رغيف … وكوب من الشاي

تعلَّق «تختخ» بالحبل المُدَلَّى من الصندل لحظات … ثم استجمع قُوَّتَه وصَعِد فوق الصندل … كان خاليًا … لا تملؤه إلا شكائر الأسمنت … وأدرك «تختخ» أن العاملين في الصندل يجلسون جميعًا في النصف الآخر منه … النصف الذي به ماكينات الإدارة، حيث يُوجَد قائد الصندل والعاملون معه.

ألقى «تختخ» بنفسه فوق شكائر الأسمنت النظيفة وتنهَّد بعمق … لقد استطاع الإفلاتَ من مأزقٍ خطير … ونظر إلى حيث كان القارب الصغير … وعلى ضوء النجوم رآه قد ابتعد عن الصندل بمسافةٍ كبيرة … ولم يَبقَ هناك أملٌ في أن يلحق به … وَأحَسَّ بالارتياح، وأخذ يفكِّر في اللحظة القادمة … ماذا ينبغي أن يفعل؟

كان الصندل يشُق طريقه وسط النهر العريض بسرعةٍ كبيرة … وأدرك «تختخ» أنه قد ابتعَد عن مكانه الأول بنحو كيلومترٍ وأكثر … وأنه سيكون بعد دقائقَ قليلة قد ابتعد أكثر … وفكَّر أن يُلقي بنفسه مرةً أخرى في المياه … ولكنه خشي أن يلتقي بالقارب مرةً أخرى … لهذا استلقى على ظهره، ينظر إلى السماء البعيدة المزيَّنة بالنجوم، وسرعانَ ما استَولَى عليه النوم … بعد يومٍ طويل شاقٍّ ومعركةٍ غير متكافئة.

لا يَدْري «تختخ» كَم من الوقت انقضى … ولكنه استيقظ فجأة على يدٍ تهزُّه وفتح عينَيه … وظن أنه في المنزل وكاد يعود إلى النوم … ولكن المشهد الذي رآه أطار النُّعاس من عينَيه … فقد شاهد ثلاثةَ رجالٍ عليهم سيماء العمال ينظرون إليه … وكان ضوء الفجر الوليد يتسلَّل إلى الأفق.

سمع أحدهم يقول له: ماذا تفعل هنا؟

فكَّر «تختخ» لحظاتٍ وتذكَّر كل ما مر به بسرعة البرق، وردَّ قائلًا: آسفٌ جدًّا إذا كنتُ قد أزعجتُكم.

عاد الرجل يقول: ماذا أتى بكَ إلى هنا؟

ردَّ «تختخ»: مسألةٌ يطُول شرحها … ولكنَّ بعض الأشقياء حاولوا اختطافي في قارب وتصادَفَ مرور الصندل قُرب القارب، فقفَزتُ في المياه وتعلَّقتُ بحبل، وصَعِدتُ إلى ظهر الصندل.

أخذ الرجال يتبادلون النظرات، وجلس «تختخ» مكانه وأخذ ينظر حوله ثم سأل: أين نحن الآن؟

ردَّ أحد الرجال: لقد غادرنا محافظة الجيزة؟

ارتاع «تختخ» من سماع هذه الجملة، وقال: وإلى أين أنتم ذاهبون؟

ردَّ الرجل: عند نهاية المحافظة تقريبًا.

تختخ: أرجوكم، إنني يجب أن أعود فورًا إلى المعادي.

نظر الرجال بعضهم إلى بعض، وقال أحدهم: لنذهب به إلى الريس «جودة»؛ فهذه مشكلةٌ لم تقابلنا من قبلُ.

تحرَّك الجميع … اجتازوا الصندل سائرين فوق شكائر الأسمنت … كان «تختخ» يشعُر بالجوع والبرد معًا … وأخذ يسعُل سُعالًا خافتًا، فقد نام وملابسه مبتلَّة … وعندما وصلوا إلى نهاية الصندل، أمسك الرجال الحبال وجذَبوا القاطرة، ثم قفز الجميع إليها، واتجهوا إلى الكابينة التي بها عَجلة القيادة … ودخل أحد الرجال إليها … ومضت فترة، ثم ظهر مرةً أخرى واستدعى «تختخ» لمقابلة الريس «جودة».

دخل «تختخ» كابينة القيادة، كانت دافئة … وكان الريس يُعِدُّ الشاي … وأمامه بعض الأرغفة، وقطعةٌ من الجبن، وكميةٌ من الطماطم … وأَحَس «تختخ» بمعدتِه تتلوَّى، ونظر إلى وجه الريس «جودة»، كان وجهًا مصريًّا طيبًا، كسَته الشمس بسُمرتها المحبَّبة. ولاحظ الريس «جودة» أن «تختخ» يسعُل … ورأى نظراتِه المصوَّبة إلى الطعام، فقال: أنتَ جائع؟

ردَّ «تختخ» على الفور: نعم … جائع جدًّا.

الريس: إذن تفضَّل طعام الإفطار معنا.

تختخ: إنكم تُفطِرون مُبكِّرين!

الريس: هناك مثل يقول: الطير المُبكِّر يحصل على طعامٍ أكثر.

ابتسم «تختخ» لأول مرة، وجلس بين الرجال، وبدأَت الأيدي السمراء تتناول الأرغفة وقِطع الجبن وحبَّات الطماطم لتصل سريعًا إلى الأفواه … وأَحَس «تختخ» بسعادةٍ بالغة وهو يتناول الطعام مع هؤلاء البسطاء … وسرعان ما كان الشاي جاهزًا … وعندما أمسك كلٌّ منهم بكوبه، قال الريس «جودة»: والآن، لعلَّك أفضلُ، وتحكي لنا عن سبب وجودكَ على الصندل.

فكَّر «تختخ» قليلًا … وقرَّر أن يقول لهؤلاء الرجال كل شيء، وأخذ يروي القصة باختصار، وبدت على الوجوه السمراء علامات الانتباه والدهشة والتعجُّب … ولمعَت في عيونهم أماراتُ الاحترام والإعجاب بهذا الولد المُغامِر … بل إن أحدهم صاح: لا بُد أن نعود إلى هذه العصابة ونقضي عليها.

عندما انتهى «تختخ» من روايته قال الريس «جودة»: إننا على استعدادٍ لمساعدتك مهما كلَّفَنا الأمر.

قال «تختخ»: أشكُركم … كل ما أريده أن تُنزِلوني عند أقرب مكانٍ أستطيع العودة منه إلى المعادي … إن المعلومات التي حصلتُ عليها مهمةٌ جدًّا … وعن طريقها يمكن الوصول إلى «سماء».

صاح الريس «جودة»: هيا نتَّجه إلى البَر.

وبدأ الصندل يتجه إلى البَر … وفي دقائقَ قليلة كانوا قد استطاعوا إيقاف الصندل بجوار البَر، ووضَعوا سقَّالةً من الخشَب سار عليها «تختخ» وهو يرفع يدَه مُودِّعًا الرجال، وقال الريس «جودة»: عند عودتنا سنمُر عليكَ في المعادي … إننا نريد أن نعرف نهاية القصة.

تختخ: آسفُ لأنَّني لم أُعطِكُم عُنواني، ولكن عن طريق الشاويش «علي» في قسم الشرطة يمكن أن تجدوني.

وقفز «تختخ» إلى البَر … ووقَف لحظاتٍ مُودِّعًا الصندل، الذي سرعانَ ما استدار، وأخذ طريقه مُصْعِدًا في النهر.

صَعِد «تختخ» شاطئ النهر … ووجد نفسه وحيدًا على شاطئٍ مزروع … ومن بعيدٍ بدت له قريةٌ تَربِضُ بين الأشجار … فأخذ طريقه إليها … كانت المسافة طويلة، ولكن «تختخ» أَحَس بانتعاش؛ فقد أشرقَت الشمس وانتشَرتْ في الجو رائحة الأزهار، ومشَى بنشاط … وأخذ يتذكَّر ما مَرَّ به في الليل … مجموعةٌ متشابكة من المغامرات والأحداث. وتذكَّر أنه ترك درَّاجتَه بجوار الشجرة عند ركن حلوان … وتذكَّر «زنجر» ودخولَه إلى الكوخ وخروجَه … ولم يجد حتى ذلك الحين إجابةً على سبب تصرُّف «زنجر» العجيب.

اقتَرب «تختخ» من القرية … ثم دخلها … وكان بشكله الغريب عن سكان القرية باعثًا على أن يكون محط الأنظار … كان يبحث عن مكان سوق القرية … حيث عادةً ما تُوجَد سياراتُ أجرة تعمل بين المحافظات … وسرعان ما وصل إلى السوق بعد أن سأل بعض المارة … وبعض السيارات الواقفة … كانت كلُّها من طرازٍ قديم … ولكن لم يكن عنده فرصةٌ للانتظار أو الاختيار … سأل عن أول سيارة ستقوم إلى القاهرة … ثم ألقى بنفسه فيها وجلس.

كان ولدٌ صغير يُنادي على المارة: نفر واحد، نفر واحد … مصر … مصر …

وأخذ زبائن السيارة يتوافدون واحدًا بعد الآخر … وسرعان ما اكتمل عدد الركاب، وأعمل السائق يدَيه وقدمَيه في أجهزة السيارة، فانطلقَت بهم تهتَز على الطريق المُتربِ، بعد أن نبَّه على المسافرين بقيمة الأُجرة.

جلس «تختخ» بجوار النافذة محشورًا … فلم تكن هذه السيارة تُراعي عدد الركاب، فتحمل عادةً أضعاف حمولتها … ولكنه كان سعيدًا … فهذه تجربةٌ جديدة تُضاف إلى عشرات التجارب الأخرى التي مَرَّ بها … وتذكَّر أنه اضْطُر مرةً لركوب عربة «حنطور» في أسيوط على ما تذكَّر … وابتسم … ومضت مُدةٌ طويلة قبل أن تتزايد حركة المرور … وأدرك «تختخ» أنهم يقتربون من القاهرة، فقال للسائق: من فضلكَ أريد النزول في الجيزة.

ردَّ السائق: ستدفع الأجرة كاملة.

قال «تختخ»: بالطبع سأدفع كل الأجر.

واقتربَت السيارة من الجيزة، وأسرع «تختخ» بالنزول، ثم أسرع يبحث عن تاكسي … وكانت هذه مشكلة … ولكن لحسن الحظ وجد تاكسيًا متجهًا إلى المعادي … وأخذَت دقَّات قلبه تتزايد بمرور الوقت … كان يريد أن يعرف ماذا حدث بعد أن اضْطُر للهرب من عملية المصيدة … وعندما وصل إلى المعادي نزل قفزًا من التاكسي بعد أن دفع الأُجرة، وأخذ يسير بخطواتٍ نشيطة ناحية منزله … وكانت الساعة قد أشرفَت على العاشرة صباحًا … ولكن قبل أن يصل إلى منزله بشارعٍ واحد انشقَّت الأرض عن الشاويش «علي» قادمًا في نفس الاتجاه … ولم يستطع «تختخ» الهرب من نظرات الشاويش التي وقعَت عليه … واقترب أحدُهما من الآخر ورفع «تختخ» يده بتحيةٍ سريعة للشاويش ليُواصل طريقه إلى منزله، ولكن ما ظهر على وجه الشاويش من علامات … منها اهتزازُ شاربه … أوضح ﻟ «تختخ» أن الأمور لا تسير على ما يُرام … وفعلًا أوقف الشاويش درَّاجتَه أمام «تختخ» بالضبط ثم صاح به: أين أنتَ؟

ذُهل «تختخ» لعبارة الشاويش الجافَّة، وقال: كما ترى … إنني هنا.

الشاويش: إنك لم تقضِ الليلة بمنزلك … وتركْتَ درَّاجتكَ بجوار شجرة عند ركن حلوان … وقد أخطر زملاؤك المفتش «سامي» بهذا … وقد حضَر المفتش هذا الصباح مبكرًا … وطلب مني البحث عنكَ.

تنهَّد «تختخ» وقال: كل هذا مرةً واحدة؟

الشاويش: نعم … مرةً واحدة.

تختخ: وأين المفتش «سامي»؟

الشاويش: لقد ذهب إلى ركن حلوان مع مجموعةٍ من رجاله، ومعهم «محب» و«عاطف» … والكلب «زنجر».

صاح «تختخ»: زنجر؟

الشاويش: نعم … لقد عاد صباحًا إلى منزل «محب» ومعه فردة حذاءٍ لفتاةٍ صغيرة وأخذ ينبَح … وعرف «محب» بعد أن اتصل بمنزل الفتاة المختفية «سماء» أن فردة الحذاء لها … وقد أخطر «محب» المفتش «سامي» بكل هذا، فأخذوا الكلب هذا الصباح، وساروا خلفه، ووصلوا إلى ركن حلوان، وقد تركتُهم وعُدتُ؛ لأن المفتش طلب مني البحث عنكَ في كل مكان …

تختخ: وأين درَّاجتي؟

الشاويش: لقد أعدتُها إلى منزلكَ.

تختخ: شكرًا لك يا شاويش.

ولم ينتظر «تختخ» ردًّا من الشاويش، الذي وقف مذهولًا، وهو يرى المُغامِر البدين ينطلق جريًا في اتجاه منزله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤