على النيل

من ابن الشمال إلى ابن الجنوب
أخي! إنْ وردتَ النِّيلَ قبل ورودي
فحيِّ ذِمامي عِنْدَهُ وعُهُودي
وقَبِّلْ ثرًى فيه امتزجنا أُبَوَّةً
وَنُسْلِمُهُ لابنٍ لنا وحفيدِ
أخي! إن أذن الفجر لَبَّيْتَ صوتهُ
سَمِعْتَ لتكبيري ووقَعِ سجودي
وما صُغْتَ قولًا أو هتفتَ بآيةٍ
خَلا مَنطقي من لفظها وقصيدِي
أخي! إنْ حواكَ الصبحُ ريَّانَ مشرقًا
أَفَقْتُ على يومٍ أغرَّ سعيدِ
أخي! إنْ طواك الليلُ سهمانَ سادرًا
نَبَا فيه جنبي واستحالَ رقودي
أخي! إنْ شربتَ الماءَ صفوًا فقد زكتْ
خمائلُ جنَّاتي وطاب حصيدي
أخي! إنْ جفاكَ النهرُ أو جفَّ نبعُهُ
مشى الموتُ في زهري وقصَّفَ عودي
فكيف تُلاحيني وألحاكَ؟ إنني
شهيدكَ في هذا … وأنتَ شهيدي!
حياتُكَ في الوادي حياتي، فإنما
وجُودك في هذي الحياة وجودي

•••

أخي! إنْ نزلْتَ الشاطِئَيْن فَسَلْهما
مَتَى فصلا ما بيننا بحدودِ؟
رَماني نَذيرُ السُّوءِ فيكَ بنَبْأةٍ
فَجَلَّلَ بالأحزان ليلةَ عيدي
وغامتْ سمائي بعد صفوٍ وأُخْرِسَتْ
مَزاهرُ أحلامي وماتَ نشيدي
غداةَ تَمَنَّى المستبدُّ فِراقنا
عَلَى أرضِ آباءٍ لنا وجدودِ
وزفَّ لنا زَيْفَ الأماني عُلالةً
لعلَّ بنا حُبَّ السيادة يُودي
أخُوَّتُنا فوق الذي مان وادَّعى
وما بيننا من سيِّدٍ ومسودِ
إذا قال: «الاستقلالُ» فاحذره ناصبًا
فِخَاخَ «احتلال» كالدهورِ أبيدِ
وكم قَبْلُ منَّاني، على وَفْرِ ما جَنَى
بحربين، من زرعي وضَرْع وليدي
فلما أتاهُ النصرُ هاجَتْهُ شِرَّةٌ
فهمَّ بنكراني ورامَ جُحُودي
ألَا سَلْهُ، ماذا بعد سبعين حِجَّةً
أأنجز من وعدٍ؟ أفكَّ قيودي؟
يُبَدِّلُني قيدًا بقيدٍ كأنهُ
مدى الدهر فيها مُبْدِئِي ومُعيدي
أخي! وكلانا في الإسار مكبَّلٌ
نَجُرُّ على الأشواكِ ثُقْلَ حديدِ
إذا لم تُحرِّرْنا من الضيم وَحْدَةٌ
ذَهَبْنا بشملٍ في الحياة بديدِ
وما مصرُ والسودانُ إلَّا قضيَّةٌ
مُوَحَّدَةٌ في غايةٍ وجهودِ
سَئمنا هُتافَ الخادعين بِعالَمٍ
جديدٍ، ولمَّا يأْتِنا بجديدِ
وجَفَّتْ حشاشاتٌ وُعِدْنَ بمائِهِ
فلما دَنَا أَلْفَتْ سرابَ وعودِ
وطال ارتقابُ الساغبين لنارِهِ
على عاصفٍ يرمي الدُّجى بجليد
إذا يَدُنا لم تُذْكِ نارَ حياتنا
فلا تَرجُ دِفْئًا من وميضِ رعودِ
إذا يَدُنا لم تَحْمِ نَبْعَ حياتنا
سَرَى ريُّهُ سمًّا بكلِّ وريدِ
سيُجريهِ ما شاءَتْ مطامعُ قومِهِ
ويحبسُهُ ما شاءَ خَلْفَ سدودِ
وكيف ينام المضعفون وحَوْلهم
ظِماءُ نسورٍ أو جِياعُ أسودِ؟

•••

أخي! هل شَهِدْتَ النيلَ غضبان ثائرًا
يَرُجُّ من الشطآن كلَّ مشيدِ!
جرى من مَصَبَّيْهِ شُواظًا لنبعهِ
عَلى نفثاتٍ من دمٍ وصديدِ
وجنَّاتِ نَخْلٍ واجماتٍ كواسفٍ
وَأسرابِ طير في الفلاةِ شريدِ
لَدَى نبأٍ قد رِيعَ من حمله الصَّدى
وضجَّ لَهُ الموْتى وراءَ لُحُودِ
جنوبُكَ فيهِ والشمال تَفَزَّعا
لتشْتيتِ أهلٍ وانقسامِ صعيدِ
أحال ضياءَ الصبح حوْلِيَ ظُلْمَةً
بها الحزنُ إلْفِي والهناءُ فقيدي
وسَعَّرَ أنفاسي فأطلقتُ نارَها
على الظالمِ الجبَّار صَوْتَ وعيدِ
أرادكَ مفصومَ العُرَى وأرادني
بهدْم إخاءٍ كالجبال مشيدِ
ليأكلَنا من بَعْدُ شِلوًا ممزَّقًا
كَطَيرِ جريحٍ في الشِّباك جهيدِ
تَحايُلُ شيطانِ الأساليبِ لم يَدَعْ
مجالًا لشيطانٍ بهنَّ مَريدِ

•••

عَلى النيل يا ابن النيل أطلِقْ شرَاعنَا
وقُلْ للَياليهِ الهنيَّةِ: عودي
وأَرسلْ على الوادي حمائمَ أيكهِ
برنَّةِ وَلْهَى أو شكاة عميدِ
وقل: يا عروسَ النبع هاتي من الجنَى
وَدُوري عَلَيْنا بالرحيق وجودي
وَهُبِّي عذارى النَّخلِ فرعاءَ وارقصي
بخُضْرِ أكاليلٍ وحُمْرِ عقودِ
ألا يا أخي واملأْ كئوسَ محبَّةٍ
مُقَدَّسَةٍ موعودةٍ بخلودِ
إذا هي هانتْ فانْعَ للشمس نورَها
وللقمر الساري بروجَ سعودِ
وَقُلْ: يا سماءَ النيل ويحكِ أقلعي
ويا أرضُ بالشُّمِّ الرَّواسخ مِيدي
وغيضي عيونَ الماءِ! أو فتفجَّري
لظى، وإنِ اسطعتِ المزيدَ فزيدي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤