فأر في المصيدة

على الضوء الخافت تلاقت عينا «تختخ» بعينَي «زنجر» … كانت في عينَي الكلب الذكي نظرةٌ تدُل على أهميةِ ما عثَر عليه … وفي نفس الوقت على حَيْرته الشديدة … كانت النظرات هي لغة الحديث بين «تختخ» و«زنجر» … وقد تمرَّنا على الحديث كأنهما يستخدمان الحوار الناطق.

وتَبِع «تختخ» «زنجر» الذي سار حتى مدخل الكازينو … ثم مَرَّ عَبْر المقاعد المتناثرة في الحديقة الخلفية حتى وصل إلى مجموعة الأشجار العتيقة التي هناك … ودار «زنجر» حول شجرةٍ منها ثم استمر يسير في الاتجاه المضاد لمدخل الكازينو … ومن هناك سار عَبْر طريقٍ ممتلئ ببقايا الأشجار المقطوعة … وأوراق الشجر المتناثرة … ثم انحرف يمينًا في اتجاه شاطئ النيل وسار في طريقٍ مُترب ينحدر تدريجيًّا ناحية الشاطئ … وعلى الضوء الخافت القادم من الكازينو شاهَدَ «تختخ» على مقربةٍ من الشاطئ شَبحَ كوخٍ صغير … وأَحَس «تختخ» بنبض قلبه يرتفع … هل تكون ضربة حَظٍّ ويَجِدُ «سماء» في هذا الكوخ؟

توقَّف قليلًا ووضع يدَه على رأس «زنجر» ليهدأ … ثم تقدَّم في هدوء حتى وصل قرب الكوخ … وأرهف السمع. لم تكن هناك أصواتٌ على الإطلاق … ولم يستمع إلا لصوت السيارات على الكورنيش البعيد.

اقترب «تختخ» أكثر حتى قرُبَ من الكوخ … كان مظلمًا لا يصدر منه أي بصيصِ ضوء … وضع أُذنَه على الباب واستمع … ثم دار حول الكوخ مستمعًا دون أن يسمع شيئًا، وتأكَّد في النهاية أنْ لا أحد فيه … ولكن «زنجر» كان يُلصِق أنفه بالكوخ ويقفز. فماذا داخل الكوخ؟ هل تكون «سماء» نائمة فيه؟

وضَع «تختخ» يده على الباب يختبره، كان مغلقًا … واستطاع أن يتحسَّس مكان القفل، ثم أخرج كشَّافه الصغير وأطلق خيطًا من الضوء على القفل … كان من نوعٍ عادي، فأخرج مجموعة أدواته الدقيقة، ثم عالج القفل، وفي لحظاتٍ كان مفتوحًا في يده.

دفع الباب بهدوء، فأصدر صريرًا عاليًا انزعَج له … وتوقَّف لحظاتٍ يستمع ولكن لم يحدُث شيء، فدخل الكوخ بخطواتٍ ثابتة وهو يُدير خيطًا للضوء الرفيع في المكان … كان هناك بضعةُ مقاعدَ قديمةٍ من الخشب … بعضها يقف على ساقَين أو ثلاث سيقان … وفي الجانب الآخر فِراشٌ من القش … وبجواره منضدةٌ صغيرة عليها آثار طعام … اقترب منه «تختخ» وأمسك بالبقايا وشمَّها … كان الطعام طازجًا، وهذا دليلٌ على أن تَنَاوُلَه لم يمُرَّ عليه كثير … وعلى الأرض كان ثَمَّةَ موقدُ كيروسين عليه أدواتُ إعداد الشاي، وسمع «تختخ» حركة بجواره، وأحس ﺑ «زنجر» يحتكُّ به … وأطلق «تختخ» شعاعه الرفيع على «زنجر»، وبين الأسنان البيضاء اللامعة وجد «تختخ» فردةَ حذاءٍ صغيرة لفتاة، لم يشُكَّ لحظةً واحدة أنها ﻟ «سماء».

مد «تختخ» يده فتناول فردة الحذاء … وأخذ يتأمَّلُها في الضوء، ووجد أنها تصلُح لفتاة عمرها بين ١٢ و١٣ سنة … وهذه سن «سماء» بالتقريب … وأدرك «تختخ» أنه عثَر على أثَرٍ هام، واستدار ليخرج … ولكن في هذه اللحظة سمع أصواتًا تقترب من الكوخ، وقبل أن يتحرك من مكانه سمع صوت رجلَين يتجادلان … كان أحدهما يقول للآخر: لقد تركتَ باب الكوخ مفتوحًا.

رد الآخر: أبدًا، لقد أغلقتُه … إنني أتذكَّر جيدًا أننا بعد أن أخرجنا البضاعة من الكوخ أنني أغلقتُه، وهذا هو المفتاح.

أدرك «تختخ» أنه وقع في فخ … ولم يكن أمامه إلا قرارٌ واحد … الاختباء فورًا تحت الشيء الوحيد في الكوخ … الفِراش … وسرعان ما كان يندَس تحته، ولم يكَد يتوارى حتى دخل الرجلان الكوخ … ولا يدري «تختخ» أين ذهب «زنجر»، ولعله أدرك أن صاحبه لا يريد الاشتباك مع الرجلَين فاختفى في مكانٍ ما … خاصة أن لونه الأسود يجعل رؤيته في الظلام مستحيلة.

دخل الرجُلان الكوخ في نفس اللحظة التي اختفى فيها «تختخ» تحت الفِراش … كانت المسافة بين أرض الكوخ والفِراش ضيقة … استطاع «تختخ» بالكاد أن يحشُر نفسه فيها … وأحس باشمئزازٍ شديد، فقد كانت رائحة العفونة تحت الفِراش لا تُطاق … أكثر من هذا، أحس «تختخ» بشيءٍ طري يجري على جسده، وكاد يصيح فقد ظنَّه ثعبانًا … ولكنه اتضَح أنه فأرٌ صغير مذعور أخذ يجري هنا وهناك … ويقفز على قَدمَي «تختخ» وذراعَيه … وفي نفس الوقت كان أحد الرجلَين قد جلس على الفِراش في حين انهمك الآخر في إشعال موقد الكيروسين، وقال أحدهما معلقًا: لعل الخواجة حضر بعد خروجنا، وفتح الكوخ … إن معه مفتاحًا.

ردَّ الآخر: هذا هو التعليل الوحيد للباب المفتوح … فليس هناك من يطمع في شيءٍ يسرقه، ولا أحد في هذه النواحي يجرؤ على دخول كوخنا.

عاد الآخر يقول: لقد كانت العملية نظيفة … وسوف يحتفظ الخواجة بالبضاعة لحين سفره خارج البلاد، فما رأيك يا «شلضم» أن نحتفظ نحن بالبضاعة بعد سفره ونتصل بأهلها ونطلب فدية؟

أدرك «تختخ» على الفور ما هي البضاعة التي يتحدث عنها الرجلان … لم يكن هناك شك أنها «سماء».

وسَمِع «شلضم» يقول: لقد فكَّرتُ في نفس الشيء … ولكن لا تقُل للخواجة.

ضحك الرجل الآخر، وقال: الخواجة … كيف أقول له؟ … إنه لا يثق فينا … لقد رفض أن يترك البضاعة معنا … وأصَرَّ على أن يأخذها معه.

ساد الصمت بعد هذا الحديث وارتفع صوت موقد الكيروسين … وعرف «تختخ» أنهما يُعدَّان الشاي … وأخذ الفأر الصغير يجري هنا وهناك … حتى إنه صَعِد مرةً إلى وجه «تختخ» … وجلس قليلًا على وجنته … ولولا الموقف الخطير الذي كان فيه المُغامِر البدين لقفز صارخًا … ولكنه استعان بكل طاقته العصبية ليظل هادئًا.

انتهى عمل الشاي، وأخذ الرجلان يرشُفان بلذَّة واستمتاع، وقال «شلضم»، ذو الصوت الخشن: هل فكَّرتَ ماذا يفعل الخواجة في بلادنا؟

ردَّ الآخر: فكَّرتُ، ولكن لم أصل إلى نتيجة.

ولم تكَد هذه الجملة تنتهي حتى صمتا، ثم قال أحدهما هامسًا: إن شخصًا يقترب! وساد الصمت، واستطاع «تختخ» فعلًا أن يسمع صوت قدمَين تقفان أمام الباب … وقام أحد الرجلَين من مكانه، وسمع «تختخ» صوت بندقية تُعَد للإطلاق، ولكن القادم تحدَّث على الفور قائلًا: شلضم … أنا «سيد».

قال شلضم: تعالَ … ماذا هناك؟

سيد: إن الخواجة يريد أن يراكما الآن.

شلضم: ماذا حدث؟

سيد: لا أعرف، هذه أوامره.

شلضم: بالمناسبة … هل جاء الخواجة إلى هنا اليوم أو في المساء؟

سيد: أبدًا … إنه لم يغادر مكانه … وكنتُ معه طول الوقت.

شلضم: شيءٌ غريب … لقد وجدنا باب الكوخ مفتوحًا وكان مغلقًا بالقفل!

ساد الصمت لحظات، ثم قال «سيد»: هل اختفى شيء؟

شلضم: ليس لدينا ما يستحق السرقة.

سيد: فتِّش الكوخ!

كان «سيد» يتحدَّث وهو واقف على الباب، ولكنه دخل بعد هذه الجملة … ولم يكن بالطبع في الكوخ شيء يمكن البحث فيه سوى تحت الفِراش. وأدرك «تختخ» أنه وقع في مصيدةٍ لا فِكاك منها … فترك فردة الحذاء الصغيرة تسقُط من يده … واستعد لِلَّحظةِ القادمة … ولم تَمضِ لحظات حتى كانت أيدي الرجال الثلاثة تمتد إليه، وتُخرِجه بعنف من تحت الفِراش.

بدَت الدهشة على وجوه الرجال الثلاثة وهم ينظرون إلى هذا الولد البدين وهو يقف ثابتًا أمامهم … وكان «شلضم» أوَّل من تحدث، فقال: ماذا تفعل هنا؟

ردَّ «تختخ» على الفور: كنت أبحث عن مكانٍ أنام فيه.

شلضم: لماذا؟

تختخ: لأني هارب من أُسرتي.

شلضم: هارب؟

تختخ: نعم …

شلضم: وكيف فتحتَ الباب؟

تختخ: بقطعةٍ من السلك. إن القفل ليس من النوع الذي يصعُب فتحه.

شلضم: يبدو أنك مدرَّب، ولا أدري ماذا أفعل بك.

سيد: سنأخذه معنا إلى الخواجة … إنه صاحب الحق الوحيد في التصرُّف.

شلضم: هيا بنا.

خرج الجميع من الكوخ … وأَحَس «تختخ» بحركةٍ تحت قدمَيه … أدرك أن «زنجر» يدخل الكوخ، ثم خرج مسرعًا … وأحسَّ أحد الرجال به، فصاح: كلب!

التفَت الرجال الثلاثة إلى «الكلب» الذي خرج مسرعًا دون أن يتمكَّن أحد من الإمساك به … ورفع «شلضم» بندقيته ليطلق الرصاص عليه … وبرغم أنه لم يكن من الممكن إصابته في الظلام … إلا أن «تختخ» ضرب ذراع «شلضم» ضربةً قوية، جعلَت البندقية تسقُط من يده.

صاح «شلضم» مغتاظًا: سأقتلك …

قال «سيد» بهدوء: أَمسِك أعصابك يا «شلضم»، سنذهب بالولد إلى الخواجة.

سار الجميع إلى شاطئ النيل، وشاهد «تختخ» قاربًا مربوطًا إلى الشاطئ نزلوا جميعًا فيه.

كان الظلام حالكًا بعد أن تجاوزَت الساعة منتصف الليل … ومضى القارب يشُق طريقه هادئًا وسط المياه، وكان «تختخ» يجلس في مقدمة القارب، ورأسُه نهبًا لأفكارٍ متضاربة … فبرغم أنه كان تعسًا لأنه وقع كالفأر في المصيدة … إلا أنه كان سعيدًا في نفس الوقت أن أثمَرتْ مغامرته الليلية في وضعه داخل العصابة ليَكشِف سرها، ويكون قريبًا من «سماء». وفي نفس الوقت، كان الرجال الثلاثة يتحدَّثون بصوتٍ هامس في نهاية القارب … واستطاع «تختخ» أن يسمع كلماتٍ متناثرة مما يقولون: السفر … المبلغ المناسب … البضاعة … الولد …

وأخذ «تختخ» يربط بين هذه الكلمات والمعلومات التي يعرفها، وفي نفس الوقت يفكِّر لماذا دخل «زنجر» إلى الكوخ سريعًا ثم خرج … ومصيره بعد دقائق الذي سيُقرِّره الخواجة … وفي هذه اللحظة شاهد مركبًا بخاريًّا ضخمًا مما يُستخدَم في نقل البضائع في النيل، والذي يُسمُّونه «صندل» … وكان هذا الصندل الضخم يقترب منهم متجهًا ناحية الجنوب … وخطَرتْ ببال «تختخ» فكرة … إنه يستطيع الهرب … في لحظاتٍ يستطيع أن يُلقي بنفسه في النهر ثم يتعلَّق بمؤخرة الصندل … المهم هو التوقيت … إنه يعرف معلوماتٍ كثيرة لو وُضعَت أمام المفتش «سامي» — وعنده الرجال والقوة — لاستطاع القبض على الخواجة، وتفسير لماذا اختَطَف «سماء»، أما بقاؤه مع العصابة واستسلامه فقد ينتهي بكارثة … إما أن يقتلوه كما هدَّده «شلضم» أو يهربوا قبل أن يصل المفتش «سامي» ورجاله …

أخذ الصندل يقترب تدريجيًّا من القارب … وأخذَت الأمواج التي يُحدثها في النيل ترُجُّ القارب رجًّا عنيفًا. وانتهز «تختخ» هذه الفرصة وأخذ يُعَدِّلُ وضعه فوق القارب ليكون انزلاقه سريعًا … ومضت الثواني والصندل يقترب ويقترب … ثم أصبح يسير بمحاذاتهم … كان صندلًا ضخمًا، مُكوَّنًا من قاطرةٍ بخارية، وخلفها مقطورةٌ كبيرة محمَّلة بشكارات الأسمنت … ومَرَّ الصندل سريعًا حتى لم يَبقَ منه سوى مترَين فقط من المقطورة … وجاءت اللحظات المناسبة … وتدَحرجَ «تختخ» على سطح القارب سريعًا، ثم ألقى بنفسه في المياه … وفي اللحظة التالية كان يتعلَّق بقطعةٍ من الحبل مُتدلِّية من المقطورة، وسَمِع صيحات الرجال الثلاثة … ولكن الفرصة كانت قد أفلتَت منهم؛ فقد مضى الصندل في طريقه مبتعدًا عن القارب الذي حَوَّل اتجاهه ناحية الصندل محاولًا اللحاق به … وأخذ «تختخ» يستجمع قُوَّته ليصعَد فوق سطح المقطورة، استعدادًا للأحداث القادمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤