وصفه بندراي بأنه «أكثر التجارب التي لا سبيل إلى نسيانها على مدار الرحلة بأسرها»، وكان يقصد بتلك التجربة اختبارًا استاتيكيًّا لمحركِ وقودٍ سائلٍ صغير؛ ولم يكن بندراي قد رأى تجربة كهذه من قبلُ، وعندما عاد إلى نيويورك عقَدَ العزمَ على بناء هذه الصواريخ بنفسه. ولم يسِرْ لاسر على نهج تصميمات نيبل فحسب، بل اتَّبَع أيضًا أساليبه في تطوير صواريخ زهيدة التكلفة.

تلقَّى بندراي مساعدةً هائلة من هيو بيرس، أحد أعضاء الجمعية والذي كان يعمل سابقًا في سلاح البحرية، ويضع على جسده علامات بالوشم تبرهن على ذلك، ولكنه في ذلك الوقت كان يعمل في بيع التذاكر إلى الركَّاب في مترو أنفاق نيويورك. تدرَّبَ بيرس في سلاح البحرية على العمل كميكانيكي، وأبدى استعدادًا لبناء مكوِّناتٍ صاروخية في ورشة في الطابق السفلي من المبنى الذي كان يقطن فيه في برونكس. عمِلَ بيرس في هذا المشروع بلا أجر، وكان يستخدم ورشة العمل دون إيجار، وكان جزء من عمله يتضمن معالجة سبائك الألومنيوم، التي حصل عليها كهدايا من أحد المديرين في شركة الألومنيوم الأمريكية (ألكوا).

لم تكلِّفه الصمامات شيئًا أيضًا، بعد أن طلبَ عضو آخَر عيناتٍ مجانيةً من أحد المورِّدين. واستعان بخلاط يُستخدَم في تحضير مشروبات الكوكتيل كقميص مياه لتبريد المحرك، واشترى من أحد المتاجر المتنوعة الأقسام قطعةً من الحرير لا يزيد ثمنها عن خمسة دولاراتٍ أمريكية، واستخدمها كمظلَّة للصاروخ، وكان حاملها عبارة عن قِدْر صغير. وفي شركة «إير ريداكشن»، التي كانت تعمل في مجال معالجة الغازات المُسالة، باعَ لهم أحدُ مسئولي الشركة أسطوانةَ أكسجين سائل مُستعمَلة مقابل خمسة عشر دولارًا أمريكيًّا، واتفق على ملئها مجانًا؛ ودفع هذا الكرمُ بندراي إلى أن يقترح إنشاء فريق للإشادة بالشركة، «يعمل أعضاؤه على الإشادة بشركة «إير ريداكشن» طوال ساعات النهار والليل، عندما لا تكون لديهم أعمال أخرى».

بلغت التكلفة الفعلية لهذا الصاروخ الأول أقل من خمسين دولارًا أمريكيًّا، بَيْدَ أن بندراي اكتشف أن النتائج التي حصل عليها كانت متواضعةً، شأنها شأن هذه التكلفة الزهيدة؛ فقد أظهرت الاختبارات الأرضية أن الصاروخ قيد التجربة كان هشًّا وغايةً في التعقيد، وهو ما تطلَّبَ بدوره إعادةَ بناءٍ شاملة. وانطلق الصاروخ المُعاد تصميمه، أو حاول الانطلاق، في جزيرة ستاتن في مايو ١٩٣٣؛ وعلى حدِّ قول بندراي، فقد «بلغ الصاروخ ارتفاع ٢٥٠ قدمًا تقريبًا، بعد ثانيتين تقريبًا من انطلاقه، وكانت الأمور تسير على ما يرام حتى انفجر خزَّان الأكسجين». وعلى إثر ذلك، توقَّفَ المحرك عن العمل وسقط الصاروخ في الخليج المجاور، حيث تمكَّنَ صبيَّان في قاربٍ من انتشاله.

على الرغم من ذلك، ومثلما قال بندراي لاحقًا، فإن هذا الصاروخ كان «أول صاروخ وقود دفعي سائل يراه أيٌّ منا وهو ينطلق محلِّقًا لأعلى». وكان انطلاق الصاروخ علامةً أيضًا على ما أحرزته الجمعية من تقدُّمٍ نقَلَها من بداياتها التي كانت تعتمد على الخيال العلمي، نحو المهنية بمعناها الحقيقي. وكانت الجمعية قد توقَّفت عن إصدار صحيفتها الإخبارية المتخصصة الصادرة في عدة نسخ لتنشر مجلة جذَّابة، أُطلِق عليها اسم «أسترونوتيكس» (أيْ علم الفضاء). بعد عملية الإطلاق، في الاجتماع السنوي في أبريل ١٩٣٤، اتخذت الجمعية اسمًا جديدًا وهو نادي الصواريخ الأمريكي، وشرع الباحثون التجريبيون في الجمعية في الإعداد لإطلاق صاروخ جديد تمامًا.

كان محرك الصاروخ الجديد من تصميم جون شِستا، وهو عضو في الجمعية طويل القامة وسَمْته التحفُّظ، حاصل على شهادة علمية في مجال الهندسة المدنية من جامعة كولومبيا. وكان محرك شِستا يحتوي على أربع فوهاتٍ تُغذَّى جميعًا من غرفة دفع مشتركة. تمت عملية الإطلاق التجريبية في سبتمبر ١٩٣٤، في جزيرة ستاتن مجددًا، وبعد ثوانٍ معدودة من عملية الإطلاق، احترقت إحدى الفوهات؛ فمالَ الصاروخ وأحدَثَ صوتًا مدوِّيًا عبر المياه بسرعة تقترب من سرعة الصوت، وغاصَ في مياه الخليج على مسافة رُبع ميل من موقع الإطلاق، فيما كان محرك شِستا لا يزال يعمل بقوة.

اتُّخِذت ترتيبات لإجراء أبحاث أخرى، لكنَّ بندراي أشار إلى أنه «في محيط مدينة نيويورك، لم يكن السكان مرحِّبين بعمليات إطلاق الصواريخ أو اختبارات المحركات، ولم تُبْدِ الشرطة موافقتها على إجرائها، ولم يكن ثمة طريقة للحصول على تصريح للاستمرار في إجراء هذه التجارب دون إزعاج. وبناءً على ذلك، أجرت الجمعية كثيرًا من هذه التجارب في ظل بعض المضايقات، ورأت أن التغييرَ المتكرر وغير المعلَن لموقع الاختبار خطوةٌ حكيمة، وفي بعض الأحيان إجراء احترازي ضروري».2

على الرغم من هذه الصعوبات، اعتمدت الأنشطة التجريبية لنادي الصواريخ الأمريكي على جهود طالب لامع في جامعة برنستون يُدعَى جيمس وايلد. في عام ١٩٣٥، خلال السنة النهائية له بالجامعة، عَرفَ وايلد بأمر الجمعية، وبحث عن رقم هاتفها في دليل هاتف مانهاتن، وسرعان ما صار منغمِسًا للغاية في أنشطتها المختصة بمجال الصواريخ. ثم تخرَّج وحصل على وظيفةٍ، لكنه كان يمارس عمله في أبحاث الصواريخ في وقت فراغه؛ حيث كان هدفه يتمثل على وجه التحديد في العثور على أفضل طريقة لتبريد المحركات. ورأى وايلد أن نظام التبريد الاسترجاعي نظامٌ مبشِّر، وانتقل إلى جرينتش فيلدج وأقام ورشة في مخزن للمؤن ملاصق لحجرته المُستأجَرة. وفي عام ١٩٣٨، فقَدَ وظيفته ووجد لديه فجأةً مزيدًا من الوقت لتنفيذ هذا المشروع.

أنهى وايلد العمل على محرك بلغت قوة دفعه أكثر من تسعين رطلًا، ولم يكن يزن أكثر من رطلين، وعند اختباره في ديسمبر ١٩٣٨، كانت الأضرار التي وقعت من جَرَّاء حرارة الاحتراق أقلَّ بكثير مما حدث في أي محرك صمَّمه زملاؤه. وحصل وايلد بعد ذلك على وظيفة جديدة ونحَّى صاروخه جانبًا، إلا أنه عاد إلى العمل فيه في عام ١٩٤١، وأدخل تعديلاتٍ عليه، وأكَّدت الاختبارات الإضافية، التي أُجرِيت في صيف ذلك العام، موثوقيةَ هذا الصاروخ وأداءه المُرضِي تمامًا.

في تلك الأثناء، كان ثمة عضو آخَر في الجمعية، يُدعَى لوفيل لورانس، يعمل في واشنطن واعتقد أنه ربما يتمكَّن من إبرام عقد مع إحدى الهيئات الحكومية؛ فوضع محرك وايلد في حقيبته؛ إذ كان صغيرًا بما يكفي لأن يحمله في يده، وبدأ جولاته لدى الهيئات الفيدرالية. أثار لورانس حماسَ المسئولين في مكتب الملاحة الجوية التابع للبحرية، لكنه اكتشَفَ أن المكتب لا يُبرِم عقودًا مع أفراد عاديين. لكن الوضع كان سيختلف تمامًا إذا كان لورانس يمتلك شركةً؛ لذا أقام لورانس شركةً على الفور، وتولَّى هو رئاستها وعيَّنَ فيها بيرس ووايلد وشِستا كمسئولين ومديرين وموظفين وحاملي أسهم. وفي أوائل عام ١٩٤٢، حصل لورانس على العقد.

أطلق وايلد على الشركة اسم «ريأكشن موتورز»، مستفيدًا من اسم «جنرال موتورز»، وكان رأس المال المبدئي ٥٠٠٠ دولار أمريكي. كان مقر الشركة في البداية في مرأب مملوك لصِهْر شِستا، لكن سرعان ما انتقلوا إلى نادٍ ليلي سابق في منطقة بومبتون بلينز بولاية نيو جيرسي، وكانت مقاعد البار لا تزال في موضعها عندما انتقلوا إلى النادي الليلي. ولاختبار محركاتهم، بحثوا عن منطقة معزولة قُرْبَ فرانكلين ليكس، وشيَّدوا مبنًى خرسانيًّا مجهَّزًا بأكمله بزجاجٍ مقاوِم للكسر.

كانت البحرية الأمريكية مهتمة بالصواريخ التي يمكن أن تساعد في إقلاع الطائرات ذات الحمولات الثقيلة، وساهمت الأبحاث التي أجراها روبرت جودارد أثناء الحرب في أنابوليس في هذا الموضوع، كما لعبت شركة «ريأكشن موتورز» دورًا في ذلك. وكانت المهمة العاجلة في البحرية تتمثَّل في تطوير نماذج أكبر حجمًا من محرك وايلد، تعمل بقوة دفع ١٠٠٠ رطل، ثم لاحقًا ٣٠٠٠ رطل، وهو ما نفَّذَتْه الشركة بنجاح. وفي عام ١٩٤٥، بالاستعانة بجميع العاملين في الشركة — وعددهم خمسة وثلاثون شخصًا — حصلت الشركة على تكليفٍ جديدٍ من البحرية، وهو تصميمُ محركِ طائرةٍ صاروخية تستطيع كسر حاجز الصوت.

كانت هذه الطائرة طراز «إكس-١» مشروعًا مشتركًا بين سلاح القوات الجوية بالجيش وشركة «بيل إيركرافت» في بافلو بولاية نيويورك. علِمَ أحد مهندسي شركة «بيل»، وهو بنسون هاملين، بالمهمات التي كانت شركة «ريأكشن موتورز» تؤدِّيها لصالح سلاح البحرية، وأدرك أن هذه الشركة تستطيع بناء ما يحتاجه بسرعةٍ. كان المحرك الذي صمَّمَتْه الشركة، وهو محرك «إكس إل آر-٢»، نتاجَ نقاشاتٍ دارت على الغداء والعشاء في مطعم تراينجل جريل، وهو المطعم المفضَّل لدى موظفي شركة «ريأكشن موتورز». وذكرَ أحد المشرفين لاحقًا أنه في أعقاب وجبات الغداء تلك، كانوا جميعًا يعودون إلى المكتب «ويعملون بجد بالغ، يستمر في بعض الأحيان حتى الساعة العاشرة أو الحادية عشرة مساءً. وفي بعض الأحيان، كان جون شِستا يُحضِر معه لوحة تصميماتٍ ويُدخِل تعديلاتٍ في الحال».

ظهر المحرك في نموذج بسيط؛ حيث كان يحتوي على أربع وحدات طراز وايلد، كلٌّ منها تبلغ قوة دفعها ١٥٠٠ رطل. ولم يكن المحرك يتضمَّن صمامَ اختناق، لكنْ كان بإمكان قائد الطائرة «إكس-١» إشعال غُرَف الاحتراق واحدةً تلو الأخرى، بنسبة ٢٥ أو٥٠ أو ٧٥ أو ١٠٠ في المائة من كامل قوة الدفع البالغة ٦٠٠٠ رطل. وكان من المفترض أن يتضمَّن الصاروخ مضخةً توربينية، إلا أنها استغرقَتْ وقتًا في تطويرها. وكبديل مؤقت، اعتمدت الطائرة «إكس-١» على خزاناتِ وقودٍ دفعي مضغوط سميكةِ الجدران؛ ممَّا زاد من الوزن عند الهبوط بمقدار طن. وعلى الرغم من ذلك، كانت لدى المحرك طاقة احتياطية يدخرها؛ واستخدم تشاك ييجر — أحد طيارِي القوات الجوية — هذا المحرك للتحليق بطائرته التي اخترقَتْ حاجزَ الصوت في أكتوبر ١٩٤٧، ليكون بذلك أول طيَّار يحلِّق بسرعةٍ تتجاوز سرعة الصوت.

طوَّرَ نادي الصواريخ الأمريكي وشركة «ريأكشن موتورز» والمحرك «إكس إل آر-٢» التجاربَ التي أجروها لإعطاء نتائج أفضل. ومع اندلاع الحرب، تخلَّى نادي الصواريخ الأمريكي عن تجاربه وصار جمعيةً تضمُّ المهندسين المحترفين، وازدهرت أنشطته وسط برامج الصواريخ والرحلات الفضائية الممتدة في سنوات ما بعد الحرب؛ وفي عام ١٩٦٣ أُدمِجَ مع معهد علوم الطيران، وصارت الجمعيةُ الهندسية التي تمخَّضَتْ عن عملية الدمج هذه — التي سُمِّيت بالمعهد الأمريكي لعلوم الفضاء والطيران — الجمعيةَ الرائدة في مجال الفضاء على مستوى البلاد.

ازدهرت أنشطة شركة «ريأكشن موتورز» أيضًا بعد الحرب، واشترى المُموِّل لورانس روكفلر حصةً حاكِمة عام ١٩٤٧، موفِّرًا بذلك الكثير من رأس المال العامل. ووفَّرت البحرية أيضًا منطقةَ اختباراتٍ دائمة، في مستودع ذخيرة في ليك دنمارك بولاية نيو جيرسي، وصارت الشركة تُصنِّع محركات معظم الطائرات الصاروخية في البلاد في عقود ما بعد الحرب، وصار المحرك «إكس إل آر-٢» هو المحرك المستخدَم لأي شخصٍ يرغب في محرك بحجمه، بسيط وموثوق فيه.

نفَّذَتْ شركة «ريأكشن موتورز» مشروعين كبيرين وجديدين ميَّزَا أنشطتها في سنوات ما بعد الحرب، وهما محركٌ بقوة دفع ٢٠ ألف رطل لاستخدامه في صاروخ الأبحاث «فايكنج» في البحرية الأمريكية، ومحركٌ بقوة دفع ٥٧ ألف رطل لاستخدامه في أكثر الطائرات الصاروخية تطوُّرًا في القوات الجوية، وهي الطائرة «إكس-١٥». وفي عام ١٩٥٨، دُمِجت الشركة مع شركة «ثيوكول كيميكال» الأكبر حجمًا بكثير. وعلى الرغم من ذلك، فشلت الشركة في إبرام أي عقود كبرى وأوقفَتْ نشاطَها نهائيًّا عام ١٩٧٢، ولكنْ بفضل النجاح الذي حقَّقه الصاروخ «إكس-١» بعد الحرب مباشَرةً، صنعت شركة «ريأكشن موتورز» اسمًا لها بوصفها مقوِّمًا أساسيًّا في صناعة الصواريخ الناشئة.

في تلك الأثناء، كان أستاذ في علوم الفضاء، يُدعَى تيودور فون كارمان، يُرسِي دعائم أسس أخرى في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا. درسَ فون كارمان على يد الألماني لودفيج برانتل، الذي أسَّس علم ديناميكا الهواء ووضَعَ بعضًا من أهم أفكاره الثاقبة، وتولَّى آخرون من تلامذة برانتل تحضيرَ مستلزمات بناء المحركات النفَّاثة، والتوربينات الغازية، وأنفاق الرياح التي تتجاوز سرعتُها سرعةَ الصوت، والأجنحة لضمان طيرانٍ فائقِ السرعة.

انضمَّ فون كارمان إلى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتيك) عام ١٩٣٠، وكان رئيسه آنذاك، روبرت ميليكان، ثاني أمريكي يفوز بجائزة نوبل في الفيزياء. وكان من بين أعضاء هيئة التدريس الذين عيَّنهم ميليكان في المعهد الكثير من الشخصيات ذات الأسماء اللامعة، أمثال: ألبرت أينشتاين، والكيميائي لاينوس بولينج، وروبرت أوبنهايمر الذي أشرَفَ لاحقًا على تطوير أول قنابل ذرِّيَّة، وتشارلز ريختر الذي اخترع مقياس الزلازل. وقدَّمَ فون كارمان من خلال هذا المنصب إسهاماتٍ مهمة في مجال الطيران بسرعات تفوق سرعة الصوت، واشتهر بأنه الرجل رقم واحد في مجال علوم الطيران الأمريكية.

لم تكن تستحوذ على فون كارمان فكرةُ القيام برحلة فضائية إلى المريخ، أو فكرةُ تحويل الخيال العلمي إلى حقيقة واقعة، بل كان ينظر إلى علم الصواريخ باعتباره موضوعًا ضمن عدد من الموضوعات المشوقة التي تقع على هامش مجال الطيران. ومع ذلك، أدَّى عمل زملائه إلى إقامة مؤسستين كبيرتين، هما مختبر الدفع النفَّاث وشركة «إيروجت جنرال»، التي مع مرور الوقت ستتفوق على شركة «ريأكشن موتورز» بوصفها إحدى الشركات العامِلة في مجال بناء الصواريخ ومحركاتها.

بدأت هذه التطورات عام ١٩٣٦، عندما اتصل طالب دراسات عليا، يُدعَى فرانك مالينا، بفون كارمان ورتَّبَ لتصميم واختبار صواريخ لرسالته، وانضمَّ إليه شخصان آخَران متحمسان للفكرة من باسادينا، هما: إدوارد فورمان، ميكانيكي مخضرم؛ وجون بارسونز، كيميائي وخبير مفرقعات. ولم يستطيعوا إطلاق صواريخهم في معهد كاليفورنيا نفسه، الذي كان معزولًا مثل الدَّيْر، لكن مالينا عثر على المساحة المفتوحة التي كان يحتاج إليها على مسافة بضعة أميال من حرم المعهد في مقاطعة أرويو سِكو، التي تعني «المجرى الجاف».

زار مالينا روبرت جودارد في نيو مكسيكو، ولكن على الرغم من الاستقبال الجيد الذي لقيه من جودارد، لم يكن جودارد على استعدادٍ لمشاركة خبرته من أجل مساعدة طالب دراسات عليا في الحصول على درجة الدكتوراه فحسب. عاد مالينا إلى باسادينا وطوَّرَ معرفته مستغِلًّا كلَّ الفرص المتاحة، فدرَسَ المؤلَّفات الفنية الهزيلة المتوافرة، وسعى وراء الحصول على مصادر تمويل ومعدات بمساعدة زملائه الطلاب. وفي مايو ١٩٣٨، استقبل فون كارمان الجنرال هنري «هاب» أرنولد، الذي كان قد تولَّى مؤخرًا منصبَ قائد سلاح القوات الجوية. (حمل سلاحُ القوات الجوية ثلاثةَ أسماء خلال أقل من عقد من الزمان؛ كان يُسمَّى السلاح الجوي التابع للجيش حتى عام ١٩٤١، ثم القوات الجوية التابعة للجيش خلال سنوات الحرب، وفي عام ١٩٤٧ انفصل السلاح عن الجيش وصار هيئة مستقلة، عُرِفت باسم القوات الجوية الأمريكية.) وكان يعتقد أن مستقبل القوة الجوية يكمن في الأبحاث، وكان يعرف أن معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا هو المكان الذي سيعثر فيه على ضالته.

أُعجِب أرنولد ببحوث مالينا حول الصواريخ؛ ومثل نظرائه في البحرية، رأى أرنولد أن الصواريخ يمكن أن تساعد في إقلاع الطائرات. وفي خريف عام ١٩٣٨، دعا إلى عقد اجتماع للجنة استشارية شملت فون كارمان، اختار أعضاؤها عددًا من المشروعات الواردة في قائمةٍ من المشروعات البحثية؛ وكان أحد هذه المشروعات يتعلَّق بعلم الصواريخ، بينما كانت إذابةُ الجليد في الزجاج الأمامي للطائرات مشروعًا آخَر. قال جيروم هانساكر، رئيس قسم علوم الطيران في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: «سوف نركِّز أبحاثنا على مسألة الرؤية، وسيتولَّى كارمان مهمةَ باك روجرز.»

لم يكن هانساكر الوحيد الذي ينظر إلى الصواريخ على هذا النحو. رتَّبَ أرنولد لحصول معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا على منحة مبدئية قدرها ١٠ آلاف دولار أمريكي، لكنَّ الحصول على هذه المنحة كان مثارَ شكٍّ حتى بالنسبة إلى أعضاء فريق عمله أنفسهم. وزار مساعد أرنولد فون كارمان في أواخر عام ١٩٣٩، وسأله قائلًا: «هل تعتقد حقًّا أن سلاح القوات الجوية سينفق هذا المبلغ الطائل من الأموال، الذي يصل إلى عشرة آلاف دولار أمريكي، على شيء مثل الصواريخ؟» كان ثمة سببٌ وراء هذا التشكُّك؛ فعلى الرغم من أن مالينا لم يكن يسعى إلى ما هو أكثر من مجرد بناء وحداتِ وقودٍ صلبٍ للمساعدة في الإقلاع، فقد بَدَا حتى هذا الهدف المتواضع بعيدَ المنال.

كانت صواريخ الوقود الصلب التي كان الناس يعرفونها تشبه صواريخ الألعاب النارية، التي تحترق في انفجار مفاجئ. وعلى النقيض من ذلك، كانت وحدات مالينا الصاروخية تحترق في بطء، وهو ما كان يوفِّر قوةَ دفعٍ متواصلة لمدة عشرين ثانية؛ وأدَّت الاختبارات التجريبية إلى انفجارات متكررة، لكنَّ الميزة الأساسية في تجارب فون كارمان كانت تكمن في النظرية الرياضية، وفي عام ١٩٤٠ وضع هو ومالينا مجموعة من المعادلات التي أرشدتهما إلى كيفية المتابعة والمُضِيِّ قُدمًا. وتشجَّعَ سلاح القوات الجوية للفكرة، فضاعَفَ مبلغَ المنحة إلى ٢٢ ألف دولار أمريكي للسنة المالية ١٩٤١.

مع توافر هذه الأموال المفاجئة، رتَّبَ مالينا لاستئجار عدة فدادين في منطقة أرويو سِكو من مدينة باسادينا، وأقام هناك بضعةَ مبانٍ خشبية صغيرة ذات أسقف من المعدن المقوَّى، ولم تكن هذه المباني تحتوي من الداخل على مصدر تدفئة، بل كانت باردة وضيقة. انضمَّ خريج جديد آخَر، يُدعَى مارتن سَمرفيلد، إلى المجموعة وشرع في بناء محرك وقود دفعي سائل، إلا أن مساحة المكان كانت محدودةً، حتى إن سمرفيلد كان يعمل لفترةٍ من الوقت في المقعد الخلفي من سيارته.

كانت المهمة الأولى للمجموعة تتمثَّل في بناء وحدات وقود صلب موثوق فيها، وتحقيقًا لهذا الغرض كانوا يستعينون بجميع المعلومات المتوافرة بشأن الوقود والمواد المتفجِّرة. حقَّقت المجموعة نجاحًا مبدئيًّا في أغسطس ١٩٤١، عندما ركَّبوا مجموعةً من الصواريخ التجريبية على طائرة إركوب زنة ٧٥٠ رطلًا، وهي من أخف الطائرات المتوافرة وزنًا؛ وكتب فون كارمان لاحقًا: «أقلعَتِ الطائرة كما لو كانت أُطلِقت من مِقلاع، ولم يكن أيٌّ منَّا قد رأى طائرةً تنطلق بهذه الزاوية الحادة.» مع ذلك، تبيَّنَ أن هذه الوحدات غير ملائمة للاستخدام العسكري؛ إذ كانت حالتها تتدهور عند التخزين؛ ممَّا يُحدِث فرقعات تؤدِّي إلى وقوع انفجارات.

لم تفلح الأبحاث اللاحقة في اكتشاف أي مزيج من الوقود الدفعي التقليدي يستطيع تنفيذ مهمة الإقلاع، ثم خطَرَ خاطرٌ عابر لجون بارسونز، كبير الكيميائيين. كانت معظم المواد المستخدمة في هذا الوقود عبارة عن مساحيق من البارود، سهلة التفتُّت بطبيعتها وعُرضة لحدوث فرقعات؛ فماذا يحدث لو استُخدِم وقود لا يُحدِث فرقعة، مثل الأسفلت أو قار الرصف؟ صهر بارسونز كميةً من ذلك في إناء، ثم مزجها في كمية كبيرة من فوق كلورات البوتاسيوم، الذي كان بمنزلة مادة مؤكسدة. نجحت التجربة! وكان الوقود يشبه الأسفلت الصلب؛ وأعطى قوةَ دفعٍ جيدة ولم يُحدِث فرقعةً. وفي الواقع، كان هذا الوقود الصلب يزداد ليونةً وانسيابيةً في درجات الحرارة المرتفعة، وهو ما كان يتطلَّب تخزينَ الوحدات الجاهزة للعمل بحيث تكون فوهتها لأعلى.

كان هذا تطورًا كبيرًا في مجال الوقود الدفعي الصلب. وبالإضافة إلى ذلك، كان مارتن سَمرفيلد يحقِّق تقدُّمًا ملموسًا في تجاربه حول الوقود الدفعي السائل، الذي كان مصمَّمًا أيضًا للمساعدة في إقلاع الطائرات. وكان باحثَا البحرية، جودارد وجيمس وايلد، يسيران على نهج تقليدي يستخدم الأكسجين السائل، لكنَّ هذا السائل الفائق البرودة لا يمكن تخزينه؛ لأنه يتبخر في الحال عند امتصاصه الحرارة، وكان الجيش في حاجةٍ إلى أنواع وقودٍ دفعيٍّ قابلة للتخزين؛ لذا، شرع سَمرفيلد في بناء محرك صاروخي يستخدم هذه المواد.

أشار عليه بارسونز أن يجرِّب استخدام حمض النتريك الأحمر كعاملِ أكسدة، بمعنى أن يستخدم حمض النتريك التجاري مع مزيج من ثاني أكسيد النيتروجين. وكان سَمرفيلد يأمل في تسخين هذا الحمض مع الجازولين أو الكيروسين، اللذين كانا يمثِّلان نوعَين مألوفين من الوقود، لكنه لم يستطع استخدام المزيج بنجاح؛ إذ كانت محركات الصواريخ التي استخدَمَها تُحدِث صوتَ أزيز مكتوم شديد، ووسط مستويات الضغط المتذبذبة بسرعة، كانت المحركات تتوقَّف عن العمل أو تنفجر.

لم يكن أحدٌ في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا يعرف حلًّا لهذه المشكلة؛ لذا، سافَرَ مالينا إلى أنابوليس للقاء صديقه ورفيق دربه في الاهتمام بمجال الصواريخ، وهو روبرت ترواكس، الذي كان يدير وقتئذٍ برنامجَ الصواريخ في البحرية. بَدَا ترواكس، الذي كان رئيس جودارد، متجاوِبًا تمامًا، واقترح أحد مساعديه من الكيميائيين حرْقَ الأنيلين مع حمض النتريك، واشتعل هذا المزيج تلقائيًّا عند خلطه، دون حاجةٍ إلى جهاز إشعال منفصل. وكان مالينا يأمل في أن عملية الإشعال السريعة هذه ستؤدي إلى عملية احتراق سريعة، وهو ما سيسفر عن أداءٍ أكثرَ سلاسةً للمحرك.

جرَّبَ سمرفيلد هذا الخليط من الوقود، وعلى حد قول فون كارمان: «كانت النتائج مُبهِرةً؛ إذ امتزج حمض النتريك والأنيلين على نحوٍ رائع، وكان اللهب المتولِّد في المحرك عن هذا الامتزاج ثابتًا تمامًا.» وكان هذا الإنجاز في مجال صواريخ الوقود السائل مماثِلًا للإنجاز الذي حقَّقه بارسونز في مجال الوقود الصلب. ولم تقتصر جهود مالينا وسَمرفيلد على هذا الاختراع المهم لصاروخِ وقودٍ سائل يعمل بوقودٍ دفعيٍّ قابلٍ للتخزين، بل أظهرَا أيضًا كيف يمكن أن يسمح هذا المزيج من الوقود التلقائي الإشعال بتشغيل محرك على هذا النحو الثابت والموثوق فيه.

بحلول ذلك الوقت، كانت الولايات المتحدة قد دخلت الحرب، وصارت البحرية مهتمة أيضًا بهذا النوع من التجارب. وفي أوائل عام ١٩٤٢، أبرمت البحرية عقدًا التزَمَ مالينا وزملاؤه بموجبه بتطوير وحدات صاروخية للمساعدة في إقلاع الطائرات من حاملات الطائرات؛ وكان من الواضح أن هيئات القوات المسلحة تقدِّم سوقًا للبضائع الجاهزة التي كان يجري إنتاجها من هذه الوحدات؛ وكان من الواضح أيضًا أنه لا سبيلَ لأية شركة تجارية أن تجد لها مكانًا وسطَ الأبراج العاجية في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا. على أية حال، كان من الممكن أن تختفي هذه المشكلة إذا أسَّس الباحثون في مجال الصواريخ شركةً منفصلةً عن الجامعة.

بناءً على ذلك، أشار مالينا على فون كارمان أن يبادر إلى تأسيس هذه الشركة، ورأى الجنرال أرنولد أنها ستكون فكرة جيدة، وسعى كارمان إلى طلب المساعدة من أندرو هيلي — أحد الأصدقاء الذي كان محاميًا أيضًا — والتقيا مرارًا في غرفة معيشة كارمان، وكان برفقتهما مالينا وسَمرفيلد وبارسونز وفورمان. كانت الشركة الجديدة في حاجةٍ إلى اسم، واقترح هيلي ومالينا اسمَ «إيروجت». وكان من المقرَّر أن تبيع الشركة صواريخ، لا طائرات نفَّاثة، لكنَّ الاسم كان يعكس شغفًا متزايدًا بالدفع النفَّاث، بينما يدل في الوقت نفسه على الابتعاد عن هالة باك روجرز التي كانت لا تزال مرتبطة بالصواريخ. ملأ هيلي بيانات أوراق تأسيس الشركة في شهر مارس، وصار فون كارمان رئيسًا لها؛ وفيما يتعلق بمقر الشركة، استقرت المجموعة على معرض بيع سيارات في وسط مدينة باسادينا.

لم تكن الشركة أكثر من بداية مشروع، لكنها أحدثَتْ تأثيرًا ونفوذًا في أماكن مرموقة، واتضح ذلك عندما استُدعِي هيلي للخدمة في الجيش كمستشار قانوني. ولم تكن لدى فون كارمان معرفة جيدة بالأعمال التجارية، واكتشفت إيروجت فجأةً أنَّ مَنْ يرأسها لا درايةَ له بالعقود والقانون التجاري، ومن ثَمَّ لم تتلقَّ الشركةُ أيَّ طلبيات جديدة من وزارة الحربية؛ وكان الحل هو استعادة خدمات هيلي، لكن لم يكن بمقدور أحدٍ سوى الجنرال أرنولد أن يحرِّره من الخدمة في الجيش. أجرى كارمان اتصالًا هاتفيًّا بأرنولد، وبعدها بست ساعات صار هيلي مدنيًّا من جديد، وأصبح مؤهَّلًا لتولِّي رئاسة «إيروجت»؛ ومثلما قال كارمان لاحقًا: «إنَّ عجائب الكفاءة العسكرية في بعض الأوقات تكون مدهشةً للغاية.»

لكن، على الرغم من أن شركة «إيروجت» نجحت في مزاولة عملها بسهولة في واشنطن، فإنها لم تنجح في هذا الأمر بنفس السرعة في المصارف المحلية؛ فعلى غرار ما حدث لشركة «ريأكشن موتورز»، كانت «إيروجت» في حاجةٍ إلى رأس مال عامل. ومثلما حدث مع هذه الشركة في نيو جيرسي، كان المصرفيون في لوس أنجلوس ينظرون إلى علم الصواريخ باعتباره نشاطًا مشكوكًا في نتيجته؛ ممَّا يصعب معه تبريرُ فتحِ خطِّ ائتمانٍ له. عالَجَ هيلي هذه المشكلة أيضًا؛ إذ كان مكتبُ المحاماة الخاص به يضمُّ وكلاءَ مثل شركة «جنرال تاير آند رابر» الكائنة في مدينة أكرون بولاية أوهايو، وكان هيلي يعلم باهتمام مسئوليها بعمليات الاستحواذ؛ فرتَّبَ هيلي لشراء شركته من قِبَل هذه الشركة ودمجهما في كيان واحد. وواصلت شركة «هيلي» عملها تحت اسمها الجديد، الذي صار الآن «إيروجت جنرال».

بحلول ذلك الوقت، كان طاقم عمل فون كارمان من جماعة المهتمين بالصواريخ يدير مكتبًا هندسيًّا في معرض سيارات باسادينا، الذي كان عبارة عن مصنع إنتاج في مدينة أزوسا القريبة، فضلًا عن منشآت بحثية في أرويو سِكو. وكان الوصول إلى أرويو يتم من خلال السيارة؛ حيث كان المرء يقود سيارته في طريقٍ ترابي تغسله المياه عند هطول الأمطار، وإذا وصل المرء إلى هناك، فإنه يجد حفرًا اختبارية للصواريخ تحدُّها عوارض سكك حديدية. وأشار أحد الموظفين إلى أن الممرات في المكتب ضيقة على نحوٍ «يجعلك عُرضةً لأن تفقد أسنانك» إذا فتح أحدهم بابًا أثناء سيرك في أحد الأروقة. لكن على الرغم من أن هذه المنشآت قد بُنِيت في عجالة أثناء الحرب، فإن أهميتها سرعان ما تزايدت.

خلال عام ١٩٤٣، علم المحلِّلون في استخبارات الجيش أن ألمانيا كانت تبني صواريخ بعيدة المدى، واقترح فون كارمان مهمةَ تطويرٍ ربما كانت تؤدِّي إلى بناء صاروخ يبلغ مداه خمسة وسبعين ميلًا. وساند النقيب روبرت ستيفر — من فرقة المعدات الحربية بالجيش، وهو ضابطُ اتصالٍ في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا — هذا الاقتراح مسانَدةً قوية، ورفعه عبر القنوات المعنِيَّة إلى الكولونيل جرفايز ترايكل، الذي كان يرأس لواء الصواريخ في فرقة المعدات الحربية. وفي يناير ١٩٤٤، طلب ترايكل من كارمان تولِّي مسئوليةِ برنامجٍ كاملٍ للصواريخ الموجَّهة، كان من المنتظر أن يتضمَّن نظامَ توجيه؛ ووافَقَ كارمان ثم سرعان ما أبرم معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا عقدًا آخَر.

على الرغم من ذلك، فإنه على غرار ما حدث عند إنتاج «إيروجت» وحداتٍ صاروخيةً للإقلاع المعزَّز، لم يصل هذا الجهد الجديد إلى أن يصير مشروعًا في الجامعة. وكان قسم علوم الطيران في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا على استعدادٍ لتولِّي مسئوليةِ موضوعات بحثية مثل تطوير أنواع جديدة من الوقود الدفعي، وتطوير مواد تؤدِّي عند حرقها إلى تشغيل المحرك بسلاسةٍ. ولكن، بالنسبة إلى هذا القسم كان القيام بعملية تطوير مكثفة، يمكنها أن تطرح شيئًا بهذا التحديد كالسلاح الحربي، أمرًا مختلفًا. وكان من المنتظر إحراز تقدُّمٍ في مسار العمل في أرويو سِكو، وخلال عام ١٩٤٤ أُعِيد تنظيم المنشأة كمركز لأبحاث الصواريخ الموجَّهة، تحت اسم مختبر الدفع النفَّاث.

خلال عامَيْ ١٩٤٤ و١٩٤٥ توسَّعَ الجيش في إقامة منشآت جديدة بلغت قيمتها ٣ ملايين دولار أمريكي؛ مثل: المختبرات، ومنصات اختبارات الصواريخ، ومبنًى إداري جديد، ونفق هوائي بسرعات تتخطَّى سرعة الصوت. وأثار هذا الأمر استياء أعضاء مجلس مدينة باسادينا؛ إذ كانت المدينة قد أبرمت اتفاقًا لتأجير موقع أرويو سِكو خلال فترة الحرب فقط، وبَدَا أن المنشآت الجديدة ستكون دائمة؛ وتسبَّبَتْ هذه المباني التي تبدو مثل الثكنات وأصواتُ الأزيز المرتفع الناشئ عن الصواريخ التي هي قيد الاختبار، في وقوع صدام كبير مع سكان الضواحي الأثرياء الذين كانوا يشيِّدون منازلَ جديدة في مدينتَيْ ألتادنا وفلنتريدج القريبتين.

عندما سعى الجيش إلى تجديد عقد الإيجار، لم يوافِق مجلس مدينة باسادينا؛ إذ أعلن رئيس مجلس المدينة أن المنشآت تخالِف «المبدأ الأول من مبادئ التقسيم السليم المعمول بها في المناطق السكنية»، وردَّ مسئولو الجيش على ذلك بالتهديد بمصادرة الأراضي بموجب حق مصادرة الأملاك؛ فأذعَنَ مجلس المدينة. وسرعان ما انتقلَتِ اختبارات الصواريخ إلى مكان آخَر، وإنْ ظلَّ مختبر الدفع النفَّاث حيث هو.

في تلك الأثناء، أعطى اهتمامُ هذا المركز بالصواريخ الحربية المستخدَمة في ميادين القتال أملًا جديدًا بإمكانية إنتاج صواريخِ وقودٍ سائل. وكانت شركتا «إيروجت» و«ريأكشن موتورز» قد شرعتا في إجراء تجارب حول الإقلاع المعزَّز، لكن لم تكن هذه التجارب تقدِّم توقُّعات كبيرة بالنجاح في المستقبل. وسرعان ما صارت حاملات الطائرات مجهَّزةً بآلات بخارية تشبه المنجنيق تستطيع إطلاق طائرات دون أي صاروخ دفع إضافي، بينما تخلَّتِ القوات الجوية عن التعزيز الصاروخي عن طريق بناء مدارج إقلاع أطول، ومحركات نفاثة أقوى. ووجدت شركة «ريأكشن موتورز» مكانًا مناسبًا لها في السوق، من خلال توريد محركات إلى عدد صغير من الطائرات الصاروخية المستخدَمة في أبحاث الطيران الفائق السرعة. وشكَّلَتِ الصواريخ الحربية مسارًا منفصلًا، وهو ما حدَّد ملامحَ مستقبل مختبر الدفع النفَّاث خلال العقد القادم.

مع ذلك، تضمَّن مسارٌ آخَر صواريخَ التجارب، التي كانت تحمل معدات إلى ارتفاعات غير مسبوقة تصل إلى مائة ميل وأكثر. وبعد الحرب، عقد الكثير من العلماء الأملَ على إجراء أبحاث على هذه المعدات؛ فأراد علماء الفلك أن يرصدوا ضوء الشمس في نطاق الأشعة فوق البنفسجية البعيدة التي تُمتَص أطوالها الموجية في طبقات الجو السفلى؛ وتوقَّعَ الفيزيائيون أن يكتشفوا أشعة كونية، كان من المتوقَّع أن تُمتَص أيضًا في الغلاف الجوي؛ وتطلَّعَ علماء الأرصاد الجوية إلى قياس درجات الحرارة والضغط في طبقة الجو العليا؛ وكان كثير من الناس يَتُوقون إلى معرفة شكل الأرض عند تصويرها فوتوغرافيًّا من هذه الارتفاعات، وهي ارتفاعات شاهقة تفوق بكثير ما كان يمكن بلوغه بواسطة أي طائرة أو بالون.

لم تكد الحرب تضع أوزارها حتى هيَّأ الجيش الأجواءَ لبذل مزيدٍ من الجهد الضخم في هذا المجال؛ حيث استحضَرَ أفضلَ مساعدي فيرنر فون براون إلى هذه البلاد، فضلًا عن جلب كمية هائلة من الوثائق والمعدات المهمة. وفي مارس ١٩٤٥، أرسل الكولونيل ترايكل في البنتاجون طلبًا إلى الكولونيل هولجر توفتوي، رئيس جهاز الاستخبارات الفنية التابع لفرقة المعدات الحربية في أوروبا، طالبًا إرسال مائة صاروخ طراز «في-٢» جاهز للعمل، وذلك بهدف إجراء اختباراتِ إطلاقٍ عليها في الولايات المتحدة. ولمساعدة توفتوي، أرسل ترايكل روبرت ستيفر، الذي صار الآن رائدًا في الجيش، وكان قد ساهَمَ في تأسيس مختبر الدفع النفَّاث قبل عام ونصف العام؛ وكان عليه جمع المخططات والوثائق، وتشكيل الفريق الذي سيتولَّى تنفيذَ المشروع.

لم تكن صواريخ «في-٢» الكاملة الجاهزة للإطلاق موجودةً في واقع الأمر، لكنَّ توفتوي جمَعَ ما يكفي من المكونات لتنفيذ جانب كبير من طلب ترايكل، وحدَّدَ ستيفر بدوره أكفأ الأشخاص في بينامونده، فضلًا عن مجموعة كبيرة من الوثائق القيِّمة. لم يكن فون براون والآخرون سُجناء؛ إذ لم يجرِ توجيه أي اتهامات إليهم، ولم تَسْعَ الولايات المتحدة إلى احتجاز العلماء العسكريين في ألمانيا من خلال عمليات اعتقال مباشِرة؛ إذ كان لهؤلاء الأشخاص، في حقيقة الأمر، وفقًا لقانون الاحتلال، مطلقُ الحرية في البقاء في ألمانيا إذا كانوا يرغبون في ذلك. وبذلك، التقى توفتوي شخصيًّا بخبراء الصواريخ، واتخذ الترتيبات اللازمة لتوفير سبل الإعاشة لعائلاتهم والتفاوُض حول العقود التي سيأتون بموجبها للعمل في الولايات المتحدة. وخلال الأشهر التالية، ترأَّسَ فون براون فريقًا من ١١٥ اختصاصيًّا مختارين بعناية، عبَروا الأطلنطي وانتقلوا إلى منزلٍ مؤقت في فورت بليس، بولاية تكساس، في الصحراء قُرْبَ مدينة إل باسو.

كانت مهمة العلماء العاجلة تتمثل في بناء صواريخ «في-٢» من المكونات المتوافرة لديهم، وإطلاقها كصواريخ تجارب، وكانت منطقة الاختبارات — وهي ميدان اختبارات وايت ساندز — قريبة من فورت بليس، وتغطي جزءًا من أراضي نيو مكسيكو يقارب في حجمه وشكله ولاية فيرمونت. وعلى الرغم من تخطِّي صواريخ «في-٢» حاجزَ المائة ميل، فإنها في بعض الأحيان على الأقل لم تكن مناسِبةً تمامًا لهذا الغرض.

لم يكن الجيش يعتزم إنتاج صواريخ «في-٢» مجددًا، وعندما نفدت الكمية المحدودة الواردة من ألمانيا، لم تكن ستعقبها كميات أخرى؛ بالإضافة إلى ذلك، لم يتم التحكم فعليًّا في نظام التوجيه إلا خلال عمليات الإطلاق المعزَّز. وبعد توقُّف المحرك، لم تكن ثمة طريقة لتوجيه المركبة في أي اتجاه، مثل الشمس؛ ففي حقيقة الأمر، كان الصاروخ يتعثر أو يتخذ مساراتٍ بهلوانيةً بدلًا من الطيران في وضع مستقيم، والأكثر من ذلك أن الصاروخ كان مصمَّمًا لحمل رأس حربية زنة طن واحد، وكان في حاجة إلى هذا الوزن الكبير في المقدمة، وإلا لم يكن نظام التوجيه سيعمل حتى خلال مرحلة التعزيز. ولم تستطع المعدات التي استعان بها العلماء بلوغَ هذا الحاجز؛ لذا كانت صواريخ «في-٢» تحمل أوزانًا ثقيلة من الرصاص لتحقيق التوازن. ومثلما جاء على لسان أحد مديري المشروع: «كلما زاد الوزن، قلَّ الارتفاع. وكنا نرى انحرافاتٍ بالأميال في الارتفاعات المحتمَل أن يبلغها الصاروخ «في-٢» مع كل رطل من الرصاص يُسكَب في الفوهة، ووصل وزن الرصاص المسكوب في إحدى المرات إلى ١١٠٠ رطل.»

في مختبر الدفع النفاث، كانت خططُ إطلاق صواريخ تجارب صغيرة متوافِقةً تمامًا مع برنامج الصواريخ الشامل في المختبر. واستهلَّ المختبر تجاربه في أواخر عام ١٩٤٤ بالصاروخ «برايفت»، وهو صاروخُ وقودٍ صلبٍ بارتفاع ثماني أقدام ابتكَرَه جون بارسونز، والوقود فيه عبارة عن مزيج من الأسفلت وفوق كلورات البوتاسيوم. وكان الصاروخ التالي في جدول أعمال البرنامج هو الصاروخ «كوربورال»، الذي يبلغ طوله تسعًا وثلاثين قدمًا، ويزيد مداه على ستين ميلًا. اشتمل هذا الصاروخ على نظام توجيه، وانطلق من خلال احتراق وقود سَمرفيلد الدفعي، الذي انبعث عنه دخان أحمر من حمض النيتريك والأنيلين. ودفع هذا البرنامج المقترح رئيس أبحاث المعدات الحربية في الجيش، اللواء جلاديون بارنز، أن يسأل فون كارمان عن أقصى رُتبة يريد أن يبلغها، وأجابه كارمان قائلًا: «بالتأكيد ليس أكثر من كولونيل؛ فهذه هي أكثر الرُّتب نجاحًا.»

لكن، كان تطوير كوربورال يتطلَّب قفزةً كبرى، ورأى مالينا أنه يتعيَّن على مختبر الدفع النفاث تنفيذ برنامج مؤقَّت، أَلَا وهو بناء صاروخِ وقودٍ سائل أصغر يستخدم أيَّ محرك متوافر ولا يتطلب توجيهًا. وكان هذا المشروع سيضع الأساس لبناء صاروخ «كوربورال» بالحجم الكامل؛ إذ كان سيُحلِّق أيضًا كصاروخ تجارب على ارتفاع شاهق، محقِّقًا بذلك الأملَ الذي طالما كان يراود مالينا منذ بداية تجاربه في عام ١٩٣٦. وبعد الحصول على موافقة الكولونيل ترايكل، كان يتعيَّن تحديد اسم للصاروخ الجديد، وكان من المفترض أن يكون أبسط وأكثر إيجازًا من مسمَّى «كوربورال». أطلق طاقم العمل في مختبر الدفع النفاث على الصاروخ اسم «دبليو إيه سي كوربورال»، على غرار سلاح الجيش النسائي (الذي يُشار إليه أيضًا بالاختصار «دبليو إيه سي»)، على الرغم من أن الجيش أعلن على نحوٍ رسمي لاحقًا أن «دبليو إيه سي» تعني «دون نظام تحكُّم في الوضع».

كان ارتفاع الصاروخ «دبليو إيه سي كوربورال» ست عشرة قدمًا، ووزنه ٦٥٥ رطلًا عند تزويده بالوقود، وهو ما جعله مساويًا تقريبًا لحجم صاروخ جودارد الذي صمَّمه عام ١٩٤٠، لكنه كان أبسط كثيرًا؛ حيث لم يكن يتضمَّن نظامَ توجيه ومضخات توربينية. ومع ذلك، ففي حين كان تصميم صاروخ جودارد نتاجَ جهوده الفردية ولم تفلح قطُّ تجربةُ إطلاقه، كان الصاروخ «دبليو إيه سي كوربورال» نتاج الأبحاث التي أُجرِيت وقتَ الحرب في كلٍّ من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا ومختبر الدفع النفاث. وانطلق الصاروخ على نحوٍ رائع في محاولة إطلاقه الأولى في أكتوبر ١٩٤٥، وزاد الصاروخ سرعته من خلال الانطلاق بسرعة داخل أحد الأبراج، ثم اعتمَدَ على الزعانف للانطلاق بثبات كالسهم، حيث بلغ ارتفاعَ أربعة وأربعين ميلًا.

لكن، على الرغم من أن الصاروخ «في-٢» لم يكن ملائمًا تمامًا للاستخدام كصاروخ تجارب، كان الصاروخ «دبليو إيه سي كوربورال» أصغر مما ينبغي، ولم يكن يستطيع أن يحمل أكثر من خمسة وعشرين رطلًا من المقذوفات الصاروخية؛ وكان هذا القصور مثارَ قلقٍ في مركزين من مراكز أبحاث البحرية، هما مختبر أبحاث البحرية ومختبر الفيزياء التطبيقية في جامعة جونز هوبكنز. كانت العلاقة بين مختبر الفيزياء التطبيقية والجامعة الأم تقريبًا كالعلاقة بين مختبر الدفع النفاث ومعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا؛ علاقة مختبر عسكري يعمل بموجب عقد. في مختبر الفيزياء التطبيقية، طلب اثنان من كبار المديرين من عالِم في المختبر، يُدعَى جيمس فان ألن، أن يُجرِي بحوثًا على صواريخ التجارب المتوافرة، ويقرِّر إذا كان ثمة ضرورةٌ لتطوير صاروخ جديد.

أجرى فان ألين سلسلة من التحقيقات قادته إلى شركة «إيروجت»، التي كانت تبني في ذلك الوقت الصاروخَ «دبليو إيه سي كوربورال». دعا فان ألين الشركة إلى إعداد عرض، وفي مايو ١٩٤٦ أبرم مكتب المعدات الحربية في البحرية عقدًا مع «إيروجت» لبناء صاروخ تجارب جديد، يُسمَّى الصاروخ «إيروبي». وكان الصاروخ الجديد يشبه الصاروخ «دبليو إيه سي كوربورال» كثيرًا، وانطلق من منطقة وايت ساندز أيضًا، لكنه كان أكبر إلى حدٍّ ما، وكان يحمل ١٥٠ رطلًا من المعدات لمسافة سبعين ميلًا. حقَّقَتْ عمليةُ الإطلاق الأولى، التي أُجرِيت في نوفمبر ١٩٤٧، نجاحًا جزئيًّا على الرغم من أن الصاروخ اقترب من الارتفاع الذي بلغه الصاروخ «دبليو إيه سي كوربورال». وبلغ الصاروخ في عملية الإطلاق الثانية، التي كانت في شهر مارس التالي، ارتفاعَ ثلاثة وسبعين ميلًا، وأحرز نجاحًا كاملًا.

بالنسبة إلى القائمين بأبحاث الصواريخ في وايت ساندز، كانت عمليات الإطلاق هذه تمثِّل لحظات مشرقة في واقع كئيب؛ فلم يكن مركز إطلاق الصواريخ أكثر من موقع بعيد وسطَ شجيرات الميرمية، ملاصق لطريق سريع من حارتين يمتد عبر الصحراء المترامية الأطراف إلى ألاموجوردو، وكان ثمة كوخ على طراز كوانست استُخدِم كحظيرة طائرات، وكانت معظم المباني الأخرى عبارة عن ثكنات من طابق واحد، وكان يمكن تفقُّد أرجاء القاعدة بأكملها في غضون خمس دقائق فقط. كان الطقس حارًّا عاصفًا، وفي بعض الأوقات كانت حصص الطعام تقتصر على الفول والجبن فقط، وكان بعض العاملين يقضون الوقتَ في لعب البوكر طوال الليل، بينما كان البعض الآخَر يعبر الحدود لقضاء ليلة في خواريس. لكن سرعان ما انضمَّ إليهم آخرون؛ إذ كان ثمة مشروعُ إطلاقِ صاروخ تجارب جديد في طور التنفيذ، وهو الصاروخ «فايكنج» في مختبر أبحاث البحرية.

اختار ثور برجسترال، وهو أحد العلماء العاملين في المشروع، اسم الصاروخ. وكان الصاروخ «فايكنج» بمنزلة خطوة أولى نحو الأمل الذي كان يراوِد مختبر أبحاث البحرية في أن تدخل البحرية ذات يوم مجال الصواريخ البعيدة المدى من خلال إطلاقها من السفن. وعلى غرار الطائرات الموضوعة على متن حاملات الطائرات، كانت هذه الصواريخ ستجمع بين مدى انطلاقها ومدى السفن التي تحملها. وضع ملتون روزن — أحد علماء مختبر أبحاث البحرية الذي كان مهتمًّا للغاية بالصواريخ الموجَّهة — تصوُّرات المشروع، وبدأ جهودَ استصدارِ الموافقات اللازمة لتنفيذه. وكان تخصُّصه في مجال الإلكترونيات، وفي البداية كان لا يكاد يفرِّق بين صاروخٍ وحفرةٍ في الأرض (وهي الحفرة التي سرعان ما صنعتها صواريخ التجارب التي كانت تنطلق من قاعدة وايت ساندز). حصل روزن على دورةٍ مدتها سبعة أشهر في ورش مختبر الدفع النفاث؛ حيث تعلَّم أدوات المجال الجديد من خلال الخبرة العملية المباشِرة، وأعطته هذه الدورة معلوماتٍ تمهيديةً مفيدة؛ لكنه، مثل كثيرين غيره في هذا المجال، كان يتعلم ما يحتاج إليه كلما قطع شوطًا.

كان هدفه المبدئي هو حمل خمسمائة رطل لمسافة مائة ميل، وهو ما كان يتطلَّب تصميم صاروخ يقترب في أدائه من أداء الصاروخ «في-٢». بنى الألمان صواريخهم من الصلب الثقيل لتتحمَّل حرارة دخول الغلاف الجوي وتهبط بسلام دون أن تتحطَّم، بينما بُنِي الصاروخ «فايكنج» من الألومنيوم لتخفيف الوزن، وكان وزنه خمسة أطنان عند ملء خزان الوقود عن آخِره، وهو ما لا يكاد يعادل ثلث وزن «في-٢». وفي شركة «ريأكشن موتورز»، قاد جون شِستا جهودَ تصميمِ محرك الصاروخ، الذي بلغت قوةُ دفعه عشرين ألف رطل.

فتح «فايكنج» آفاقًا جديدة في مجال التوجيه والتحكم. عند تصميم أي نظام توجيه خاص بالصواريخ، كانت ثمة مشكلة دائمة تتمثَّل في تحديد القِيَم الملائمة لمعلِّمات النظام. وأدَّى أسلوب جديد في التحليل طوَّرَه ألبرت هول — وهو أستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا — إلى تيسير إجراء العمليات الرياضية المعقدة؛ وعلى حد تعبير روزن: «استطعنا التنبُّؤَ بما سيحدث» خلال رحلة تحليق فعلية.

من خلال هذا الأسلوب الرياضي أصبح من الممكن التفوُّق على الأسلوب المُتَّبَع في توجيه الصاروخ «في-٢» أثناء التحليق، الذي كان يعتمد على غمس أرياشٍ مقاوِمةٍ للحرارة مصنوعة من الكربون في عادم الصاروخ لتبديده وإخراجه عن مساره، وهو ما كان يمثِّل إهدارًا للطاقة أدَّى إلى تقليص قوة الدفع في الصاروخ «في-٢» بنسبة ١٧ في المائة. استخدم الصاروخ «فايكنج» محركَ صواريخ مزوَّدًا بجيمبال، كان يُعلَّق بين دعامات مرتكزة على محور، تهتزُّ بحيث توجِّه عادم الصاروخ في اتجاه ملائم. وأتاح تحليلُ هول الإمكانيةَ لحساب ديناميكية الصاروخ ومحركه المزوَّد بجيمبال، وضمان وضع تصميم ناجح. وبعد الصاروخ «فايكنج»، صارت جميع صواريخ الوقود السائل الكبيرة تستخدم المحركات المزوَّدة بجيمبال.

حقَّقَ «فايكنج» أيضًا حدَّ تكلفةٍ لم يستطع بلوغَه إلا عددٌ محدودٌ من مشروعات الصواريخ اللاحقة؛ حيث لم تتجاوز تكلفة البرنامج بأكمله خمسة ملايين دولار أمريكي. واستُخدِم هذا المبلغ في تطوير محرك ونظام توجيه جديدين تمامًا، لإصدارين من الصاروخ، وفي تنفيذ اثنتي عشرة عمليةَ إطلاقٍ. وتمكَّنَ الإصدار الثاني، الذي كان يحمل كميةً أكبر من الوقود، من رفع معدات زنة ٨٢٥ رطلًا إلى مسافة ١٥٨ ميلًا في أفضل رحلاته، في مايو ١٩٥٤. وأثبَتَ الصاروخ «فايكنج» إمكانية التعويل الكاملة عليه. وبعد عمليات الإطلاق الثلاث الأولى التي توقَّفَ خلالها المحرك قبل إتمام عملية الإطلاق، نجحت سبعٌ من عمليات الإطلاق التسع المتبقية في البرنامج نجاحًا مذهلًا، بينما فشلت محاولة إطلاق واحدة فشلًا تامًّا.

كتب روزن قائلًا: «كان ثمة اثنا عشر رجلًا فقط ضمن طاقم إطلاق «فايكنج»، ولم تقدِّم شركة «مارتن»، التي تولَّتْ بناء الصاروخ، أكثرَ من أربعة وعشرين مهندسًا للقيام بأعمال التصميم. ولم يتجاوز عدد المشاركين في بناء الصاروخ أكثر من خمسين رجلًا فقط. وأخيرًا، كان فريق المشروع المعيَّن من قِبَل الحكومة يتألَّف من رجلين في البداية، ولم يتجاوز العددُ أربعةَ أشخاص. وضع هؤلاء الأشخاص المواصفات الفنية، وتفاوضوا بشأن أوامر التعديل، وحلَّلوا بيانات الرحلات والاختبارات، وكتبوا جميع التقارير النهائية حول «فايكنج»؛ ولذلك، يمكن شراء صاروخ «فايكنج» مقابل ٢٥٠ ألف دولار أمريكي، وإجراء عملية إطلاق كاملة مقابل ٥٠٠ ألف دولار أمريكي.»3

حازت صواريخ التجارب هذه السَّبْقَ في جوانب أخرى؛ ففيما يتعلق بحمل الكاميرات، المزوَّدة في بعض الأحيان بأفلام ملوَّنة، كانت هذه الصواريخ تحمي الأفلام المعرَّضة للضوء في حاويات قوية تستطيع تحمُّل عملية الهبوط على سطح الأرض، وكانت تلتقط صورًا على غرار المشاهدات التي رصدها روَّاد الفضاء، ولكن قبل وقت طويل من وجود روَّاد فضاء. وعلى ارتفاع شاهق من أل باسو، حيث كان الأفق يمتد لما يزيد عن ألف ميل، اخترقت الكاميرات على متن «فايكنج» الأجواء في المكسيك ورصدت المحيط الهادئ، فيما وراء ولاية باجا كاليفورنيا. وكان أداء الصاروخ «إيروبي» أفضل؛ ففي عام ١٩٥٤، على ارتفاع مائة ميل، التقطَ «إيروبي» صورًا فوتوغرافية لعاصفة استوائية فوق الأجزاء الجنوبية من ولاية تكساس، وكانت عاصفة أشبه بالإعصار، وكان خبراء الأرصاد في محطات الرصد الأرضية على درايةٍ بأن الطقس عاصف، لكنهم لم يتمكَّنوا من معرفة السبب. قدَّمَتْ هذه الواقعة دليلًا دامغًا على أن الصور المُلتقَطة على هذه الارتفاعات الشاهقة يمكن أن تصبح ذات فائدة كبيرة في علم الأرصاد الجوية، وكانت تستبق فكرة إطلاق أقمار صناعية لرصد الأحوال الجوية.

ترك الصاروخان «في-٢» و«دبليو إيه سي كوربورال» بصماتهما أيضًا. اتحد الصاروخان في نموذج واحد ليشكِّلا معًا أولَ صاروخ ذي مرحلتين؛ حيث كان الصاروخ الأصغر موضوعًا على صاروخ الدفع الإضافي. وكانت عملية تصنيف مراحل الصاروخ من المتطلبات الفنية المُلحَّة؛ حيث كان يجب أن يتصدَّى صاروخ المرحلة العليا للضغط المرتفع والتسارع القوي اللذين يحدثان في صاروخ الدفع الإضافي قبل إشعال المحرك عند بلوغ الارتفاعات الشاهقة، وهي عملية كانت بعيدة تمامًا عن متناول الفنيين. ولكن، استخدم الصاروخ «دبليو إيه سي كوربورال» محركًا مغذًّى تحت الضغط، فضلًا عن وقود دفعي كان يشتعل عند التلامس. ولم يكن هذا الصاروخ يتطلَّب نظامَ إشعالٍ أو مضخةً توربينيةً أو نظامَ توجيهٍ، بل كل ما كان مطلوبًا هو فتح صمامات المحرك في الوقت المناسب؛ وبهذه الطريقة، بلغ الصاروخ ارتفاع ٢٤٤ ميلًا في فبراير ١٩٤٩، وهو ارتفاع لم تستطع أية مَرْكبة فضائية لاحقًا أن تتخطَّاه على أية حال، وسجَّلَ رقمًا قياسيًّا في الارتفاع لم يُتجاوَز حتى عام ١٩٥٦.

بناءً على ذلك، تشكَّلت مجموعة من الاختصاصيين الأمريكيين في مجال الصواريخ، تأثَّروا بأعمال جودارد، وانبثقوا عن الباحثين الهُواة الذين علَّموا أنفسهم بأنفسهم في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا ونادي الصواريخ الأمريكي، واعتمدت هذه المجموعة على التمويل الفيدرالي وحقَّقَتْ مكانةً متواضِعة لكنْ هادفةً في مجالَيْ صواريخ التجارب والصواريخ الحربية. ولكن هذا العمل كان بعيدًا تمامًا عن فكرة بناء صواريخ دمار شامل تستطيع حملَ قنبلة نووية. استطاع كثيرون تخيُّلَ الوضع مع هذه الأسلحة، في أعقاب واقعتَيْ بينامونده وهيروشيما، ولكن واشنطن لم تكن مهتمة بالأمر. وأشار فانِفار بوش، الذي تولَّى إدارة مكتب البحث العلمي والتطوير وقتَ الحرب، إلى ذلك بوضوح في شهادته أمام مجلس الشيوخ في ديسمبر ١٩٤٥:

انتشرت أقاويل كثيرة عن صاروخ يبلغ ارتفاع ٣٠٠٠ مِيل بزاوية مَيل عالية. وفي رأيي، هذا أمرٌ مستحيل وسيظل مستحيلًا لسنوات عديدة؛ فهؤلاء الأشخاص الذين كانوا يكتبون عن هذه الأمور التي تزعجني كانوا يتحدثون عن صاروخ يصل إلى ارتفاع ٣٠٠٠ ميل بزاوية ميل عالية، منطلقًا من قارة إلى أخرى حاملًا على متنه قنبلة ذرِّيَّة، وموجَّهًا على نحوٍ يجعله سلاحًا دقيقًا يهبط بالضبط في موضع معيَّن مثل هذه المدينة.

من الناحية الفنية، لا أعتقد أنه يوجد في العالَم مَنْ يعرف كيفية صنع صاروخٍ كهذا، وأثق أن هذا الأمر لن يحدث إلا بعد فترة زمنية طويلة للغاية. وأعتقد أننا يجب أن نُسقِط هذا الأمر من تفكيرنا، وأتمنى أن يُسقِط الأمريكيون هذا الأمر من تفكيرهم.4
لم يكن أحدٌ يراوده الشك في أن صواريخَ من هذا النوع كانت تتطلَّب ما هو أكثر بكثير من بضعة الملايين من الدولارات التي كانت تكلفة الصاروخ «فايكنج». بلغ وزن القنبلتين الذريتين اللتين أُلقِيتا عام ١٩٤٥، بنوعَيْهما المصنوعين من اليورانيوم والبلوتونيوم، خمسة أطنان. وكان يجب أن يصل وزن الصاروخ الذي سيحمل قنبلة واحدة إلى موسكو عدة مئات من الأطنان، مقارَنةً بالقنبلة التي تزن أربعة عشر طنًّا والتي كان صاروخ «فايكنج» يستطيع حملها. وكانت مقدمة الصاروخ المخروطية، التي تلج إلى الغلاف الجوي بسرعة أربعة أميال في الثانية، ستحترق كالنيزك بِفعل حرارة ديناميكا الهواء. وفي المدى العابر للقارات، لم يكن ثمة نظامُ توجيهٍ يضمن إصابة الهدف بدقة، وكان المسمَّى الإنجليزي لكلمة «قذيفة»، وهو missile، معبِّرًا تمامًا؛ إذ كانت تُخطِئ هدفَها وهو ما يعبِّر عنه المقطع الأول من الكلمة الإنجليزية miss. حتى إذا استطاعت الرأس الحربية المثبَّتة على الصاروخ الصمودَ عند اختراق الغلاف الجوي، فسُتهدَر طاقته في إصابة الأبقار والفلاحين في المزارع الجماعية القريبة، تاركًا موسكو دون أن يصيبها بأيِّ أضرار.

على الرغم من ذلك، كانت وجهة نظر بوش تعتمد على حجة أكبر، وهي أن الولايات المتحدة لم تكن في حاجةٍ إلى هذه الأسلحة الصاروخية؛ فقد أثبتَتِ القوات الجوية العشرون زعامتَها للقوة الجوية، بإحراقها اليابان من خلال شنِّ غارات واسعة بقاذفات «بي-٢٩»، ثم إدارة عملية الضربة القاضية في هيروشيما وناجازاكي. بالإضافة إلى ذلك، كانت الولايات المتحدة تتخطَّى بالفعل قاذفات «بي-٢٩»؛ إذ كانت قاذفات «بي-٥٠» تكافئ قاذفات «بي-٢٩» بل تتفوَّق عليها في استخدام محركات ذات قدرات أعلى كثيرًا. ثم سرعان ما انضمت إلى اختبارات الطيران القاذفة «بي-٣٦»، التي كانت تستخدِم ستة من هذه المحركات مقارَنةً بأربعة محركات فقط في «بي-٥٠». وكان بإمكان القاذفة «بي-٣٦» عبور المحيط الأطلنطي من الساحل الشرقي، وإلقاء قنبلة بلوتونيوم على موسكو، ثم العودة إلى قواعدها، وذلك كله في رحلة واحدة دون الحاجة إلى إعادة التزوُّد بالوقود.

خلال السنوات العديدة التي أعقبت ذلك، حدثت تطوُّرات جديدة صبَّتْ في مصلحة مؤيدي تطوير القاذفات؛ فوفقًا لرؤيتهم، كان من المنتظر أن تعمل عمليات إعادة التزوُّد بالوقود أثناء الطيران على توسيع المدى الذي تبلغه هذه الطائرات. وكان من المتوقَّع أن تقدم القاذفات النفَّاثة سرعاتٍ أكبر وتحلِّق على ارتفاعات أعلى، وهو ما يزيد من صعوبة إسقاطها. وزادت قواعد ما وراء البحار، الكائنة قُرْبَ الحدود السوفييتية، من احتمالات خروج المقاتلات النفَّاثة مع القاذفات، وهو ما كان يوفِّر لها مزيدًا من الحماية. والأهم من ذلك حقيقةٌ بسيطة، وهي أننا كنَّا الطرف الذي في حوزته القنبلة وليس أعداؤنا. وإلى أن يمتلك أعداؤنا قنبلةً، وحتى يمثِّلوا تهديدًا استراتيجيًّا جسيمًا، كانت الصواريخ البعيدة المدى ستواصِل تطوُّرها في انتظار اليوم الذي تُستخدَم فيه.

مع ذلك، بينما لم تكن القوات الجوية تُضمِر أية نية مباشِرة في بناء هذه الصواريخ، بَدَا من الحكمة فهم ما هو مطلوب تحديدًا لبنائها. وفي أكتوبر ١٩٤٥، قبل خمسة أسابيع من مثول فانفر بوش أمامَ الكونجرس، أرسلت قيادة الخدمات الفنية الجوية خطابات إلى المسئولين في شركات الطائرات الأمريكية الرئيسية، داعيةً إياها إلى إعداد عروضٍ لوضْعِ برنامجٍ مدته عشر سنوات لتطوير أربعة طرازات من الصواريخ. وكانت هذه الصواريخ تتنوَّع ما بين صواريخ قصيرة المدى تصل إلى عشرين ميلًا، وصواريخ طويلة المدى تصل إلى خمسة آلاف ميل. وفي شركة «كونفير» في سان دييجو، جذبت الدراسة التي وُضِعت استجابةً لهذه الدعوة انتباهَ اختصاصيٍّ في هياكل الطائرات، يُدعَى كاريل بوسارت، وكان الجميع يُطلِق عليه اسم تشارلي.

نشأ بوسارت في بلجيكا، وبعد حصوله على شهادة علمية في هندسة التعدين من جامعة بروكسل عام ١٩٢٥، انضمَّ إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في منحة زمالة، وتعرَّفَ من خلال المعهد على علم الطيران، وواصَلَ عمله حتى صنع اسمًا لنفسه في مجال تصميم هياكل الطائرات، التي كانت تتطلَّب تحقيقَ أقصى متانة مع أقل وزن ممكن. قضى بوسارت سنوات الحرب كاختصاصي في مجال الطائرات، وعندما علم بأمر الصاروخ «في-٢»، رأى في ذلك إهدارًا هائلًا للأموال؛ لكن عندما وصل عقد دراسة القوات الجوية، رأى بوسارت فيه تحدِّيًا لم يستطع مقاومته، وذهب إلى كبير المهندسين وتولَّى مهمةَ تنفيذ العقد.

اقترح فريق بوسارت ثلاثة مشروعات، تهدف جميعها إلى بناء صواريخ يبلغ مداها ٥٠٠٠ ميل. وكان المشروع «أ» عبارة عن الصاروخ «كروز»، وهو طائرة نفاثة بلا طيَّار تحلِّق أثناء مهمتها الأحادية الاتجاه بالاعتماد على طيَّار آلي متطوِّر. وكان المشروع «ب» عبارة عن صاروخ تجريبي يشبه إلى حدٍّ ما الصاروخ «في-٢»، وكان سيسمح لشركة «كونفير» باكتساب خبرة في المجال الجديد لصواريخ الوقود السائل الكبيرة. أما المشروع «ﺟ»، فكان عبارة عن صاروخ طويل المدى، وهو ما أعرب فانفر بوش عن ازدرائه له. كانت هذه التصورات الثلاثة في حاجةٍ إلى أسماء، وقدَّمَ هذه الأسماء مهندسُ الدفع بيل لستر؛ فأطلق اسم تيتوتلر (أي الممتنع عن المكسرات) على صاروخ المشروع «أ»؛ إذ كان نموذج الصواريخ الوحيد ضمن النماذج الثلاثة الذي لم يكن يستخدم الكحول كوقود. وأطلق على صاروخ المشروع «ب»، الصاروخ التجريبي، اسم «أولد فاشوند» (أي قديم الطراز)، نظرًا لتشابهه مع الصاروخ «في-٢»، وكان من المفترض أن يحمل صاروخ المشروع «ﺟ»، الصاروخ العابر للقارات، اسم «أتوميك بومب» (أي القنبلة الذَّرِّيَّة)، وهو الصاروخ الذي أطلق لستر عليه اسم «مانهاتن».

قدَّمت القوات الجوية تمويلًا بقيمة ١٫٩ مليون دولار أمريكي، وكان بوسارت يعتقد أن ذلك كان يكفي لشراء بعض المعدات. ولم يكن ثمة أمل في بناء مانهاتن، لكن كان بناء الصاروخ «أولد فاشوند» الأصغر حجمًا في المتناول. وحصل الصاروخ «أولد فاشوند» على اسم ثالث، «إم إكس-٧٧٤»، وهو الاسم الذي أطلقَتْه القوات الجوية على الدراسة بأكملها. وبدأ بوسارت العمل في عزمٍ لحلِّ ما رآه المشكلةَ الرئيسية، أَلَا وهو توظيف خبرته في تصميم هياكل الطائرات لتقليل وزن الصاروخ إلى أدنى حدٍّ. وكان ثمة أشخاص آخَرون يتحدثون عن ضرورة تصميم محركات قوية، بَيْدَ أن بوسارت كان يعلم أن استغلال تخصُّصه بمهارةٍ ربما يؤدِّي إلى تصميم صاروخ خفيف الوزن يستطيع بلوغ موسكو بسهولة بالغة.

كان فون براون قد بنى الصاروخ «في-٢» من الصُّلب، مقوِّيًا إياه عن طريق إضافة هيكل داعم وبناء خزانات الوقود كحاويات منفصلة داخل هذه الطبقة الخارجية. ورأى بوسارت أن من الممكن تقليص الوزن في المناطق الثلاث بأكملها؛ وبطبيعة الحال، قرَّرَ أن يستخدم الألومنيوم، وسمح للطبقة الخارجية بتأدية مهمة مزدوجة عن طريق الاحتفاظ بوقود الدفع، مستغنيًا من ثمَّ عن سعة الخزان الداخلي. ومضى بوسارت في إضافة المزيد من التعديلات، فرأى أن من الممكن أيضًا التخلِّي عن الإطار المقوي، والعمل بدلًا من ذلك على تقوية الطبقة الخارجية وحمايتها من التداعي من خلال ضغط جوانبها الداخلية باستخدام النيتروجين؛ ومن ثَمَّ، كان صاروخه يشبه البالون، الذي لم يكن في حاجةٍ إلا إلى ضغط داخلي محدود للحفاظ على شكله بصورة فعَّالة تمامًا. وكان من المنتظر أن يصبح حجم الصاروخ ثلثَيْ حجم نموذج الصاروخ «في-٢»، ولكن أكبر قليلًا من ثُمْن وزنه فارغًا.

كانت ثمة مخصَّصات مالية في الميزانية لتصميم نظام توجيه بسيط يعتمد على طيَّار آلي، لكن فيما يتعلَّق بمحرك الصاروخ «إم إكس-٧٧٤»، كان على بوسارت أن يستخدم كلَّ ما كان متوافرًا. ومرةً أخرى، كانت شركة «ريأكشن موتورز» هي التي تصدَّتْ لتنفيذ تلك المهمة، طارحةً نموذجَها من المحرك «إكس إل آر-٢» ذي غرف الاحتراق الأربع، وهو النموذج الذي اختاره مصمِّمو الطائرة «إكس-١» التجريبية، الذين كانوا يعملون بميزانية محدودة، لتنفيذ مشروع صاروخهم. وكان هذا النموذج يستخدم مضخة توربينية بغرض تغذية الوقود بمعدلات تدفق أسرع، من خلال ضغط الغاز، فيما يبدو، لتعزيز قوة الدفع لتصل إلى ٨٠٠٠ رطل. وحاكى بوسارت شكلَ نموذج الصاروخ «في-٢» عمدًا، وهو ما سمح للاختصاصيين في مجال ديناميكا الهواء بين أفراد فريقه باستخدام بيانات أنفاق الرياح الألمانية في دراساتهم.

بعد ذلك، ألغَتِ القوات الجوية عقد «كونفير» تحت وطأة تخفيضات الميزانية. ولكن، كان لدى الشركة بعض الأموال غير المُنفَقة، التي استطاعت أن تستخدمها بالإضافة إلى أموالها الخاصة، وحصل بوسارت على تصريحٍ لبناء ثلاثة صواريخ طراز «إم إكس-٧٧٤»، انطلقت من قاعدة وايت ساندز خلال عام ١٩٤٨. وكانت مصمَّمة لبلوغ ارتفاع مائة ميل، بَيْدَ أن الصواريخ الثلاثة توقَّفت محركاتها ولم تُفلح في الانطلاق، ولم تبلغ أكثر من ثلاثين ميلًا فقط. وبعد عملية الإطلاق الثالثة، استطاع مهندسو بوسارت تحديدَ المشكلة وأملوا في إجراء محاولةٍ أخرى ربما تُسفِر عن نجاح كامل. ولم يكن الأمر متعلقًا بالميزانية.

كانت «كونفير» قد خسرت عقد بناء الصاروخ «كروز» البعيد المدى «تيتوتلر»، وهو العقد الذي فازت به شركة «نورثروب إيركرافت»، الشركة التي بنت طائرة مشابهة بلا طيَّار باسم «سنارك». حاولت «كونفير» الترويج لصاروخها «إم إكس-٧٧٤» باعتباره صاروخَ تجارب، لكنه خسر المنافسة أمام الصاروخ «فايكنج» الأكبر حجمًا والأكثر قدرةً. وفي الوقت المناسب، صُمِّم الصاروخ «مانهاتن» على غرار «أطلس»، وهو أول صاروخ باليستي أمريكي حقيقي عابر للقارات، وكان يعتمد في تصميمه إلى حدٍّ كبير على نموذج صواريخ «إم إكس-٧٧٤» لبوسارت. ولكن، هذا كله كان لا يزال في المستقبل البعيد، ويقع خارج إمكانات خطط القوات الجوية وقتئذٍ. بذل بوسارت مجهودًا بطوليًّا واكتسب خبرةً ثَبُتَ في نهاية المطاف أنها لا تُقدَّر بثمن، إلا أن ما كان يعوقه في تلك الأثناء هو عدم اهتمام القوات الجوية بالصواريخ الكبيرة، وهو ما حتَّمَ عليه الانتظار إلى حين تحسُّن الأحوال.

سرعان ما نما اهتمام القوات الجوية بالصواريخ، بَيْدَ أنها كانت صواريخ نفاثة طراز «كروز»، وكانت في حقيقة الأمر عبارة عن طائرات بلا طيَّار. كان الصاروخ «سنارك» الذي يبلغ مداه ٥٠٠٠ ميل أحدَ هذه الصواريخ، وكان ثمة صاروخ آخَر هو الصاروخ «ماتادور» من إنتاج شركة «مارتن»، الذي كان يبلغ مداه ٦٠٠ ميل. استطاعت هذه الطائرات التحليق باستخدام المحركات النفَّاثة التقليدية، دون حاجة إلى صواريخ، ولم تكن تنطوي على مشكلة الاحتراق مثل النيازك. وكانت هذه الطائرات تحتاج إلى نُظُم طيران آلية عالية القدرة؛ إذ كان يتعيَّن على نموذج «سنارك» التزام مسار ثابت لمدة عشر ساعات أو أكثر، بينما لم تكن نُظُم الطيران الآلي في الحرب العالمية الثانية تستطيع الحفاظ على طائراتها في مسار ثابت لأكثر من خمس عشرة دقيقة أو ما يقرب من ذلك. لكن في معظم الجوانب الأخرى، بَدَتِ المتطلبات الفنية لصواريخ «كروز» هذه تقليديةً تمامًا.

مع ذلك، توافرت الفرصة لاستغلال هذا الاهتمام بصواريخ «كروز» باعتبارها انطلاقة نحو جهد بحثي طموح كان يمكن فعليًّا أن يضع الأساسَ لتطوير صواريخ باليستية عابرة للقارات. انتهزت هذه الفرصة شركة «نورث أمريكان أفياشن»، وقاد جهودَ التطوير ويليام بولاي؛ حيث رسمت جهودُه المسارَ الرئيسي في علم الصواريخ الأمريكي.

وُلِدَ بولاي في ألمانيا عام ١٩١١، وكان الاسم هيجونوتيًّا في الأصل؛ إذ كان أسلافه قد فرُّوا من الاضطهاد الديني في فرنسا أثناء فترة حكم لويس الرابع عشر، وكان والده ضابطًا في الجيش الألماني. ثم في عام ١٩٢٤، وسطَ الأضرار البالغة للتضخُّم في فترة ما بعد الحرب، رحلت عائلته عن منزلها في شتوتجارت، وهاجرت إلى إيفانستون بولاية إلينوي؛ حيث وجد بولاي الذي كان طالبًا في السنة النهائية في المرحلة الثانوية عملًا في مخزن فحم. وأقام بولاي الشاب في مدينته الأم، حيث انضم إلى جامعة نورثوسترن؛ وفي عام ١٩٣٣، مثلما تذكر أرملته جين: «جاء ذات يوم يقفز عبر حرم الجامعة وعيناه تلمعان، وكان قد حصل وقتَها على منحةٍ بقيمة ٣٠٠ دولار أمريكي من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا.»

كان لا يزال أمامهما عام على الزواج، بَيْدَ أنها تبعته إلى الساحل الغربي، مسجِّلةً نفسها لإتمام سنتها النهائية في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، بينما التحق هو بكلية الدراسات العليا. وتتذكَّر ذلك قائلةً: «كنتُ أذهب إلى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في عطلة كل أسبوع، مستقِلَّةً الترام. في المعهد، لم يكن ثمة وقت كثير للخروج معًا. وفي معظم الوقت، كنتُ أجلس إلى جانبه بينما كان يستذكر دروسه.» جذب عمله اهتمامَ فون كارمان، الذي اتخذه مساعِدًا له؛ وأجريا عمليات حسابية لإقامة قبة مرصد ماونت بالومار، وحاولا فهم هيدروديناميكا آبار البترول. وتواصِل جين ذكرياتها قائلةً: «كان فون كارمان يبدأ في طرح أفكاره في الساعة العاشرة مساءً تقريبًا، ويواصِلان العمل حتى الساعة الثالثة صباحًا. ثم كان بيل يعود بعينين أجهدهما التعب، ويذهب إلى الصف في تمام الساعة الثامنة صباحًا في اليوم التالي.»5

أُعجِبَ بولاي أيضًا بفرانك مالينا، وكان من المعتاد أن ينظِّم طلابُ الدراسات العليا حلقاتٍ دراسيةً، وبالفعل نظَّمَ بولاي حلقةً دراسية حول بناء طائرة صاروخية تبلغ سرعتها ١٢٠٠ ميل في الساعة. وانضمَّ أيضًا إلى مالينا في أرويو سِكو، حيث جثم وراء كومة من أجولة الرمل لإجراء اختبار صاروخي مبكر. لكن على الرغم من اهتمامه بالصواريخ، لم يكن يعتزم أن يبدأ حياته المهنية من خلال مجالٍ لا تزال معالمه غير واضحة. وكان موضوع رسالته في الدكتوراه عبارة عن بحث على غرار بحوث فون كارمان حول نظرية الأجنحة، ولم يكن يتناول شيئًا مستقبليًّا أكثر من مجال ديناميكا الهواء التقليدي. ظلَّ بولاي فترةً يعمل في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا كمدرس شاب، ثم التحق بجامعة هارفرد عضوًا حديث السن في هيئة التدريس. وفي هارفرد بنى نفقًا هوائيًّا، في الطابق السفلي لأحد مباني الجامعة، مستخدِمًا محركات كهربية إضافية من مترو أنفاق بوسطن.

مع ذلك، استطاع بالكاد أن يفلت من نُذر الحرب التي كانت تلوح في الأفق. وكان النازيون يمتلكون منظمةً تضمُّ مناصري الولايات المتحدة؛ المنظمة الألمانية-الأمريكية، وهي المنظمة التي اتصل أحد أعضائها ببولاي، آمِلًا في أن تسهِّل أصولُ بولاي الألمانية انضمامَه إلى المنظمة. وتتذكر جين ردَّه قائلةً: «كان بيل مستاءً للغاية من فكرة مساعدتهم، فخرج وتبع أخاه يوجين، الذي كان قد انضمَّ قبل ذلك إلى قوات الاحتياط في البحرية.» وكان يوجين عالِمَ أرصاد عَرضت عليه البحريةُ الانضمامَ إلى مكتب الأرصاد الجوية التابع لها؛ أما ويليام، فعرضَتِ البحرية عليه وظيفةً في مجال الصواريخ.

في سبتمبر ١٩٤١ استدعته البحرية في مهمةٍ، ووصل إلى واشنطن ووجد أن عليه التعامل مع أدوات ربط الأجزاء المعدنية مثل الصواميل والمسامير، ولم يَرُق الأمرُ له، لكنه كان مستعِدًّا لاستخدام علاقاته. وكان بعض زملائه في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا قد صاروا ضباطَ بحرية في رُتَب عالية، فطلبَ بولاي المساعدة منهم؛ وفي غضون يومين، جرى نقله إلى فرع تطوير محطة توليد الطاقة في مكتب الملاحة الجوية في أنابوليس.

كان هذا المكتب هو مركز البحوث الذي يُجرِي فيه روبرت ترواكس بحوثًا على الصواريخ بالتعاون مع روبرت جودارد، بينما كان يتولَّى إدارةَ شئون العقود مع شركتَيْ «ريأكشن موتورز» و«إيروجت»؛ وصار ترواكس وبولاي صديقَين حميمَيْن. وكان ثمة مدير آخَر يتولَّى مسئولية مشابهة عن المحركات النفاثة ذات الدفع الهوائي. وظفرَ بولاي نفسه بالمنصب الأهم، في مجال المحركات النفاثة. وكان المركز يتميَّز بتوفيره هيكلًا تنظيميًّا صغيرًا يضم حفنة من الأشخاص، يوجِّهون من خلاله عمليات التطوير المباشِرة لأنواع المحركات الثلاثة، وهي العمليات التي كان بولاي يسير على خطاها سيرًا حثيثًا.

كان المحرك النفاث ذو الدفع الهوائي، أو «المَصْرِف الطائر»، واعدًا بصورة خاصة؛ إذ كان أبسط محرك يمكن تصوُّره على الإطلاق. وكان عبارة عن أنبوب ذي طول معين مُصمَّم بعناية ومزوَّد بحواقن وقود؛ وعند السرعات المرتفعة، كان الهواء يندفع في المقدمة، ثم يحرق الوقود المحقون ويصير ساخنًا. وكان تيار الهواء الساخن المتدفِّق يدفع المؤخرة؛ ممَّا يولِّد قوةَ دفعٍ.

كانت التجارب الأوَّلية على المحركات النفاثة ذات الدفع الهوائي تمضي قُدمًا على النحو الارتجالي نفسه الذي كانت التجارب الصاروخية تمضي فيه، بَيْدَ أنها كانت تُسفر عن نتائج. وفي مختبر الفيزياء التطبيقية في مدينة بلتيمور القريبة، لم يتجاوز ما استخدمته إحدى مجموعات العمل كأنبوب في المحرك النفاث ذي الدفع الهوائي أكثر من مجرد أنبوب عادم في طائرة مقاتلة. ووفرت مجموعة من صواريخ الوقود الصلب الصغيرة قوة الدفع المبدئية، وهو ما كان يزيد سرعة المحرك النفاث ذي الدفع الهوائي إلى مستوى سرعة تجعل عملية اندفاع الهواء في مقدمة المحرك تؤتي ثمارها في عملية الدفع. وفي يونيو ١٩٤٥ عملت هذه التعديلات البديلة على زيادة السرعة إلى ١٤٠٠ ميل في الساعة، وهو ما يقترب من ضِعْف سرعة الصوت وأكثر من ضِعْفِ سرعةِ أسرع المقاتلات النفاثة على الإطلاق في ذلك الوقت.

ركَّزت تجارب بولاي على تصميم المحركات النفاثة التوربينية وإنتاجها. وكان مخترع بريطاني، يُدعَى فرانك وتل، قد بنى النماذج الأولى من هذه المحركات، وكان بولاي متحمِّسًا لإنتاجها. ومع نهاية الحرب، كانت البحرية تسعى جديًّا إلى تطوير الطائرات النفاثة، وكانت شركة «نورث أمريكان أفياشن» في لوس أنجلوس تطوِّر نموذج «إف جيه-١ فيوري»، الذي صار من أوائل نماذج المقاتلات النفاثة المحمولة على متن حاملة طائرات.

قاد مشروع المقاتلات هذا بولاي إلى شركة «نورث أمريكان»، حيث كوَّنَ أول فريق في البلاد لتطوير الصواريخ. ويتذكر جيه ليلاند آتوود، رئيس الشركة بعد عام ١٩٤٨، أن نهاية الحرب شهدت تراجعًا مفاجئًا في توقعات شركة «نورث أمريكان» وتطلعاتها. وخلال الحرب، كانت الشركة مصدرًا أساسيًّا لإنتاج الطائرات في البلاد أثناء الحرب؛ يقول آتوود: «كان لدينا ٩٠ ألف موظف في ذروة نشاط الشركة.» لكن بحلول خريف عام ١٩٤٥، في خضم مجموعة هائلة من إلغاءات عقود الإنتاج، تقلَّصَ عددُ الموظفين إلى ما لا يزيد عن ٥٠٠٠ موظف. وأثناء فترات الركود، لم يكن لديها سوى بضع عشرات من طلبات إنتاج الطائرات.

على الرغم من ذلك، كان ثمة مجال محدود للنشاط، وكان ذلك في المجال الجديد لإنتاج المقاتلات النفاثة والقاذفات. بالنسبة إلى آتوود ورئيسه، رئيس الشركة جيمس «داتش» كيندلبرجر، كان العمل في هذا المجال يمثِّل الطريقَ إلى المستقبل، وكما قال آتوود: «كان جليًّا للغاية أن البلاد ستحتاج إلى طائرة عسكرية جديدة، وكنَّا سنشارك في صناعتها.»

كانت الحرب قد تمخضت عن مجموعة من التكنولوجيات المُبتكرة؛ مثل: الطائرات النفاثة، والصواريخ، والرادار، والأجهزة الإلكترونية الأخرى، ونظام التحكم الآلي، والطاقة الذَّرِّيَّة. ورأى كيندلبرجر أن يدعو أفضل عالِم يمكنه العثور عليه ويطلب منه تأسيس شركة مختبرات بحثية جديدة يعمل لديها خبراء في هذه المجالات، واقترَحَ على أحد مسئولي التوظيف التنفيذيين، في منطقة واشنطن، توظيف بولاي.

وصل بولاي وزوجته جين، وبصحبتهما ابنتهما الرضيعة ميلودي، إلى لوس أنجلوس بحلول عيد الشكر في عام ١٩٤٥، واشتريَا منزلًا كبيرًا مترامي الأطراف على الحدود القصوى في حي باسيفك باليسيدز، يفصله شارع عن الشاطئ. وأسَّسَ بولاي الشركةَ المزمع إنشاؤها في مبنى شركة جديدة قُرْبَ المطار، وأطلق على الشركة اسم «مختبر الفيزياء الجوية»، بعد أن كان قد أطلق عليها اسم «مبنى التزويد بالأدوات اللازمة».

بينما كان بولاي لا يزال يرتِّب أوضاعه، كان معلِّمه القديم تيودور فون كارمان يشير إلى الطريق نحو مستقبل القوات الجوية. وبناءً على طلب قائده، هاب أرنولد، كتب كارمان تقريرًا بعنوان «نحو آفاق جديدة»، وتوقَّعَ أن يأتي المستقبل بنماذجِ مقاتلاتٍ نفاثة تتجاوز سرعتُها سرعةَ الصوت، وصواريخ بعيدةِ المدى تحمل قنابل نووية، وأقمارٍ صناعية تدور في مدارات فضائية. وشعر الجنرال أرنولد بسعادة بالغة تجاه التقرير، فأخبر كارمان أن التقرير سيُستخدَم «لفترة من الوقت كأداة استرشادية يستعين بها القائد العام في الاضطلاع بمسئولياته في مجالَيِ البحث والتطوير». وكان التمويل المتوفر لتنفيذ هذه الجهود ضئيلًا، لكن من خلال دعم أرنولد استطاع بولاي وزملاؤه مواصلة أبحاثهم.

بدأ مشروع بحثهم الصاروخي في ساحة انتظار السيارات في إحدى الشركات؛ حيث كانت السيارات المنتظرة على مسافة بضع ياردات منهم. وكان النَّصْل الصلب لجرافة أحد البلدوزرات يحمي المهندسين في حالة انفجار المحرك، وكان بعض المحركات غايةً في الصِّغَر، حتى إن صوتها كان أقرب إلى الصفير منه إلى الهدير، ويقول آتوود متحدثًا عن ذلك: «كانت لدينا صواريخ تصفِّر ليلَ نهارَ طوالَ عامين.» وفي هذا المختبر الجديد، شيَّدَ بولاي، الذي كان قد بنى نفقًا هوائيًّا في هارفرد، نفقًا هوائيًّا تجاوزَتْ سرعةُ الهواء فيه سرعةَ الصوت. كما بدأ في جلب اختصاصيين في مجال نُظُم التوجيه الجيروسكوبي والإلكترونيات وعلم الصواريخ؛ وكان من بين هؤلاء جون بارسونز، الاختصاصي في مجال الوقود الدفعي من شركة «إيروجت». يقول آتوود: «كنَّا نتلمَّس طريقنا، ولم تكن لدينا خطة مفصَّلة، لكن كل ما نجمعه كان يتمحور حول الدفع أو ديناميكا الهواء أو التحكم. وكانت هذه هي الدعائم أو القوائم التي تُجرَى على أساسها عملياتُ التطوير.»6

كانت الصواريخ الصغيرة المصنوعة منزليًّا توفِّر لطاقم عمله مقدمةً أساسية في المجال، لكن بولاي كان يعرف حقَّ المعرفة أن أفضل خبراء صواريخ في العالم هم الاختصاصيون الذين يعملون ضمن فريق فيرنر فون براون، الذين كانوا في ذلك الوقت لا يفعلون شيئًا في فورت بليس. وضمَّ بولاي عددًا كبيرًا منهم، وفيهم ديتر هوزيل، الذي كان يعمل مساعدًا لفون براون. ثم سرعان ما صار الخبراء في شركة «نورث أمريكان» يباشرون عملهم على مخططات «في-٢» الأوَّلية؛ حيث كانوا يبنون نسخًا من محركه الصاروخي ويُجرون اختبارات عليها.

كان المحرك الذي صمَّموه أقوى محرك صاروخي في العالم، بَيْدَ أن بولاي كان يرى إمكانية إجراء الكثير من التعديلات. وكان أحد الموضوعات الخلافية المتكررة يكمن في استعداده لحقن وقود الدفع وخلطه داخل غرفة الدفع؛ إذ كان الصاروخ «في-٢» الكبير قد أدَّى هذه المهمة الضرورية باستخدام تكنولوجيا بسيطة مستوحاة من محرك الصاروخ «إيه-٣» الأصغر حجمًا. وكان الصاروخ «إيه-٣» قد استخدم «كأس احتراق»، وهو عبارة عن كأس مقلوبة ذات رأس نحاسي يبرز من المنتصف. وكان الكحول يتناثر في الداخل من خلال ثقوب صغيرة في جدار الكأس، بينما كان الأكسجين السائل يتدفق إلى الخارج نحو الكأس من خلال ثقوب مشابهة في الرأس المركزي، وهو ما كان يتلاءم مع قوة دفع محرك «إيه-٣» البالغة ٣٣٠٠ رطل. لكن محرك «إيه-٤» الأكبر حجمًا كان في حاجةٍ إلى ما هو أكثر من ذلك.

كان محرك «إيه-٤» في حاجة إلى حاقن، وهو عبارة عن طبق دائري مسطَّح يُوضَع أعلى غرفة الدفع وتتخلله قنوات، مثل رأس دُش ذي ثقوب. وكان الوقود والأكسجين السائل، اللذان كانا يتناثران من القنوات كما يتدفق رذاذ المياه من الدُّش، يختلطان ويحترقان. ولكن الحواقن تستغرق وقتًا لتطويرها، وكان فالتر تيل، رئيس قسم تطوير المحركات، في عجلة من أمره، ولكي يحقن وقود الدفع الخاص بمحرك «إيه-٤»، استقرَّ رأيه على وضع ثماني عشرة كأس احتراق تقليدي في محرك «إيه-٣» أعلى غرفة الدفع. وكان لكل كأسٍ قناةُ الأكسجين السائل الخاصة بها، وهو ما جعل أحد الزملاء يشير إلى «محرك الثماني عشرة كأسًا» هذا باعتباره «شيئًا رهيبًا في حجمه وقوته وتعقيده، وكابوسًا لأي سمكري». حاوَلَ تيل بناء حاقن حقيقي لكنه واجه صعوبات، ومثلما كتب أحد القادة قائلًا: «الحرب لن تنتظر د. تيل.» ومات تيل في غارة قصف جوي بريطانية في عام ١٩٤٣، وكانت الحرب على وشك الانتهاء قبل أن ينجح مهندسوه في بناء نموذج ناجح وقابل للتشغيل.

بالنسبة إلى بولاي، كان تصميم حاقن مناسب يمثِّل ما هو أكثر بكثير من تصميم محرك أبسط؛ فمن الممكن أن يمهِّد هذا الحاقن الطريقَ لتصميم صواريخ ذات قوة دفع أكبر؛ نظرًا لأن حواقن تلك المحركات ربما تأتي في شكل مجموعة من التحسينات المباشرة في التصميم الأساسي. بَيْدَ أن بولاي لم يتمكَّن من إجراء الاختبارات اللازمة في ساحة انتظار السيارات التي كان يُجرِي فيها أبحاثَه؛ إذ كان يحتاج إلى مجموعة كبيرة من منشآت اختبارات الصواريخ.

يتذكر آتوود تلك الأحداث قائلًا: «أجرينا بحثًا واسعًا في المنطقة، ولم تكن مكتظة بالسكان آنذاك، وعثرنا على هذه الأرض في سانتا سوزانا باس، أعلى التل.» كانت هذه الأرض ملكًا لعائلة تُدعَى دانداس، وكانت قد سمحت لطواقم أفلام هوليوود باستخدامها لتصوير الأفلام الغربية. وكانت الأرض مُقْفِرة وقاحلة، ومليئة بالجلاميد المستديرة المائل لونها إلى الحُمرة؛ ممَّا يوفر إطلالات رائعة على وادي سان فرناندو المجاور. ولكن الأرض كانت شديدة الوعورة، حتى إن زملاء بولاي كانوا يستخدمون سيارة جيب للتنقل في أرجائها.

في أوائل عام ١٩٤٧، استأجرت شركة «نورث أمريكان» الأرض، ثم أقامت مركزًا لاختبارات صواريخ بتكلفة ٧١٣ ألف دولار أمريكي من أموال الشركة، وهو ما كان يُعتبَر مبلغًا طائلًا في ضوء نُدْرة المال في فترة ما بعد الحرب؛ لكنَّ الأمر كان يستند إلى تصريح بأن الصواريخ تمثِّل مستقبل الشركة، وأن آتوود وكيندلبرجر كانا عاقِدَي العزم على أن يكونا في الصَّدَارة وأن يقودا جهودَ التطوير.

في تلك الأثناء، كان بولاي يضع أسلوبًا مبتكرًا للغاية لعلاج مشكلة تصميم الصواريخ الموجَّهة البعيدة المدى، وكان بولاي يَعِي تمامًا اهتمامَ القوات الجوية بصواريخ «كروز» ذات الدفع النفاث، لكنه كان يعلم أن هذه الصواريخ ستحلِّق بسرعة أقل من سرعة الصوت، وربما يَسهُل إسقاطها بواسطة الصواريخ الاعتراضية أو نيران المدفعية المضادة للطائرات. وكان من المتوقَّع أن يحلِّق صاروخ باليستي عابر للقارات على ارتفاع شاهق وبسرعة بالغة بما يتعذَّر معه إسقاطه، بَيْدَ أن مشكلاته الفنية حالت دون إنتاجه، وأعطى أسلوب بولاي الأملَ في إمكانية الجمع بين بعضٍ من أكثر الخصائص جاذبيةً في كلا النوعين من الصواريخ.

دعا بولاي إلى تصميم صاروخ مجنَّح ينطلق بسرعة كبيرة باستخدام المحركات النفاثة ذات الدفع الهوائي، وكان من المتوقَّع أن يحلِّق هذا الصاروخ على ارتفاع أعلى وبسرعة أكبر ممَّا لو كان يعتمد على استخدام المحركات النفاثة التوربينية، وألَّا تتمكَّن نيرانُ العدو من إسقاطه بسهولة. ولكن، لم تكن سرعته كبيرة للغاية؛ ممَّا يجعله يحترق كالنيزك. وواصَلَ نظام التوجيه في هذا الصاروخ الاعتماد على نُظُم التوجيه الآلي في الطائرات، وربما لا تكون عمليةُ التوجيه على القدر نفسه من الأهمية مثلما في عملية توجيه صاروخ باليستي عابر للقارات. كما كان من المتوقَّع أن تكون هذه المحركات الصاروخية في حقيقة الأمر أقلَّ تعقيدًا بكثيرٍ بحيث يبدأ العمل عليها فورًا، وأُطلِق على النموذج اسم «نافاهو»، وهو ما كان يعكس نزوع شركة «نورث أمريكان» إلى إطلاق أسماء تبدأ بحرفَيْ «إن إيه»، وهما نفس الحرفين اللذين يبدأ بهما اسم الشركة. وبدعم قوي من القوات الجوية، سرعان ما برز الصاروخ «نافاهو» باعتباره محورَ تركيزِ أعمال تطوير الصواريخ في مرحلة ما بعد الحرب.

أوضَحَ التصميم المبكر للصاروخ «نافاهو» أن طريقة تفكير بولاي ظلت تعبِّر عن التأثير القوي لنموذج «في-٢»؛ فقد كان «نافاهو» عبارة عن صاروخ كبير يشبه نموذج «في-٢»، وبه محرك وحيد في الذيل، فضلًا عن زوج من الأجنحة القصيرة وزعانف رأسية علوية وسفلية. وكانت كل زعنفة تُوضَع على محرك نفاث ذي دفع هوائي عند الطرف، على غرار محركات باك روجرز. وكان الألمان قد بنَوْا نموذجًا مجنَّحًا مشابهًا من الصاروخ «في-٢» في عام ١٩٤٥، وإنْ كان دون الاعتماد على المحركات النفاثة ذات الدفع الهوائي. وحلَّقَ «نافاهو» بسرعةٍ تزيد عن ٢٦٠٠ ميل في الساعة، ممَّا جعله يتفوَّق على الصاروخ «في-٢» في مداه ليصل إلى ٧٥٠ كيلومترًا، وهو ما كان يكفي لبلوغ جلاسكو. وباستخدام المحركات النفاثة ذات الدفع الهوائي، توقَّعَ بولاي أن يصل مدى «نافاهو» إلى ألف ميل.

لم يحاول بولاي بناء محركات نفاثة ذات دفع هوائي؛ إذ تركت القوات الجوية هذا الجانب من المسألة إلى شركة «رايت إيرونوتيكال كوربوريشن»، وهي شركة كبيرة في مجال بناء محركات الطائرات. لكنَّ مهمةَ بناء الصواريخ كانت مُوكَلة إليه بالكامل. وقال المقدم إدوارد هول، الذي كان يموِّل تلك الأبحاث من خلال مركز التطوير في قاعدة «رايت-باترسون» التابعة للقوات الجوية، إن «نافاهو كان يمثِّل المحور الرئيسي لأي عمليات تطوير؛ إذ إنه على الرغم من» كونه صاروخ «كروز كنا نستطيع أن نضع فيه محرك صاروخ كبيرًا؛ ممَّا يسمح لنا بإنتاج محركات تقترب في حجمها من المحركات التي نحتاجها في صاروخ باليستي». وكان واضحًا منذ البداية أن «نافاهو» سيسهم في وضع الأساس لبناء صاروخ باليستي بعيد المدى.

بالاشتراك مع نظرائه في القوات الجوية، استقر رأي بولاي على تصميم صاروخ بقوة دفع ٧٥ ألف رطل، وهو ما كان يُعتبَر بمنزلة تعديل في قوة دفع الصاروخ «في-٢»، التي كانت تبلغ ٥٦ ألف رطل. ومع ذلك، صار واضحًا خلال عام ١٩٤٩ أن العمل على هذا التصميم لم يكن يسير على ما يرام؛ ويتحدث جيم برودستون، مدير الاختبارات، عن ذلك قائلًا: «يميل المهندسون إلى إعادة التصميم مرةً بعد أخرى.» ومن ثم، كان بولاي في حاجة إلى مدير يتخذ قرارات ويدفع المشروع قدمًا، ووجد بولاي بُغيتَه في سام هوفمان، وهو مهندس متوقد الذكاء في مجال تصميم محركات الطائرات، وكان يعمل كبير مهندسين، ثم صار أستاذًا في جامعة ولاية بنسلفانيا، وكان قد تعامَلَ مع بولاي أثناء الحرب، وكان يماثل بولاي في جمعه بين الخبرة الصناعية والأكاديمية.

قال هوفمان: «تمثَّلَتْ مهمتي في تصميم صاروخ، وكان لدى بيل مجموعةٌ من الزملاء الشباب الأذكياء الذين يفتقرون إلى الخبرة العملية، ولعل هذا هو ما ساعَدَهم في التعامُل مع الأمور المستجدة. وأراد بيل أن يضمَّني إلى مجموعته نظرًا لما كان لديَّ من دراية بكيفية بناء المحركات وما بنيته منها بالفعل، وكنتُ مصدرَ الخبرة العملية بالنسبة إلى هذه المجموعة من الشباب. وكانوا جميعًا من جيلٍ تالٍ لي، وكان لديَّ عملٌ سابق، بينما لم يسبق لأيٍّ من هؤلاء الشباب العملُ من قبلُ، باستثناء أنهم كانوا يخدمون في الجيش والبحرية.»7

بحلول شهر مارس من عام ١٩٥٠، كان النموذج الأول من محرك بولاي جاهزًا للاختبار بكامل قوة الدفع في سانتا سوزانا، وبَدَا المحرك صغيرًا للغاية لا يكاد يُرى وسط خزانات الوقود المكشوفة والعوارض الصُّلب الكبيرة في منصة فحصه الضخمة. لم يكن شكل المنصة جذَّابًا، لكن ثبُتَ تكامُل بنيانها وجدواها في خدمة الغرض الذي أُقِيمت من أجله. وكان شكل المنصة يتباين على نحوٍ واضح مع التشكيلات الصخرية المائلة إلى الحُمرة في «الحوض»، وهو عبارة عن وادٍ يشبه حفرة صغيرة محاطة بحافة مرتفعة كان يُستخدَم كمنطقة اختبارات. وكان ذلك في حضور العديد من المسئولين، وفيهم فون براون. وكان من المنتظر إذا صارت الأمور على ما يرام أن ينطلق لأسفل من بين العوارض الصُّلب لهبٌ أبيض مائل إلى الاصفرار في صورة سيف برَّاق؛ ممَّا سيؤدي إلى اهتزاز الصخور من جَرَّاء صوت المحرك، وهو صوت سيزداد ارتفاعًا مع تردُّد صداه بين جنبات الوادي.

صاح المسئول عن الاختبار قائلًا: «صمام الأكسجين مفتوح!» ثم تطايرت أجزاء الصاروخ في انفجار مفاجئ. وكان أحد المصمِّمين قد أوصى بأن يُصنع جزء مهم من الصلب غير المقوَّى، غير مدرك أن هذا المعدن الشائع الاستخدام يصير هشًّا عند تبريده باستخدام الأكسجين السائل، ويتعرَّض للتهشُّم والكسر. بحث كيندلبرجر — الذي كان في ذلك الوقت رئيس شركة «نورث أمريكان» — بإصرار عن المهندس السيئ الحظ حتى وجده ووجَّهَ إليه اللوم قائلًا: «كان يجب أن تصنع الصاروخ المنفجر من الذهب الصلب!» أُجرِيت تغييرات في مواصفات جسم الصاروخ بحيث يُصنع من الصلب الذي لا يصدأ، والذي كان شديد الاحتمال للبرودة الشديدة. وفي وقت لاحق في ربيع ذلك العام، كان المحرك يعمل بصورة جيدة في الاختبارات.

بحلول ذلك الوقت، كان بولاي والقوات الجوية بصدد إجراء تغييرات جوهرية في تصميم الصاروخ «نافاهو»، وهو أمر تمكَّنَا من تنفيذه عن طريق تجاوُز الأساليب التقليدية التي تعتمد على نموذج «في-٢» القديم؛ فاستطاعوا أن يسبقوا غيرهم في زيادة مداه زيادةً هائلة ليصل إلى ٣٠٠٠ ميل، بل إلى ٥٥٠٠ ميل أيضًا. ولكن، لم يكن الصاروخ «نافاهو» الجديد صاروخًا مجنَّحًا يتضمن محركات مساعدة، بل صار طائرة بلا طيَّار تفوق سرعتها سرعة الصوت، ذات مظهر أنيق على نحو مدهش.

كان هذا الصاروخ يتكوَّن من أجنحة طراز «دلتا»، وأجنحة أمامية إضافية صغيرة، وذيل رأسي مزدوج، وجسم طويل ونحيف ومدبَّب.

figure
منظر مقطعي للصاروخ «نافاهو» مع صاروخ الدفع الإضافي المُلحَق به (المصدر: جيمس جيبسون).

كان ثمة اثنان من أكبر المحركات النفاثة ذات الدفع الهوائي — يبلغ قطر كلٍّ منهما أربع أقدام — سيوفران قوة الدفع. وكان نظام التوجيه ينتقي نجومًا محددة حتى خلال النهار ويستخدمها في الملاحة؛ إذ كانت هذه النجوم توفر نقاطًا مرجعية تحافظ على محاذاة البوصلات الجيروسكوبية وتوجِّه إشارتها إلى الاتجاهات الصحيحة. وكان من المفترض أن يبلغ الصاروخ ارتفاع ٦٠ ألف قدم بسرعة ١٨٠٠ ميل في الساعة، وربما يتعثر في مساره أو يتعرج أثناء صعوده. ومع احتراق وقوده بالكامل، كان من المفترض أن يبلغ ارتفاعَ ٨٠ ألف قدم المستهدفَ. ومن خلال استخدام أجهزة استشعار الأشعة فوق الحمراء، كان بإمكان هذا الصاروخ أن يستشعر دفء الجو في مدينةٍ ما في ظل إطفاء الأنوار فيها خلال غارة جوية.

كان هذا الصاروخ يحتاج إلى قوة دعم أكبر في صاروخ الدفع الإضافي المُلحَق به، تزيد عمَّا يوفره محرك بقوة دفع ٧٥ ألف رطل؛ لذا قرَّرَ بولاي أن يصمِّم محركًا بقوة دفع ١٢٠ ألف رطل. وكان من المتوقَّع أن يوفر هذان المحركان، اللذان وُضِعا في قاعدة صاروخِ دفعٍ إضافيٍّ أكبر، قوةَ دفع للصاروخ «نافاهو» أثناء عملية الإطلاق. وأثناء صعوده في السماء، كان الصاروخ الذي يعتمد على محرك نفاث ذي دفع هوائي سيُوضَع على ظهر صاروخ الدفع الإضافي هذا، مثلما يمتطي المكوك الفضائي خزانَ الوقود حاليًّا؛ وعندما يصل إلى طبقة الستراتوسفير وتفوق سرعته سرعة الصوت، تتولَّى المحركات النفاثة ذات الدفع الهوائي دفع الصاروخ «نافاهو»، وينفصل الصاروخ عن صاروخ الدفع الإضافي المُلحَق به كي يواصِل رحلته.

عند تطوير هذا المحرك الجديد، كان المهندسون يعتمدون على خبرتهم في مجال تصميم الحاقن في المشروع السابق؛ ولكنَّ محلِّل إجهادٍ، يُدعَى ماثيو إك، أشار إلى وجود مشكلات في غرفة الدفع والفوهة، وكانت هذه المشكلات تتمثَّل في اتباع ممارسة سابقة تُبنَى من خلالها غرفة الدفع والفوهة في صورة طبقات، واحدة داخل الأخرى، مع وضع أنابيب فيما بينهما لإجراء عمليات التبريد الاسترجاعي. وأشار إك إلى أن هذا الأسلوب القياسي المُتبَع سيؤدي إلى حدوث إجهاد سيقلل قوة الدفع والضغط داخل الغرفة، ومن ثَمَّ سيقلِّل من قدرة المحرك.

لم يكن الحل البديل يتطلَّب أكثر من بناء المحرك بالكامل من هذه الأنابيب، مع لحام هذه الأنابيب معًا. وكان المصمِّم إد نوي في شركة «ريأكشن موتورز» يشجِّع بشدة اتباع هذا الأسلوب؛ وعليه، لم يكن سيُستخدَم جدارٌ من الألواح المعدنية لعزل ممرات التبريد عن حرارة الاحتراق الهائلة. ولكن بهذا الشكل من التصميم، ومع وجود الحلقات المعدنية التي تُحيط بالأنابيب الملحومة بالنحاس لتقوية هيكلها، كان من الممكن زيادة حجم المحركات في المستقبل إلى أي حجم مطلوب، وهو ما قد يوفر مستويات غير مسبوقة من قوة الدفع.

في ظل هذا التطور الأخير، قدَّمَ المحرك الذي بلغت قوة دفعه ١٢٠ ألف رطل صورةً واضحة لتصميم محركات الصواريخ في أمريكا مستقبلًا، وكان هذا المحرك يعتمد على الكحول كوقود، ثم أفسح المجال لاستخدام نموذج أكثر تطورًا يستخدم أنواعًا من الوقود تحتوي على طاقة أكبر يتم الحصول عليها من الكيروسين. وبمرور الوقت، صار هذا النموذج — الذي كانت قوة دفعه تتزايد — يُستخدَم في معظم صواريخ الوقود السائل التي تصدَّرت المشهد في خمسينيات القرن العشرين، بما في ذلك الصاروخ «أطلس» الباليستي العابر للقارات. وصارت هذه المحركات توفر قوة دفع لإطلاق الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية، بدايةً من أواخر خمسينيات القرن العشرين وحتى الوقت الحالي. ومن خلال إدخال بعض التحسينات على تصميمه الأساسي، بنى مهندسو طاقم بولاي نموذج «إف-١»، الذي بلغت قوة دفعه ١٫٥ مليون رطل، واستُخدِم هذا النموذج في إطلاق الصاروخ «ساتورن ٥» الذي كان في بعثة إلى القمر في ستينيات القرن العشرين، حاملًا على متنه روَّاد فضاء إلى القمر.

بحلول عام ١٩٥٠، صار مختبر الفيزياء الجوية شركة تجارية كبيرة، تضم أكثر من ١٦٠٠ موظف، وبعدها بأعوام قليلة خرج من عباءة الشركة قسمان تابعان رسميًّا لشركة «نورث أمريكان»؛ وهما «روكيت داين» و«أوتونتكس». وصار قسم «روكيت داين» الشركة الأولى في بناء محركات الوقود السائل على مستوى أمريكا، متفوقًا بذلك على شركة «إيروجت جنرال»، الشركة المنافسة الحقيقية الوحيدة لها؛ في حين صار قسم «أوتونتكس» شركةً رائدة في مجال تصميم أنظمة التوجيه. ومن خلال هذين القسمين الداخليين، استفادت شركة «نورث أمريكان» من خبرتها في تصميم الصاروخ «نافاهو» وأضافت عليها لتصير الشركة الرئيسية على مستوى البلاد في مجال بناء الصواريخ والمركبات الفضائية المأهولة.

في عام ١٩٥٠، كان كل هذا التطوير لا يزال في المستقبل البعيد، وفي تلك الأثناء كان بولاي يحافظ على علاقاته مع العالم الأكاديمي ويوطدها؛ حيث شغل وظيفة أستاذ في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، بدوام جزئي. ويتحدث بول كاستنهولتس — أحد الطلاب الذين استعان بهم بولاي ضمن فريقه في عام ١٩٤٩ — عن ذلك قائلًا: «كان شخصًا هادئًا صريحًا، ولم يكن جذَّابًا، لكنه كان مباشِرًا. كان بيل طويلًا ونحيفًا ومفعمًا بالنشاط، وكان المرء حين يراه يشعر بأنه شخص مفعم بالحيوية، على أهبة الاستعداد للانتقال إلى أي مكان.» ويصفه جيم برودستون بأنه «شخص جذَّاب، وكان يبدو مهندسًا حقًّا في حلته الأنيقة». تستخدم جين بولاي الصفات نفسها التي كان كاستنهولتس يستخدمها في الإشارة إليه: «كان هادئًا، ويفكر في الأمور مليًّا. وكان ودودًا للغاية، وكانت مشكلتي الوحيدة معه أنه كان يشرُد بعيدًا في عالَمٍ آخَر. وكان لديه حسٌّ فكاهي ماكِر ذو طابع إنجليزي ضمني.»

ظلَّ بولاي في أعماقه أكاديميًّا، ومثلما كانت الحال مع فون كارمان، كان يسرُّه كثيرًا اجتذاب الأشخاص ذوي الذكاء الحاد الذين لديهم أفكار جديدة ويدعمهم ويرقبهم بينما يتطوَّرون. ويتحدث أخوه، يوجين، عن ذلك قائلًا: «جلب بيل إلى نورث أمريكان مجموعةً استثنائية من الأشخاص ذوي الموهبة المرتفعة. وكانوا جميعًا مثله، يسعَون سعيًا محمومًا نحو تحقيق الصدارة في مجالات تخصُّصهم.»

كان شونسي ستار، الذي صار رائدًا على مستوى البلاد في مجال الطاقة الذَّرِّيَّة، واحدًا منهم. وكان من بينهم أيضًا سام هوفمان، الذي بنى محركات صاروخية لبرنامج «أبولُّو» للهبوط على القمر؛ وديل مايرز، الذي صار مدير الرحلات الفضائية المأهولة في وكالة ناسا؛ وبول كاستنهولتس، الذي صمَّمَ المحركات الرئيسية للمكوك الفضائي الذي هبط على سطح القمر؛ وجون آر مور، الذي صار رئيس شركة «أوتونتكس». وكان ثمة آخرون أيضًا في مجالات التوجيه والتحكم وديناميكا الهواء ومجالات أخرى.

على الرغم من ذلك، مع تنامي مشروع «نافاهو»، وجدَ بولاي أنه كثيرًا ما يدخل في خلاف مع رئيسه لاري ويت، الذي كان نائب رئيس إحدى الشركات. ويقول توم ديكسون، أحد مديري برنامج الصواريخ لديه: «كان بولاي يميل إلى الأساليب الجامعية، ولم يكن مهتمًّا بنُظُم الإدارة. وكان لاري ويت شخصًا عنيدًا؛ إذ كان يختلف مع بيل حول طريقة إدارته للأمور، ولم يستطع بيل الانسجام معه.» ويتحدَّث لي آتوود، الذي كان رئيس ويت، عن ذكريات مشابهة: «تخرَّجَ لاري في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وكان متمكِّنًا من الناحية الفنية، لكن ما كان ينبغي أن يتولَّى ذلك المنصب. وفي نهاية المطاف، نقلناه إلى إدارة العقود والتسعير.»

في عام ١٩٥١، عندما بلغت خلافاتهما ذروتها، ترك بولاي شركة «نورث أمريكان» ومشروع «نافاهو»، وأقام شركة جديدة وصار مشغولًا تمامًا ببناء الصواريخ الحربية لصالح الجيش، وتوقَّفَ عن الانشغال الدائم بأنشطة تطوير محركات الصواريخ.

في ذلك الحين، كان يفصل القوات الجوية ثلاث سنوات فقط عن التعهُّد ببناء الصاروخ «أطلس» الباليستي العابر للقارات، وإيلائه أعلى مراتب الأولوية العسكرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤