الفصل العاشر

مشكلة النقود

  • النقود تخضع لقوى السوق نفسها التي تخضع لها أي سلعة أخرى. و«سعرها» — أي مقدار الأشياء الأخرى التي تستطيع شراءها — يعتمد على مقدار المعروض منها ومقدار طلب الناس عليها كوسيلة لإجراء عمليات البيع والشراء.

  • الحكومات، بوصفها المورد الأساسي للنقود، يمكنها بسهولة إضعاف قيمتها الشرائية من خلال توليد المزيد منها؛ مشكلة التضخم.

  • حين يتغلغل التضخم في أرجاء الأسواق المختلفة، يحفز على انتعاش زائف يتبعه على نحو حتمي خفض للنفقات وخسائر وإهدار للموارد.

  • التضخم مضر للغاية حتى إنه من الحتمي وضع قيود قوية على قدرة الحكومات على إيجاد فترات انتعاش تضخمية.

النقود قوة جبارة في الاقتصاد الحديث؛ لأن جميع التعاملات تتم من خلالها. لكن جمهور الاقتصاديين عادة ما يسيئون فهم طبيعة دور النقود. فهم يتحيرون منه؛ لأنها لا تبدو كالسلعة الإنتاجية، بل في الواقع يتعين على رواد الأعمال التخلي عنها، لا مراكمتها، للحصول على السلع الرأسمالية التي يحتاجونها للتصنيع. وهي لا تبدو أيضًا كسلعة استهلاكية؛ فالبخيل وحده هو من يريد النقود فقط من أجل متعة امتلاكها. ويرى النمساويون أن الاقتصاديين لا يتفهمون طبيعة النقود على نحو صحيح، لذلك سمحوا لها بأن تساء إدارتها على يد السلطات النقدية والمصرفية، وهو ما أدى إلى مشكلات كبيرة على غرار التضخم ودورات الاقتصاد، مع كل ما تحدثه من ضرر.

قيمة النقود في تمكينها للتبادل

منحنا النمساويون، بداية بميزس، فهمًا أوضح لماهية النقود الفعلية وكيفية عملها.

يرى ميزس أن النقود سلعة رأسمالية كغيرها، مع أنها بالتأكيد سلعة غير عادية. فالناس لا يحتفظون بها لإنتاج أشياء أخرى، ولا يستهلكونها لإشباعها الخاص. بل هم يحتفظون بها كي «يبادلوها» بالسلع الأخرى. الهدف الأساسي من النقود هو تسهيل عملية التبادل. فبدلًا من أن يكون الفرد مضطرًّا للبحث عن آخرين يملكون ما يريده بالضبط، ويكونون على استعداد للقبول بمبادلته بما يملكه بالضبط — كالحلاق الجائع الذي يبحث عن خباز في حاجة لقص شعره — بإمكانهم عرض وقبول سلعة ثالثة وسيطة يسهل تبادلها بأي مما يريدونه حقًّا.

النقود مرغوبة، وهي محل تقدير لهذا الغرض الخاص. وسماتها الأخرى، المذكورة في المراجع الدراسية — على غرار ما إذا كان الشيء الذي نستخدمه كنقود معمرًا أو سهل التقسيم أو سهل الحمل أو يحتفظ بالقيمة على نحو جيد — كلها أمور ثانوية. فالنقود محل تقدير بسبب نفعها كشيء يمكن «مبادلته» بسهولة. وتكمن قيمتها في قوتها الشرائية.

جذور النقود في السلع الحقيقية

إن قيمة النقود في تسهيل التبادل تجعل ميزس يؤمن بأنها شيء «يظهر» من نظام السوق. فالقيمة التي نضفيها على النقود كوسيط للتبادل اليوم، كما يرى، تعكس مقدار البضائع التي كان بمقدورها شراؤه بالأمس. وبالمثل، كانت قيمة النقود وقتها، وسبب تعامل الناس بها، تعكس ما كان بمقدورها شراؤه أول أمس، وهكذا دواليك. وفي النهاية سيتحتم علينا أن نصل إلى يوم كان ما نستخدمه كنقود، أيًّا كان، يقيم ليس بوصفه وسيطًا للتبادل، بل كشيء ذي نفع في حد ذاته، ومن ثم يمكن مقايضته ببضائع أخرى. ولن نندهش إذا علمنا أن الصفة «نقدي» بالإنجليزية pecuniary اشتُقت من كلمة pecus بمعنى الماشية أو صوف الخراف، وهي سلع يسهل تبادلها ونقلها كانت تستخدم كشكل مبكر من أشكال النقد.

يستنتج ميزس من هذا، ما يسميه «نظرية النكوص»، أن النقود لها دومًا جذور من السلع المفيدة ذات القيمة. فهي ليست شيئًا تستطيع الحكومات خلقه وتستأمن عليه لأنها هي التي تسيطر عليه.

سعر النقود

شأن السلع الأخرى، هناك «معروض» من النقود و«طلب» عليها، وللنقود «سعر». يعبر عن سعر النقود على نحو غريب نوعًا ما — ليس من واقع قيمة السلع التي يمكن تبادلها مقابل كل وحدة واحدة من النقد (عدد أرغفة الخبز أو قصات الشعر التي سنحصل عليها مقابل دولار واحد)، بل بعدد وحدات النقد التي يمكن تبادلها مقابل السلع الأخرى (كم دولارًا مقابل الرغيف أو قصة الشعر) — فنحن نتحدث عن «قوته الشرائية» بدلًا من «السعر». ومع هذا فقوة النقود الشرائية هي سعر مثل أي سعر آخر، وتتحدد بالقيمة التي يوليها الناس لها، من واقع ضغوط العرض والطلب.

يعتمد «الطلب» على النقود على قيم وتفضيلات الأشخاص المعنيين. فمقدار النقود الذي يرغب الناس في الاحتفاظ به من أجل المعاملات التجارية قد يعتمد ليس فقط على مدى تقديرهم لقيمة النقود كوسيط للتبادل، بل على حجم المعاملات التي يرغبون في عقدها به، وعلى نظرتهم للنقود وللعالم؛ هل يرون أن القيمة الشرائية للنقود في ارتفاع أو انخفاض، أو هل يشعرون فقط بالارتياح نتيجة الاحتفاظ بكمية كبيرة منها.

«المعروض» من النقود معقد بالمثل. فمن الأنواع الأخرى، هناك «النقود السلعية» على غرار الذهب والفضة، وهي أشياء تستخدم بترحاب في عمليات التبادل، لكن لها استخدام عملي أيضًا في حد ذاتها ومن ثم يقدرها الناس لذاتها أيضًا. وهناك أيضًا «النقود الإلزامية»، وهي الأوراق النقدية والعملات المعدنية المصنوعة من معادن رخيصة تنتجها الحكومات القومية، وهي لا تحمل قيمة في حد ذاتها (مع أنه في حالة التضخم المالي الجامح الذي ضرب جمهورية فايمار بألمانيا في العشرينيات، صارت العملات الورقية بديلًا رخيصًا لحطب المدافئ)، لكنها مقبولة على نطاق واسع كوسيط للتبادل.

مسار التضخم

شأن السلع الأخرى، فإن سعر النقود — قيمتها الشرائية — ستنهار إذا زاد المعروض منها دون أن يوازي ذلك زيادة مماثلة في الطلب. سيعني هذا أن الباعة سيطالبون بالمزيد من النقود مقابل بضائعهم. وسيتعين على المشترين أن يدفعوا المزيد من الدولارات أو الجنيهات أو الينات أو الروبلات لشراء الأشياء عينها. هذا هو ما حدث في جمهورية فايمار بألمانيا، وهو ما يحدث في كل «تضخم».

قد تشير النماذج الاقتصادية التقليدية إلى أن هذا هو نطاق المشكلة بأكمله. وكما هو الحال في أي سوق أخرى، هم يطرحون أن ارتفاع المعروض يسبب انهيار سعر النقود (أو قوتها الشرائية) ثم يستعاد النظام مجددًا. يسمي الاقتصاديون هذا بالتفسير «النقدي» الساذج. فالتأثيرات الفعلية، كما يقول النمساويون، مختلفة إلى حدٍّ بعيد. فأي زيادة في المعروض من النقود تطلق تيارًا من التغيرات في الأسعار يجتاح أرجاء السوق، ويجذب الموارد أولًا إلى مكان ما، ثم آخر، وهو ما يخلق تغيرات حقيقية ومدمرة. فالنقود، كما يقولون، ليست «محايدة».

أول ما يجب تذكره هو أن التوسع في المعروض من النقود يبدأ في «نقطة منشأ» ما. قد يبدأ حين تصك الحكومة المزيد من النقود لدفع ديونها أو فواتيرها، أو للتوسع في المشروعات العامة. وقد يحدث بسبب تخفيض البنوك المركزية لأسعار الفائدة وخلق البنوك الأخرى للمزيد من النقود على صورة رهون عقارية وسحوبات على المكشوف وقروض ممنوحة للعملاء. ومن ثم تكون أولى تأثيرات المال الجديد في تلك النقطة. قد يكون الموردون والموظفون الحكوميون هم أول المستفيدين من التوسع في النقود الإلزامية. سيجدون أنفسهم في حال أفضل، وينفقون المزيد. يتسبب هذا في جعل مورديهم هم في حال أفضل، وتتدفق النقود الجديدة من هناك إلى الموردين التالين، وهكذا دواليك، وهو ما يرفع الأسعار ويجذب الاستثمارات والموارد في كل مرحلة.

يطلق الارتفاع الكبير في الإقراض البنكي تيارات مشابهة. يجد أصحاب المنازل أنهم قادرون على تحمل قروض منزلية أكبر، لذا ينتقلون إلى منازل أغلى سعرًا، وبهذا ترتفع أسعار المنازل. يملك المستثمرون نقودًا أكثر يشترون بها المزيد من الأسهم والسندات وغيرها من الأصول المالية، وبهذا ترتفع أسعار هذه الأصول هي الأخرى. في الوقت ذاته، يجد رواد الأعمال أنه من السهل الاقتراض من أجل إنشاء المشروعات الإنتاجية الجديدة، وهو ما يطلق موجة من الاستثمار المفرط في التفاؤل تعد علامة لبداية إحدى دورات الاقتصاد. ويكون الأثر، كما يقول هايك، أشبه بانسكاب العسل الأسود على المائدة. فهو يشكل ربوة من الأسعار المرتفعة في نقطة الانسكاب. تجتذب الأسعار العالية الموارد إلى هذه النقطة، لكن حين تتوقف البنوك أو السلطات عن ضخ المزيد من النقود، تنهار الأسعار مجددًا وتنهار الاستثمارات التي قامت عليها بالمثل.

النقود ليست محايدة

حتى لو أمكن نشر النقود الجديدة بالتساوي في أرجاء الأسواق كافة — كما لو أنها ألقيت بواسطة مروحيات — فسيكون تأثيرها على الأسعار أبعد ما يكون عن التساوي. فبعض الأفراد سيختارون إنفاق النقود الإضافية، وسيميل آخرون، الأكثر حرصًا، إلى ادخارها. ولأن الجميع الآن يملكون قدرًا إضافيًّا من النقود، لا يعني هذا أنهم سيشترون أكثر قليلًا من كل شيء. بل سيميل الناس إلى شراء الكماليات، وهو ما سيحدث انتعاشًا لمنتجي الكماليات، لكنهم قد لا يزيدون إنفاقهم على الطعام مطلقًا. ومن ثم يسبب التضخم تغيرًا حقيقيًّا في أنماط ما يُستهلَك، ومن ثم ما يُنتَج.

بينما تواصل تيارات الأسعار الانتشار، قد يتبنى الناس آراء مختلفة بشأن ما تعنيه. فمن يؤمنون بأن ارتفاعات الأسعار حقيقية ودائمة قد يهدفون إلى إنفاق نقودهم الآن، قبل أن ترتفع الأسعار ثانية. أما من يؤمنون بأن هذا أمر مؤقت فسيحجمون عن ذلك. وبهذا سيكون هناك انتقال حقيقي للموارد من مجموعة إلى أخرى، اعتمادًا على من منهما المحق. وبالمثل، إذا واصلت الأسعار ارتفاعها، فسيكون المقترضون في حال أفضل؛ لأنهم سيردون قروضهم بنقود لا تساوي الكثير، بينما سيخسر المقرضون. لذا مجددًا، يحدث تحول حقيقي في تخصيص الموارد بين الأشخاص المختلفين.

إذا لم تتدخل السلطات والبنوك لتحجيم الوضع، فسيتواصل الانتعاش وسترتفع الأسعار أكثر وأكثر. سيسعى المزيد والمزيد من الناس لإنفاق النقود التي يملكونها قبل أن تفقد المزيد من قوتها الشرائية. ستؤدي حمى الشراء هذه بدورها إلى دفع الأسعار إلى الارتفاع أكثر. سيحاول الناس الاقتراض أكثر للتوافق مع الوضع، لكن في نهاية المطاف لا تستطيع السلطات صك النقود بالسرعة الكافية لملاحقة الوضع، بينما ستصل البنوك إلى الحد الأقصى لقدرتها على الإقراض، وسيتبدد الانتعاش، تاركًا السوق في حال من الفوضى.

منع كارثة التضخم

يظن أغلب الناس أن «التضخم» يعني ارتفاع الأسعار، لكن من منظور النمساويين «التضخم» هو زيادة المعروض من النقود التي سببت ارتفاع الأسعار وكل الفوضى التي خلفتها. وهم يرون أن السياسة الاقتصادية يجب أن تركز على كيفية منع فترات التوسع التضخمية هذه من الحدوث في المقام الأول.

أحد السبل الممكنة لذلك هو منع الحكومات من صك النقود — أو «البدائل المالية» من العملات الورقية والمعدنية التي نستخدمها في التجارة — دون حدود. وبإمكاننا ربط كمية العملات الورقية والمعدنية، أو الأشياء الأخرى التي نستخدمها في التبادل، بالأسعار مثلًا، وبهذا إذا ارتفعت الأسعار يتعين على الحكومة تخفيض المعروض النقدي الذي تخلقه. بيد أن هذه ليست بمهمة سهلة؛ لأنه لا وجود (كما يذكرنا النمساويون) لما يسمى بمستوى الأسعار، فالأسعار المختلفة تتقلب صعودًا وهبوطًا طوال الوقت. وحركة أي «مؤشر للأسعار» تعتمد على «سلة» السلع المختلفة التي يتابعها. سيثير الخيار الجدل لا محالة. وإذا تم اختيار السلة الخطأ، فمن الممكن حدوث التضخم دون أن نلحظ ذلك.

حل آخر يتمثل في منع الحكومات من إصدار النقود الإلزامية على نحو مطلق. فميزس، مثلًا، يقول إن الواجب الأول للسلطات النقدية هو التأكيد على «العملات» التي يستخدمها الناس باختيارهم ودعمها. في الماضي حظي الذهب والفضة بثقة الناس كأشكال عملية يعتمد عليها من النقد، لكن ليس بالضرورة أن تكون النقود من هذه الأشياء، أو أن تكون من المعدن من الأساس. وعلى السياسة الاقتصادية أن تهدف إلى دعم أي مما يقبل به الناس كوسيط للتبادل.

بالطبع قد يكون التحول نحو عملة أخرى، كالذهب، خطوة صعبة ومحل خلاف. ستكون هناك، بطبيعة الحال، زيادة مهولة في أسعار الذهب بينما يبدأ الناس في طلبه، ليس فقط لأغراض الزينة أو الاستخدام التجاري، بل بفضل قيمته كوسيط للتبادل أيضًا. لكن مما يثير الدهشة أن هناك قدرًا قليلًا من الذهب في العالم (حوالي ثلث حجم نصب واشنطن التذكاري، حسب أحد التقديرات)، بينما هناك مليارات المعاملات التجارية تدور طيلة الوقت. سيحاج الكثيرون بأن النكوص إلى استخدام الذهب كعملة لن يكون فكرة عملية.

خرج هايك باقتراح بديل، وهو السماح بالمنافسة بين العملات. تحتكر حكومات كثيرة نقودها الإلزامية: فهي تأمر باستخدامها لتسوية أي ديون، وبعدم استخدام أي عملة أخرى، أو قد لا يعترف القانون بالعملات الأخرى، وهو ما يعرض من يتاجرون أو يقرضون بهذه العملات للخطر إذا لم يرد العملاء أو المقترضون ما اقترضوه. لكن إذا تمكن الناس من استخدام العملة التي يختارونها — بحيث يستطيع شخص ما في بريطانيا استخدام الدولارات أو الروبلات، مثلًا، بينما يستطيع شخص في أمريكا استخدام الين أو اليورو، أو حتى عملة جديدة تصدرها وكالة خاصة — فسيميل الناس وقتها لاستخدام أكثر عملة يرون أنها تحتفظ بقيمتها؛ نظرًا لأن العملة المستقرة ستجعل الحسابات التجارية أسهل بكثير، خاصة حين يتدخل «الوقت» في كل عملية حساب. ستضغط المنافسة بين العملات على الحكومات كي تقاوم السياسات المؤدية إلى التضخم، ومن ثم توفر على نفسها الحرج الناجم عن رفض الناس لعملتها والتحول لاستخدام عملة دولة أخرى. إن السماح للناس باختيار العملة يمكن أن ينجح بالفعل، وقد شهدت دول عديدة ذات معدلات تضخم مرتفعة في عملاتها التجار وهم يتبنون الدولار أو اليورو في معاملاتهم التجارية بدلًا من العملة المحلية. ومع هذا فالحكومات تعارض التخلي عن السيطرة التي تمدها بها الاحتكارات النقدية.

النظام المصرفي الاحتياطي الجزئي

يود كثير من النمساويين أيضًا اتخاذ بعض الإجراءات حيال الإقراض البنكي. ففي الوقت الحاضر البنوك ملزمة بالاحتفاظ بنسبة بسيطة فقط (١٠٪ مثلًا) من نقود المودعين في خزائنها كي تفي بسحوبات العملاء. أما النسبة الباقية فبإمكانها أن تقرضها. وإذا أقرضت النقود لبنوك أخرى، تستطيع هذه البنوك بدورها إقراض ٩٠٪ منها لغيرها. ومن ثم إذا حصل البنك على ودائع أكثر، أو تساهل أكثر في شروط الإقراض، يمكن لهذا القدر الزائد من النقود أن يتضاعف عدة مرات من خلال النظام المصرفي. ومن ثم يمكن لزيادة متواضعة في المعروض من نقود الحكومة الإلزامية، مثلًا، أن يكون لها تأثير أكبر بكثير على الاقتصاد الحقيقي، وهو ما يجعل تأثيراتها الضارة أكبر بكثير أيضًا.

يود بعض النمساويين الخلاص من النظام المصرفي الاحتياطي الجزئي بالكامل، وإجبار البنوك على الاحتفاظ بكامل نقود المودعين في خزائنها. وهم يحاجون بأن هذا من شأنه تحييد أخطار التضاعف المالي، وينهي التهافت على سحب الودائع؛ لأن المودعين سيعلمون يقينًا أن كل أموالهم محتفظ بها في أمان. لكن من الناحية العملية، من المشكوك فيه أن يرغب عملاء كثيرون في دفع المال للبنوك نظير الاعتناء بنقودهم، بدلًا من جني الفوائد على إيداعاتهم كما هو الحال الآن.

ومجددًا، قد تقدم المنافسة حلًّا. كتب لورانس وايت الكثير عن تاريخ «المصرفية الحرة» وفائدتها. فالبنوك، كما يحاج، أدت أفضل بكثير حين لم تكن خاضعة للضوابط الحكومية بهذه الدرجة الوثيقة التي هي عليها اليوم، ولم تكن مطالبة باحتياطي ثابت محدد من جانب السلطات. كانت تحتفظ في خزائنها من النقد والاحتياطيات السائلة الأخرى بقدر ما تراه ضروريًّا للوفاء بالسحوبات اليومية للمودعين. وكانت تصك النقود (حرفيًّا) من خلال طباعة أوراق نقدية أكثر من النقود التي لديها في خزائنها لتغطيها جميعًا. وما دام الناس يرون أن الإدارة المالية للبنك موثوق بها، فهم يقبلون الأوراق النقدية بقيمتها الاسمية. لكن لو بدأ الناس في القلق بشأن أمان البنك، فسيصيرون أكثر حذرًا، وقد يقبلون أوراق النقد الصادرة عنه بخصم بدلًا من قبولها بقيمتها الكاملة، وهو ما يعكس خطر تعرض البنك للتهافت على سحب الودائع وعجزه عن الدفع لمودعيه وحملة أوراقه النقدية. ومع ذلك، كانت حقيقة تداول أوراق البنك النقدية بخصم ترسل له إشارة قوية بأنه في حاجة إلى تقوية موقفه المالي ومن ثم يتجنب هذه الأخطار، وكان هذا كافيًا للحفاظ على موثوقية البنك.

في القرن التاسع عشر عمل بنك سافولك في بوسطن كغرفة مقاصة يتم فيها تبادل أوراق النقد الصادرة عن البنوك الأخرى التي قد يجد العملاء صعوبة في الحصول عليها، مع تطبيق الخصوم على الأوراق التي يشعر بالقلق حيال موثوقيتها. لا حاجة للبنوك المركزية في ظل مثل هذا النظام لأنه لا وجود لعملة قومية تصدرها الدولة. لكن لكي ينجح هذا النظام، لا يمكن أن توجد خطط إنقاذ مالي حكومية للبنوك المتعثرة؛ إذ إن هذا من شأنه أن يشجع البنوك على الإقدام على المزيد والمزيد من المخاطرة، وهي موقنة بأن دافعي الضرائب سينقذونها إذا تعثرت. إن حقيقة إقدام العملاء القلقين على سحب كل أموالهم هي التي ستجعل البنوك الحرة تحافظ على موثوقية أعمالها وعملاتها حتى تظل محتفظة بثقة العملاء، التي هي أكبر على الأرجح من الثقة التي تحظى بها البنوك التجارية الخاضعة للضوابط الحكومية والبنوك المركزية الحكومية اليوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤