الفصل الحادي عشر

التَّبْع ذو اليزن يحكم حِمْيَر

كانت نتيجة احتفاء القبائل والأقوام في جزيرة العرب بالملك الجديد الشاب «ذو اليزن» وحبهم الجارف له، هي انخراطه بكل طاقاته في إعادة بناء مشروعات سدود المياه العملاقة، التي تتيح للناس الزراعة والرخاء ونشر الاخضرار من بساتين زاهرة وحبوب.

كان الملك يهدف من هذا إلى إعادة بناء واستقامة ما سبق للحرب أن هدمته، وذلك لما تتطلبه من رجال، أجبروا على التخلي عن الزراعة والرعي، ليساقوا بالآلاف المؤلفة أو تحملهم السفن والمراكب إلى ما وراء البحار، إلى أن تمكن الملك التَّبْع بمساعدة وزيره الحكيم «يثرب» من إعادة بناء سدود «مأرب» التي كانت قد هدمتها السيول، وتخلى سواعد الرجال عنها انشغالًا بالغزو والحرب في ربوع قارة آسيا وشمال الجزيرة العربية وفي ما بين الرافدين، حتى إذا ما عم الرخاء، ارتفعت الأيدي بالدعاء للملك الشاب، وتجمعت وفودهم أكثر فأكثر للالتفاف حوله، وهي تلهج له بالنصر في كل خطواته.

وتضاعفت فرحة الوزير الأول «يثرب»، وهو يشهد الجموع على ذلك النحو، إلا أنه سرعان ما اعتراه التغير والاندهاش، حين تهاوت إلى سمعه الأصوات المرتفعة في حضرة الملك التَّبْع، التي أصبحت تطالبه بالخروج إلى الغزو والفتح، أسوة بما اتبعه ودرج عليه أسلافه من التَّبَاعِنَة.

وسرعان ما تزايدت الدعوة للغزو والفتح ومواصلة القتال تحت راية التَّبَاعِنَة.

– وحتى لا تنكس سيوف حِمْيَر وأذرعها الضاربة.

فلم تقتصر تلك الدعوة مع توالي الأيام والأشهر على العدنيين والصنعانيين، انتقامًا لمصرع أميرهم — المنتقم — عمران القصير، بل تواترت إلى أسماع الملك ووزيره من كل كيان وموطن وقبيلة، والتي علت نبرتها داخل عدن وصنعاء وحضرموت خاصة.

وزاد من عجب الوزير «يثرب» أن التَّبْع الجديد ذو اليزن بدأ يسمع إلى دعوة المطالبين بالغزو والطراد يومًا بعد يوم، متخليًا عن آرائه السابقة في التعمير والزراعة ونشر الرخاء.

ولم يمض وقت طويل، حتى توافدت جماعات المقاتلين وفيالقهم وكتائبهم من كل مكان مشهرة سلاحها، إلى عاصمة التَّبْع، بانتظار إشارته بالحركة والخروج للقتال.

وكان كلما تضاعف حماس المحاربين واشتد، أثنى عليهم الملك التَّبْع؛ مقربًا مستبشرًا فاتحًا لهم ذراعيه وقلاعه وبساتينه ومخازن مؤنه، مغدقًا عليهم العطاء السخي المشجع لقدوم وفود جديدة من كل قبلية وموطن تحت حكم «حِمْيَر» الشاسع.

حتى إذا ما حاول الوزير «يثرب» مفاتحة الملك في هذا الأمر وعواقبه، قاربه الملك نازلًا عن عرشه، ممسكًا في رفق بذراعه باتجاه شرفات القصر الحاكم مشيرًا إلى الناس، بنفس ما فعله سابقًا مع عمته البسوس قائلًا: «إنما أنا أسير؛ حيث تسير جموع الناس.»

تراجع الوزير مفكرًا وقد أحاطت به الوساوس من كل جانب، خاصة عندما أصبحت وفود المحاربين وفيالقهم في الأيام الأخيرة لا ينقطع لها تواصل، حتى ضاقت مدينة التَّبْع، على الرغم من رحابتها، بهم، غمغم الوزير لنفسه في أسى: حقًّا إنه إرث التَّبَاعِنَة الذي لا مهرب منه، لا حياة بلا حرب أو قتال وأنهار دم.

وتساءل يثرب بينه وبين نفسه في حسرة: ألا يكفي ما فعلته البسوس في إشعال نيران الحرب الضارية في ربوع الشام ولبنان وفلسطين، بعدما أوقعت بينهم بفتنتها التي أصبحت اليوم وبعد مقتل جساس بن مرة لكُلَيْب بن ربيعة التغلبي، تحصد الجميع حصدًا؟ ألا يكفي؟

إلا أن التَّبْع سرعان ما انخرط بنفسه بين صفوف جيشه المتعاظم مشرفًا ومنظمًا على تدريباتهم ومؤنهم جالبًا السلاح والعتاد من كل مكان.

والوزير الحصيف «يثرب» يستشف ببعد بصيرته نهاية كل ذلك.

– الحرب وأنهار الدم، تلك التي لا مهرب من أوارها وهكذا تحقق حدس الوزير، بحلول ذلك اليوم المشئوم الذي أقام فيه الملك ذو اليزن حفلًا كبيرًا شغل قاعات قصره «الحصن» واستغرق الإعداد له أيامًا طوالًا.

ودُعي إلى هذا الحفل كبار قواده ومستشاريه وشيوخ القبائل والأمراء والحكام، امتد فيه السمر وتبادل الآراء والمشورة بين الجميع، حول ما يحدث ويجري داخل مختلف الأقوام المتاخمة لحِمْيَر والمناوئة لها، بما قد يشكل خطرًا في المستقبل.

وفجأة قدم إلى ذلك الحفل شخص غريب، في هيئة مسكين أو سائل، وينم مظهره بكامله — وكما أجمع الجميع — على أنه غريب، لم تألفه عين من قبل.

وحينما دفعت السماحة بالملك إلى الترحيب بالغريب وسؤاله عن حاله، أخبره بأنه مجرد سائح جوال في بلاد الله الشاسعة، خبر أحوال البلاد والعباد، مدونًا أخبار ما يسمعه ويراه، ولا أكثر.

هنا عاجله الملك بالسؤال: وهل صادفك من هم أعلى منزلة منا؟

صمت السائل ولم يجب.

– إني أسالك؟

عندئذٍ انهمك السائل في تناول طعامه لائذًا بصمته كمن لم يسمع.

وحين تدخل بعض الحاضرين مطالبينه بالرد على التَّبْع، انتصب واقفًا مجيبًا عليه: أجل.

– من إذن؟

– ملك بعلبك.

– هل سبق لك زيارة بلاده؟

– أجل.

واجهه الملك ذو اليزن: أخبرني أيها الصديق.

وهنا اندفع ذلك الغريب السائل، ساردًا تاريخه وخصائصه وحصونه وقلاعه وكتائب جيشه — من حراس الأرز — وعن سطوته وثرائه.

– يا للغرابة!

ليلتها لم ينم التَّبْع وظل يفكر، وفي النهاية عقد العزم على المسير إلى بعلبك والبقاع مهما كلف الأمر؛ لتأمين ذراع حِمْيَر الطولى وتحصينها التي أخذ «تباعنتها» على الدوام بمنطق «أن الهجوم خير وسائل الدفاع».

– أيها الناس، إن لم تهاجموا الناس هاجموكم، وإن لم تغزوهم غزوكم.

ولم يطل الوقت كثيرًا بطبول الرجروج، حتى سمعت مدوية عالية من كل موطن وقوم، على طول ملك حِمْيَر الشاسع.

واتخذ جيش ذو اليزن طريقه شمالًا إلى أن حط رحله في موطن يقال له «وادي فزان» على مشارف «بيت الله» في الكعبة.

وتوقف ذو اليزن منبهرًا من الكعبة وبنائها وشموخها، والآلاف المؤلفة التي قدمت لزيارتها من كل موطن وقوم وكيان.

أما الوزير «يثرب» فقد توجه من فوره للزيارة والحج إلى بيت الله، مما أوغل صدر التَّبْع، فحاول مهاجمة بيت الله متجبرًا، وبذل الوزير غاية حكمته محذرًا إياه، الذي تراجع من فوره متخاذلًا، ثم انسحب واهنًا إلى مضاربه فلزم فراشه مكفهرًّا مريضًا، غير قادر على اتخاذ أي قرار.

ولزم الملك فراشه أيامًا يعاني من آلامه المبرحة التي ألمت به، وعجز حكماؤه عن شفائه، إلى أن ثقل عليه المرض وأصبح يهذي بلا طائل، طالبًا ومستنجدًا بوزيره، المقرب يثرب شاكيًا له: أيها الوزير العاقل الخبير يثرب، أخبرني بما دهاني؟

وهنا أخبره الوزير، بأن ما اعتراه من مرض عضال بسبب تطاوله على بيت الله الحرام، الذي شيده إبراهيم الخليل وبكره إسماعيل — أبو العرب — مزيدًا: فللبيت رب يحميه، أيها الملك.

هنا تحامل الملك ذو اليزن، متخذًا طريقه إلى حيث الكعبة فأومأ إليها مثله مثل بقية خلق الله، إلى أن أتم حجه.

ثم أمر بكسوتها بغالي الديباج وتزيينها بالذهب والفضة ونفيس الأحجار الكريمة التي كانت في حوزة التَّبَاعِنَة.

وحين عادت إلى الملك عافيته، وزالت عنه أمراضه وآلامه، دأب على كسوة الكعبة واستكمال ما يلزم من زينتها ومنشآتها.

بينما طاف الوزير الوادي المزهر المتاخم الذي يعبقه رحيق العطور؛ عاقدًا العزم على إقناع الملك بالبقاء في تلك الربوع التي تعيد للنفس صفاءها.

ورجع التَّبْع ذو اليزن إلى رأى وزيره بمواصلة البقاء في رحاب «بيت الله»، دون استعجال المسير.

أما الوزير «يثرب فقد أخبر الملك مطولًا بتاريخ بيت الله، وما سبق أن تعرض له تباعنة اليمن من أسلافه الذين حاولوا مجرد الاقتراب منه دون خشوع، ومنهم «يعرب بن قحطان».

أما الوزير فقد استغرقه حلم أجهده طويلًا، وهو بناء مدينة تشرف على هذا الوادي البهيج، ومن فوره عقد العزم، واجتهد في تخطيطها وعمارتها، وشق أساساتها، ورفع أسوارها وتعمير قصورها ودورها ومضاربها وأسواقها وما أجراه من أنهارها.

وهكذا عمرت المدينة وازدهرت ساحاتها وأروقتها وأسواقها، ورأى سكانها أن يطلقوا عليها اسم الوزير الحكيم «يثرب».

وساعد الملك التَّبْع ذو اليزن وزيره في تعمير المدينة التي أعطاها اسمه، باذلًا كل عون، إلى أن استقامت «يثرب» زاهرة، تفيض عمرانًا وعطاءً.

فما كان من الوزير إلى أن كتب معلقته الشهيرة للملك ذو اليزن، التي دونت على رقائق الذهب وعلقت بالكعبة الشريفة، وفيها يقول الوزير «يثرب».

أيا ملك في هذه الأرض قد سما
جللت بيت الله خَزًّا مُزَرْكَشا
يحير عيون الناظرين مُرَقَّما
وساعدتني حتى بنيت مدينتي
يهاجر إليها سيد الأرض والسما
ويظهر — يومًا — دين الحق شرقًا ومغربا.

فلقد كان الوزير «يثرب»، وعقب نزوله ربوع هذه الأرض، واختلاطه بأهلها وطوافه على طول بواديها ووديانها، كمن يستشف أمرًا جللًا هائلًا سيحل يومًا بها.

صحيح أنه لم يكن على يقين من أبعاد ذلك الانطباع الذي امتلأ به، إلا أنه كان وكلما مر به الوقت، تضاعفت رؤيته ويقينه من تصوره ذاك.

بل إن الغريب هنا أن كثيرين من أصدقائه ومقربيه قد شاركوه ذلك الإحساس.

وأن الملك التَّبْع ذو اليزن، فاتحه كثيرًا في ذلك التصور حول الإرهاص بمولد شخص كبير منتظر، قد يغير يومًا وجه الأرض، وسيجيء مولده من بين ربوع هذه البلاد.

وفي البداية تصور الوزير «يثرب» أن الملك ذو اليزن — وعلى عادة ما عرف عنه — إنما يوافقه في تصوره هذا، من باب المجاملة فحسب، إلا أن الملك كرر على مسامعه كثيرًا مشاركته إحساسه ذاك وعبر مناسبات مختلفة، مما دفع به إلى التيقن من صدق إحساسه.

بل إن حماس التَّبْع في التعجيل ببناء يثرب واستجلاب ما يلزم لبنائها وتخطيطها من خيرة بنائي مصر والعراق والشام وعلى نفقته الخاصة، قد فاق حماسه ذاته.

ولكم حاول الوزير يثرب، أن يدفع الملك التَّبْع إلى أن يعطيها — أي يثرب المدينة — اسمه بدلًا منه، إلا أن ذو اليزن رفض مصرًّا على تكريمه بها.

مما دفع بالوزير إلى مواصلة سهر الليالي بحثًا عن شيء — متكافئ — يرد به جميل الملك وحسن صنيعه، دون جدوى.

حتى إذا ما جاء يوم طالبه فيه الملك ذو اليزن بسماع آخر أشعاره وقصائده، أمهله الوزير بضعة أيام ليكتب فيها «معلقته» عنه، ولكم عانى الوزير يثرب في محاولة التعبير عن مدى حبه وتقديره الجارف لذلك الملك التَّبْع، الذي لا يحدوه سوى الخير والعطاء لبسطاء الناس أينما اتجه وقادته قدماه، إلى أن وصفه في قصيدة عصماء.

figure

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤