الفصل الثالث والعشرون

سيف أرعد يصرخ: ولدي جثة بلا رأس

لم تكن اليد التي هوت فجأة على عنق — مقلقل — ابن ملك الأحباش سيف أرعد بحسامها، لحظة احتضانه «لعروس النيل» — شامة — التي وقع عليها الاختيار سوى يد سيف بن ذي يزن الضاربة.

– شامة … هس.

استدارت شامة في أقصى فزعها مما حدث فجأة وبشكل خاطف، في اللحظة ذاتها التي رفع فيها سيف قناعه عن وجهه ملقيًا به، ثم جذبها إليه، وانسلا خارجين عبر ردهات ومسالك وأطلال تلك القلعة المهجورة الخلفية مسرعين لا يلويان على شيء.

بينما دوت أصوات الغناء والموسيقى والاحتفالات الماجنة — السنوية أو الموسمية — بعروس النيل عالية صاخبة من حولهما تصم الآذان.

نزعت العروس شامة غطاء رأسها الحريري الملون على شكل تاج هائل الحجم الذي أعاقها عن الحركة والجري بأقصى سرعة، مسلمة ذراعها لسيف، وهما يقفزان ويدوران حول السراديب المظلمة باحثين عن منفذ للإفلات عبره.

إلى أن اعترضتهما فجأة شلة من حرس ابن ملك الأحباش — مقلقل — وعندما أحاطت بهما كتيبة الجند من كل جانب، دون دراية أو إدراك منهم لما حدث، أعمل سيف اليزن حسامه في رقابهم الواحد بعد الآخر، ملقيًا ببعضهم من فوق أسوار القلعة الخربة.

حتى إذا ما انتهى سيف بن ذي يزن منهم وكانوا قرابة سبعة جنود، مدججين بالسيوف والحراب، أعاد من جديد اجتذاب حبيبته — شامة — من يدها مواصلين عدوهما، باتجاه السراديب الخلفية للقلعة التي كان سيف قد درس مسالكها المتعددة، بهدف تضليل كتيبة الجند الرابضة فوق أبراج الحصن الواقعة في أعلى أسوارها.

إلا أنه توقف مستديرًا مسرعًا حيث اعترضته كتيبة أخرى من الجند محيطة بهما هذه المرة من كل جانب مشددة حصارها، فواصل قتاله لهم الواحد بعد الآخر، إلى أن تمكن بحسامه من ثلاثة منهم، وفر الباقون عدوًا عبر البراري والهول.

وسرعان ما اختطفت شامة بدورها خنجر سيف من غمده، وكلما قاربها أحدهم محاولًا إعادة اختطافها، أردته بخنجرها صريعًا.

وما إن نزلا الدرجات الحجرية للقلعة، حتى توقف سيف من فوره مستخرجًا رقعة صغيرة من الجلد متأملًا في لهفة، بينما شامة تمسح عنه عرقه وجبينه بأناملها الحانية وهي تشرئب ببصرها إليه دون صوت، حتى أعاد جذبها من معصمها.

– من هنا، يمينًا يمينًا، هيا أسرعي.

وما إن انسلا خارجين من سرداب القلعة الموصل إلى أسوارها الجنوبية حتى تنفس سيف اليزن بعمق وهو يواصل عدوه إلى حيث تقف كوكبة من جنده وحراسه بعيدًا بانتظارهما، وسريعًا ما ألقوا إليهما بحبل ساعدهما على تسلق أسوار القلعة الجنوبية، في نفس اللحظة ذاتها التي وصل إلى أسماعهما جلبة صادرة عن مجموعة أخرى من حراس ابن ملك الأحباش — القتيل — وبأيديهم المشاعل الضخمة والسيوف اللامعة المشهرة، وهم يحاولون اللحاق بهما دائرين من فوق أسطح القلعة للإمساك بهما.

– ها هم، يمينًا، يمينًا.

لحظتها كان سيف اليزن قد أنزل شامة التي ألقت بنفسها بين أحضانه، وامتطى الجميع ظهور خيولهم، وغابوا عَدْوًا وسط أشجار الغابات الكثيفة العملاقة، إلى أن شارفوا مرفأ «جانبيًّا» على النيل، قادهما الحراس إليه، فنزل سيف اليزن عن حصانه، متجهًا إلى شامة فحملها بين ذراعيه، إلى أن دلفا إلى مركب صغير مختبئ بين الأحراش بينما واصل حرسه الركض باتجاه حرس ابن ملك الأحباش لإعاقتهم عن اللحاق بهما.

ودارت معركة حامية بين الجانبين حيث التحما وسط الغابات والأحراش، أعطت المزيد من الوقت الكافي لتحرك مركبتهما — سيف وشامة — وسط مياه النيل الفضية إلى أن اختفيا في الأفق البعيد.

– أخيرًا، عبرنا النيل العظيم يا شامة.

امتطيا ظهري جوادين عربيين كانا بانتظارهما بصحبة مجموعة أخرى من الحرس، وتسلقا بضع تلال باتجاه إحدى القرى، وسيف اليزن ما يزال يداعبها بقوله: أتقبلينني خطيبًا بدلًا منه؟

تساءلت بصوت عالٍ: من؟

– النيل!

ضحكا طويلًا وهما يواصلان عدوهما في مرح أبدل من تعبهما وما بذلاه من جهد خارق للإفلات من تلك المكيدة التي كادت أن تودي بحياة شامة هذه الليلة.

– عروس النيل، أم عروس ذلك «الفحل» الأبله — مقلقل — ابن أرعد؟

قالت: النيل أرحم!

وضاحكها سيف وهما يتوقفان في الخلاء الفسيح المحيط بهما لحظة كافية «لتغيير ريقهما» بتناول التمر واللبن قائلًا: هل يمكن تصور ما حدث يا شامة؟

واصل: أن ننجح معًا في تخليص ربوع هذه البلاد من وريث سيف أرعد.

ألقت برأسها بين أحضانه مسبلة عينيها كمن تحلم طويلًا.

– متى نخلص من أرعد ذاته؟ متى؟

واستبدت بها المخاوف من ذلك المصير المظلم الذي سينتظر والدها الشيخ من انتقامات ملك الأحباش لمصرع ولده ووريثه، مقلقل ذلك «الفحل» المتهتك.

وطمأنها سيف بن ذي يزن قائلًا بأنه قد وضع لكل شيء حسابه، والمهم الآن هو أمنهما هما معًا من ذلك الجنون الذي سيستبد بالأحباش وملكهم، على طول أفريقيا مشرقًا ومغربًا.

– المهم هو مواصلة الطريق، حتى المرفأ الآمن، المهم هو اليقظة، هيا.

– واصلا عدوهما من جديد، باتجاه مدينة ضخمة غاصة بالأضواء والفرح، تسد الأفق البعيد، إلى أن وصلاها مع الغسق، فدوت الأبواق معلنة قدومهما وانفتحت البوابات، على اتساعها واحتوتهما وفي أعقابهما جوقة الحرس داخلة، حتى إذا ما أصبح سيف بن ذي يزن وسط أفسح ساحاتها، شهر من فوره رأس ابن سيف أرعد.

– رأس مقلقل.

هنا دوت المدينة بالفرح والتكبير والدعاء والهتافات للملك التَّبْع المنتصر من كل جانب.

– سيف اليزن، سيف اليزن!

أما ملك الحبشة سيف أرعد، فقد غابت الدنيا على اتساعها أمام عينيه، حين حملت إليه الأخبار مصرع ابنه ووريثه داخل تلك القلعة الحصينة التي جرى فيها احتفال هذا العام بعروس النيل.

– بأيدي خارج أثيم، مجهول.

صرخ سيف أرعد من أعماقه، وهو يدق عمدان قصره: مجهول! أتقولون مجهول؟

اتجه من فوره كالمخبول ممسكًا بخناق وزيره المرتعد، كمن يحاول إزهاق روحه عن جسده.

– وأنت أيضًا يا سقرديون اللعين، أتقول مجهول؟

أردف سقرديون شاحب الوجه: بل معلوم، معلوم، لا أحد سواه!

ألقى به الملك على أريكة جانبية في أقصى حالات هياجه، وهو يدق كفًّا بكف قائلًا: أجل معلوم، إنه التَّبْع الجديد سيف بن ذي يزن يا سقرديون، وليس غيره.

استدار من جديد إلى وزيره المأخوذ المرتعد: تلك مشورتك الجديدة، إذن فلم يعد سواي، لتراهن عليه، أليس كذلك؟

جرى كالمجنون صاعدًا درجات سلالم عرشه المصاغ من الذهب الخالص صارخًا وهو يتأمله مبهورًا: لينتهي كل شيء، ليقضي العرب اليمانية على كل شيء، حتى عرش يهوذا هذا … هذا.

انحط جالسًا في حسرة على كرسي عرشه مطوقًا رأسه بذراعيه.

– أليس كذلك يا سقرديون، يا صاحب المشورة؟

حتى إذا ما تدافعت مجموعة من الحراس مرتدين ثياب الحداد، محاطين بجوقات النساء والنادبات، وهم يحملون الجثمان المسجى لولده مقلقل، هب أرعد عن عرشه مذعورًا باكيًا: ولدي … وريثي … لحمي.

وما إن تقدم بخطًى بطيئة من التابوت الذهبي المطعم المحلى بالرسوم، كاشفًا غطاءه، حتى جرى مذعورًا من هول ما رأى: ولدي … جثة بلا رأس!

اندفع صاخبًا هائجًا عبر ساحات قصره وهو يصرخ بالثأر والانتقام والدمار.

– رأس ابني، جثة بلا رأس، ابن سيف أرعد، هكذا على هذا النحو جثة بلا رأس، منين نعرف لها أساس.

أهاب باكيًا بقومه وقبائله وأمرائه وأبنائه الكثيرين ناديًا محرضًا: تعالوا، تعالوا اشهدوا جميعًا ابني مقلقل جثة نُزِعَت عنها رأسها.

تدافعت الوفود والأقوام وشيوخ القبائل والأمراء ومن خلفهم جوقات النساء النادبات النائحات في السواد، وقد لطخن وجوههن بالنيلة الزرقاء «يصرخون ويتوعدون».

– جثة بلا رأس: منين نعرف لها «أساس».

والملك يصرخ ويرعد ويمزق ثيابه وينتزع شعيرات ذقنه في جنون: ابني وريثي، أسد يهوذا، تعالوا قربوا، اشهدوا.

وخلال كل ذلك الجو الملبد بالحزن وبكائيات النادبات وعويل النساء، انسل الوزير سقرديون متخاذلًا منزويًا عن العيون المتطلعة المشيرة إليه بكل اتهام، فهو وحده صاحب ومدبر المكيدة الأخيرة، نكاية بملك «أفراح» وابنته — شامة — التي رفضت الزواج من الابن القتيل، بما يشير ويعني وقوفها في صف العرب الطامعين الغزاة، ولو لم يجهرا علنًا بوقوفهما ذاك.

بل إن انزواء سقرديون ومحاولة اختفائه من هول مشهد ما يحدث، تضاعف أكثر حيرة، ووقعت عيناه بين الجموع، على وزير — الميسرة — الحجازي «أبو الريف» الذي تقدم في ثيابه فأفسح له الجميع طريقه إلى حيث التابوت الملكي المغطى برقائق الذهب، فأعاد غلق غطائه، مانعًا في هدوء الوفود المتدافعة كالهدير من حول التابوت.

– لتهدأ روح الميت في مثواه الأخير.

صرخ الملك سيف أرعد: لن تهدأ إلا بالثأر.

وعل الفور تعالت دقات طبول الحرب العاتية من داخل القصر وخارجه، مترددة من كيان إلى آخر، ومن مدينة إلى ما يجاورها، بإيقاع رتيب، تهيب بالكتائب ووحدات الجنود والمحاربين التجمع والتأهب للحرب.

وانسل سقرديون منسحبًا إلى حيث الساحة الخارجية للقصر مصدرًا تعليماته لقادة الوحدات والكتائب في محاولة للتغلب على ذلك الإحباط الذي لم يخل من إحساس دفين بالذنب مما حدث، وهو يوحي للجميع بأن الخطر كل الخطر من العرب — اليمانية — وعاصمتهم.

– الموت والدمار لأحمرا.

وسريعًا ما دوت الهتافات من كل جانب، مطالبة بالتوجه — الآن وليس غدًا — لمدينة التَّبْع ذو اليزن، والمطالبة برأس ابنه: سيف اليزن، ولا أحد غيره.

وهكذا وجدها سقرديون فرصته سانحة لإلهاب المشاعر، وتجميع كل الجهود للتخلص من النفوذ العربي، بحسب خطته السابقة التي لم يولها الملك سيف أرعد اعتبارًا وهي تدمير أحمرا أولًا وقبل كل شيء، ولو استدعى الأمر التخلي عن حاميات الحبشة في الشمال الأفريقي: في تلمسان وصعيد مصر والسودان وبلاد النوبة الآن.

– وقبل إطفاء النيران المتوقدة بدفن الجثمان.

وهنا عارضه الوزير — الحكيم — أبو الريف في إعطاء الأولوية لدفن جثمان ابن الملك، وعدم التسرع قبل أخذ المشورة، بدلًا من الانفراد بالرأي الواحد الذي وكما تأكد للجميع.

– هو السبب الأول والأخير في تلك الكوارث التي أصبحت تحل بالبلاد.

وكان الوزير أبو الريف، يقصد من وراء ذلك كسر جماح الرغبات المستعرة بالشر من جانب زميله سقرديون.

ولما كان سقرديون، أضعف حالًا هذه الجولة من فرض تصوره — السياسي — بالحرب، فقد آثر مهادنة الوزير أبو الريف؛ مشيرًا: لكم ما ترونه.

حتى إذا ما انتهت الحبشة من دفن جثمان — ولي العهد — وهدأت طبول الحرب والعدوان إلى حين، أعاد سقرديون إذكاء لهيبها في أذني سيف أرعد.

– الحرب والدمار للعرب المعتدين.

وعلى الفور انتظمت صفوف جيش الأحباش للانتقام والعدوان، آخذة طريقها إلى حيث أسوار المدينة العربية — أحمرا — وملكتها «قمرية» وابنها سيف بن ذي يزن.

– التَّبْع الغازي، الجديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤