الطريق المسدود

أَحَس «تختخ» بفرحةٍ طاغية عندما وجد درَّاجتَه مكانها … قفز إليها واجتاز بوابة الحديقة وسمع الشغالة «حسنية» تُنادي عليه … فتوقَّف لحظات، فقالت له: ماذا حدث؟ أين أنتَ؟ إنني مشغولة عليك.

كان والد «تختخ» ووالدتُه مسافرَين … وأدرك الحزنَ الذي سبَّبه للشغَّالة المُخلِصة «حسنية» فصاح: آسفٌ جدًّا يا حسنية … ولكني على ما يُرام … وسأعود على الغداء.

ثم حرَّك قدمَيه وانطلق كالصاروخ … ولِدهشَته وجد الشاويش «علي» يقف أمام باب الحديقة … وما كاد «تختخ» يمُرُّ به حتى أدار الشاويش بدَّال دَّراجتِه وانطَلق هو الآخر مسرعًا … وسرعان ما كان الاثنان ينطلقان على كورنيش النيل إلى حلوان.

بعد نصف ساعة أشرف «تختخ» على ركن حلوان … وخفَق قلبه سريعًا وهو يفكِّر في احتمال أن يكون المفتش ورجاله قد عثَروا على «سماء» ولم يعودوا في حاجة إليه …

وعندما وصل كان عددٌ من رجال الشرطة يقفون عند الباب … وقدَّم لهم نفسه … ودخل إلى الكازينو الكبير … ولم يَرَ أحدًا … وأَحَس بضيق … ولكنه عندما دخل أكثر إلى الكازينو شاهد «لوزة» و«نوسة» تجلسان وحدهما … واقترب في هدوءٍ منهما … كانتا تنظُران إلى النهر الأسمر وقد استغرقَتا في تفكيرٍ عميق … وببساطة دون أن يُحِسَّا به، وقف «تختخ» خلف «لوزة» ثم وضع يدَيه على عينَيها … وفي لحظةٍ خاطفة قالت «لوزة» بصوتٍ مملوء بالفرح: تختخ!

والتفتَت «نوسة» تقول: أين هو؟

رفع «تختخ» يدَيه وهو يقول: أنا هنا.

وقفَت الفتاتان، وقد احمرَّ وجهاهما … وأمسكَت كلٌّ منهما بيد «تختخ»، ثم صاحتا في نفَسٍ واحد: تختخ … تختخ … ماذا حدث؟

قال «تختخ»: إنها قصةٌ طويلة … المهم الآن أين بقية المغامرين؟

لوزة: لقد ذهب «محب» و«عاطف» مع المفتش «سامي».

تختخ: أين؟

لوزة: للبحث عن «سماء» وعنكَ في نفس الوقت … لقد أحضر «زنجر» فردة حذاء «سماء» … ثم قادنا إلى هنا.

تختخ: لقد تذكَّرتُ الآن ما قاله لي الشاويش «علي»، وعرفتُ لماذا دخل «زنجر» إلى الكوخ وخرج عندما قبض عليَّ الرجال، لقد دخل ليأخذ فردة الحذاء.

نوسة: قبضوا عليك؟

تختخ: نعم … ولكنَّني هربتُ بطريقةٍ غريبة … وسوف أروي لكم جميعًا القصة … ولكن إلى أين اتجه المفتش و«محب» و«عاطف»؟

نوسة: في قاربٍ في النيل … لقد جرى «زنجر» حتى حافة النهر وأخذ ينبَح.

تختخ: ألم يأخذهم «زنجر» إلى الكوخ؟

نوسة: حدث … ولكنهم لم يجدوا شيئًا هناك.

تختخ: ولن يجدوا شيئًا في النهر … إن الخواجة … كما يُسمِّيه أفراد العصابة مختفٍ في مكانٍ ما في النهر، سيكون من الصعب الوصول إليه … وإنني أُفضِّل عمل كمينٍ للرجال العاملين معه … فهم من هذه الأنحاء.

نوسة: لم يعُد من الممكن عملُ كمينٍ بعد أن عرف الجميع أن الشرطة تُطارِد العصابة، فسوف يأخذ أفرادها حِذرَهم.

تختخ: معك حق … ولكن ما العمل الآن؟

نوسة: أعتقد أن علينا أن ننتظر حتى عودة المفتش … ونرى.

جلس الثلاثة يتحدَّثون … وكانت «لوزة» مُلِحَّة في سماع مغامرة «تختخ» الليلية، فروى لها القصة باختصار … وأُعجبا جدًّا برجال الصندل النيلي الذين أكرموا «تختخ» وأوصلوه إلى البَر، وقال «تختخ»: إن الريس «جودة» وعدَني عند عودته أن يسأل عن الشاويش «علي» لأنه يريد أن يعرف نهاية المغامرة، وستكون فرصةً لإكرامه …

طلَب «تختخ» كوبًا من الشاي، وجلس يتأمَّل النهر ويفكِّر في قصة «سماء» … كانت خطواتُ خطفها من الممكن فهمها … ولكن الهدف من خطفها كان «اللغز».

فجأةً صاحت «لوزة»: القارب البخاري الذي يركبه المفتش «سامي» ورجاله و«محب» و«عاطف» ظهر الآن قادمًا من اتجاه الشمال … لعل هناك أخبارًا.

أخذ القارب يقترب … ووقف الثلاثة ينظرون وكلُّهم أمل. وعندما شاهَدَ «محب» و«عاطف» «تختخ» أخذا يُلوِّحان له بأيديهما … وكذلك فعل المفتش «سامي»، وسرعان ما كان القارب يقترب من مَرْسى القوارب عند ركن حلوان.

قفز الجميع إلى الشاطئ … لم تكن معهم «سماء»، هكذا أدرك المغامرون الثلاثة … «تختخ» و«نوسة» و«لوزة» أن مهمة رجال الشرطة لم تصل إلى شيء …

وتبادَل الجميع التحيَّات الحارَّة … وقد لقِيَ «زنجر» ترحيبًا كبيرًا من «تختخ» وأخذ الكلب الذكي يقفز حول صاحبه ويَلعَق يدَيه.

جلس الجميع تحت الأشجار العالية، وقال المفتش: لقد قادنا «زنجر» إلى ضفَّة النيل وأخذ ينبَح … ولم نعرف إذا كان ينبَح بحثًا عنكَ … أو عن «سماء»، ولكن على كل حالٍ لقد قمنا بجولةٍ واسعة على النهر دون أن نعرف ودون أن نصل إلى شيء … فلم يستطع «زنجر» تتبُّع الأثَر أبعد من الشاطئ.

تختخ: بالطبع … إن المياه تقطع خط اقتفاءِ الأثَر.

المفتش: والآن … ماذا حدث لكَ أمسِ؟

ابتسم «تختخ» وقال: لقد وقعتُ مثل فأر في المصيدة … والفارق الوحيد أن باب المصيدة كان مفتوحًا فقفزتُ منه خارجًا.

المفتش: هل أضفتَ إلى معلوماتك عن خطف «سماء» شيئًا؟

تختخ: بالطبع … أكثر من شيء.

المفتش: أتمنى أن تحكي لنا كل شيء … وأن تُقدِّم لنا استنتاجاتِكَ.

وأخذ «تختخ» يروي ما حدث … بالتفصيل، مضيفًا إلى الأحداث تصوُّراته واستنتاجاته.

وعندما انتهى «تختخ» من روايته استدعى المفتش أحد ضباط المباحث وقال له: انتشروا فورًا وابحثوا عن شخصٍ يُدعى «شلضم» يقيم في الكوخ القريب من الشاطئ، وفي الغالب ستجدونه من أصحاب قوارب النزهة … إن العثور عليه سيؤدي إلى وضع يدنا على الطريق إلى الخواجة وإلى الفتاة المخطوفة.

ثم نظر المفتش إلى ساعته وقال: عندي اجتماعٌ هام في مديرية الأمن الآن … وسأترككم … وسيقوم ضباط المباحث بإخطاري أوَّلًا بأوَّل عما يستجد … بالطبع سوف أُخطِركم بكل شيء.

قال «تختخ»: سنعود نحن أيضًا إلى المعادي … فليس هناك ما يمكن عملُه الآن هنا.

المفتش: تعالَوا معي في السيارة!

تختخ: معي درَّاجتي!

المفتش: سنضَعها في إحدى سيارات الشرطة.

افترق الأصدقاء على موعدٍ في المساء كالعادة في حديقة منزل «عاطف»، وعاد «تختخ» إلى منزله، ودخل الحمام … وترك المياه الساخنة تغسل جسده من مغامرة الليل والأتربة التي انهالت عليه تحت الفِراش القش … ثم خرج وارتدى بيجامة وألقى نفسه على الفِراش، وسرعان ما ذهب في سباتٍ عميق.

استيقظ «تختخ» في الثالثة بعد الظهر وهو يُحِس بانتعاش … فتناول غداءً شهيًّا أعدَّته له «حسنية» … ثم ذهب إلى الحديقة وجلس وحده … كان يريد استجماع أفكاره كلِّها لعله يجد خيطًا يهديه إلى مكان الخواجة و«سماء»، وجلس وأحنى رأسه بين كفَّيه … لقد أدرك أنهم وصلوا إلى طريقٍ مسدود، وأنه إذا لم يعثُر رجال المفتش «سامي» على «شلضم» فلن يصلوا إلى شيءٍ على الإطلاق …

وجاء المساء … وانطلَق «تختخ» مع «زنجر» … كان «زنجر» يبدو حزينًا حقًّا … فهو قد بذل جهدًا كبيرًا في هذه المغامرة … ولكنه يرى الاجتماعات ما زالت تُعقد … والبحث ما زال مستمرًّا … وصاحبة الحذاء التي حصل على فردةٍ منه لم تظهر بعدُ.

وصل «تختخ» إلى حديقة منزل «عاطف» مبكرًا … لم تكن هناك سِوى «لوزة» وكان يبدو عليها الضيق، وما كادت ترى «تختخ» حتى قالت: لقد انتهت المغامرة بأكبر فشل!

تختخ: هذا هو رأيي أيضًا.

لوزة: ليس هناك إلا أملُ أن يعثُر رجال المفتش «سامي» على «شلضم» هذا، وقد يؤدي هذا إلى العثور على «سماء».

تختخ: وهذا هو رأيي.

لوزة: ألم تستنتج شيئًا يمكن أن يُحرِّكنا … أو أن مهمتنا الآن أن نجلس وننتظر؟

تختخ: للأسف الشديد، هذا صحيح … وليس عندي شيءٌ أُضيفه.

وجلس الاثنان صامتَين … وحضر بقية الأصدقاء … وجلَسوا يتحدثَّون … واستعرضوا المغامرة من لحظتها الأُولى … ثم ساروا مع التفاصيل خطوةً بخطوة … ولكن لا شيء على الإطلاق وجدوه ممكنًا أن يُحرِّك الموقف.

وقالت «لوزة»: تعالَوا نأخذ الدرَّاجات ونذهب إلى ركن حلوان … لعلنا نجد هناك شيئًا.

ردَّ «عاطف»: وما الفائدة؟ … إن رجال المباحث منتشرون هناك … ولا أعتقد أن أفراد العصابة من السذاجة بحيث يُلْقون بأنفسهم بين أنياب الأسد.

وفي هذه اللحظة دقَّ جرس التليفون … وانتبه الجميع … لقد توقَّعوا على الفور أن تكون معلومات جديدة قد وصلَت إلى المفتش «سامي» … سيُبلغها لهم … وردَّت «نوسة»، وبعد أن استمعَت قليلًا قالت: إنه لكَ يا «تختخ».

أخذ «تختخ» سمَّاعة التليفون واستمع … لم يَجدِ المفتش «سامي» هو المتحدِّث … لقد كانت والدة «سماء»، قالت له: لقد أخبرتَنا أمسِ أنك وصلتَ إلى معلوماتٍ جديدة قد تؤدي إلى العثور على «سماء» … ولكنَّكَ لم تتصل بنا.

أحَسَّ «تختخ» بغصَّة تقف في حلقة … لقد كان متفائلًا أمسِ بقَدْر ما هو متشائم اليوم … فقد وصلوا فعلًا إلى طريقٍ مسدود.

وأخيرًا ردَّ قائلًا: لقد بذَلْنا كل ما بوسعنا … والموضوع كله الآن بين يدَي رجال الشرطة.

قالت الأم الملتاعة: ماذا فعلوا؟

تختخ: إنهم يبحثون عن شخص في حلوان، ربما يكون العثور عليه مفتاحًا للعثور على «سماء».

سكتَت الأم قليلًا، وسَمِع «تختخ» … تنهيدةً تصدُر منها … وأدرك أنها تُغالِب دموعها … ودَفعَه قلبُه إلى أن يقول: سيدتي … أَعِدُكِ أن أُعيد لكِ «سماء» سريعًا.

قالت الأم: تَعِدني؟

تختخ: نعم …

الأم: أشكركَ كثيرًا … ولكن ماذا ستفعل ما دام الموضوع بين يدَي الشرطة؟

تختخ: لا أدري بالضبط … ولكن الله معنا.

الأم: شكرًا لك على هذه العواطف الطيبة … وأرجو أن تتصل بي عند سماع أي خبرٍ عن ابنتي.

تختخ: إن شاء الله.

وضع «تختخ» السماعة، وقال له «محب»: كيف تَعِدُها بردِّ «سماء» إليها وأنت تعرف أننا في موقفٍ ميئوس منه؟

سكت «تختخ» … ولم يُجب … لقد أَحَس أنه اندفَع في الحديث دون مُبرِّر … وأن ما وعد به الأم المسكينة كان مجرَّد سراب … وأَحَس بالضيق لِما فعل … فقام واقفًا وانصرف … وأخذ المغامرون ينظرون إليه في دهشة، في حين تَبِعه «زنجر» في خَطوٍ حزين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤