الفصل التاسع

هراء محض

الفن والجمال في رواية «الهوبيت»
فيليب تالون

ما الذي يمكن لرواية «الهوبيت» أن تبيِّنه لنا عن فلسفة الفن؟ أو لعلَّنا قد نتساءل: ما الذي يمكن «لأحد» الهوبيت أن يخبرنا به عن هذا الموضوع؟ لو اضطر بيلبو، على سبيل المثال، أن يلقي محاضرة عن الفن في المتحف في ميشيل دلفينج، ماذا كان سيقول؟ سوف يحاول هذا الفصل الإجابة عن هذا السؤال من خلال استعراضِ بعض الأفكار الأساسية في فكر تولكين، ورؤية الكيفية التي تتواجد بها هذه الأفكار في «الهوبيت».

ما إن تبدأ النظر، حتى تدرك أنه من السهل أن ترى أن فلسفةَ الجمال (ذلك الجانبَ من الفلسفة المعنيَّ بالفن والجمال) أساسيةٌ لفهم عالم «الهوبيت» ورُؤَى صانعه. وسواء أكانت على صورة الخريطة السحرية التي يعطيها جاندالف لثورين، أو ألغازُ جولوم الذكية في الظلام، أو خاتم القوة الذي يجده بيلبو، أو الطريقةُ الإبداعية التي ينسج بها جاندالف قصتَه لبيورن، أو جمالُ حجرِ الأركنستون المنقطع النظير؛ تظل الفنون سمةً أساسية في القصة.

تمثِّل الأعمال الفنية بالنسبة لرواية «الهوبيت» ما تمثِّله أجهزة المراقبة والوثائق السرية لأفلام الجاسوسية؛ عناصر لا تتجزأ تقود الحبكة. إنَّ رواية «الهوبيت» رحلةٌ عَبْر عالَمٍ من الحِرَف، والمصنوعات البشرية، والمهارة الفنية. ومن عالَمِه الجزيري والروتيني داخل شاير المحصنة، يسافِر بيلبو ويواجه عالَمًا أرحب وأغرب مما استطاع يومًا أن يتخيَّل.

بالطبع لا يعتبِر الهوبيت أنفسَهم جنسًا شديدَ البراعة الفنية؛ فعلى الرغم من أن تدخينهم للغليون يُوصَف مِنْ قِبَلهم بأنه فن — بحسب قول تولكين — وكل الهوبيت يتعلَّمون فنَّ الطهي؛ يبدو أن معظم حرفية الهوبيت مخصصة للجوانب العملية والراحة وحسب. ولو لم يكن بيلبو قد سافر من الشاير، لكان من المشكوك فيه أن يكون لديه الكثير لقوله عن البراعة الفنية أو الجمال، ربما فيما عدا الإشارة إلى أفضل الطرق لتعبئة الغليون، أو اقتراح أفضل ما يتماشى من أنواع الجعة مع لحم الضأن المشويِّ.

(١) تولكين وحركة الفن من أجل الفن

وُلِد تولكين، الذي عاش من عام ١٨٩٢ حتى عام ١٩٧٣، في نهاية قرنٍ شَهِد تغيُّرًا ضخمًا في مفهوم الفن والجمال؛ ففي العصور الوسطى، كان الفن يعمل بمنزلة خادم للكنيسة؛ إذ كان يبيِّن (مجازيًّا وحرفيًّا) نصَّ الرؤية المسيحية للعالم. وبحلول القرن التاسع عشر، كانت فكرة أنَّ الفن ينبغي أن يكيِّف نفسَه ليتلاءم مع رسالة الكنيسة، أو أن يعمل في الأساس من أجل تأكيد القِيَم الأخلاقية والروحانية؛ قد تآكَلَتْ وصارت باليةً منذ زمن طويل.

من خلال التغيُّرات التي طرأت قبل قرن على يد إيمانويل كانط (١٧٢٤–١٨٠٤)، لم يَعُدْ يُفترَض على نحوٍ واسعٍ أن الفن يستطيع أو ينبغي أن يعمل كأداة للتوجيه أو التحسين الأخلاقي. وفي خلال الفترة التي وُلِد فيها تولكين تقريبًا، صار هناك افتراضٌ واسع النطاق بأن الفن قد وُجِد في عالم غير مبالٍ، أو ربما مُعَادٍ للحقيقة والأخلاق. وقد عبَّر أوسكار وايلد (١٨٥٤–١٩٠٠) عن هذا المزاج السائد بشكلٍ جيِّدٍ حين علَّقَ بأنَّ «الفنَّ خارجٌ عن نطاق الأخلاقيات؛ لأن عيونه مركَّزة على أشياء جميلة وخالدة ودائمة التغيُّر. أما الأخلاق، فلا ينتمي لها سوى العوالم الدنيا والعوالم الأقل عقلانيةً».1
غالبًا ما يُعرَف هذا التطور، الذي شارَكَ فيه وايلد وعبَّرَ عنه، بحركة «الفن من أجل الفن»؛ فقد تركَتِ الأخلاقَ والتعليمَ خلفها مثلما يترك أطفالُ المدارسِ كتبَهم في حجرة الدراسة حين يذهبون للراحة. لقد تحرَّرَ الفنُّ من الاضطرار «لفعلِ» أي شيء. وفي ذلك كتب جيمس ويستلر (١٨٣٤–١٩٠٣)، رسَّامُ الأمهات الشهير: «يجب أن يكون الفن مستقلًّا عن كل الهراء؛ يجب أن يكون قائمًا بذاته … ويخاطب الحسَّ الفني للعين أو الأذن، دون أن يخلط هذا بالمشاعر الغريبة عنه كليًّا؛ مثل: الإخلاص، والشفقة، والحب، والوطنية، وما شابه».2

واليوم تَلقَى فكرةُ تواجد الفن في عالم منعزل عن العوالم الأخرى ذات الأهمية الإنسانية قبولًا واسعَ النطاق في الثقافة الغربية؛ فصارت عبارة «الفن من أجل الفن» تُقتبَس عادةً كرؤية موحَّدة للإبداع، بل إنها شعار استوديوهات إم جي إم بهوليوود، التي شاركت في إنتاج سلسلة أفلام «الهوبيت».

اتفق تولكين مع حركة الفن من أجل الفن، ولكن لدرجة بسيطة فقط. فمثل ويستلر ووايلد، كان تولكين يؤمن بأن الفن يجب ألَّا يُنظَر إليه بشكل أساسي بوصفه شيئًا عمليًّا أو منفعيًّا. على سبيل المثال، يُعَبِّر تولكين عن بغضٍ بالغٍ لأشكال من الأدب — مثل القصة الرمزية الأخلاقية — تسعى لتلقين الجمهور رسالة ما.3 وعلى الرغم من أن تولكين كان مسيحيًّا، فإنه لم يكن يؤمن بأن الفن ينبغي ببساطة أن يكون خادمًا للكنيسة؛ فقد كان يرى أن الإبداع الفني غاية قيمة في ذاته وليس مجرد وسيلة لغرضٍ أسمَى.
وبكلمات تبدو في وقعها أشبهَ نوعًا ما بكلمات ويستلر، يكتب توليكن: «الفن والرغبة الإبداعية (أو كما يجب أن أقول: الإبداعية الفرعية) ليس لهما وظيفة بيولوجية كما يبدو، وهي جزء من الرضا بالحياة البيولوجية العادية المحضة.»4 بعبارة أخرى، لم يكن تولكين يرى أيَّ حاجةٍ عملية مباشِرة للإبداع؛ فما لم يُبَع الكثير من الأعمال الفنية، لن يضع الفن خبزًا على مائدتك أو سقفًا فوق رأسك.
علاوة على ذلك، بَدَا تولكين «يفضِّل» لاعملية الفن بوصفها ميزة حقيقية، مشيرًا، على سبيل المثال، إلى أن الجن «فنَّانون بالأساس»، يكمن سحرهم في «الفن وليس القوة، الإبداع الفرعي وليس السيطرة وإعادة تشكيل الخلق المستبدة».5 وينعى تولكين في كتاباته عن أخطار التكنولوجيا عدمَ تشبُّه البشر بالجن في هذا المقام:
تتضح هنا مأساةُ جميع الآلات والماكينات وإحباطُها. فعلى عكس الفن، الذي يكتفي بخلق عالم ثانوي جديد في العقل، تحاوِل الآلات أن تخلع على الرغبة طابعًا ماديًّا؛ ومن ثَمَّ خلق قوة في هذا العالم، ولا يمكن لذلك حقيقةً أن يتمَّ بأي رضًا حقيقي. إن الآلات الموفِّرة للجهد لا تخلق سوى جهدٍ وشقاءٍ أسوأ لا نهايةَ لهما.6

كل هذا يعني أنَّ الإبداع من منظور تولكين لم يكن الشيء الأهم فيما يتعلَّق «بفعل» أي شيء عملي، وهو بهذه الطريقة إنما يردِّد أفكارًا من حركة الفن من أجل الفن.

(٢) «متعة الإبداع»

في ذروة قوتهم وإبداعهم، نظَرَ الأقزام إلى الفن أيضًا باعتباره شيئًا قيِّمًا ونفيسًا بشكل جوهري؛ إذ كانوا يصنعون الأشياء لمجرد الاستمتاع. في بداية «الهوبيت»، يقومون بزيارة لبيلبو، مستقطبين إيَّاه إلى المغامرة. وفي وصفه لما فقدوه خلال فترة إبعادهم الطويلةِ عن الجبل الوحيد، يحكي ثورين عن فتراتٍ أفضل مرُّوا بها قائلًا:
كانت تلك أيامًا جيدة ككلٍّ بالنسبة إلينا، وكان أفقرنا يملك مالًا لإنفاقه وإقراضه للغير، ولديه وقت الفراغ للقيام بأشياء جميلة فقط لأجل المتعة، ناهيك عن أروع وأغرب اللعب التي لا توجد مثيلتها في العالم هذه الأيام.7
يبدو الإبداع «من أجل ما به من متعة فقط» أيضًا نشاطًا تتشاركه الأجناس الأخرى في «الهوبيت»؛ فنرى جاندالف ينفث حلقات الدخان، ونسمع الجن يمارسون الغناء. وليس الساحر ببعيد عن اللعب (تذكَّرْ أيضًا ألعابه النارية المشهورة)، ولا الجن. فحين يدنو الأقزامُ من منزل إلروند، يسمعون صوتَ غناء قادم من بين الأشجار: «لذا راحوا يضحكون ويغنون بين الأشجار، ويفعلون كل الهراء المحض الذي أظنُّكَ ستعتقده. ليس الأمر أنهم لم يكونوا يعبئون بشيء؛ فقد كانوا سيزيدون في الضحك لو أخبرتهم بذلك».8
كان تولكين على نفس القدر من عدم الاهتمام بما لو كان نقاد العصر الحديث سيحكمون على كتاباته الخيالية بأنها هراء؛ فقد اخترع تولكين عالمَ الأرض الوسطى وظلَّ يطوِّره بلا نهاية دون أدنى تصوُّر أنه يمكن أن يكون أكثر من مجرد تسلية خاصة. وفي ذلك يكتب تولكين مضيفًا: «أنا شخص غاية في الجدية ولا أستطيع التمييز بين التسلية الخاصة والواجب. أنا أعمل فقط للتسلية الخاصة؛ إذ أجد واجباتي والتزاماتي مسلية على نحو خاص.»9
بعد ذلك بكثير يكتب تولكين معترفًا بأن صديقه ورفيقه في الكتابة سي إس لويس هو مَنْ أقنَعَه بنشر الكثير من كتاباته، بما فيها «سيد الخواتم». «كان (لويس) وحده فقط هو مَن استقيْتُ منه فكرة أن «كتاباتي» يمكن أن تكون أكثر من مجرد هواية خاصة.»10 كان معظم زملاء تولكين في أكسفورد يعتقدون أن إبداعه الفني «محض هراء»، ولكن تولكين نفسه — مثل الجن والأقزام — كان لديه تقدير صحي للإبداع «لأجل متعته فقط».

(٣) «هم أيضًا قد يدركون جمال الكون المادي»

غير أنه على عكس الكثير من كتَّاب حركة الفن من أجل الفن النظرية، يفسح تولكين مجالًا لبُعْدٍ أخلاقيٍّ في الإبداع الفني، مشيرًا بشكل خاص إلى كيف يُعَدُّ كلٌّ من الإبداع وتقدير الجمال دلالةً على الصحة الأخلاقية والروحانية.11 ففي مواضع كثيرة في «الهوبيت»، يستخدم تولكين الحساسية للجمال بوصفها نوعًا من الترمومتر الأخلاقي لاختبار متى يكون لدى الشخص (أو عِرْق من البشر) مستوًى صحي من الفضيلة أو التميُّز الأخلاقي.
تميل المخلوقات الطيبة في أرض تولكين الوسطى إلى أن تكون مبدعةً ومستجيبة للجمال، بينما ينطبق العكس على المخلوقات الشريرة. فبعد فرارهم العصيب من العمالقة، يجد ثورين ورفاقه بعضَ النصال القزمية بين متعلقات العمالقة، وفي الحال يدرك جاندالف أن النصال «بأغمادها الجميلة ومقابضها المرصَّعة بالجواهر» لا يمكن أن تكون قد صُنِعت بأيدي العمالقة.12
يشير تولكين كذلك إلى أن أغنيات الجوبلن أقرب للنعيب منها إلى الغناء، وكدلالة أخرى على «قسوة، وخبث، وحقد» الجوبلن، يذكر تولكين أنهم «لا يصنعون أشياء جميلة، ولكنهم يصنعون الكثيرَ من الأشياء الدالة على المهارة». بل إن تولكين يشير إلى أن الجوبلن — في أغلب الظن — قد ابتكروا بعضًا من الماكينات المستخدَمَة اليوم في قتل العديد من الناس دفعةً واحدةً.13 ويتناقض هذا مع الطريقة التي يثني بها تولكين على الجن بوصفهم «فنانين في الأساس» يبحثون عن «الفن وليس القوة». إن تولكين يشير بوضوح إلى أن الإبداع الجيِّد إنما هو موجَّه لجلب الجمال والمتعة، لا الموت والدمار.
في الإبداع الفني دلالة على أن بإمكاننا أن نحب شيئًا آخَر سوى أنفسنا، وقد انبثق وجود الأقزام من الأساس من هذه الرغبة الجيِّدة في الخلق والإبداع بدافع الحب. ففي «السليمارية»، يخبر تولكين كيف أن أوليه الحداد (أحد الفالار، تلك المخلوقات الملائكية الشبيهة بالآلهة في الأرض الوسطى) أراد شيئًا آخَر ليحبه؛ ومن ثَمَّ خلَقَ جنسًا من البشر صغارَ الحجم أصلاد، يعملون مثل أوليه بالحدادة. وحين يدخل أوليه في متاعب مع إيلوفاتار — رمز الرب في الأرض الوسطى — لخلقه مخلوقات حية دون إذنه، يوضِّح أوليه لماذا خلق الأقزام دون علم إيلوفاتار:
لقد أردتُ أشياءَ أخرى سواي؛ كي أحبها وأعلِّمها، حتى يدركوا هم أيضًا جمالَ الكون المادي، الذي تسبَّبتَ أنتَ في وجوده. فقد تراءى لي أن ثمة متسعًا كبيرًا في الأردا (الأرض ونظامها الشمسي) لكثيرٍ من الأشياء قد تجد فيه البهجة، ولكنه لا يزال خاويًا في الغالب … غير أن صنع الأشياء يتم في قلبي الذي هو جزء من تكويني الذي صنعتَه أنت.14

هنا يشير أوليه لماذا أراد أن يخلق الأقزام من الأساس؛ فقد كان يعتقد أن العالم قد يستفيد من وجود بعض المخلوقات الأخرى القادرة على الاستمتاع بجماله. ونظرًا لتلك النية الطيبة كليًّا من جانب أوليه، لا يدمر إيلوفاتار الأقزام، بل يتركهم ليصبحوا أحد أجناس الأرض الوسطى.

قارِنْ دافع أوليه بدافع سارومان حين يخلق الأخيرُ سلالةً محسَّنة من الأورك الخارقين المقاومين للشمس (أورك-هاي)، وسيمكنك حينها أن ترى بوضوح الفرقَ بين الإبداع الأخلاقي والرغبة غير الأخلاقية في السيطرة والفساد. إن أوليه يريد فقط أن يخلق بدافع من الإيثار الإبداعي والمتعة، أما سارومان «بعقله المخلوق من معدن وعجلات»، فيريد الهيمنة مهما كان قُبْحُ مخلوقاته.15
من السهل إذن أن ترى أنَّ التقدير الجمالي والمهارة الفنية يُعَدَّان مؤشرات أخلاقية إيجابية في عالم «الهوبيت». ويرتبط هذا برؤية القديس أوجستين للفضيلة بوصفها «ترتيبًا صحيحًا للأشياء المحبوبة».16 ويبدو أن تولكين، العليم جيدًا بالتقليد الذي ساهَمَ فيه أوجستين، يتفق مع الرأي القائل بأن الأشخاص الطيبين (والهوبيت الطيبين، والأقزام الطيبين، والفالار الطيبين) يقدِّرون الفن الجيد، بينما تفتقر الكائنات الشريرة إلى الإحساس بالجمال. ولعل أفضل مثال لهذا من «الهوبيت» ما يقوله ثورين عن التنانين في أول لقاء له مع بيلبو:
إن التنانين تسرق الذهب والجواهر، كما تعلم، من البشر والجن والأقزام، أينما استطاعَتْ أن تجدهما؛ وتحرس غنيمتها ما دامت حية (وهو ما يعني عمليًّا أبد الدهر، ما لم تُقتَل)، ولا تستمتع ولو بخاتم نحاسي منه، بل إنها قلَّما تميِّز العملَ الجيد من السيئ، مع أنها عادةً لديها فكرة جيدة عن قيمة السوق الحالية، ولا تستطيع أن تفعل شيئًا بأنفسها، ولا حتى إصلاح جزء صغير تالف من درعها.17

لا تستطيع التنانين تقديرَ جمال أي شيء، ولا يمكنها أن تصنع أي شيء أو حتى تصلح جزءًا في دروعها. وهذا مهم على نحو خاص بالنسبة لبيلبو؛ لأنه هو الشخص الذي يقوم بتحديد مكان الثقب في درع سموج ويبلغ به طائر الدج، الذي يبلغ به بارد بعد ذلك الذي يقوم بدوره بقتل التنين بتصويب سهم نحو الثقب، الذي أهمل التنين إصلاحه نظرًا لعجزه عن الإبداع الفني. والكتاب بالكامل يرتكز على الحقيقة البسيطة الخاصة بأن التنانين ليس لديها أية مهارة فنية ولا تعبأ حقًّا بالجمال، بل تعبأ فقط بامتلاك الثروة المادية.

ثمة شخصيات عديدة في «الهوبيت» تُبتلَى بداء التنين، المتمثِّل في اشتهاءٍ مسعورٍ ناشئٍ عن سحرٍ لكنز التنين؛ من بينها حاكم مدينة التنين، الذي مُنِح جزءًا لا بأسَ به من ذهب الجبل لإعادة بناء المدينة، ولكنه يهرب به و«يموت جوعًا في الخراب».18 وبالمثل، يصبح ثورين مهووسًا بجمال الأركنستون بعد أن يستعيد الأقزامُ ملكيةَ الجبل. «لقد كان مثل كرة لها ألف وجه؛ كان يلمع مثل الفضة في ضوء النار، مثل الماء تحت شعاع الشمس، مثل الثلج تحت النجوم، مثل المطر فوق سطح القمر!»19

يختلف هَوَس ثورين بالأركنستون عن هوس التنين أو طمع الحاكم؛ لأنه مدفوع في الأساس بجمال الشيء الذي يسعى وراءه؛ لكنه يظل يؤثِّر على ثورين بطريقة مماثلة. إن ثورين يفقد صوابه مؤقتًا بفعل رغبته في استعادة الأركنستون (الذي يحوزه بيلبو سرًّا)، وهذا يبيِّن أنه حتى الأشياء الجميلة يمكن أن تدفعنا إلى الحَيْد عن بوصلتنا الأخلاقية، مثلما يمكن أن تدفعنا الرغبة في خير آخَر، مثل العدالة أو الحقيقة، إلى انتهاج سلوك غير أخلاقي.

ولكن لا بد من الاستمرار في ملاحظة أن ثورين يتعرَّض للإفساد بطريقة لا يمكن أن يتمَّ بها إفساد تنين، أو مجرد شخص جشع؛ فرغبته في الأركنستون تتجاوز قيمته. ومثلما يقول ثورين: «أركنستون أبي … يساوي أكثرَ من نهرٍ من الذهب في ذاته، وبالنسبة إليَّ لا يُقدَّر بثمن.»20

(٤) «حب الأشياء الجميلة»

في بداية «الهوبيت»، يتعرَّض بيلبو لمقاطعة فظَّة تفصله عن وجوده الزاخر بالسلام والهدوء الموروث بالفطرة من آل باجنز. ويعبِّر جاندالف، الذي أحدَثَ هذا الاضطراب، عن خيبة أمله من قلق بيلبو البالغ — وهو المنتمي لعشيرة التوك (وهم قوم مغامرون) — من أن تؤخِّره المغامرات عن موعد العشاء. ولكن حين يُخرِج ثورين قيثارتَه الذهبيةَ الجميلة ويبدأ في عزف أغنية عن الجبل الوحيد، ينضمُّ إليه بقية الأقزام، وتُحرِّك الأغنية مشاعر بيلبو:
بينما راحوا يُغَنُّون، شعَرَ الهوبيت بحبِّ الأشياء الجميلة المصنوعة باليد وبالدهاء وبالسحر يسري عَبْر جسده، حبٌّ عاتٍ تملؤه الغيرةُ؛ أمنية قلوب الأقزام. حينئذٍ استيقَظَ شيءٌ مغامِر بداخله، وتمنَّى لو ذهب وشاهَدَ الجبالَ الشاهقة، وسمِعَ حفيف أشجار الصنوبر وشلالات الماء، واستكشَفَ الكهوفَ، وأمسَكَ سيفًا بدلًا من عصا مشي.21
وبالاستماع إلى الأغنية الجميلة، يتنبَّه بيلبو للعالم الأرحب والقِيَم الأعمق. وتتشابه رؤية تولكين للجمال في «الهوبيت» مع رؤية إلين سكاري، وهي فيلسوفة معاصرة في الفن؛ ففي كتابها «عن الجمال والعدل»، تجادِل سكاري ضد فكرة الفن من أجل الفن قائلةً بأن الجمال يوجد في عالم منفصِل عن الأخلاق. فترى سكاري أن «الجمال يهيِّئنا للعدالة»؛ لأننا عندما نرى شيئًا جميلًا، فإن هذا «يرتبط بشكل قويٍّ برغبة مُلِحَّة في حمايته، أو التصرف نيابةً عنه».22 فمن خلال الأغنية، يراوِد بيلبو قدر «من أمنية قلوب الأقزام»، ويشاركهم رغبتهم الجارفة في استعادة الكنز المسلوب من قِبَل التنين.
ربطت آيريس مردوخ (١٩١٩–١٩٩٩) — وهي فيلسوفة أخلاقية وإحدى زميلات تولكين بأكسفورد — أيضًا تقدير الجمال بالضرورات الأخلاقية للاهتمام بالآخَرين فتقول:
في النُّظُم الفكرية وفي الاستمتاع بالفن والطبيعة نكتشف قيمةً في قدرتنا على نسيان الذات، على أن نكون واقعيين، على أن ندرك الأمورَ على نحوٍ عادل؛ فنحن نستخدم خيالنا لا للهروب من العالم، بل للانضمام إليه، وهو ما يُشعِرنا بالنشوة والبهجة بفضل وعينا العادي البليد، وبسبب خوفٍ ما من الواقع.23
إن هذا النوع من الصحوة هو بالضبط ما نراه لدى بيلبو حين يستشعر جمال أغنية الأقزام لأول مرة. قبل هذا، لم يكن بيلبو يستطيع التفكيرَ إلا في الراحة والروتين المبهج. كانت المغامرات بالنسبة له مجرد «أشياء قميئة مزعجة وغير مريحة» من شأنها «أن تجعلك تتأخَّر عن العشاء».24 غير أن بيلبو بعد سماع الأغنية، يستطيع إدراكَ أنه قد تكون هناك أشياء أهم في الحياة. يستيقظ شيء ما بداخله، ويرغب هو في أن يجرِّب شيئًا مختلفًا عن حياته المريحة الهادئة.

ومن ثَمَّ كان بيلبو بلا شك، وهو يقف أمام قميص «الميثريل» المدرَّع المقرض للمتحف هناك في ميشيل دلفينج، سيقول إن خلق الجمال والفن ليس جيدًا فقط في حد ذاته (على الرغم من أنهما كذلك)، وليسا مجرد دلالات على الصحة الأخلاقية (على الرغم من أنهما كذلك أيضًا)؛ بل إنهما يشعلان الخيال ويوقدان في القلب رغبة في أشياء أسمى، وأنبل، وأصعب. وفي الختام، كان بيلبو بلا شك سيعترف بلطف وتأدُّب أن هذه ما هي إلا نافذة صغيرة على مجال الفنون الواسع؛ لأنه مجرد هوبيت صغير الحجم في عالمٍ رحيب.

هوامش

(1) Oscar Wilde, “The Critic as Artist,” in Intentions (London: Methuen, 1913), 190–92.
(2) James McNeill Whistler, The Gentle Art of Making Enemies (New York: Courier Dover, 1967), 127.
(3) J. R. R. Tolkien, The Lord of the Rings: The Fellowship of the Ring (New York: Del Rey/Ballantine Books, 2001), x.
(4) Humphrey Carpenter, ed., The Letters of J. R. R. Tolkien (Boston: Houghton Mifflin, 1981), 145.
(5) Ibid., 146, 192.
(6) Ibid., 88.
(7) J. R. R. Tolkien, The Hobbit: or, There and Back Again (New York: Del Rey/Ballantine Books, 2001), 23.
(8) Ibid., 49.
(9) Carpenter, Letters, 218.
(10) Ibid., 33.
(11) Tolkien remarks that one of his goals in writing his tales of Middle-earth was “the encouragement of good morals.” Ibid., 194.
(12) Tolkien, The Hobbit, 42.
(13) Ibid., 62.
(14) J. R. R. Tolkien, The Silmarillion, ed. Christopher Tolkien (Boston: Houghton Mifflin, 1977), 41.
(15) J. R. R. Tolkien, The Lord of the Rings: The Two Towers (New York: Del Rey/Ballantine Books, 2001), 76.
(16) Augustine, The City of God, trans. Philip Devine (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1966), 4:536.
(17) Tolkien, The Hobbit, 23 (emphasis added).
(18) Ibid., 305.
(19) Ibid., 231.
(20) Ibid., 268.
(21) Ibid., 15-16.
(22) Elaine Scarry, On Beauty and Being Just (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2001), 88.
(23) Iris Murdoch, The Sovereignty of the Good (London: Routledge & Kegan Paul, 1970), 93.
(24) Tolkien, The Hobbit, 4.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤