بائع اللبن الصغير

كان اجتماع المغامرين الخمسة أشبه باحتفال … فهذه أول مرة منذ شهورٍ طويلة يعودون فيها للقاء من أجل «لغز» … وقد كانوا جميعًا في غاية الاهتمام … وبدت «لوزة» كأنها عروس هذا الاحتفال … فهي التي حصلَت على اللغز … ومن حقها أن تجلسَ كما تجلسُ الآنَ لامعة العينَين … تُحرِّك ساقَيها في جذل وابتهاج … ولكن فرحة «لوزة» لم تدُم طويلًا … فقد سَمِعَت «تختخ» وهو يُقدِّم ﻟ «عاطف» و«محب» و«نوسة» مُلخَّصًا للغز ثم يقول في النهاية: أعتقد أننا لن نستطيع أن نفعل شيئًا.

قالت «لوزة» غاضبة: كيف؟

تختخ: قولي لي أنتِ كيف نبدأ.

نظر المغامرون جميعًا إلى «لوزة» في انتظار أن تَرُد ولكنها لم تجد شيئًا تقولُه … لقد اختفَت «سماء» في ظروفٍ غريبة … اختفت بين مئات الناس داخل السينما … وليس هناك مَن يمكن سؤاله عنها … فلا أحد يعرف من الذي كان في السينما تلك الليلة … ومَن الذين كانوا يجلسون بجوارها أو أمامَها أو خلفَها … وفجأةً قالت «لوزة»: ما رأيُكَ في المشاجرة … ألا يمكن أن تكون مشاجرةً مفتعلة لخطف «سماء» أثناء ضَجَّة المشاجرة؟

تختخ: هذا ممكن … ولكن أين هم المتشاجرون؟

لوزة: لعل أسماءهم عند الشاويش «فرقع».

تختخ: هل تتصورين أشخاصًا يفتعلون مشاجرة لإخفاء حادث اختطاف ثم يذهبون إلى الشرطة للإبلاغ عن المشاجرة؟ إن هذا يشبه أن يقوم لصٌّ بسرقةٍ ما، ثم يذهب للإبلاغ عن نفسه قائلًا: أنا حرامي!

أحسَّت «لوزة» بدماء الخجل تندفع إلى وجهها … فقد كان حديث «تختخ» حاسمًا ولا يقبل المناقشة … وأسرعَت «نوسة» لإنقاذ صديقتها العزيزة من الحَرَج الذي أحسَّت به، وقالت: أعتقد أن في إمكاننا البَدءَ بعد تحريات رجال الشرطة … فإذا وصلوا إلى أي خيطٍ فمن الممكن السير خلفَه حتى الوصول إلى شيء.

تختخ: هذا ما فكَّرتُ فيه … وعلينا الانتظار.

قال «محب»: هناك نقطةٌ أخرى … إن عمليات الخطف يتبعها دائمًا عمليةُ طلبِ فدية لردِّ المخطوف … وقد تقوم العصابة بطلب الفدية اليوم أو غدًا … وهذه بداية على كل حال.

تختخ: إذا حدث هذا فسيكون دور رجال الشرطة أكبر من دورنا … فعندهم الإمكانيات لمتابعة المكالمات التليفونية … ووَضْع الرقابة اللازمة على الأماكن والسيارات، وليس لدينا أي شيء من هذا.

عاطف: من الممكن أن نتابع كل هذا عن طريق المفتش «سامي».

تختخ: صحيح … ولكن بعد بداية تحرُّكاتِ رجال الشرطة وليس قبل ذلك … وليس أمامنا الآن إلا الانتظار.

نوسة: أقترح أن تقوم «لوزة» بالاتصال ﺑ «بسمة» للحصول منها على المعلومات التي يصل إليها رجال الشرطة أولًا بأول.

لم تَرُدَّ «لوزة» على هذه الملاحظة … فقد طاف بخاطرها شيءٌ قرَّرتْ تنفيذه … شيء ربما لا يؤدي إلى شيء، ولكنها ستقوم به … وهكذا عندما اتفق المغامرون على الانصراف والعودة للقاء في المساء … قالت «لوزة» إنها قد تتأخر قليلًا عن الاجتماع، ولم يَهْتمَّ أحدٌ بسؤالها عن السبب.

وعندما هبط المساء الصيفي الحار على المعادي … كانت «لوزة» قد ارتدَت ثيابها واستعدَّت للخروج … وعندما لاحظ «عاطف» أنها ستخرج وحدها سألها عن المكان الذي ستذهب إليه، فأجابت إجابةً غامضة، ثم انطلَقتْ على درَّاجتِها وأخذَت تسير بهدوء حتى وصلَت إلى دار سينما المعادي حيث تم اختطاف «سماء»، وأخذَت تدور حول دار السينما لحظات … كانت تفكِّر أن «سماء» اختُطفَت بطريقة لا تُمكِّنها من طلب النجدة … فمن المؤكد أن الذين خطفوها كتموا أنفاسها حتى لا تصيح في طلب النجدة … فإما أنهم كمَّموها وهذا كان سيَلفِت نظر المحيطين بها … وإما أنهم خدَّروها … نعم … لا بُد أنهم خدَّروها بطريقةٍ ما … فإذا كانوا خدَّروها … فلا بُد أنهم حملوها بين أيديهم وهم خارجون … ولكن لو حدَث أنهم حمَلوها لرآهم عمال السينما ولقالوا لوالدها عما حدث عندما سأل عنها … إذن كيف خرجَت من السينما؟ هذا هو السؤال؟

ورأت «لوزة» … ولدًا صغيرًا في ملابسَ قديمة يقف أمام طاولةٍ صغيرة يبيع عليها الفول السوداني واللب … وأخذَت «لوزة» تنظُر إليه … وتُفكِّر … ثم تقدَّمتْ منه واشتَرتِ الفول … ثم قالت له: هل كنتَ هنا أمسِ؟

رد الولد: إنني هنا كل يوم.

لوزة: هل حضَرتَ المشاجرة؟

الولد: أيَّة مشاجرة؟

لوزة: لقد وقعَت مشاجرةٌ أمسِ داخل السينما … هل سمعتَ عنها؟

الولد: نعم … ولكنها انتهت على خير … فلم تحدُث إصاباتٌ وانصرف الجميع.

لوزة: ألم يحدُث شيءٌ غير عادي؟

الولد: مثل ماذا؟

وفكرت «لوزة» لحظات … واستعادت ما فكَّرتْ فيه عن طريقة اختفاء «سماء» وهل يمكن أن تخرج من السينما أمام عيون كل الناس دون أن يلاحظ أحد شيئًا … وقالت للولد، دون أن يكون عندها أي أمل في إجابةٍ مفيدة: ألم تَرَ أمسِ في حفلة الساعة التاسعة فتاةً صغيرة خَرجَت من السينما في حالةٍ غير طبيعية؟

وكأنما كان الولد الصغير في انتظار هذا السؤال … فقد بدا عليه الاهتمام المفاجئ …

وقال: نعم رأيتها.

كادت «لوزة» تفقد توازُنَها بعد هذه الإجابة غير المتوقَّعة … وتسارعَت دقَّات قلبها وعادت تسأل كيف خرجَتْ؟

ردَّ الولد: كنت أستعد لمغادرة المكان، واتَّجهْتُ إلى هذا الدكان عند مدخل السينما لأضعَ الطاولة عندما رأيتُ شخصَين يسندان بنتًا بين أيديهما … وكان أحدهما يقول: إنها مُتعَبة … ويجب نقلُها إلى المستشفى.

لوزة: وهل كان يبدو عليها التعبُ حقيقة؟

الولد: نعم … كانت شديدةَ الشحوب.

لوزة: هل تعرف هذه الفتاة؟

الولد: نعم أعرفها … ولكني لا أعرف اسمها … لقد اعتادت كلما جاءت لدخول السينما أن تشتري مني اللب والفول السوداني.

تأكَّدتْ «لوزة» أن الفتاة ليست سوى «سماء» فهي تُحب السينما وتأتي تقريبًا كل أسبوع لمشاهدة الأفلام مع والدَيها … وسألَت «لوزة» الولد الصغير: وكيف نقلَها الرجلان؟

الولد: كانت هناك سيارة في الانتظار … وقد أخذتُ رقمها.

لوزة: أنتَ ولدٌ مدهش!

الولد: لقد اعتدتُ أن أرى هذه الفتاة مع والدَيها … وأدهَشَني أن تخرج مع شخصَين لا يعرفانها وفي حالةٍ غريبة دون أن يكون معها أحد والدَيها …

لهذا أخذتُ رقم السيارة.

لوزة: هل هو معك؟

الولد: نعم … هناك شيءٌ آخر.

لوزة: ما هو؟

مد الولد يده إلى جيبه وأخرج قطعةً صغيرة من الورق، مد يده بها إلى «لوزة» قائلًا: هذا هو رقم السيارة.

ثم أخرج ورقةً أخرى مقطوعة من أحد أكياس اللب البيضاء ودفع بها إلى «لوزة» قائلًا: هذه الورقة سقطَت من يد الفتاة عند خروجها من السينما.

تناولَت «لوزة» الورقة في لهفة … كانت مُكرمَشةً تمامًا … وفتحَتْها بأصابعَ مرتعدة … ووجدَت بعض كلماتٍ قليلة مكتوبة … ولكن من الصعب قراءتها … فوضَعَت الورقة في جيبها وقالت للولد: أشكرك كثيرًا … إن الفتاة التي رأيتها تُدعَى «سماء» وهي صديقتي ونحن نبحث عنها.

قال الولد بذكاء: لقد أدركتُ أن شيئًا غير طبيعي يحدث … ولكن لم يكن يمكنني التصرف.

لوزة: لقد قمتَ بأكثر مما هو مطلوبٌ منكَ … وقد نستطيع عن طريقكَ أن نعثر على «سماء» … ومِن المؤكد أنكَ ستنال من والدَيها مكافأةً مجزية.

وانطلَقتْ «لوزة» على درَّاجتِها والدنيا لا تتسع لفرحتها … وكان الظلام قد هبط على المعادي، وأُضيئَت الأنوار … وسرعانَ ما وصلت «لوزة» إلى حيث اجتمع الأصدقاء … كانوا يجلسون في الحديقة، وكانوا صامتين … وما كادت «لوزة» تدخل حتى قال «عاطف»: ماذا حدث … لماذا تأخَّرتِ عن موعد الاجتماع؟

جلسَت «لوزة» في أحد المقاعد دون أن تَرُد … كانت تحمل كَنزًا من المعلومات وكانت تريد أن تستغل هذا الكَنْز، فقالت: السبب أن هناك معلوماتٍ جديدة.

رد «محب»: لا … لقد اتصلنا بالمفتش «سامي» وقال إنه ليس لديه معلوماتٌ عن خطف «سماء» ولكن رجاله سوف يبدءون البحث فورًا.

كان «تختخ» يتأمل «لوزة» على طريقته في الاستنتاج … وقد عرف أن المُغَامِرة الصغيرة تحمل معلوماتٍ مهمة … وابتسم وهو يقول لها: هاتِ ما عندك.

احمرَّ وجه «لوزة» فقد عرفَت أن «تختخ» كشف سرها، وقالت: ماذا تتوقع؟ …

تختخ: أتوقَّع أن يكون عندك بعض الأخبار الهامة … بل بعض الأدلة أيضًا.

لوزة: يا لكَ من خبيث!

نوسة: إنكما تتحدَّثان بغموض … ما هي الحكاية؟

تختخ: الحكاية أن «لوزة» ذهبَت إلى مكانٍ ما … ربما دار السينما … وحصلَت على معلومات عن اختفاء «سماء» … ولكنها تُريد أن تعذبنا قليلًا.

التفَت الجميع إلى «لوزة» وفي نفس الوقت أحسَّت ﺑ «زنجر» العزيز يقترب منها ثم يجلس تحت قدمَيها، فمدَّت يدها تُداعب رأسه، ثم قالت: نعم … عندي معلوماتٌ على جانبٍ كبير من الأهمية.

وصَمتَت لحظات، ثم مضت تقول: لقد قابلتُ شخصًا رأى «سماء» وهي خارجة من دار السينما … كانت شاحبة ومتعبة جدًّا … وكان هناك رجلان أخذاها في سيارةٍ سوداء.

وصَمتَت «لوزة» مرةً أخرى … ولمعَت عيون المغامرين … ونبَح «زنجر» …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤