لغز بلا نهاية

أمضى «تختخ» جزءًا من المساء وحده … ثم اتصل ﺑ «لوزة» وتحدَّث معها لحظات … وصَعِد إلى الدور الثاني وقرَّر أن ينسى كل شيء … فقد وضع كل الخيوط في أيدي رجال الشرطة … والدور عليهم الآن في إعادة الفتاة المخطوفة.

وضَع التليفون بجواره، وأمسك بكتاب وأخذ يقرأ … ولكنه لم يستطع الاستمرار فقام إلى التليفزيون ففتَحه … وأخذ يتفرَّج على برنامجٍ خاص عن القطب الشمالي والحياة فيه … وعندما أشرفَت الساعة على منتصف الليل تقريبًا أوى إلى فراشه … كان قد نام فترةً طويلة نهارًا … فلم ينَم على الفور وظل يتقلَّب في فراشه … وفجأةً دقَّ جرس التليفون وقفَز «تختخ» إليه … وكم كانت دهشتُه عندما سَمِع صوت المُتحدِّث.

كان «محب»، الذي قال: آسفٌ لأنني أزعجتُك.

تختخ: لا بأس … هل هناك شيء؟

محب: مطلقًا، سِوى أني أُحِس بقلقٍ على الفتاة … وعلى أهلها بعد محادثتكَ اليوم لأمها … وقد جافاني النوم ورأيتُ أن أتحدَّث إليك …

تختخ: لقد أسرفتُ في التفاؤل … ولكن …

وقبل أن يكمل «تختخ» جملته سَمِع صوت الجرس الخارجي للباب يدُق بإلحاح، وقال ﻟ «محب»: هناك شخصٌ بالباب الخارجي … لحظات وأعود إليك.

وترك «تختخ» السمَّاعة على الفِراش … وأسرع ينزل وفي رأسه ألفُ خاطر، من هذا الطارق المتأخر … هل هو والده؟ إن معه مفتاحًا … هل هو أحد المغامرين؟ غير معقول! هل هو المفتش «سامي»؟ لماذا لا يتصل تليفونيًّا؟

وأخذ يجري على السلالم حتى وصل إلى صالة المنزل، وما زال جرس الباب يدُق بإلحاح، وعندما فتَحه كانت في انتظاره مفاجأة … الشاويش «علي»!

قال «تختخ»: مرحبًا، أهلًا بالشاويش، تفضَّل بالدخول.

قال الشاويش بأسلوبه الخشِن الطيب: إنني لم آتِ ضيفًا عليك؛ فليس من المعقول أن يأتي شخصٌ بعد منتصف الليل للزيارة.

تختخ: مرحبًا بك في كل وقت.

الشاويش: إن هناك شخصًا يسأل عنك … ويريد أن يراك.

أخذ «تختخ» يفكِّر سريعًا، ثم قال: من هو؟

الشاويش: رجلٌ يُدعى «جودة»، وهو يعمل قائدًا لمقطورة في النيل.

قال «تختخ» فرِحًا ومُرحِّبًا به: إنه أنقذَني.

الشاويش: إنه يقف بباب الحديقة؛ فقد رفض الدخول!

تختخ: يا له من رجلٍ طيب! …

وقفز «تختخ» خارجًا … ووجد الريس «جودة» يقف بجوار باب الحديقة، والمدهش أن «زنجر» كان يقف أيضًا دون نُباح … لقد أدرك الكلبُ الذكي أن الرجل صَديق … وأن الوقت لا يسمح بالهزار مع الشاويش.

صاح «تختخ»: مرحبًا بك يا ريس «جودة».

جودة: آسفٌ جدًّا لإزعاجك … في هذا الوقت المتأخر.

تختخ: على العكس … لقد أسعدتَني جدًّا … تفضَّل.

جودة: الوقت ضيق.

تختخ: لعلك جئتَ تسأل عن الأخبار؟

جودة: لقد جئتك بأخبار!

تختخ: أيَّة أخبار؟

جودة: لقد أفرغنا شحنة الأسمنت، وكنا في طريق العودة عندما شاهدنا قاربًا بخاريًّا يقف في النيل وقد تعطَّلتْ ماكيناته … وقد صاح أحد الأشخاص يطلب المساعدة.

وتوقَّف الريس «جودة» لحظات، ثم عاد يقول: واقتربنا من القارب … وذهب الميكانيكي ليرى الخلل، وذهبتُ معه. وقد استقبلَنا بعض الأشخاص … و…

وعاد الريس «جودة» يسكت من جديد، فقال «تختخ»: أرجوك أكمل … ماذا هناك؟

الريس جودة: لاحظتُ بين هذه الأشخاص رجلًا تنطبق عليه أوصاف الرجل الذي اسمه «شلضم»!

ارتفعَت دقَّات قلب «تختخ» حتى كاد يقفز من صدره، وقال: وماذا فعلتم؟ ابتسم الريس جودة وهو يقول: قلتُ لهم إن هناك خللًا يحتاج إلى قطعة غيار لا بُد من شرائها من القاهرة، ووعدتُهم بأنني سأشتريها وأعود لهم، وقد أعطَوني مبلغًا كبيرًا من المال … وتركتُهم وجئتُ لكَ، لعل هذه المعلومات تهمُّكَ.

تختخ: تهمُّني جدًّا يا ريس «جودة» … تهمُّني جدًّا جدًّا.

كان الشاويش يقف قريبًا وسمع الحديث … وتدخَّل ليقول شيئًا، ولكن «تختخ» لم يترك له فرصة، بل قال سريعًا: لحظةً واحدة يا ريس «جودة»، سألبس ثيابي وآتي معك.

وانطلَق «تختخ» كالصاروخ إلى غرفته، وأمسك بسماعة التليفون وصاح: «محب» إن هناك أخبارًا رائعة، لقد عثَرنا على العصابة.

محب: غير معقول!

تختخ: البس ثيابك وتعالَ فورًا إلى منزلي.

أسرع «تختخ» يخلع ملابسه المنزلية … ويرتدي ملابس الخروج، واستيقظَت «حسنية» وأسرعَت ترجوه ألا يخرج، ولكنه صاح بها: لا تخافي … إنني في حماية القانون … في حماية الشاويش.

وعاد «تختخ» سريعًا إلى الحديقة، ولم تَمضِ لحظات حتى كان «محب» قد وصل هو الآخر … وانطلق الأربعة وخلفهم «زنجر» إلى الكورنيش، حيث كانت قاطرة الريس «جودة» تقف … وقال «تختخ» في الطريق: من الأفضل أن نتصل بالمفتش «سامي» يا حضرة الشاويش.

الشاويش: لا تخشَ شيئًا … إنني ممثل القانون، ولا يستطيع مخلوق أن يرفع إصبعه أمامي.

تختخ: إنهم لن يرفعوا أصابعهم يا شاويش … إنهم سيرفعون البنادق!

الشاويش: إنني لا أخشى شيئًا.

تختخ: أرجوك يا شاويش … اتصل بالمفتش «سامي» ليرسل قوةً من رجاله.

الشاويش: هناك قوةٌ موجودة عند ركن حلوان.

تختخ: عظيم … استدعِهم فورًا.

الشاويش: وكيف ألتقي بكم؟

ردَّ الريس «جودة»: إن القاطرة والصندل موجودان بجوار كازينو الجود شوط، والقارب البخاري على بُعد حوالي كيلومترَين من نفس المكان في اتجاه القاهرة.

أسرع «الشاويش» يقفز على درَّاجتِه وانطلَق، ووصل الريس «جودة» و«تختخ» و«محب» … إلى ملهى «الجود شوط»، ودُهِش «تختخ» أن وجد الحياة ما زالت تدبُّ في الكازينو الجميل وصوت الموسيقى ينطلق من حديقته الواسعة!

استقبل بحَّارة الصندل «تختخ» كصديقٍ قديم … وأخذوا يتبارَوْن في إكرامه. وقال أحدهم: سوف نشترك في القبض على هؤلاء الأشرار.

تختخ: بالطبع.

ومضت فترة دون أن يظهر الشاويش أو رجال المفتش «سامي»، فقال «تختخ» الذي كان يُحِس بالقلق: هل عندك سلاح يا ريس «جودة»؟

ردَّ «جودة»: نعم … عندي مسدَّسٌ مرخَّص.

تختخ: إذن هيا بنا … ولينتظر أحد رجالك حضورَ رجالِ الشرطة ليقودهم إلى المكان.

ودار محرِّك القاطرة النهرية، وانطلقَت في الظلام، ولم تَمضِ إلا دقائقُ قليلة، حتى أشار «جودة» إلى شبحٍ أسود يَربِض على المياه، وقال: هذا هو القارب البخاري.

تختخ: كم عدد الرجال بالتقريب هناك؟

جودة: الذين رأيتُهم ثلاثةٌ لا غير.

تختخ: وكم عدَد رجالك؟

جودة: سبعة.

تختخ: عظيم … سنذهب على أنكَ أحضرتَ قطعة الغيار للموتور، ويشغلهم الميكانيكي، وهاتِ معك مسدَّسك المرخَّص، وسنرى.

واتجهَت القاطرة إلى جوار القارب، وأطلقَت القاطرة صفارةً عالية تنبئ بوصولها، ثم توقفَت بجوار القارب تمامًا … ثم قفز الميكانيكي ومعه رجلان إلى القارب … وربض «تختخ» و«محب» في الظلام.

كان القارب البخاري يشبه يختًا رائعًا … به كابينةٌ ضخمة تشبه الصالون … كانت مضاءة … وهمس «تختخ» ﻟ «محب»: تعالَ نتسلَّل إلى القارب، فليست هناك حراسة.

قفز الاثنان بخفَّة الفهود إلى سطح القارب … وأخذا يزحفان بجوار الصالون، كانت نوافذه مستديرة … ومغطَّاة بالزجاج ككل السفن البحرية … ونظر «تختخ» من زجاج إحدى النوافذ وكادت تنطلق منه صرخةٌ كتمها في آخر ثانية … لقد شاهَد «سماء» تجلس في الصالون، وأمامها رجلٌ لم يَرَ منه إلا ظهره. ولكن كان من الواضح من لون بشرته الحمراء وشعره الأشقر أنه أجنبي.

قال «تختخ»: محب … استدعِ الريس «جودة».

تسلَّل «محب» «إلى المقطورة» وعاد بعد لحظات ومعه «جودة»، وقال «تختخ»: انظر يا ريس «جودة» … ها هي ذي الفتاة المخطوفة.

نظر الريس «جودة» إلى حيث أشار «تختخ»، وقال: تعالَ نُنقذها.

تختخ: ولكنَّ هؤلاء الرجال خطرون.

جودة: إنه خواجة … ونحن لا نخشى الخواجات … هيا بنا.

ومشى الثلاثة حتى وصلوا إلى السُّلَّم المؤدي إلى الصالون … وفتح «تختخ» الباب وظهر في الضوء أمام الخواجة، الذي اتسعَت عيناه دهشةً وهو يرى «تختخ» أمامه، وقال له «تختخ»: إن الشرطة تُحيط بالمكان، من الأفضل لك أن تستسلم.

وقبل أن يدرك «تختخ» ما يحدث … اندفع الرجل كالصاروخ من الباب الآخر للصالون ثم صَعِد إلى سطح القارب … وأسرع خلفه الريس «جودة» وهو يشْهر مسدَّسه في حين اندفَعتْ «سماء» إلى ذراعَي «تختخ» وهي تبكي.

في هذه اللحظة سَمِع الجميع صوت صفَّارة الإنذار … وعرفوا أن رجال الشرطة قد وصلوا … وأسرع «محب» و«تختخ» و«سماء» إلى سطح القارب … كان الخواجة قد ألقى بنفسه في النيل واختفى عن الأنظار … في حين كان قارب الشرطة السريع يقترب وقد وقف عليه رجال الشرطة شاهرين أسلحتهم.

قفز رجال الشرطة إلى القارب … وبسرعةٍ شرح لهم «تختخ» ما حدث … وطلب منهم توصيله إلى الشاطئ مع «سماء» و«محب» … لأن «سماء» في حاجة إلى راحةٍ عاجلة … وأمر رئيس القوة بإنزال قاربٍ صغير حمل الثلاثة إلى الشاطئ.

وبينما كانت قوة الشرطة تقبض على العصابة وتُطارِد الأجنبي الهارب في النيل … كان «تختخ» و«محب» و«سماء» يسيرون في اتجاه منزل «سماء»، التي شرحَت لهما ما حدث لها في السينما قائلة: كنتُ أجلس بين شخصَين يتحدَّثان باللغة الإنجليزية، وحاول أحدهما تسليم شيءٍ للآخر فسقَط منه على أرض السينما … فنزلتُ لإحضاره، كان شيئًا يُشبِه السهم اللامع كالفضة، ولكنه معقَّد جدًّا … وعُدتُ به إلى الرجل الذي بدا منزعجًا جدًّا، ثم جلستُ مكاني أتابع الفيلم، وفجأةً أحسَستُ بشيءٍ ينغرس في ذراعي … وأخذتُ أغيب عن الوعي … وكنتُ قد سمعتُهما يتحدَّثان عن ركن حلوان … ويبدو أنه المكان الذي كانا يلتقيان فيه … فقطعتُ كيس السوداني … وكتبتُ بِحبَّة الفول السوداني اسم المكان وكلمةً أخرى لا أذكُرها.

تختخ: لقد وجدنا الورقة، وهي التي أوصلَتْنا لكِ. والكلمة هي ساعة.

سماء: سأروي لكم كل شيء غدًا؛ فإنني مُرهقَة جدًّا.

تختخ: طبعًا … طبعًا …

وصل الثلاثة إلى منزل «سماء» وتقدَّم «تختخ» ودَق الجرس … كانت الساعةُ قد تجاوزَت الثانية بعد منتصف الليل … وتوقَّع «تختخ» أن يمضي وقتٌ طويل قبل أن يفتَح أحد الباب.

ولكن في لحظاتٍ كان الباب يُفتح … وظَهرتِ الأم وخلْفها الأب ينظران في قلق، فقال «تختخ»: آسفٌ لإزعاجكما … هذه هي «سماء».

اندفعَت الأم والأب معًا إلى الخارج … واندفعَت سماء إلى أحضان والدَيها … ودون أن ينتظر «تختخ» أو «محب» كلمةً واحدة منهما … انطلَقا عائدَين في الليل الهادئ.

كانا يُحسَّان أنهما أسعد ولدَين على ظهر الأرض … فقد أعادا الفتاة الصغيرة إلى أبوَيها … وأعادا السعادة إلى البيت الشقي … ووضع كلٌّ منهما يده في يد الآخر وغاصا في الظلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤