مغامرةٌ ليلية …

وصل «تختخ» إلى باب الفيلا … كان كل شيء هادئًا يُنبئ بالحزن الجاثم على الفيلا الصغيرة، والتفَت «تختخ» إلى زنجر قائلًا: سننتظر هنا قليلًا.

وربض «زنجر» بجوار الباب … ودق «تختخ» الجرس ووقف ينتظر … ومضت مدةٌ ليست قصيرةً قبل أن يُفتح الباب فتحةً صغيرة … وظهر وجه سيدةٍ جميلة يبدو عليه الحزن. ونظَرتْ إلى «تختخ» في تساؤل ودهشة … قال «تختخ»: اسمي توفيق … وقد كنت صديقًا لابنتكم «سماء».

قالت السيدة: إن «سماء» ليست هنا.

تختخ: أعرف ذلك … إنني أساعد في البحث عنها.

امتلأَت عينا السيدة بدموعٍ حاولَت أن تُخفِيَها بيدها، فأسرع «تختخ» يقول: آسف جدًّا يا سيدتي … إن الوقت ليس مناسبًا للزيارة … ولكن هناك بعض الأمل في العثور على «سماء».

بدت فرحةٌ طاغية أسالَت الدموع التي وقفَت في العينَين، وقالت السيدة بصوتٍ مرتعد: أمل … كيف؟ … هل علِمتَ شيئًا عنها؟

تختخ: أشياءُ قليلة يا سيدتي … ولكنها تبعث على الأمل.

السيدة: هل أبلغتَ الشرطة؟

تختخ: نعم … تحدَّثتُ إلى المفتش «سامي» منذ قليل.

بدا على السيدة الخجل، وقالت: آسفة أن أتركك واقفًا … تفضَّل.

وفتَحَت الباب، ودخل «تختخ»، وزمجر «زنجر» … فقال «تختخ» … مُوضِّحًا: إنه كلبي «زنجر».

عندما دخل تختخ إلى الفيلا … شاهد رجلًا يقف في الصالة … وأدرك على الفور أنه والد «سماء». أسرعَت السيدة تُوضِّح الموقف قائلة: إنه صديق «سماء» … إن عنده أخبارًا لنا!

بدَت على وجه الرجل علاماتُ أملٍ ضئيل، فأسرع «تختخ» يقول: أرجو ألا أكون قد أزعجتكما ولكني ومجموعة من أصدقائي سنبحث عن «سماء».

تحدَّث الرجل لأول مرة … كان حديثه خافتًا، وقال: أنتَ «توفيق خليل» الشهير باسم «تختخ»؟

تختخ: نعم يا سيدي … أنا هو.

الرجل: وأنت وأصدقاؤك تُسمُّون أنفسكم المغامرين الخمسة؟

تختخ: بالضبط يا سيدي.

الرجل: تفَضَّل يا بُني … لقد سمِعتُ عنكم كثيرًا … وسمعتُ أنكم نجحتم في حل كثيرٍ من الألغاز والقضايا الغامضة.

تختخ: إننا نفعل ما بُوسعِنا لنصرة العدالة.

الرجل: هل عندكم معلومات عن «سماء»؟

تختخ: نعم … سيأتي المفتش «سامي» غدًا لمقابلتنا، وسأطلب منه أن يزوركما ويتحدَّث معكما عن هذه المعلومات … إنه أدرى مني بما يجب أن يُقال.

الرجل: شكرًا لكَ يا بني … هل نستطيع المساعدة بشيء؟

تختخ: نعم … أريد شيئًا من ملابس «سماء»، من الأفضل ألا يكون مغسولًا.

بدَت الدهشة على وجهي الأب والأم، وأسرع «تختخ» يُوضِّح سبب هذا الطلب: إن كلبي «تختخ» كلبٌ مُدرَّبٌ على اقتفاء الأثر … وربما استطاع إذا شَمَّ شيئًا مثل منديلٍ أو شيء من هذا القبيل أن يُساعِدنا في البحث عن «سماء».

قالت الأم: عندي منديلان لها لم يُغسلا بعدُ … أليس هذا يكفي؟

تختخ: يكفي جدًّا يا سيدتي، خاصةً أنهما لم يُغسَلا …

قال الأب: تفضَّل بالجلوس.

تختخ: لا داعي لإزعاجكما أكثر من هذا.

أسرعَت السيدة العجوز إلى الدَّور العُلوي في الفيلا لتحضر المنديلَين، في حين قال الأب: ما هي طبيعة المعلومات التي وصلتُم إليها؟

تختخ: هناك بعض الدلائل تشير إلى الأسلوب الذي تم به خطف «سماء».

قال الأب باندفاع: قل لي ماذا تعرف؟

قال تختخ كل ما عنده من معلومات عن «سماء» ثم قال: وهناك احتمال أنها نُقِلَت إلى مكانٍ ما … أو أن الأشخاص الذين خطفوها يعيشون في هذا المكان … إنه احتمالٌ ضعيف … ولكننا سنحاول.

الأب: أرجو ألا تُعرِّضوا أنفسكم للخطر.

تختخ: لقد اعتَدنا على المخاطر … ولكن على كلِّ حالٍ لا أعتقد أن هناك خطرًا على الإطلاق …

عادت الأم تحمل المنديلَين في يدها … وقد عادت دموعها تنهمر من جديد …

وأحَسَّ «تختخ» بالحرج الشديد … وأسرع يتناول المنديلَين وينطلق مسرعًا خارجًا وهو يودِّع الأب والأم في كلماتٍ متعثرة.

عندما وقف وحيدًا في حديقة الفيلا الصغيرة مرةً أخرى، أخذ نفسًا عميقًا، وأخذ يدير النظر حوله … كانت الظلمة قد اشتدَّت كثافتها في ليلةٍ غاب عنها القمر … وأخذ يُفكِّر … هل يذهب لتنفيذ ما فكَّر فيه أولًا … أو ينتظر لقاء المفتش «سامي».

وأحَسَّ بدماء المغامرة تغلي في عروقه … وتحدَّث إلى «زنجر» قائلًا: اسمع يا «زنجر» … أمامنا مغامرة أنا وأنتَ … المسافة بعيدة، والمسألة خطيرة، هل تذهب أو لا تذهب؟

ردَّ «زنجر» على هذا التساؤل بزمجرة … كان يعلن فيها أنه أكثر من موافق … ولم يتردَّد «تختخ» بعدها … دسَّ المنديلَين في جيبه، ثم قفز إلى درَّاجتِه … وسرعان ما كان يجتاز شوارع المعادي الهادئة حيث مرَّت به عشرات المغامرات … وأخذ يزيد من سرعته حتى وصل إلى كورنيش المعادي … ثم عاد يُهدِّئ من سرعته مرةً أخرى … كان المشوار أمامه طويلًا … نحو خمسة عشر كيلومترًا والعودة … أي إن عليه أن يقطع في هذه الليلة ثلاثين كليومترًا على الدَّراجة … وفَّكر أن المسافة طويلة على «زنجر» أيضًا فتوقَّف ونزل، وقال ﻟ «زنجر»: من الأفضل أن تركَب الدرَّاجة معي.

ومد يدَيه ليدفع «زنجر» إلى السلة في نهاية الدرَّاجة … ولكن المدهش أن الكلب الأسود الذكي ابتعد هاربًا … قضى فترةً طويلة في كسل … وهو ينتهز الفرصة ليجري … لهذا رفض أن يركب … وتركه «تختخ» كما يريد … وأكمل طريقه …

كان طريق الكورنيش مزدحمًا بعض الشيء، فلم تكن الساعة قد تجاوزَت التاسعة ليلًا … والسيارات تنطلق بسرعةٍ كبيرة كأنها في سباق … وبعض سكان المعادي قد خرجوا للنزهة على شاطئ النيل … واسترواحِ نسماتِ الليل في هذا الجزء الجميل من القاهرة.

مضى «تختخ» يسير بهدوء … وبين لحظة وأُخرى تطوف بذهنه المعلومات التي حصلَت عليها «لوزة» ويفكِّر … ألا يمكن أن يكون «ركن حلوان» كلمةً عابرة في حديث الرجلَين لا تؤدي إلى شيء؟ في هذه الحالة يكون قد تسرع في بث الأمل في نفس الأب والأم … وتكون هذه الرحلة التي يقوم بها الليلة عبثًا لا معنى له … ومع ذلك كان في قلبه شعورٌ غامض أنه سيجد شيئًا في ركن حلوان … شيئًا يَرُد «سماء» إلى والدَيها … ويكشف الستار عن سبب خطفها. وبعد نحو ساعة بدأ يقترب من طريقٍ متعرج … أحدهما يؤدي إلى مدينة حلوان نفسها والآخر يؤدي إلى ركن حلوان … هذا الكازينو الجميل الذي كان ملتقى الطبقات الراقية في مصر قديمًا … والآن يذهب إليه كل الناس … خاصة هؤلاء الذين يحبون الهدوء، ويريدون أن يستمتعوا بمرأى النيل حيث يدور هادئًا ويتجه إلى القاهرة.

كان فرع الطريق المؤدي إلى ركن حلوان نصفَ مُضاء … ولم تكن فيه ضجَّة السيارات التي نزل أصحابها إلى ركن حلوان … واختار شجرةً ضخمة على يمين الطريق، ووضع خلفها درَّاجتَه، ثم التفت يبحث عن «زنجر» … فلم يكُن يراه في الظلمة التي تحت الشجرة، لولا أنه أحَسَّ به يتَمسَّح في قدمَيه.

قال «تختخ» وهو يخرج المنديلَين من جيبه: في هذَين المنديلَين رائحةُ فتاةٍ يا «زنجر»، فتاة خطفها بعض الأشقياء، هل تشمُّها ثم تنطلق؟

وقرَّب «تختخ» المنديلَين من أنف «زنجر» الحسَّاس الذي أخذ يشمُّهما قويًّا ثم وقف مكانه لا يتحرك لحظات … ومضى «تختخ» … وتحرك «زنجر» خلفه، وبدأ أول شيءٍ في مهمته … دار حول السيارات الواقفة يبحث عن سيارةٍ سوداء لها نفسُ الرقم الذي معه ٢٨٩٦٩ ملاكي جيزة … ولكن لم تكن هناك سيارةٌ واحدة تحمل هذا الرقم … وقد كان هذا متوقَّعًا.

دخل «تختخ» إلى حديقة الكازينو … كانت واسعةً تُشبِه نصف دائرة اصطفَّت فيها عشرات المقاعد … وقد أُضيئَت الأشجار بلمباتٍ خافتة الضوء … وسار بين المقاعد لا يدري إلى أين يتجه … كان هناك المبنى الرئيسي للكازينو حيث تُوجَد صالات الجلوس والطعام والمطابخ وغيرها … وكان أمام المبنى نازلًا إلى أسفلِ سُلَّم من الحجر يؤدي إلى ساحةٍ واسعة على النيل مباشرة، حيث يُفضِّل أغلب الناس النزول للجلوس فيها ليكونوا قريبين من النيل.

لم يكن «ركن حلوان» مزدحمًا كما توقع «تختخ» فلم يكن هناك على المقاعد أكثر من عشرين شخصًا في الحديقة الواسعة التي تتسع للمئات … واتجه «تختخ» إلى السلم الحجري ونزل … لم يكن يبحث عن شيءٍ معيَّن … وأخذ ينظر هنا وهناك في وجوه الجالسين دون أن يرى في أيٍّ منهم ما يريب.

اختار «تختخ» كرسيًّا بعيدًا وجلس … كان يُحِس بأن ساقَيه تؤلمانه … وأنه في حاجة إلى الراحة … وجاء الجرسون سريعًا … وطلب «تختخ» زجاجة من الكوكاكولا ومدَّ ساقَيه أمامه وأخذ يتأمل النيل … كان كل شيءٍ حوله هادئًا لا يمكن أن يشعر أي شخصٍ بأن هناك جريمة خطف قد وقعَت، وأن هذا المكان هو المكان المرشَّح للمغامرة.

مضت نحو ساعة دون أن يحدُث أي شيء … وأحس «تختخ» أنه كان مخدوعًا، فقد أضاع ثلاث ساعاتٍ عقيمة ولا معنى لها … وأحس بشيء من الحرج لأنه سيُضطَر بالطبع لإخبار المغامرين بما فعل … وسوف يتعرض لموجة من الهجوم … أولًا لأنه أخفى ذهابه عنهم … ثانيًا أنه لم يجد شيئًا … والحقيقة أنه شاء أن يُبعدَهم عن موطن الخطر … فعصابات الخطف من أخطر العصابات وأشرسها … لأن جريمة الخطف جريمةٌ خطيرة، وعقوبتها كبيرة؛ لهذا فإن سقوط عصابة خطف في أيدي رجال الشرطة معناه القضاء عليهم إلى الأبد.

وقرَّر «تختخ» أن يقوم … وبدأ يشير إلى الجرسون للحضور … وكان أغلب زوار الكازينو قد انصرفوا … وبدا المكان خاليًا موحشًا … وفجأةً تَذكَّر «تختخ» كلبه الذكي «زنجر» أين ذهب هذا الكلب العجيب؟ لقد كان معه تحت الشجرة عند مدخل الكازينو ودخل ونَسِيَه، فأين ذهب؟

وجاءت الإجابة بأسرعَ مما توقَّع … فقد لاحظ أن الجرسون يُحاول إبعاد كلب صائحًا: اخرج … امشِ.

وسَمِع زمجرة «زنجر» فأسرع إلى الجرسون قائلًا: من فضلك اتركه … سنُغادِر المكان فورًا … وأسرع «زنجر» إلى «تختخ» … كان جسدُه يرتعد كعادته كلما عثَر على صيدٍ ثمين … وأدرك «تختخ» أن «زنجر» … عثَر على شيء … هل هذا يَعْني أن «سماء» موجودةٌ فعلًا في مكانٍ ما من ركن حلوان؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤